أدراج الرياح
قالت الجركسية الملثمة لمسعود صاحب خان حلب: ولكنك تعرف يا سيدي أين يمكن أنْ يكون جقمق قد ذهب بغلمانه!
قال الرجل ضجرًا: يا سيدتي، ومن أين لي أنْ أعرف وقد مضى عمر طويل، فلو كان جقمق اليوم حيًّا لاستطاع أنْ يهديك إلى طريق ذلك الغلام وأخته، ولكن جقمق قد مات منذ سنين، وأنا شيخ كبير كما ترَيْن، قد ضعف بصري وانمحى ذلك الماضي من ذكرياتي، وقد كان جقمق — رحمه الله — يرتاد هذا الخان منذ عهد الأشرف قايتباي، يصحبه في كل مرة غلمانٌ وفتيات قد جلبهم من بلاد الروم وأرمينيا وما وراء الجبال، فكيف ترينني أذكر وجه غلام واحد بين مئات من الغلمان، وقد انقضى ذلك العمر المديد؟!
قالت: ولكن طومان لا يُنسى، لقد كان فتى ولا كالفتيان!
ثم انهملت عيناها واستبقت على وجنتيها الدموع.
قال مسعود محزونًا: ليتني أعرف يا سيدتي أين ذهب جقمق بولدك طومان، إذن لهديتك الطريق ليجتمع به شملك، ولكن …
وأمسك برهة يفكر ثم انهلَّ قائلًا: تقولين إنَّ ولدك كان يصحبه فتاة جركسية وغلام من الروم؟
قالت مستبشرة: نعم، بذلك حدثني أبو الريحان الخوارزمي يوم لقيته في خان يونس بقيسارية!
قال الرجل فرحًا: كأن قد عرفتُ يا سيدتي، وقد كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، وإني لأعجب كيف نسيت أمر ذلك الفتى وأخته كل تلك السنين … ذلك الغلام الذي أوشك ذات يوم أنْ يذبح شابًّا من أصحابه بسكين؛ دفاعًا عن صاحبته الصغيرة!
فلولا أنَّ غريمه قد فرَّ من بين يديه لسال بينهما دم، وظلَّ خبره وخبر صاحبته تلك حديث نزلاء الخان أسابيع، لقد كان فتى ولا كالفتيان!
انزعجت نوركلدي وسألت في لهفة: ماذا قلت؟! هل جُرح ولدي طومان أو أصابه شر؟
قال مسعود هادئًا: لا يا سيدتي، وأظنك ستلقينه في نعمة وعافية!
فاض البِشر على وجه المرأة، وازدهر كأنما عادت إلى الشباب، وهتفت فرحانة: بالله! أتقول الحق يا سيدي؟ أتلتقي نوركلدي وطومان بن أركماس بعد بضع وعشرين عامًا من الفراق؟
ثم مالت على يد مسعود الشيخ تقبلها وتبللها بالدمع، وقد شدت عليها بأصابعها المرتعشة لا تريد أنْ تفلتها، ثم رفعت إليه عينيها ضارعة وهي تقول في صوت مختنق: ولكن أين … أين ألقاه يا مسعود؟
قال الشيخ وقد أعداه ما بها حتى كاد يحتبس صوته: سيهديك إليه يا سيدتي تاجر المماليك جاني باي، فقد دفع جقمق إليه ولدك وصاحبته الجميلة الحسناء؛ ليبيعهما في أسواق دمشق أو القاهرة!
عبست المرأة بعد طلاقة وقالت: أفذلك كل ما تعرفه من أمر ولدي يا سيدي؟ وهل يستطيع أنْ يدلنا على مكانه في دمشق أو في القاهرة صديقك جاني باي؟
– نعم يا سيدتي، وسيكون جاني باي هنا بعد أسابيع، فهو لم يزل دائم التردد بين حلب والقاهرة في هذه الأيام، لأمر من أمر نائب حلب الأمير خاير بك …
ثم عضَّ على شفتيه وأردف قائلًا مستدركًا: سيدتي، أظن أميرنا خاير بك يعرف كذلك من أمر ولدك ما لا أعرف، فقد كان في تلك القافلة التي ذهب فيها مع جاني باي!
قالت نوركلدي ملهوفة: أمير حلب يعرف أين ولدي! فسأذهب إليه لأستنبئه إذا دللتني على الطريق إلى دار الإمارة أيها الرجل الكريم.
ولكن مسعودًا لم يستمع إلى نوركلدي حين توجهت إليه بذلك الرجاء، فقد عاد ثانية إلى ذلك الماضي يسترجع ذكرياته وهو يفكر …
لا لا، إنَّ ذلك الفتى الصغير الذي فارق أمه منذ بضع وعشرين سنة، لم يذهب فيمن ذهب مع جاني باي تاجر المماليك، لقد صحبته تلك الفتاة وحدها، فذهب بها جاني باي فيمن ذهب في طريقه إلى دمشق والقاهرة، وبقي ذلك الفتى وصاحبه الرومي في حلب، لا يدري مسعود أين ذهب بهما جقمق ذات صباح ثم عاد بعد قليل فارغ اليد … كيف غاب عنه قبل اليوم أنَّ ذلك الشاب الذي أوشك طومان أنْ يذبحه بسكينه دفاعًا عن صاحبته هو خاير بك نفسه — نائب حلب اليوم — وأنهما قد افترقا منذ ذلك اليوم البعيد، فسافر خاير وإخوته وأبوه في ركب جاني باي، وظلَّ ذلك الفتى وصاحبه الرومي في حلب؟!
– سيدتي!
– سيدي!
– لقد كنت أريد أنْ أهديك الطريق …
– نعم، وستصحبني إلى دار الأمير، وبمعونتك — أيها الرجل الكريم — سألقى ولدي، وسندفع إليك جزاء معروفك!
قال مسعود أسفًا: يا ليت يا سيدتي! ولكني غير مستطيع …
لقد خدعتني الذاكرة فنسيت أنَّ ولدك لم يذهب فيمن ذهب مع جاني باي في طريقه إلى دمشق والقاهرة، ولكنه بقي هنا في حلب، فلا الأمير خاير بك، ولا جاني باي، يستطيعان أنْ يدلاك على مكانه اليوم، لقد افترقا منذ ذلك التاريخ البعيد وما أحسبهما قد التقيا بعدها قط … وقد عاش ولدك بعدهما هنا في حلب، ولعله لم يغادرها، ولعلك أنْ تلتقي به يومًا في سوق من أسواق هذه المدينة على غير ميعاد، إنْ كان مقدرًا لكما أنْ تلتقيا … فهل تعرفينه يا سيدتي حين ترينه؟ إنه اليوم شابٌّ قد جاوز الثلاثين، وأحسبه قد استدارت لحيته وكان صبيًّا أمرد مصقول الخد … فأين منه صبيك الذي تنشدينه وتعرفينه بصفته.
كان الرجل يتحدث والمرأة تستمع إليه ساهمة مذهولة، قد انفرجت شفتاها وبرقت عيناها في محجريهما لا تطرفان … وكأنما أصابها المَسخ فلم تتحرك حركة ولم تنبس بحرف … إنها الساعة امرأة أخرى غير التي كانت منذ لحظات، حين خيلت لها الأماني أنها لقيت ولدها بعد ذلك الفراق، أو أوشكت أنْ تلقاه، فكأنما رأته بعينين وسمعته بأذنين، واستمعت إلى نجواه، ثم ها هي ذي تفقده ثانية … ويفر من خيالها كما فرَّ به النَّخَّاس ذات مساء في ليلة حالكة السواد منذ بضع وعشرين سنة …
وأفاقت من ذهولها بعد قليل لتهتف جازعة: لا لا، إنك تعرف أين ولدي ولكنك تأبى …
هزَّ الرجل رأسه مشفقًا وهو يقول: الصبر يا سيدتي! لقد أنبأتك بما عرفت، وإنَّ همك ليحزنني ويعصر قلبي، إنني أنا مثلك أبٌ وذو ولد، وليس الأمر من الحرج بحيث يدعو إلى اليأس، إنك يا سيدتي على الطريق منذ بضع وعشرين سنة، قد لقيت في هذه السنين من البأساء والضر ما لقيتِ صابرة، فهلا صبرت إلى هذه السنين بضعة أسابيع، أو بضعة أشهر حتى تلقيه أو يلقاك؟ لقد أوشكت أنْ تبلغي آخر الطريق إليه، ولا بُدَّ أنْ تلتقيا، فإذا كان تعاقب السنين قد غير صورته، فإن نور الأمومة في قلبك يهديك، وما أرى صورتك قد تغيرت في مرأى عينيه، إنك اليوم يا سيدتي في المدينة التي تخلَّف فيها ولدك دون أصحابه، ومن يدري؟ فقد يكون الساعة على مد الشعاع من عينيك، لولا هذه الجدران التي تفصل بين بيوت الناس!
قالت المرأة وقد ثاب إليها الهدوء وفاءت إلى الرضا: شكرًا يا سيدي، ومعذرة إليك، فهلا أتممت معروفك، فدللتني على بيت في هذه المدينة يشرف على الطريق العام؛ لأعيش فيه حتى يأذن الله لي في لقاء ولدي!
قال الرجل: لك عليَّ ما تطلبين يا سيدتي، وسأكون لك منذ اليوم أخًا وجارًا إنْ أذنتِ لي، حتى تلقي ولدك إنْ شاء الله!