لغز الحياة
لم يكد ركب المحمل يفصل عن القاهرة وينتهي رمضان حتى دهم القاهرة شرٌّ عظيم، فقد ظهر الطاعون في أحياء متفرقة من المدينة، ثم لم يلبث أنْ انتشر، ففي كل زقاق نُواحٌ على ميت، وفي كل دار مطعون يرقبه أهله مشفقين وَجِلين. وازدحمت الجنائز في الطريق حتى لا تنقطع مواكبها، وتجاوبت أصوات النوادب ودفوف النائحات من شرق المدينة إلى غربها، وشمل أهل المدينة الخوف والفزع؛ حتى ليظن كل حيٍّ أنَّ الموت مصبحه أو ممسيه في نفسه أو في أحد من أهله، وحتى بلغ عدد الوَفَيات في المدينة كل يوم أربعة آلاف مطعون.
وفزع الناس إلى الله تائبين نائبين، وخفَّف السلطان من غلوائه وأشفق على نفسه من يوم قريب، فنادى مناديه في القاهرة بإبطال ضريبة الجمعة، وضريبة الشهر، وحرم بيع الخمر، وحظر على النساء أنْ يخرجن من دورهن إلَّا مؤتزرات منتقبات، وأغلق بيوت البغاء، ومنع النواح على الموتى بالدفوف، ولجأ إلى الله في خلواته يستجير من هذا البلاء النازل.
واستمر الوباء يحصد الأرواح، لم يمنعه دعاء الداعين ولا توبة التائبين، فلم يدع بيتًا في القاهرة إلَّا دخله، وما دخل دارًا إلَّا عاد إليها، حتى قصر السلطان نفسه — على رغم من يحيط به من الحراس الأشداء الغلاظ — لم يسلم من ذلك الوباء، فماتت سرية من سراري السلطان مطعونة، ومات ولدها الذي كان الغوري يرجوه لولاية عهده، وماتت ابنته العروس الشابة جان سكر قبل أنْ يغيب هلال شوال، وقبل أنْ يبلغ الحاج منتصف الطريق إلى البلد الحرام!
وحُمل نعش جان سكر على أعناق الرجال يتبعه أمراء المماليك، وقادة الجند، ومماليك الخاصة، وطومان باي يسير بينهم مطأطئ الرأس، حتى بلغوا الجامع الأزهر فصلوا صلاة الجنازة ووُزِّعَتِ الصدقات، ثم حُمِلَتِ العروس العذراء على سريرها إلى قبة الغوري حيث أُودِعَتِ التراب، وعاد طومان باي ينفض يديه من ترابها ويتلقى تعزية الناس شاكرًا، فلما انفض الجمع أوى إلى غرفته بالقصر صامتًا لا يريد أنْ يتحدث إلى أحد أو يحدثه أحد …
أحزين هو لأنه قد فاته صهر السلطان؟ أم هو راضٍ شاكر؛ لأن الحجاب قد زال بينه وبين الأمنية الغالية التي يتمناها منذ أزمان؟ أم هو بين الأسف والرضا في نوع من القلق والحيرة، لا طاقة له باحتماله ولا صبر؟
بلى، إنَّ جان سكر بنت عمه قد ماتت وكانت مسماة عليه برغمه، وكانت تحول بينه وبين أمنية غالية يتمناها منذ أزمان، ولكنه حزين، وصاحبته شهددار اليوم أبعد عن خاطره مما كانت في أي يوم مضى، إنه لا يطيق أنْ يفكر الساعة في شأنه وشأنها؛ لأن نفسه تأبى أنْ تعبر الطريق إلى مسراتها على جسر من آلام الناس … تلك العروس التي كانت مسماة عليه برغمه لم يزل جسدها دافئًا تحت صفائح القبر، فليس يجمُل به أنْ يفرح ويشتهي ويتمنى، ولم يزل يرن في أذنيه منعاها، لقد كان لتلك العروس الميتة كذلك أفراح وأماني وشهوات، ولعلها — على ما كان بينها وبين طومان من الجفوة — كانت تأمل فيه أملًا، فماتت قبل أنْ تبلغ شيئًا مما كانت تشتهي وتتمنى وتأمل!
وتطورت خواطره فانتقلت به من حال إلى حال، فإذا صورة جان سكر التي طواها الموت منذ لحظات تملأ صفحة خياله، فليس له فكر إلَّا فيها، فيها وحدها، وإذا صورة صاحبته شهددار تتوارى عن عينيه، أو هو نفسه قد واراها طائعًا، لا يريد أنْ يجمع في خياله صورتين لا يجتمع مثلهما في قلب رجل، إلَّا اجتمع معهما الشماتة والحقد والبغضاء، وإنه لأرفع نفسًا عن مثل تلك الدناءات.
وطالت غيبته عن عمه، فإذا عمه يسعى إليه في غرفته ليسأله عمَّا به، أو لعله أراد أنْ يعزيه في مصابه، ومصاب الرجل في صاحبته أحق بالعزاء من مصاب الأب في ابنته … إنَّ الأب هو يصنع بنيه وبناته، فهم كالثمرة من شجرته، تسقط الثمرة عن فرعها، والشجرةُ هي الشجرة لم تنقص شيئًا في رأي العين، ولكن المرأة هي تصنع رجلها وتبنيه فترتفع به أو تنزل، كما يبنيها رجلها ويرتفع بها أو ينزل، فكلاهما من صاحبه هو النفس الثانية، أو الشخص وصورته في المرآة، أرأيت المرآة تملك أنْ تمسك الصورة لو زال ذلك الجسد الذي كانت تتراءى صورته في مائها، فذلك مكان المرأة من رجلها ومكان الرجل من امرأته، ولا كذلك مكان الآباء من بنيهم وبناتهم.
قال الغوري وهو يُرَبِّتُ على كتف طومان: آجرك الله يا بنيَّ وألهمك الصبر ورزقك حسن العوض، إنك لم تزل بعينيَّ يا طومان وإنْ ذهبت تلك؛ لأنك ذكراها الباقية لي على الزمان!
ودمعت عين الشيخ فجاوبتها دمعة من عين الفتى، ثم اصطحبا ذراعًا في ذراع يجوسان خلال غرفات القصر وقد صفا ما بينهما، كأنما كانت تلك التي ماتت هي الحجازَ بين قلبيهما، أو كأنما ألَّفت بينهما المصيبة حين لم تؤلف بينهما نعماء الحياة، ولا تزال النفس البشرية لغزًا من ألغاز الكون يستعصي فهمه على الأحياء، وإنما مفتاح هذا القفل في يد الموت، هو وحده الذي يفتح ذلك الصندوق المقفل على ما فيه من غيب الله!
وقال الغوري لنفسه ذات يوم وقد خلا إلى نفسه: إنَّ طومان لفتى يُعتز به، وإنه لولدي ولا ولد لي غيره، إلَّا ذلك الطفل الذي يدرج بين يدي حاضنته، وإنه لأهل لأن أعتمد عليه في مهماتي، فلماذا لا أجعله أدنى إليَّ منزلة؟
وفكر وقدر، وذهب به الفكر مذاهبه، وتذكر شهددار بنت أقبردي: فدعا إليه طومان يسأله: أتريدها لك زوجًا يا طومان؟
وازدحمت في رأس الفتى خواطره وغلبته أشجانه، وغص بأنفاسه فلم تخلص من بين شفتيه كلمة، فارتمى على صدر الغوري، ودفن رأسه في طيات ثيابه وهو يجهش باكيًا … وسقطت دمعتان على وجه الغوري ثم انحدرتا حتى توارتا في لحيته، وقبض أصابعه في لحم الفتى وهو يضمه إلى صدره بعنف وحنان، وهتف: يا ولدي!
كما ناداه ذات يوم في حلب حين التقيا لأول مرة منذ سنين بعيدة!
في هذا اليوم الراهن، وفي ذلك اليوم البعيد … كان هذا العناق الدافئ تعبيرًا بليغًا عن سعادة طومان باي باجتماع شمله بعد تفرُّق … مرة في حلب حين وجد له عمًّا بعد يأس من لقاء الأهل، وهذه المرة في القاهرة حين وجد شهددار بعد يأس من اللقاء!
واجتمع بالقلعة القضاة الأربعة، وأمراء المماليك، وأعيان الناس؛ ليشهدوا عقد الأمير الشاب طومان باي على شهددار بنت أقبردي …
فلما كان بعد بضعة أشهر، زُفَّتِ العروس الفاتنة إلى عروسها الشاب، وشهدت القاهرة كلها مهرجانًا لم تشهد مثله منذ سنين، وحمل الحَمَّالون جهازها الحافل بين عزف الموسيقى ونقر الدفوف، يتخللون به دروب القاهرة، وشق موكب الأمير الشاب المدينة يحيط به الأمراء والوزراء وأمناء البلاط، في أيديهم الشموع الموكبية، يرقص لهبها على ألحان المزامير وعزف الشبَّابات، وغناء المغنين والمغنيات، حتى انتهى إلى القصر … ونعمت القاهرة بليلة سلطانية ساهرة كأنها من ليالي الأحلام.
وكانت مصرباي جالسة وراء الستر في شرفتها تشاهد ذلك المهرجان، وهي تردد بيتًا من الشعر حفظته عن خاير بن ملباي، فلم يزل على لسانها منذ فارقها خاير إلى حلب، فإنها لتتمثل صورته في نبرة كل حرف ونغمة كل مقطع وهي تنشد:
واكتملت سعادة الأمير طومان باي وعلا نجمه، فهو الدوادار الكبير، وهو الأستادار، وهو كاشف الكشاف وأمير أمراء الشمال والجنوب، وهو مشير السلطنة وصاحب الحول والتدبير …
وهو إلى كل ذلك حبيب المصريين، وصديق المماليك، وحامي العربان، وهو مريد من أخلص المريدين في حلقة الشيخ أبي السعود الجارحي …
شيء واحد كان ينغص على طومان باي هذه السعادة التي اجتمعت له أسبابها، ذلك هو أنَّ عمه السلطان لم يزل على ما رسم لنفسه من أساليب السياسة منذ ولي العرش، فإن أهم ما يعنيه هو أنْ يجمع المال من كل سبيل فلا ينفق منه شيئًا، وأنْ يحشد المماليك الجلبان في القلعة، فيؤثرهم بنعمته دون غيرهم من القرانصة وأولاد الناس، وأنْ يستمتع بكل ما يتاح له من أسباب النعيم والترف، والشعب يطلب الغذاء والكساء والمأوى فلا يكاد يجد … ولا يكاد يجد الأمان من الجباة والولاة وعمال السلطان!
لولا هذه الهنات لهدأ بال طومان باي وتمت سعادته، ولكن من أين له أنْ يهدأ وهو دائب الحركة ليصلح بين المماليك والسلطان، وبين القرانصة والجلبان، وبين أولاد الناس والشعب، ثم ما بين أولئك جميعًا وبين الجباة وعمال السلطان!