نذير العاصفة
– مولاي!
– ما تريد يا طومان؟
– لست أريد شيئًا لنفسي، فقد غمرتني نعمتك يا مولاي حتى لا أطمع في مزيد، ولكن أمرًا ذا بال يشغلني …
– اعرض ما شئت من أمرك يا طومان!
– إنه أمر هؤلاء الروم الذين يتخذون متاجرهم في خان الخليلي، فيخالطون المصريين والجركس، وأعراب البادية، ويطلعون من أحوالنا على ما لا ينبغي أنْ يطلع عليه الغرباء …
– ولكنهم ليسوا غرباء يا طومان، إنهم يعيشون بيننا منذ سنين، وقد اتخذوا مصر وطنًا وأهلها أهلًا، ولهم بيننا صهر ونسب، فماذا يشغلك اليوم من أمرهم؟
– لا شيء، ولكن ابن عثمان ملك الروم اليوم على الحدود قد زين له الطمع ما زين من أوهامه، فإني لأخشى أنْ يضيق هؤلاء التجار الروم بما يفرض الجباة على التجارة في مصر من ضرائب فادحة، وبما يلقون من عسف عمال السلطان، فيلتمسوها زلفى إلى ابن عثمان، ويضمروا لنا الغدر ويكاتبوا سلطان الروم بما يعرفون من أحوال مصر؛ انتقامًا لما ينالهم من أذى الجُباة والعمال!
– وماذا يحملك على هذا الظن يا طومان، وأي شيء يدفعهم إلى هذا الغدر وهم في خفض ونعمة، لا يتمتع بمثلهما كثير من المصريين؟
– إنما هو حديث حدثني به اليوم يا مولاي بعض غلماني، يزعم أنَّ جاني باي الأستادار قد أحفظ صدر هؤلاء الروم بما يفرض عليهم من الضرائب الثقيلة، وبما يلقَوْن من عنَت عماله وغلظتهم في سبيل ما يحصِّلون من هذه الضرائب؛ حتى ليتحدث بعضهم إلى بعض جهرًا، يعلنون عن سخطهم ونقمتهم، ويلتمسون السبيل إلى الخلاص من جور المحصلين والجباة … بمكاتبة ابن عثمان ملك الروم!
– إذن فلينالوا جزاءهم، وسأرسم اليوم بحبسهم وقبض ما في خزائنهم من المال؛ ليكونوا عبرة لمن يعتبر!
– مولاي!
– ماذا يا طومان؟
– أفلا يكون سبيل الإحسان أنْ تنظر في شكواهم فتعاقبهم على قدر الذنب؟ إنهم فيما أعلم ليلقون — كما يلقى الناس جميعًا — من الجور وسوء المعاملة ما لا طاقة لهم بحمله؛ وقد أسرف جاني باي فيما يفرض من الضرائب حتى ليبيع الناس أقواتهم وثيابهم ومتاع بيوتهم ليفوا له بما يطلب، فخربت الأسواق، وفرَّ الزراع من أراضيهم وتركوها غبراء مقفرة ليس فيها زرع ولا شجر، وأوشك الشعب أنْ يموت جوعًا.
قال الغوري: إن جاني باي إذن لذو مال!
وصمت برهة يفكر، ثم رفع رأسه قائلًا: وسأقبض معهم على جاني باي الأستادار؛ حتى يؤدي إلى خزانة السلطان ما اغتال من أموال الناس.
قال طومان في قلق: مولاي! فهل ترد إلى الناس ما اغتال جاني باي وعماله من أموالهم؟
قال الغوري وعلى شفتيه ابتسامته: ما زلت يا طومان تحسن الظن بما ترى من حال ذلك الشعب … إنَّ هؤلاء الناس يا أمير ليخفون ثرواتهم وراء هذه الرقع الملفقة التي يسترون بها أجسادهم متظاهرين بالفقر والحاجة، وإنَّ السلطان بما يدبر من أمورهم لأحوج منهم إلى ذلك المال.
ثم لم يلبث السلطان أنْ دعا طائفة من جنده، فرسم لهم أنْ يقصدوا دار جاني باي فيأتوا به في الأغلال.
كانت سورباي بنت جاني باي الأستادار شابة في نضارة العمر، مليحة، رشيقة، قد جمعت إلى جمالها الجركسي خفة الروح المصرية، فقد كانت أمها مصرية صريحة النسب، رآها أبوها جاني باي في شبابه، فأحبها، فتزوجها، لم يأبه لتلك التقاليد التي كانت تحرم على الجركس ومماليك السلطان أنْ يصهروا إلى المصريين، فجاءت بنتها سورباي مزيجًا مصريًّا جركسيًّا يوقظ الفتنة النائمة …
وتزوجها خشقدم الرومي عتيق السلطان الغوري، فكانت إنسان عينه وحبة قلبه وشغاف روحه، وولد له منها بنون وبنات، فاجتمعت منهم ومن أمهم في داره آيات الحسن الثلاث: مصريَّة وروميَّة، وجركسيَّة.
وكانت سورباي وحيدة أبويها، فاتخذت خشقدم زوجًا وأخًا، واتخذ هو أبويها أبًا وأمًّا، وصفتْ لهم الحياة.
وعلى حين بغتة حلت بهم الكارثة، حين قبض السلطان الغوري على جاني باي وألزمه أنْ يدفع إلى خزانة السلطان ما اغتال من أموال الناس، وأسلمه إلى عماله يفتنُّون في تعذيبه كل فنٍّ، بالكيِّ، ودق المسامير في جسده، وعصر أصداغه بالمعاصر، وبالجوع والظمأ والبرد القارس في حجرات السجن المظلم، وبتخويفه بالنار والخازوق والشنق على باب زويلة … حتى يدفع إلى خزانة السلطان ما طلب منه أنْ يؤديه.
وطال به العذاب ولم يدفع كل ما طلب منه، وطال عذاب أهله لما يناله، وطال عذاب ابنته سورباي وزوجها خشقدم الرومي عتيق السلطان الغوري.
وقالت له زوجته ذات مساء: خشقدم! حبيبي! إنَّ لك مكانًا عند السلطان، فهلا شفعت عنده لأبي!
فما عتم خشقدم أنْ استجاب لدعائها، فذهب إلى مولاه يتشفع لصهره، وكأنما ذهب ليذكره من نسيان، فما كاد السلطان الغوري يسمع قوله حتى هتف به مغضبًا: حتى أنت يا خشقدم! حسبتك من حزبي.
قال خشقدم ضارعًا: إنني أنا، وزوجتي، وبنيَّ وبناتي، وجاني باي، كلنا من حزبك وصنائع معروفك، ولو كان جاني باي يملك غير ما أدَّى إلى خزانة السلطان، لأنقذ نفسه من الهلكة وخرج عن كل ماله.
قال الغوري مغضبًا: فتدفع أنت من مالك ما يعجز عنه جاني باي.
فبسط خشقدم كفيه قائلًا: وماذا يملك عبدك يا مولاي إلَّا ما تفضل عليه من معروفك؟!
قال الغوري ساخرًا: أو ما يُفضل عليه صهره مما اغتال من أموال الناس باسم السلطان!
واحمرَّت عينا الغوري وانتفخ منخراه، وصاح بعتيقه الماثل بين يديه: اسمع يا خشقدم، لا يمكن أنْ تكون لي ولجاني باي في وقت معًا، فاختر أمان السلطان أو صهر جاني باي …
قال خشقدم منزعجًا: مولاي …
فقاطعه السلطان صائحًا: اسكت، إنما هو ما قلتُ لك، فإمَّا طلقتَ بنت جاني باي لتخلص لي، وإمَّا نالك ما يناله!
اصفر وجه خشقدم واختلجت أطرافه، وقال مسترحمًا: وبنيَّ وبناتي يا مولاي، ما خطبهم وما خطبي؟ وما ذنب زوجتي المسكينة؟ لقد حلت النقمة على أبيها، فادخِرْني لها يا مولاي واجعلني بعض إحسانك إليها وإلى هؤلاء البنين والبنات.
قال الغوري ولم يزل في سورته: لقد حكمت، فاختر لنفسك!
ثم ولى وجهه ليؤذن عتيقه بالانصراف، فمضى يتعثر في خطاه، وقد دارت به الدنيا وثقل رأسه بما يحمل من الهم، فلولا أنه جَلْدٌ لانهار على الطريق ليس له وعي ولا رشاد …
– ماذا وراءك يا خشقدم؟
– الخير يا سورباي إنْ شاء الله!
– هل قبل مولاي شفاعتك؟
– نعم!
– وهل يطلق أبي؟
– نعم!
– متى يا خشقدم؟
– يوم يحين أجله!
دقت المرأة صدرها يائسة وهي تقول: ماذا قلت يا خشقدم؟ أليس يريد السلطان أنْ يطلق أبي؟ أحكم عليه بالموت في هذا العذاب؟
قال خشقدم وعيناه عند موطئ نعله: سيموت أبوك في هذا العذاب، وستخرجين من داري مطلقة لا زوج لها، وسيعيش بنونا وبناتنا في هذه الدار أطفالًا بلا أم، أو يصحبونك حيث تكونين ليعيشوا معك يتامى بلا أب! بهذا حكم السلطان.
ثم هبَّ واقفًا وقال وقد ارتفع صوته واختلجت ألفاظه كأن فيها نبضات قلبه: ولكن شيئًا من ذلك لن يكون … ستعيشين لي وتبقين في داري، وسيعيش بنونا وبناتنا تحت جناح الرحمة من عطف الأب وحنان الأم، وسيعلم الغوري أين منقلبه!
ثم عاد إلى مقعده هادئًا ثابت الجأش، فأسند رأسه إلى راحته وراح يفكر، وطال تفكيره، وطال استناد رأسه إلى راحته، وتعاقبت الساعات وهو لم يزل في مجلسه ذاك وفي هيئته تلك، وزوجته بين يديه صامتة ترمقه بعينين فيهما قلق وإشفاق، لا تكاد تتحرك في مكانها، ولا يكاد هو يراها أو يحس أنها منه في مكان قريب، فلما أوشك الظلام أنْ يبسط رداءه، رفع خشقدم رأسه وألقى إلى زوجته نظرة مطمئنة، ثم قال في صوت هادئ: تأهبي منذ الغد يا سورباي لرحلة طويلة!
ثم نهض فأصلح هيئته وخرج إلى الطريق، فلم يعد إلى داره إلَّا حين أوشك الصبح.
ومضى يومان، ثم أبصر الناس في ميناء دمياط مركبًا شراعيًّا يتأهب لرحلته، وقد جلس في صدره شابٌّ في عنفوانه إلى جانب زوجته، وبين يديهما بنون وبنات، يتبعه مركب آخر قد احتشد فيه طائفة من المماليك كأنهم حاشية ذلك الفتى …
وقطع الملاحون حبال المرساة وشدوا القلاع، فاتخذ المركبان طريقهما نحو الشمال حتى ابتعدا عن الساحل، ثم غير الملاحون وجهتهم نحو الشرق، يقصدون بلاد ابن عثمان …
ورفَّت ابتسامة على شفتي ذلك الفتى وهو ينشد لنفسه: