أول الطريق
عاد أبرك من حلب مغاضبًا لأميرها خاير بن ملباي، وكان أبرك نائبًا لقلعة حلب من قبل السلطان الغوري، وعينًا على أمير المدينة من قبل مولاه طومان باي الدوادار الكبير …
ومثل أبرك بين يدي السلطان ليقص عليه أسباب الخلاف بينه وبين الأمير، ولكن السلطان لم يكُنْ بحاجة إلى أنْ يسمع شيئًا عن خاير، فهو يثق به ثقته بنفسه، ويوليه من بره وعطفه ما لا مطمع بعده لمستزيد، فما كاد يرى أبرك ماثلًا بين يديه حتى انهال عليه تقريعًا وملامة، فلم يأذن له في كلمة أو يقبل منه معذرة، فغادر مجلس السلطان لا يكاد يتبين موضع خطاه من الغيظ والحنق؛ فقد كان السلطان في حال شديدة من الغضب، فلولا أنَّ أبرك هو غلام الدوادار الكبير، لكان حقيقًا بأن يناله من غضب السلطان في ذلك اليوم شر عظيم!
قال أبرك لمولاه: فو الله يا سيدي ما غاضبته إلَّا إشفاقًا على هذه الدولة من عاقبة ما يدبر لها، وإنَّ خاير اليوم لذو تدبير وحيلة!
اعتدل طومان باي في مجلسه وقال: ماذا تعني يا أبرك، فما علمتُ قبل اليوم أنَّ لخاير تدبيرًا يصيب، إلَّا أنْ يكون ذلك بسبيل امرأة!
قال أبرك: فهذا من ذاك يا مولاي، وما تزال الرسل والرسائل تترى بينه وبين مصرباي الجركسية، منذ عاد من رحلته إلى القاهرة آخر مرة، وقد أجدَّت له هذه الرحلة أماني ومطامع، فهو اليوم رجل آخر غير الذي تعرفه يا مولاي …
قال طومان قلقًا: ولكنك لم تحدثني يا أبرك عن تدبيره ذاك ما شأنه وما غايته؟
قال أبرك: ذاك ما لا أعرفه على التحقيق يا مولاي، ولكن مكانه في تلك الإمارة البعيدة على الأطراف، قد أتاح له صلات من الود بينه وبين جيرانه من أمراء ابن عثمان، فهو يهدي إليهم ويهدون إليه، والرسل بينه وبينهم لا تكاد تنقطع، وبينه وبين جان بردي الغزالي أمير حماة صلات أخرى …
قال طومان وقد زاد به القلق: جان بردي الغزالي!
– نعم يا مولاي، وإنَّ جان بردي ليتعبد له كأنه مولاه، ثم هناك علاء الدولة أمير مرعش وديار بكر، وأنت تعلم يا مولاي ما بينه وبين ابن عثمان من القطيعة والجفوة، فإن بين خاير وبينه من أمارات العداوة، على قدر ما بينه وبين ابن عثمان من المودة، كأن أمير مرعش وديار بكر ليس مثله أميرًا من أمراء مصر على بلد من بلاد السلطان الغوري، أو كأن خاير أمير من أمراء ابن عثمان!
هبَّ طومان باي واقفًا وراح يذرع الغرفة ذهابًا وجيئة، قد بلغ به القلق مبلغًا بعيدًا، وراح يتحدَّث إلى نفسه همسًا لا يكاد صوته يبلغ أذنيه، ولكنه مما يصطرع في رأسه من الهواجس، يخال أنَّ لذلك الهمس صدًى يتجاوب بين جدران الغرفة الأربعة، فيرتد إلى أذنيه ضجيجًا صاخبًا لا يكاد يطيقه!
ثم عاد فاستقر في موضعه وهو يقول لغلامه: ثم ماذا يا أبرك؟
قال أبرك: لا شيء يا مولاي إلَّا ما علمتُ منذ قريب من أمر خشقدم الرومي، فقد بلغ في بلاد الروم منزلة ومكانة، وله أَخٌ في حاشية السلطان سليم قد هيأ له مكان الحظوة والجاه عند السلطان؛ فهو اليوم من جلسائه وأصحاب سره، وقد استفاض بين الناس أنَّ خشقدم قد زين للسلطان سليم أنْ يُغِيرَ على بلاد السلطان الغوري، وكشف له عن عوراتها وأطلعه على أسرار الدفاع، ولا يزال الناس على بلاد الحدود في هَمٍّ منذ استفاضت بينهم هذه الأخبار … وبين خشقدم اليوم وخاير بن ملباي رسل ورسائل ومودة وثيقة.
هزَّ طومان باي رأسه حنقًا وهو يقول كأنما يحدث نفسه: كذلك تضيق حلقاتها على عنق السلطان، والسلطان في غفلته لا يكاد يفطن إلى ما يُدَبَّرُ له، ولقد رأيت خاير في زيارته الأخيرة للقاهرة، وهو يشهد موكب السلطان في أبهته وتمام زينته، فكأن قد رأيت في عينيه وقتئذٍ خيال أمنية يتمناها ممَّا بهره من جلال ذلك الموكب، وكأن قد سمعت من ورائه صوت مصرباي هاتفة: إلى العرش يا خاير! فإن مصرباي تتمنى أنْ تعود سلطانة.
ثم ابتسم ابتسامة خابية وهو يقول: ولكن السلطان لا يخشى تدبير خاير؛ لأن أبا النجم الرمَّال لم يخوفه إلَّا سيباي أمير الشام، فهو دائم الحذر منه تصديقًا لنبوءة ذلك الدجَّال …
قال أبرك: فهل سماه له الرمَّال باسمه يا مولاي؟
قال طومان ساخرًا: أحسبه قال له: إنَّ عرشه سيكون من بعده لأمير أول اسمه س!
قال أبرك في همس وقد زاغت عيناه وحال لونه: أول اسمه س؟ فما أحراه يا مولاي أنْ يأخذ حذره من السلطان سليم ابن عثمان، ويقطع ما بينه وبين خاير من علائق المودة!
قال طومان غاضبًا: اخسأ عليك اللعنة! وهل هانت مصر حتى يكون عرشها لسليم بن بايزيد! إنما هي شعبذة دجَّال وأوهام شيخ مريض!
ثم سكت برهة يفكر وعاد يقول في هدوء: لا عليك يا أبرك مما نالك من غضب السلطان، وستعود بإذنه إلى قلعة حلب؛ لتكون لنا عينًا وأذنًا، ولن ينفذ لخاير بن ملباي تدبير وعلى ظهرها طومان باي!
ثم شيَّع غلامه إلى الباب وعاد إلى مجلسه يفكر …
كانت مرعش وديار بكر وما يليها من تلك البلاد إمارة مصرية، وكان يحكمها من قبل سلطان مصر الأمير سوار، ولكن هوى سوار كان مع بني عثمان، فجرد السلطان قايتباي حملة فهزمه وفرق جنده وقاده أسيرًا إلى القاهرة، ثم أمر به فشُنِقَ على باب زويلة، وجعل إمارة مرعش من بعده لأخيه علاء الدولة، وفرَّ أبناء سوار إلى ابن عثمان فأقاموا في جواره، ينتظرون أنْ تسنح فرصة تعود بهم إلى كرسي الإمارة ويخلعون عَمَّهُم علاء الدولة، وعاش علاء الدولة أميرًا على تلك البلاد خائفًا يترقب، والشرُّ يتربص به من ثلاث جهات، فوراءه أبناء أخيه يأملون أنْ يعود إليهم عرش هذه الإمارة، وعن يمينه ابن عثمان ملك الروم لا تزال نفسه تراوده ليبسط سلطانه ويوسع رقعة ملكه، وعن يساره الشاه إسماعيل الصفوي — أمير العجم — يطمع أنْ يحتاز هذه البلاد؛ ليتخذها قاعدة للهجوم على الشام ومصر. وفي نفس علاء الدولة مع ذلك كله أمل في الاستقلال عن سلطان مصر!
وكان السلطان بايزيد العثماني يحكم بلاد الروم قبل أنْ يغلبه على العرش ولده سليم، وكان سليم فتى في عنفوانه واسع الطموح بعيد مطارح الآمال، فما كاد يثب على عرش أبيه حتى توجس إخوته الشر، فتفرقوا في البلاد فرارًا من بطشه، فمنهم من استجار بالشاه إسماعيل الصفوي، ومنهم من عاش في جوار السلطان الغوري، فاشتجرت أسباب الخلاف بين الدول المتجاورة، وكان لا بُدَّ من بعدها أنْ تشتجر الرماح.
وعبأ السلطان سليم جيشه يقصد بلاد الصفوي، وما كان له أنْ ينفذ إلى حيث يريد، وفي الطريق علاء الدولة أمير مرعش وديار بكر، فكتب علاء الدولة إلى السلطان الغوري يؤذنه بنية السلطان سليم ويلتمس معونته، وكتب إليه السلطان سليم يشكو إليه عامله علاء الدولة ويسأله حق المرور، وكان الغوري يخشى السلطان سليمًا، ويحذَر الصفوي، ولا يأمن غدرة علاء الدولة، فكأنما عاوده داؤه القديم، وخيل إليه أنه مستطيع بسياسته التقليدية العتيقة أنْ يغري بعض أعدائه ببعض، ويخلي بينهم حتى يتفانَوْا، فكتب إلى علاء الدولة يأمره أنْ يعترض سبيل ابن عثمان، وكتب إلى ابن عثمان يغريه بعلاء الدولة، ويصفه بالعصيان والمروق من الطاعة … وأيقن أنَّ الغالب منهما سيولي وجهه شطر إسماعيل الصفوي، فيخلص من الثلاثة أو يكسر شوكتهم في وقت معًا … ووقف ينتظر.
وكان أبناء سوار في جيش السلطان سليم، فتدانت لهم الآمال في العودة إلى الإمارة التي كانت لأبيهم في يوم ما قبل أنْ يليها علاء الدولة، فتقدموا الصفوف يطلبون الثأر … وانحاز إليهم من انحاز من جند علاء الدولة، ولاءً لأبيهم، ودارت الدائرة على علاء الدولة، وسيق هو وأمراء جنده أسرى إلى السلطان سليم، فَاحْتَزَّ رءوسهم وأرسلها هدية إلى السلطان الغوري في القاهرة. ووثب ابن سوار إلى عرش أبيه … تؤيده جند السلطان سليم!
ورفرف لواء الدولة العثمانية على أول أرضٍ مصرية، وتلبَّث السلطان سليم ينتظر رجع الصدى، فلم يتقدم إلى شمال أو إلى يمين.
قال خشقدم الرومي: أما إنك يا مولاي قد حميت ظهرك من إسماعيل الصفوي بتولية ابن سوار على هذه الإمارة، فلو شئت لمضيت في طريقك حتى تغلب على حلب ودمشق، وتحتاز الشام من أطرافها فلا يقف في سبيلك شيء.
قال السلطان سليم ضاحكًا: إنك يا خشقدم لتتعجل الأمر قبل أوانه، ومن أين لنا الجند والعتاد حتى نتغلب على حامية حلب، فننفذ منها إلى دمشق والشام، ونحتاز البلاد من أطرافها كما تأمل، وفي حلب قوة مصرية لا يثبت لها جيش من الروم؟!
قال خشقدم منكرًا: أفلا يزال مولاي يشك في ولاء خاير بك، على ما قدم من المواثيق وأمارات الطاعة، أم أنَّ مولاي لا يراه أهلًا للوفاء بما وعد من نصرة جيش الروم؟!
قال السلطان: بلى، ولكن خاير جركسيٌّ كما تعلم، فلست آمن أنْ ينتقض علينا حين يجدُّ الجد؛ انتصارًا لبني جنسه.
قال خشقدم ضاحكًا: وهل علم مولاي لجركسيٍّ من هؤلاء المماليك عاطفة تحن به إلى أهله أو تربطه بوطنه، وإنما يقتُل بعضهم بعضًا ليبلغوا العرش، يستمتعون به حينًا حتى يأتي من يقتلهم ليبلغ من بعدهم ذلك العرش، ويتخلق بدم السلطان القتيل! ثم هنالك يا مولاي جان بردي الغزالي أمير حماة، فقد عقد لي المواثيق والأيمان، وهنالك سيباي أمير الشام.
فقاطعه السلطان سليم قائلًا: أمَّا سيباي فلست آمن جانبه، على ما تصف مما بينه وبين الغوري من أسباب العداوة والبغضاء.
قال خشقدم: نعم، ولكنه إلَّا يكن معنا فلن يكون علينا، فنحن على الحالين في أمان منه.
قال الوزير أحمد بن هرسك: يا مولاي! إنها أماني تهتز لها النفس، ولكنها لا تغني من الحق شيئًا؛ لقد كنت أمير الجند في تلك الحرب التي كانت بين جيش أبيك وجند قايتباي في ذلك التاريخ البعيد، وكأني أرى بعينيَّ الساعة مصارع جُنْدِي على تلك الغبراء، لا يكاد يثبت جنديٌّ منهم لطعنة مصرية، وقد رأيتني يومئذٍ وأنا أُقاد أسيرًا في الأغلال إلى مجلس السلطان قايتباي في القاهرة، فيعفو عني ويمنُّ علي بالحرية، وهو يقول لي باسمًا: «كيف رأيت جيش مصر يا أمير؟» وأقسم لمولاي صادقًا أنني لم أومن في حياتي بحقيقة، كما آمنت يومئذٍ ولا أزال أومن حتى اليوم بأن جيش مصر لا يُغلب، وقد آليت من يومئذٍ ألَّا أرفع سيفي في وجه مصريٍّ من أهل القبلة … فإن شاء مولاي فقد بذلتُ له النصح.
قال السلطان ضاحكًا: اسكت يا شيخ! إنك لتحمل على كاهلك من أعباء السنين ما لا تقوى معه على حمل الراية على رأس جيش السلطان سليم!
مثل سفير ابن عثمان بين يدي السلطان الغوري يبشره بما فتح الله على السلطان سليم، وما أتاح له من النصر على علاء الدولة صاحب مرعش، ويقدم له رءوس القتلى …
وخفق قلب السلطان الشيخ خفقة ذعر، واختلج ضميره اختلاجة ندم، وتخيل علاء الدولة وقد تفرق من حوله جنده وأسلموه إلى عدوه يحتز رأسه، فكأن قد رأى نفسه في مثل موقفه ذاك في يوم ما … فشحب وجهه وبردت أطرافه، ثم استجمع قوته ليقول لسفير ابن عثمان: إنني لسعيد بما أفاء الله على السلطان سليم من النصر والغنيمة، ولعله أنْ يجد من توفيق الله في قتال الصفوية، مثل ما لقي في قتال ذلك الخارجي العاصي …
وعضَّ على شفتيه وعاد قلبه يخفق، وأحس وخز ضميره.
وغادر السفير مجلس السلطان، فدعا الغوري أمراءه ليشاورهم في الأمر: إنَّ قلبه ليحدثه بأن شرًّا يتربص به على حدود الدولة، حيث خيَّمت جنود ابن عثمان في انتظار ما يصدر إليهم من أمر، إمَّا إلى الشرق وإمَّا إلى الغرب.
واجتمع الأمراء في مجلس السلطان يتبادلون المشورة، وقال الغوري: ليس بي من خوف، وإنَّ أمراءنا على الحدود لأهل حمية في الدفاع، وما أخشى منهم إلَّا أنْ ينتقض سيباي نائب الشام.
قال الدوادار الكبير طومان باي: ولكني يا مولاي أخشى غدرة خاير بن ملباي نائب حلب أكثر مما أخشى سيباي، إنَّ سيباي لذو حِفاظ ومروءة، وإنْ خُيل لمولاي ما خيل من أمره، أمَّا خاير …
فقاطعه الغوري قائلًا: لا تزال يا أمير تسيء الظن بخاير بك، وما أراه أهلًا لموجدتك، على أننا لم نجتمع الساعة للمشاورة في شأن خاير أو سيباي، ولكنني أخشى غدرة ابن عثمان!
وتشاور الأمراء ساعة ثم انتهوا إلى الرأي، واتفقوا على إنفاذ حملة احتياطية إلى حلب، تنتظر ما يكون من أمر ابن عثمان والصفوي، وتعد عدتها للدفاع … وإيفاد رسول إلى بلاد ابن عثمان يستطلع الأنباء ويقتص الأثر …
ومضت أشهر قبل أنْ تخرج الحملة المصرية إلى حلب، وقبل أنْ يسافر رسول السلطان، وكان سفراء ابن عثمان لا يزالون يَفِدُون إلى القاهرة سفيرًا بعد سفير ثم يعودون، فيولم لهم السلطان ولائمه ويكرم وفادتهم، وعيونهم مبثوثة في كل حيٍّ من أحياء القاهرة وآذانهم مرهفة للسمع …
ثم بدأت طلائع الحملة المصرية تخرج إلى الشام في طريقها إلى حلب؛ انتظارًا لما يكون من أمر الغوري والسلطان سليم، وكان على رأسها الأمير أبرك صاحب الدوادار الكبير طومان باي.