شعاع من النور
استدار المملوك الشاب على عقبيه، وفي وجهه أمارات غيظ شديد، فالتقت عيناه بعيني تلك الجركسية الملثمة التي تلاحق خطاه منذ خرج من دار الإمارة في حلب، فأقبل عليها مغضبًا يقول: ما شأنك وشأني يا أماه، ولماذا تطاردينني كذلك على طول الطريق كأنما مطلتُك بدين؟َ!
قالت نوركلدي وقد اخضلَّت عيناها وبدا في وجهها الانكسار والذلة: لا تعجل عليَّ بالغضب يا بُنَيَّ، إنْ أنا إلَّا أمٌّ فقدت وحيدها فبرزت إلى الطريق تتفرس وجوه الناس؛ آملة أنْ تجد فتاها الذي تفتقده منذ عمر مديد!
قال المملوك وقد زاد به الغيظ والغضب: وتحسبينني ذلك الفتى أيتها الجركسية، أم أنت تحاولين أنْ تخدعيني كأنني لا أعرف من تكونين؟
ثم عاد فأولاها ظهرها ومضى في طريقه، وتركها في مكانها لا تنقل قدمًا ولا تحاول حركة، وقد تعاقبت على نفسها ألوان من العاصفة، وغمرتها موجة من الشك والقلق وهي تقول لنفسها في حيرة: إذن فهو يعرف من أكون … فهل يعرف أين ألقى ولدي طومان!
ثم هرولت إليه تناديه في لهفة لا تبالي نظرات الناس، وما ارتسم على وجوههم من أمارات السخرية والدهشة، وما تلفظ شفاههم من عبارات الاستنكار.
امرأة في خريف العمر قد جفَّ عودها وأدبر عنها الشباب، لا يزال يراها الناس في حلب منذ سنين، تجوس خلال أسواق المدينة تتفرس في وجوه الرجال بعينين ظامئتين فيهما لهفة وحنين، وتعترض سبيل الشبان في الأسواق بوجه ليس فيه حياء، فلو قدرتْ لاستوقفت كل عابر في الطريق، وكل جالس على دكانه تتحدث إليه …
وعرفها كل فتى في المدينة وكل رجل، تلك الجركسية الملثمة التي تبرز للرجال في حنايا الدروب، على شفتيها ابتسامتها وفي نظراتها الحنين واللهفة! مجنونة!
ها هي ذي تعدو في أثر ذلك الفتى من مماليك الأمير خاير، تناديه وهو ماضٍ في طريقه لا يلتفت ولا ينظر كأن لم يسمع نداءها، والناس ينظرون إليها ساخرين أو منكرين! هل فيهم من يعرف حقًّا من تكون تلك الجركسية الملثمة التي تعترض الفتيان بكل سبيل، وتقعد لهم في كل مرصد؟
وغاب المملوك الشاب عن عينيها في زحمة الطريق، فأمسكت عن العَدْوِ ووقفت لاهثة وهي تدير في وجوه الناس نظرات حائرة فيها القلق والحيرة، وفيها الحنين واللهفة.
ذلك مملوك من بطانة الأمير خاير بك كانت تأمل أنْ يهديها إلى طريق ولدها طومان باي، أليس مسعود الخاني قد أنبأها منذ بعيد أنَّ أمير حلب كان في يوم ما رفيقًا لولدها طومان؛ فإن الأمير أو غلامًا من بطانته يستطيع أنْ يكشف لها عن شيء من خبر ولدها الذي تفتقده منذ سنين، لقد كان مسعود يستطيع أنْ يصحبها إلى دار الإمارة ويجمع بينها وبين الأمير نفسه فتتحدث إليه وتسمع منه، ولكن مسعودًا قد أبى عليها أنْ تسلك هذا السبيل حين خُيِّلَ إليه أنَّ ولدها طومان يعيش في حلب؛ لأنه لم يفارق حلب يوم فارقها خاير في ركب تاجر المماليك جاني باي، وإذن فلا بُدَّ أنْ تلقاه أمه يومًا ما في سوق من أسواق هذه المدينة على غير ميعاد. وفسح لها مسعود في ذلك الأمل حتى اعتقدته حقًّا، وعاشت منذ ذلك اليوم في حلب، تجوس خلال الأسواق وتتفرَّس في وجوه الرجال، وتعترض سبيل كل شابٍّ؛ حتى ليخيل إليها أنْ تستوقف كل عابر في الطريق، وكل جالس على دكانه لتتحدث إليه وتسأل عن ولدها طومان باي.
وأيقنت بعد لأيٍ أنَّ طومان باي ليس في حلب، لقد فارق هذه المدينة في يوم ما قبل أنْ تهبط إليها أمه، فإنها لتكاد تعرف كل شابٍّ في هذه المدينة وكل رجل، وما منهم واحد إلَّا لقيته مرة أو مرات، فما وقعت عينها منذ بعيد على وجه جديد، إلَّا وجوه هؤلاء الجند الذين وفدوا إلى حلب منذ قريب، يتهيَّئُون للدفاع عن حدود الدولة حين يدعوهم قائدهم إلى الدفاع!
ولكن أين ذهب طومان حين ذهب من حلب؟! إنها لتحس إحساس الأمومة الملهمة أنه لم يزل حيًّا يعيش في مكانٍ ما، فمن ذا يدلها على مكانه ذاك؟ لا أحد إلَّا الأمير خاير نفسه، أليس قد كان في يوم ما رفيقًا لولدها طومان كما حدثها مسعود؟ فمن ذا يصحبها إلى دار الإمارة ويجمع بينها وبين الأمير خاير لتتحدث إليه وتسمع منه، فلعله قد لقي طومان باي ثانية بعد ذلك الفراق، ولعله يعرف أين تلقاه!
وهذا مملوك من مماليك الأمير خاير قد فرَّ من بين يديها قبل أنْ تسمع منه، وإنه ليعرف من تكون، هكذا سمعته يقول قبل أنْ يولي وجهه، وإذن فهو يعرف أنها أم طومان، ويعرف طومان نفسه وأين يكون.
لماذا فرَّ من بين يديها ذلك المملوك مغضبًا عجلان وأبى أنْ يتحدث إليها؟ ولكنها لا بُدَّ أنْ تلقاه ثانية وتتحدث إليه وتسمع منه، وتعرف أين تلقى ولدها طومان باي.
ومرَّ بها مملوك آخر وهي في موقفها ذاك تتحدث إلى نفسها ذلك الحديث، فأتبعته عينين فيهما لهفة وحنين، وانطبعت على شفتيها ابتسامتها، ونظر إليها الفتى وابتسم، فخطت إليه خطوة تهم أنْ تستوقفه، فقال الفتى ساخرًا: ابعدي أيتها العجوز! قد عرفتك!
وضحك، وجاوبته ضحكات طائفة من أصحابه على مقربة، وقال له واحد منهم: أرأيت؟ كذلك تستوقف كل شابٍّ يعبر الطريق، وإنها لعجوز في خريف العمر!
قال فتى آخر: لست أشك أنها مجنونة!
قال ثالث: لو كانت مجنونة لتساوى في مرأى عينيها الشيوخ والشباب، وإنما هي مفتونة!
قال رابع: إنَّ من حقها أنْ يفتنها جمال الشباب، فإن في وجهها أمارات تنبئ أنها كانت ذات يوم شابة فاتنة!
وكانت نوركلدي منهم بحيث تسمع وترى، وعرفت لأول مرة بماذا يتحدث عنها أهل تلك المدينة … أفذلك رأي الناس عنها وتلك أحاديث الشيوخ والشباب، فقد عرفت إذن لماذا ترفُّ هذه البسمات على شفاه الناس حين يرونها!
وازدحمت في رأسها ذكريات بضعة وعشرين عامًا مرت بها بطيئة متثاقلة، تتعاقب فيها على نفسها ألوان من الهم والأسى لم يخطر مثلها على قلب بشر، واحتشدت في مرأى عينيها صور ذلك الماضي الحافل بالآلام وأوجاع النفس، وما احتملت من مشقات الحياة راضية في سبيل ما تنشد من أمل، وضاق صدرها عن ذلك القلب الذي يختنق بذكريات الماضي وأماني المستقبل، فكأنما رفرف بين ضلوعها بجناحَيْ طائر، وهمَّ أنْ يثب ليخرج من قفصه إلى فضاء الله، ثم ارتد من عجز كسير الجناح … وهوت العجوز الشابة على الطريق ليس لها وعيٌ ولا حراك!
وأسرع إليها الفتيان ينظرون ما بها واستداروا حولها حلقة، ثم حملوها جسدًا ساكنًا إلى دار قريبة وراحوا يعالجونها بالعطر والبخور، ويذكرون في أذنيها اسم الله …
وأفاقت ودارت بعينيها فيما حولها ثم أطرقت … ومضت ساعات قبل أنْ تجد في نفسها القوة؛ لتعود إلى الدار التي اتخذتها مأوًى في هذه المدينة التي ليس لها فيها حبيب ولا نسيب.
وصحبها على الطريق شيخ من شيوخ المماليك إلى حيث تذهب، وكان اسم ذلك الشيخ: جاني باي!
– إذن فأنت جاني باي صاحب الأمير خاير بك؟
– نعم يا سيدتي!
– وكنت تعرف رجلًا من تجار المماليك في بطانة قايتباي اسمه جقمق؟
– نعم يا سيدتي، وقد كان — رحمه الله — أخي وجاري!
وبلعت المرأة ريقها وهمت أنْ تسأله سؤالًا آخر ثم أمسكت، لقد عاودها الأمل في لقاء طومان باي، وإنها بهذا الأمل لسعيدة، وإنها مع ذلك لخائفة، تخشى أنْ تذهب سعادتها هذه الطارئة لو سألته فأجاب … فيردها جوابه ذاك إلى اليأس والعذاب!
قال جاني باي وقد ضاق بذلك الصمت: ولكن ما شأنك يا سيدتي وشأن جقمق؟
فعادت المرأة إلى نفسها وقالت باسمة: ذلك ماضٍ بعيد، فهل تذكر أنَّ جقمق قد باعك ذات مرة في حلب فتاة جركسية اسمها مصرباي، فرحلتَ بها في قافلتك إلى القاهرة؟
– نعم، أذكر ذلك يا سيدتي، وكيف أنسى خوند مصرباي أرملة الناصر بن قايتباي، وزوجة الظاهر قنصوه، وصديقة أمير حلب خاير بك؟
فغرت المرأة فمها مدهوشة وقالت: خوند مصرباي!
– نعم يا سيدتي، وكانت قبل أنْ تصعد إلى العرش رقيقًا في يد جاني باي، ومن قبله في يد جقمق، فأين منها اليوم جقمق وجاني باي!
قالت المرأة وأطرقت برأسها تغالب ما في نفسها من القلق والإشفاق: وطومان باي …
قال الرجل في دهشة: وتعرفين الأمير طومان باي الدوادار يا سيدتي!
– الدوادار!
– نعم، ابن أخي السلطان، ودواداره الكبير، وصاحب سره ونجواه!
– طومان!
– نعم، وكان رقيقًا تحت يد جقمق، قبل أنْ يشتريه قنصوه الغوري فيعرف أنه ابن أخيه، وكأني أراه الساعة هو وخشقدم الرومي في يد جقمق بالبهو الكبير في خان مسعود، لا يعرف ماذا يخبئ له الغد من المجد والسعادة!
قالت المرأة هامسة وكأنما تهذي من حُمى، وقد غاب سواد عينيها ومال رأسها إلى ناحية: طومان، ابن أخي السلطان!
وانهار عزمها فهوت في مكانها وعاودها الداء، ثم استفاقت، وكان لم يزل إلى جانبها جاني باي الشيخ …
قال الرجل وقد فاءت المرأة إلى نفسها، وعادت إلى مجلسها بين يديه صامتة تحدق فيه بعينين شاكرتين، وعلى شفتيها ترفُّ ابتسامة هادئة: ماذا بك يا سيدتي؟
قالت وكأنما تتحدث إليه من مكان بعيد: لا شيء، إنما هو داء يعتادني إذا ضاقت نفسي، ولكن قل لي: من أخبرك أنَّ السلطان هو عم طومان، وما أعلم لأبيه أخًا؟
قال الرجل مدهوشًا: أفأنت تعرفين طومان وأباه يا سيدتي؟
فعضت المرأة على شفتيها واستدركت قائلة: لا، وإنما حسبته لا عم له!
قال جاني باي: وكذلك كان يحسب طومان باي نفسه فيما قصَّ عليَّ، ولكن حديثًا جرى على لسانه ذات يوم في مجلس قنصوه الغوري بحلب، عرف منه قنصوه أنَّ طومان باي ابن أخيه، فأعتقه واتخذه ولدًا، وهو اليوم دواداره الكبير وصاحب تدبيره، وما أراه إلَّا سلطان مصر في غد، وقد خلفته منذ أسابيع في القاهرة وليس بها أحد أعز منه جانبًا وأرفع شأنًا …
وصمت جاني باي برهة ثم قال: ولكنك يا سيدتي لم تحدثيني ما شأنك وشأن جقمق ومصرباي، والأمير طومان باي الدوادار؟!
قالت المرأة في هدوء: لا شيء هناك يا سيدي، ولكني لقيتهم ذات يوم منذ سنين في خان يونس بقيسارية، فطاب لي أنْ أسأل عن خبرهم صديقًا كريمًا مثلك …
ثم أمسكت لحظة تفكر، وعادت تسأل جاني باي: إنني على أنْ أذهب في رحلة إلى القاهرة بعد أيام، فهل تعرف قافلة أصحبها في ذلك الطريق؟
قال جاني باي: أمَّا الآن يا سيدتي فلا، إنَّ جيوش السلطان الغوري اليوم لتزحم الطريق بين حلب والقاهرة، فلا سبيل إلى تلك الرحلة إلَّا بعد أنْ ينتهي ما بين ابن عثمان وسلطان مصر، وما أظنه ينتهي عن قريب، فقد تركت السلطان الغوري في القاهرة يتأهب لحرب طاحنة، قد حشد لها كل ما في طوقه أنْ يحشد من الجند وعدة القتال، وأظنه اليوم على الطريق إلى حلب في جيش كثيف يحجب غباره وجه السماء …
قالت نوركلدي: وطومان باي معه؟
– لا يا سيدتي، فقد اختار الغوري أنْ ينيب عنه بالقاهرة في أثناء غيبته طومان باي الدوادار الكبير!