بوادر المعركة
لم تكد الحملة الاحتياطية التي بعث بها السلطان الغوري إلى حلب تستقر فيها أيامًا، حتى نشأت بينها وبين أهل المدينة جفوة، فقد كان الجند في حاجة إلى الغذاء والمأوى، فغلت الأسعار، وازدحمت الدُّور بسكانها، وكان ما لا بد أنْ يكون بين المحاربين والمدنيين حين تضيق المدينة بأهلها والطارئين عليها، فتنشأ أسباب الخصام والبغضاء، وطالت إقامة الجند في حلب فارغين لا عمل لهم، فزيَّنت لهم البطالة ما زينت من الشهوات، فانطلقوا فيما زُين لهم من الباطل حتى غضب الخاصة والعامة، وغضب أمير المدينة …
واستحكم العداء بين الجند والشعب، فآثر كثير من هؤلاء وأولئك أنْ يغادروا حلب؛ فرارًا بأنفسهم من فتنة توشك أنْ تندلع نارها بين طائفتين من رعايا السلطان، وكان تدبيرًا مُبَيَّتًا لتفريق القلوب المؤتلفة وتقريب عوامل الهزيمة …
كان ذلك في حلب، أمَّا في القاهرة فكانت الأنباء تترى من الشرق بما أعد السلطان سليم من الجند والعتاد، فإن حديثه ليدور على ألسنة المصريين جميعًا حيث يلتقون في المساجد للصلاة، وحيث يجتمعون في الأسواق للبيع والشراء، وحيث يتنادَوْن للسمر واللهو في دور الأمراء والسادة وفي مجالس الغناء …
قال بدر الدين شيخ قبة يشبك: أمَّا أنا فلا أحسب سليم ابن عثمان يقصد مصر، إنه لأبعد نظرًا من أنْ يرمي بجنده إلى الهلكة في غير مطمع، إنَّ مصر لأعزُ جانبًا وأعظم قوة!
قال جركسي من القرانصة في المجلس: أفما سمعت بما اجتمع له من الجند، وما هيأ من أدوات القتال؟ أفتحسبه قد أعد ذلك كله من أجل إسماعيل الصفوي؟
قال بدر الدين: نعم، وليس يغيب عنك أنَّ له ثأرًا عند الصفوية يطمع أنْ يناله، ثم إنه — ولا ريب — يعلم علم اليقين قوة بأس السلطان الغوري وشدة مراسه، وأين سليم بن بايزيد من الغوري؟!
تململ أرقم الرمَّال في مجلسه وقال منكرًا: لا تزال يا سيدنا تذكر الغوري بما ليس فيه، فكيف يغيب عنك قوة سليم ابن عثمان وشدة مراسه، وإنه لشابٌّ لم يزل في يديه غده؟!
قال بدر الدين مغضبًا: اسمع يا أرقم: أما أنْ تقحم ما بينك وبين الغوري من عداوة في الأمر، وتنسى حق بلادك عليك فهذا ما لا صبر عليه! قد يكون سليم ابن عثمان على نية الحرب لمصر، وقد يكون استعداده لحرب الصفوي، وقد يكون الغوري على ما تصف من سوء التدبير وضعف النفس وفساد الضمير أو لا يكون، ولكنه — على ما يكون من صفاته — سلطان مصر التي يتربص بها العدو على الحدود، فاليوم تنمحي كل أسباب البغضاء لنذكر حق هذا الوطن …
اختلج أرقم في مجلسه اختلاجة ظاهرة وهمَّ أنْ يجيب، ثم أمسك حين ابتدر الحديث واحد من الجماعة يقول: ليس في مصر أحد يزعم أنَّ الغوري — وقد جلس على عرش مصر ستة عشر عامًا — قد حكم فعدل، وساس فأحكم السياسة، ورعى هذا الشعب فأحسن رعيته، ولكن الأمر اليوم ليس هو أمر السلطان الغوري، ولكنه أمر مصر التي توشك أن تطأها خيل الروم، وقد أجمعت أمري — على ما بي من الكره لهذا السلطان — أنْ أتطوع للحرب جنديًّا في المقدمة أو في المؤخرة، يوم تسول للسلطان سليم نفسه أنْ يغزو مصر أو يكون له في بلادنا أمر …
قال الجركسي: فقد سولت له نفسه … فهل نراك غدًا يا صديقي فارسًا على السرج أو راجلًا في الصف؟
قال الرجل: بل إنني كذلك منذ اليوم ومن ورائي بنيَّ وإخوتي وأهلي!
قال أرقم الرمَّال باسمًا: ومن ورائك أرقم الرمَّال … ولا يحسب سيدنا أنني أقل حفاظًا على حق الوطن وإنْ كنت أكره ذلك السلطان!
قال الجركسي: أمَّا أنا فلن أحمل السيف حتى أعرف كم ينفق عليَّ الغوري مما اجتمع في خزائنه، فلست أرضى أنْ أكون في جيشه جنديًّا بلا نفقة، وهو ينفق على جلبانه ما ينفق ولا يندبهم لحرب؛ حتى لكأني به يريد أنْ يستأصل القرانصة لتخلص له ولجلبانه مصر كلها يأكلون الحرام مما اجتمع لهم من مالي ومال الناس بالغصب والعذاب.
قال الشيخ بدر الدين منكرًا: أخ!
فأجاب الجركسي في حدة: لا أخ ولا بخْ يا سيدنا، إنه هو الحق يقال …
قال أعرابيٌّ في أقصى المجلس وهبَّ واقفًا يتهيأ للانصراف: نعم إنه الحق وإنْ غضب الشيخ، لقد أكلَنَا الغوري شحمًا ولحمًا ويطمع أنْ يحارب عدوه منا بعظم معروق، حسبه أنْ يكون في جنده أرقم الرمَّال إنْ كان عنده للقتال عزم!
ثم غادر المجلس تشيعه الأنظار، فلم يكد يبتعد حتى ارتدت أبصار الجماعة إلى أرقم الرمَّال … ذلك المسيخ المشوَّه الخلق الأحمش الساقين المستكرش البطن، كأنه صرة ثياب على عصوين من قصب … أيريد ذلك المسيخ — على ما به من الهرم والضعف والوهن، وعلى ما يضمر من الكره والبغضاء للغوري — أنْ يكون جنديًّا تحت رايته ليدفع عن مصر؟!
وكأنما ألمَّ بالجماعة خاطر واحد حين التقت أعينهم في لحظة معًا بعيني ذلك المسيخ الهرم، وهو متكوِّر في مجلسه إلى يمين الشيخ، فابتسموا، وكأنما ألمَّ الخاطر نفسه بأرقم، فانفرجت شفتاه عن شيء يشبه الابتسام، ثم حدق بعينيه فيما أمامه وانسرح في وادٍ من الأوهام!
وعاشت القاهرة في همٍّ ناصب بضعة أشهر، ولم تزل الأنباء تترادف على مصر بعظم استعداد ابن عثمان على الحدود، فأجمع السلطان أمره على الخروج … وأصدر أمره إلى الأمراء، وإلى القرانصة والجلبان، وإلى الفلاحين وأولاد الناس، وإلى أعراب البادية … ودعا إلى صحبته الخليفة العباسي، ودعا شيوخ الصوفية الأربعة، ودعا قضاة القضاة ونوابهم، وحشد العمال والصناع وذوي الحرف وأصحاب الفنون، ولم ينسَ أنْ يكون في ركبه طائفة من المغنين والمغنيات، وناقري الدفوف ونافخي الشبَّابة وأصحاب المزامير.
واجتمع للغوري جيش لم يجتمع مثله لقايتباي ولا لسلطانٍ مصريٍّ قبل قايتباي أو بعده، وحمل معه خزائنه بما اجتمع له فيها من المال منذ ولي العرش، وحزم نفائسه ومقتنياته الغالية محمولة على البغال والنجائب. واحتشدت القاهرة كلها تشهد جيش السلطان الغوري خارجًا للقاء ابن عثمان …
وبقي في القاهرة نائب السلطان الأمير طومان باي الدودار …
وترادفت الكتائب على الطريق كتيبة وراء كتيبة تحمل أعلامها ويشيعها الناس بالدعوات، وخرج موكب السلطان آخر الركب تظله رايته ويختال من تحته فرسه، وقد حفَّ به أتباعه وبطانته وخاصة أمرائه، وكان يتبعهم على الطريق فارس على سرجه، كأنه صرة ثياب مشدودة إلى ظهر حصان قد تدلى منها على الجانبين عصوان من قصب …
وأشار الناس بالأصابع إلى ذلك الفارس هاتفين في عجب ودهشة، أو في إعجاب وتقدير: أرقم الرمَّال!
ولكن أرقم لم يكن وقتئذٍ في حالة من الوعي بحيث يرى هذه الأصابع مشيرة، أو يسمع هذه الأصوات هاتفه، بل كان في سبحة من سبحاته الخيالية البعيدة تكاد تتراءى في عينيه بعض صورها.
وانتهى الجيش إلى دمشق، فانضم إليه سيباي أمير الشام بجيش من جنده، وانضم إليه جان بردي الغزالي أمير حماة.
واستأنف الجيش سيره حتى بلغ حلب.
وتلبث السلطان قليلًا حتى تأتيه الأنباء.
وجاءه سفير من قبل السلطان سليم ابن عثمان، يستهديه بعض طرائف مصر ويسأله شيئًا من السكر والحلوى! فاطمأنَّت نفس الغوري وثاب إليه الهدوء، وبعث مع السفير بما طلب … وأرسل وراءه سفيره مغل باي يقتصُّ الخبر.
قال خاير بك أمير حلب: يا مولاي، إنَّ ابن عثمان ليضمر لك المودة ويحفظ لك الأبوة، وإني لكفءٌ للدفاع إذا آثر مولاي أنْ يعود إلى حاضرته آمنًا موفورًا ويدع لي حماية الحدود!
قال جان بردي الغزالي: وعبدك جان بردي يا مولاي من وراء الأمير خاير بك يمده بما يحتاج إليه من الجند والعتاد، وما أراه في قتال الروم بحاجة إلى مدد من الجند أو العتاد!
وصرَّت أسنان سيباي ولم ينطق، فمال إليه السلطان يسأله: وماذا ترى أنت يا أمير سيباي؟
قال سيباي وفي وجهه أمارات الجد: فيأذن لي مولاي في خلوة لأتحدث إليه فلا أغشه!
فأنغض السلطان رأسه ولم يجب …
ثم خلا لهما المجلس بعد حين فأسر إليه سيباي برأيه …
قال السلطان مدهوشًا: تريد أنْ أقتل خاير بك يا أمير؟ ومن يبقى لي من أمراء الجند بعد مقتل خاير بك؟!
– يبقى لك الجند مجتمعةً قلوبهم على الولاء لك، لا يسعى بينهم ساعٍ بدسيسة عثمانية تفرقهم شيعًا حين يجد الجد وتنشب المعركة!
قال الغوري قلقًا: أتظن خاير بك يسعى بالدسيسة بين المماليك؟
بل أنا مستيقن يا مولاي، وذلك الشغب الناشب بين القرانصة والجلبان من أجل النفقة ليس إلَّا تدبيرًا من تدبيره؛ ليهيئ لابن عثمان فرصته …
– وترى خاير أهلًا لهذا التدبير يا أمير؟
– بل هو لا يحسن إلَّا مثل هذا التدبير، يريد أنْ يبتدر الوسيلة ليخلص إلى العرش يا مولاي.
– خاير يطمع في عرش الغوري؟
– نعم، وقد واثَق ابن عثمان على أنْ يؤازره في سبيل هذه الغاية.
قهقه الغوري ومال برأسه إلى الوراء وهو يقول: ولكن أصحاب الطوالع لم يذكروا لي أنَّ العرش من بعدي يكون لأمير أول اسمه خ، فإن صح ما حدثوني به فإن لك مأربًا من وراء هذه الوقيعة بيني وبين الأمير خاير.
ثم قطب وكشر عن أنيابه وأردف: وأظنك يا سيباي قد استنبأت أصحاب النجوم فأنبئوك، فخُيِّل إليك ما خيِّل من تلك الأوهام، وإنما كانوا ينظرون في نجوم آفلة!
بدت الدهشة في وجه سيباي واحتبس لسانه فلم يدرِ بماذا يجيب؛ لأنه لم يفهم شيئًا مما عناه السلطان. وهمَّ أنْ يسأله توضيح ما قاله حين رأى جان بردي الغزالي مقبلًا من بعيد فأمسك، وأقبل جان بردي فحيا وجلس، وأطبق الصمت على المكان، وقال السلطان بعد برهة: وأنت يا جان بردي بماذا تشير عليَّ في أمر خاير، وقد أشار سيباي بمقتله، ويراه يضمر لنا الغدر والخيانة؟!
اصفرَّ وجه جان بردي وأمسك لحظة عن الجواب، وهو يقلب بصره بين السلطان وسيباي، ثم قال: وماذا يظن بنا العدو يا مولاي إذا بلغه أنَّ السلطان الغوري يقتل أمراءه؟
ثم سكت وهو يردد بصره بينهما قلقًا، ولم يزل في وجهه الشحوب، قال السلطان: صدقت! فماذا يظن بنا العدو يا جان بردي؟!
كان ذلك الحديث يدور في خيمة السلطان، وإن بين المماليك القدماء في مضاربهم حديثًا آخر، يلقفونه فمًا عن فَمٍ لا يدرون من أشاع بينهم شائعته ونبههم إليه؛ فقد جاءهم أنَّ السلطان قد أجمع خطته على أنْ يكون المماليك القرانصة في الصف الأول حين تنشب المعركة؛ لتحصدهم المنايا ويبقى مماليكه الجلبان بمنجاة من سيوف الروم ونيران بنادقهم …
«أفلم يكف السلطان أنْ جعل أرزاق الحرب ضعفين للجلبان، ولم يمنح القرانصة إلَّا القليل من النفقة؟ أعليهم وحدهم أنْ يموتوا بلا ثمن على حين يستمتع الجلبان بالرزق والسلامة؟!»
قال قائل منهم: احذروا الفتنة أيها الجند، فما أرى السلطان قد قدمكم في الصف الأول إلَّا إقرارًا بشجاعتكم، وعرفانًا بما اكتسبتم من الخبرة في الحروب وطول المراس، وإنكم لجديرون إذا غلبتم بأن تكون لكم وحدكم الغنيمة دون من وراءكم من الجلبان …
ولكن ذلك القائل لم يكد يفرغ من حديثه حتى غرق صوته في ضجة صاخبة، قد انبعثت من كل جانب، يستنكرون دفاعه ذاك ويعبرون بالضجيج عن سخطهم على خطة السلطان، فقد وقر في نفوسهم منذ سمعوا الكلمة الأولى أنَّ السلطان الغوري لا يقصد بهم إلَّا الشر.
وهمس مملوك منهم في أذن صاحبه: أحسبني قد عرفت من قالها وماذا أراد؛ فما هي إلَّا دسيسة عثمانية أرسلها في الجند خاير بن ملباي على لسان مملوك من مماليكه لأمر قد بَيَّته بِلَيْلٍ!
قال صاحبه: صهْ! هذان خاير وجان بردي الغزالي يتفقدان الجند.