أبٌ وأم!
أناخ الركب على باب دمشق؛ ليتزود لما بقي من رحلته بعض الزاد من أسواق دمشق، ولكن فلول الجيش المنهزم لم تجد في دمشق زادًا لمسافر ولا لمقيم؛ فقد خشيت المدينة العريقة أنْ تقع بين نارين من العدو الغازي، ومن الفلول المرتدة، فأغلقت أبوابها دون هؤلاء وأولئك جميعًا؛ لعلها أنْ تجد في استقلالها بعض السلامة.
وخيمت القافلة على الطريق لتستريح يومًا أو يومين، ثم تستأنف رحلتها إلى القاهرة، واجتمع الرجال لصلاة العشاء على ظهر البادية، ثم استداروا حلقات يسمرون قبل أنْ يأخذ النوم عيونهم، وجلس أرقم بين السامرين يتحدَّث وهم يستمعون إليه، وقد عرَف منهم من عرَف أنه أرقم الرمَّال صاحب الحلقة المشهورة في بساتين القبة.
ووجد أرقم نفاقًا لبضاعته حين ظن أنه قد انقطع ما بينه وبين الناس من صلات، فجعل فنَّه ملهاة الفراغ ومسلاة الهم للقافلة المكدودة من مشقات السفار وأحداث الحرب، فكلما أناخ الركب في مرحلة من مراحل الطريق للراحة، فرش أرقم منديله وبسط عليه الرمل، وراح يتحدث إلى كل واحد من أصحابه على هواه، لا يرجو إلَّا أنْ يجفِّف دمعة المحزون، ويمسح على قلب البائس، ويهب لليائس الصبر والأمل، وذلك كل حسبه من الأجر على بضاعته.
وكان الركب على أبواب غزة، حين بدا لبعض نساء القافلة أنْ يدعون أرقم الرمَّال إلى خيمتهن؛ ليكشف لكل واحدة منهن عن بختها …
ورأى أرقم بين النساء عجوزًا في الستين أو هي جاوزتها، في عينيها بريق وعلى جبينها تاريخ مسطور، فلم تكد عيناه تلتقيان بعينيها حتى أحس كأنما تفضي إليه عيناها بسرٍّ من أسرار ماضيه البعيد، فحدق فيها مدهوشًا لا يكاد يصدق أنَّ شيئًا مما يخطر في باله يمكن أنْ يكون، ثم أنغض رأسه وراح يخط بأصبعه في الرمل صامتًا، وعيناه لا تطرفان، وخواطره تطوِّف به في الآفاق البعيدة ثم تئوب.
ورفع رأسه بعد فترة وهو يسأل نفسه: أتكون هي نوركلدي؟ فمن أين جاءت؟ وإلى أين؟ ولماذا؟
ثم أطرق ثانية وعاد يفكر، وطال إطراقه وفكره فلم ينتبه إلَّا بعد حين، ثم رفع رأسه وحدَّق فيها بعينين جامدتين، وفي نفسه رَيْبٌ وعلى شفتيه حديث طويل لم ينبس منه بحرف.
ولكن عيني العجوز لم تطرفا ولم تنفرج شفتاها عن كلمة. لئن كانت هي نوركلدي إنها إذن لا تعرفه. وطال تحديقه وطال صمتها، وانتابها القلق من وجهه الجامد وعينيه الشاخصتين، فسألته في لهفة: هل عندك ما تحدثني به يا سيدي من أنبائك؟
وردَّه صوتها من الشك إلى اليقين، فلم يدع الفرصة تفلت من يده وقال في صوت يختلج: نعم يا سيدتي: اسمك نوركلدي، من بلاد الغور وراء جبال القبج، وقد فارقك حبيب من أحبائك منذ سنين بعيدة، إلى حيث لا تعرفين ولا تطمعين أنْ تعرفي، ولعلك أنْ تلقيه يومًا …
شحب وجه نوركلدي وتتابعت أنفاسها وهي تقول في ذهول: نعم، فبحق من أنبأك الغيب يا سيدي إلَّا ما هديتني إليه، إنه …
قال مقاطعًا: إنه زوجك أركماس!
قالت المرأة وقد زاد شحوبها وأخذها البهر: نعم، زوجي أركماس، وولدي!
وكأنما أعداه ما بها من الشحوب حين لفظت كلمتها الأخيرة، فبدا وبدت كأنهما تمثالان من الكبريت الأصفر، وبردت أطرافه وتوقفت أصبعه عن الحركة وهو يقول: صهْ! لغير هذا المجلس يا سيدتي تتمة الحديث عن زوجك وعن ولدك.
ثم أخفى وجهه في راحتيه وأخذته مثل الغشية وهو يردد في همس خافت: ولدي! ولدي!
ثم ثاب إلى نفسه بعد برهة ليدير عينيه فيمن حوله من النساء قلقًا، ثم يعود إلى صاحبته فيطيل النظر … وما يزال الصدى يرن في أذنيه: ولدي!
وكأنما خشي أنْ يفتضح، فطوى منديله ونهض لم يتحدث إلى واحدة من النساء بشيء، وخلا بنفسه مطرقًا لا يكاد يستجمع فكره من دهش المفاجأة؛ إذن فهي نوركلدي، وإنَّ لها ولدًا تفتقده كما تفتقد أباه … إلى أي طريق تسوقه المقادير؟
فلما كانت العشاء الآخرة، نهض أرقم يدب على الأرض حتى بلغ خيمة نوركلدي، فناداها …
وسمعت المرأة في هدأة الليل صوتًا يهتف باسمها، فكأنما سمعت صوتًا من وراء السنين أو من عالم الأحلام، فخفت إلى باب الخيمة فأزاحته ونظرت، فإذا أرقم الرمَّال.
وجلس وجلست تستمع إليه، وقد جمع أمره على أنْ يخفي من أمره ما لا بد أنْ يخفي؛ حتى لا يمحو من خيالها تلك الصورة الجميلة التي بَقِيَتْ لها من سعادة الماضي، ولكنه أراد أنْ يعرف.
قالت نوركلدي في قلق: سيدي! إنَّ لك أسبابًا وثيقة إلى الغيب، وأنا امرأة مقطوعة بائسة، فهلا أنبأتني بما عندك من خبر أركماس، وطومان باي!
– طومان باي!
– نعم، ولدي طومان باي الذي فارقتُه منذ ثلاثين عامًا أو يزيد، فلم أره ولم يرني!
– ثلاثين عامًا!
– نعم، وأمه على الطريق ضالة مقطوعة، وهو على عرش مصر نائب السلطان!
«يا ويحه! إذن فهو أبو طومان باي! وكان قنصوه الغوري يزعم أنه عمه ولا عم له … وأبوه أركماس يتربص للغوري ليأخذ منه بثأره، وولده في حجره … ويجتمع في مكانٍ وتحت سقفٍ ألدُّ الأعداء وأعز الأحباب … وينفذ عدل الله، ويجلس طومان باي على العرش سلطانًا، وتلقاه أمه، ويلقاه أبوه، كما لقي يوسف الصديق أبويه على العرش، ولكن كم دون ذلك من الأهوال!»
كان أرقم كالمغشي عليه يناجي نفسه، تلك العجيبة التي انبثقت له من حوادث الأيام لم تكن تخطر له على بال، فكأنما طار صوابه فلم يفكر فيما يقول، ولم يذكر ما أجمع عليه رأيه من الكتمان، وفاضت عواطفه فاجتاحت كل ما أقام فكره من سدود وقيود، حتى المرأة التي تجلس بين يديه صامتة تصغي إليه، لم تكن في باله ولا في مرأى عينيه، فلم يُبالِ ما يقول.
على أنَّ نوركلدي لم تسمع ما سمعت منه على الوجه الذي أراد، ولم يخطر في بالها قط أنها تسمع حديث أبٍ عن ولده، فلم يكُن ذلك الشيخ الجالس بين يديها يحدثها إلَّا رَمَّالًا حاذقًا يقرأ سطور الغيب، وقد رأت من أمارات اليقين في حديثه ما لا يدع في نفسها سبيلًا إلى الشك فيما تسمع منه، فما يعرف أحد من الناس أنَّ لها زوجًا، وأنَّ اسمه أركماس، وأنَّ لها حبيبًا قد فارقها منذ سنين بعيدة، وأنَّ ولدها لا عَمَّ له … كل ما يعرفه الناس ممَّا حدثها به ذلك الرمَّال، أنَّ اسمها نوركلدي، فمن أين لهذا الشيخ ما حدثها به من تلك الأنباء إلَّا أنْ تكون له أسباب وثيقة إلى الغيب؟ وإنها إلى ذلك لتسمع صوته فتطمئن إليه، إنه صوت لم تسمع مثله فيما تسمع من أصوات الناس، وإنها لتجد في نبره ذلك السحر الذي يجده العاشق في صوت محبوبه، فتحس خَدَرًا لذيذًا يهيئ نفسها لأن تصدق وتؤمن.
واستراحت إلى ما سمعت من نبوءة الشيخ، فشكرت له ونهضت إلى متاعها، ثم عادت وفي يدها دنانير تريد أنْ تدفعها إليه، فترقرقت دمعتان في عين الرجل، هذه الأم تريد أنْ تأجر زوجها على ما ساق إليها من البُشرَى بقرب اجتماع شملها وشمله، بولدها وولده، يا لها سخرية!
وقال أرقم في صوت مختنق وهو يدفع يدها: سيدتي … هل تأذنين لي أنْ أكون منذ اليوم صاحبًا لا يطمع في أجر على معروفه؟
قالت مترددة: سيدي …
قال وفي صوته رجاء: إنه دَيْنٌ عليَّ للأمير طومان باي، إنه … إنه صديقي!
وجاوبته دمعتان من عيني المرأة.
واستأنف الموكب رحلته إلى القاهرة، وكانت راحلة أرقم تسير إلى جانب راحلة نوركلدي على طول الطريق، وخيمته إلى جانب خيمتها في كل منزلة، وكان طعامه مما تهيئ يدها …
زوجان قد افترقا جسدًا والتقيا في عاطفة، فإنه وإنها لَيفكران في شيء واحد، وإنه وإنها لمجتمعان على أمل، وإنَّ في خياله وخيالها صورة، وإنَّ أحلام الليل لتطرقهما في وقت معًا تعرض على عينيه وعلى عينيها جميعًا صورة طومان باي، أمَّا صورته في عيني أرقم فكما رآه وعرفه وجلس إليه وسمع حديثه، وأمَّا صورته في عينيها فصورة صبيٍّ في العاشرة، قد استدارت لحيته وعلى رأسه عمامة وقد جلس على العرش.