في زحام المعركة
قام الأمير طومان باي نائب السلطنة بتدبير أمر الملك في القاهرة قيامًا عظيمًا، فأبطل كثيرًا من المكوس، وأفرج عمن في الحبوس من مظاليم الغوري، وضبط الأمن والنظام، وأشرف بنفسه على الصغير والكبير من أمر الدولة، وبثَّ العيون يُحصُون على تجار الروم حركاتهم، وقبض على جماعة منهم فأودعهم معتقلات الأسر ووكَّل بهم، وكان له كل يوم خرجة يجوس فيها خلال المدينة في كوكبة من جنده وبطانته؛ ليحفظ للحكومة المركزية هيبتها في عيون الناس، فلا يبيح أحد لنفسه أنْ ينتهز فرصة للشغب أو يحاول فتنةً ما، وأصدر أمره إلى المماليك ألَّا يخرجوا إلى المدينة بسلاح؛ مخافة فتكهم وهتكهم وعدوانهم على الشعب، فصلح بذلك كله حال الناس، واستقامت الأمور، واطمأنَّت الحياة بالأحياء، وهتف المصريون جميعًا باسم الأمير طومان باي ودعوا له في السر والعلانية.
لم يكن يقلق الناس إلَّا شيء واحد قد نغص عليهم هذه الطمأنينة التي كفلتها لهم حكومة الأمير طومان باي، ذلك هو انقطاع الأخبار عن حركات الجيش الذي خرج تحت راية السلطان للدفاع عن حدود الدولة، فلم يسمع عنه الناس منذُ خرج إلَّا إشاعات تتطاير على الأفواه لا يدري أحد أين مصدرها، فتثير الإشفاق والقلق، وتبث الرعب في أنحاء المدينة، كأنما كان هناك من يعنيه أنْ تضعُف القوة المعنوية في نفوس أهل هذه المدينة الصابرة وتنحلَّ عزيمتهم، فينالهم بالرعب والفزع قبل أنْ ينالهم العدو بسيفه.
وبلغت تلك الإشاعات مبلغها من نفوس الناس، حتى أعظموا قوة ابن عثمان وشدة بأسه، وبالغوا في وصف عتاده وجنده، فآمنوا بالهزيمة قبل أنْ تبلغهم أنباء الهزيمة.
ثم لم تلبث الأنباء أنْ جاءتهم بما كان بين المعسكرين في مرج دابق، وهتف الناعي بأسماء القتلى والجرحى والمفقودين والمأسورين، ونُعي إلى المصريين سلطانهم الشيخ فيمن نُعِيَ من الأمراء والقواد والجند والإخوة والأبناء، وقام في كل دار مأتم.
وأيقن المصريون يقينًا لا شبه فيه أنَّ دولتهم قد دالت، وأنَّ خيل الروم ستطؤهم مُصبِحة أو مُمسِيَة، وستحصدهم مدافع البارود وقذائف النار حصدًا، فلا تُبقي منهم ولا تذر، ومن ذا يثبت للبارود والنار ذلك السلاح الجديد الذي يصفه من يصف ممن شهد موقعة مرج دابق، فكأنما يصف معركة قد نشبت في طبقة من طبقات الجحيم تتهاوى كرات النار فيها عن اليمين وعن الشمال، فتحصد الفرسان والرجالة وهيهات منها السلامة!
وضعفت نفوس المصريين وأصابها الوهن، حتى لو أنَّ صيحة أخذتهم من جانب الوادي لمَضَوْا على وجوهم فارِّين لا يردُّهم إلَّا البحر.
وفعلت الدعاية العثمانية بهم ما لا يفعل السيف والنار … وكان الذي تولى كبر هذه الفتنة منهم طائفة من أصحاب خاير بك، وجان بردي الغزالي، وخشقدم الرومي، إلى طوائف من أبناء الروم قد اجتازوا الحدود متنكِّرين في زي الأعراب، فانبَثُّوا في الأسواق والمساجد ومجتمعات السمر، يتحدثون فيسرفون في الحديث، والمصريون يستمعون إليهم فتنخلع قلوبهم من الرعب والفزع.
وكان النواح على القتلى والأسرى والمفقودين في كل درب من دروب القاهرة، كأنه تأكيد لما يتحدث به هؤلاء من الأنباء المروِّعة …
رجل واحد لم يهِن ولم يضعف ولم تنل منه تلك الأنباء، فراح يُعد عدته للدفاع عن مصر والشام، ويستنفر المصريين والعرب والمماليك ليذودوا عن حرماتهم وأعراضهم وذراريهم، ويقفوا صفًّا في وجه ذلك العدو الزاحف بخيله ورَجْلِه، وبسيفه وناره … ذلك هو الأمير طومان باي.
ولم يكن لمصر يومئذٍ سلطان، فاجتمع أمراء المماليك في القاهرة على مبايعة الأمير طومان باي؛ ليجلس على عرش مصر خَلَفًا لعَمِّهِ قنصوه الغوري، الذي غاب أثره بين رمم القتلى في البادية، فلم يعرف أحد أين كان مثواه الأخير.
ولكن من ذا يبايعه، والخليفة العباسي أسير عند ابن عثمان، وقضاة القضاة ومشايخ الإسلام قد خلا مكانهم في مصر منذ خرجوا في رَكْبِ السلطان فلم يعودوا، والأمراء العِظَام قد وقع منهم من وقع في الأسر، وسقط على الغبراء قتيلًا من سقط، ولا تزال طائفة منهم على الطريق بلا زاد ولا راحلة.
وماذا يدفع طومان باي للجند من أعطيات البيعة وقد أفرغ الغوري خزائنه واحتمل ما فيها لتكون معه في رحلته تلك المشئومة، حتى اللواء السلطاني والتاج والحلة والخاتم ليس في القاهرة منها شيء.
ثم ماذا يغريه بالسلطنة اليوم وقد ذهب عِزُّهَا، فلم يبقَ من معناها إلَّا تكاليف لعل أهونها أنْ يبذل دمه.
قالت زوجته شهددار: لمثل هذه التكاليف يا أمير تُفتقد الملوك، ولستُ أهلًا لحبك إنْ لم تحمل أعباءها راضيًا موقنًا أنَّ أول الواجب أنْ تموت، وأنْ تُذبح امرأتك وابنتك بين يديك فلا تهن …
وبرقت في عينيه دمعة، وضمها إلى صدره وهو يقول: سأحملها راضيًا يا شهددار، موقنًا أنَّ أول واجبي أنْ أموت لتعيشي وتعيش ابنتنا هذه نوركلدي الصغيرة! لتذكريني بها وتذكري أمي … ولكني أرى التريُّث حتى يعود سائر الأمراء، ويعود مولاي الأمير محمد ابن السلطان، فإنه أحق بالعرش مني.
قالت مصممة: إنْ لم يكن محمد بن الغوري أحق بالعرش منك لأنه ابن السلطان، فإنه لم يزل صبيًّا لا ينهض بواجبها، وإنما السلطنة اليوم تكليف ومشقة، وأولُ واجبها الموت، ولأنت أحق بشرف الموت في سبيل الدفاع عن مصر من ذلك الصبي الناعم، فاحفظ فيه أباه ولا تقدمه إلى الموت وعلى رأسه التاج.
قال وأخفى في راحتيه عينين مغرورقتين بالدمع: سأحملها، سأحملها راضيًا يا شهددار؛ لأدفع عن مصر وعنك، ولو بذلتُ دمي.
ثم نهض ليلقى أمراءه ويستمع إليهم ويبادلهم الرأي، وكان الأمراء على الإجماع في اختياره للعرش.
وفي كوم الجارح في خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي وبين يديه، بايعه الأمراء والجند، وبايعه ابن الخليفة نائبًا عن أبيه، وبايعه نواب القضاة، وبايعه المصريون جميعًا أشرافًا وسوقة، ودان له الزعر والعربان، واجتمعت على محبته القلوب، ونادى المنادي في الأسواق باسم السلطان الأشرف طومان باي «الثاني»، فتجاوبت الزغاريد من طاق إلى طاق، ونسيت القاهرة ساعة من نهار ما تتوقع أنْ يحل بها من البلاء والشر.
كان ذلك في القاهرة، أمَّا هنالك فكان السلطان سليم في مجلس وزرائه قد جلس بين يديه خاير بك، وجان بردي الغزالي، وخشقدم الرومي، يداولون الرأي بينهم فيما يكون من أمر الخطة التالية …
قال السلطان سليم: أمَّا أنا فحسبي أنْ ترفرف رايتي على ربوع الشام، ويكون أميرها من قِبَلي خاير بك؛ جزاءً لما قدم إلينا من المعونة، وليس لي في امتلاك مصر أرب ومن دونها الفلاة وأهوال الطريق.
فزم خاير بك شفتيه قائلًا: إنَّ مصر اليوم يا مولاي على مد ذراعك، فلو شئت لكان لك ثمة العرش والقصر والقلعة، وبسطتَ سلطانك على ضفاف النيل، وملكت الحرمين وسواحل بحر الهند، وهيهات أنْ تقوم لجيش مصر قائمة بعد تلك الهزيمة وقد تفانى أمراؤها؛ فليس هنالك إلَّا طومان باي، وما أراه أهلًا للدفاع.
قال جان بردي: فإن كان طومان باي هو كل هَمِّ مولاي فسأكفيه أمره، وما أظنه يطمع أنْ يكون له العرش حين يتراءى له جان بردي الغزالي، فإن شاء مولاي كنتُ في غَدٍ على الطريق إلى القاهرة.
قال خاير بك قلقًا: صبرًا يا جان بردي، فسندخل القاهرة مُجْتَمِعِينَ على رأي، فلا يشغلك من أمر طومان باي شيء، ولعله يكون أبعدَ أملًا عن العرش حين يرى خاير وجان بردي معًا …
وتبادل الرجلان نظرتين لم يَخْفَ مغزاهما على السلطان، فقال باسمًا: دعه يا خاير بك وما يدبر من أمره، وليذهب إلى القاهرة إنْ شاء، فإني لآمل أنْ نبلغ بتدبيره ما نريد، فيكون لك عرش مصر وله عرش الشام …
غامت سحابة من الهم على وجه جان بردي، أفمن أجل أنْ يكون لخاير بك عرش مصر بذل جان بردي ما بذل وخان وطنه وغدر بسلطانه؟ يا لها خاتمة! ولكنه حتى اليوم لا يزال مستطيعًا أنْ يبلغ بتدبيره ما يريد لنفسه، وإنْ لم يَرْضَ السلطان سليم ولا خاير بك، فسيقصد من فوره إلى القاهرة يطلب لنفسه العرش، ويدع لخاير بك الندم واللهفة!
وأصبح جان بردي على الطريق إلى القاهرة، فما كاد يصل حتى كان طومان باي قد بلغ العرش، وبايعته مصر كلها سلطانًا، فلا مطمع لجان بردي في شيء مما كان يأمله، فأكل الغيظ قلبه وعاد يفكر في تدبير جديد …
وكان السلطان طومان باي قد أجمع خطته على أنْ يجعل خط الدفاع الأول عن مصر عند مدينة غزة، على حدود فلسطين، ريثما يهيئ وسائله للدفاع عن القاهرة وما يليها من البلاد، وعرف جان بردي الغزالي خطة السلطان وما أجمع عليه رأيه، فرآها فرصة سانحة لتدبير جديد، فعرض أنْ يتطوع لقيادة الجيش الذي يتأهب للمسير إلى غزة للدفاع، فأباها عليه السلطان طومان باي وارتاب في نيته، ولكن أمراء السلطان لم يرتابوا وحمَلوه على الرضا، فأولاه قيادة الجيش طاعة لمشورة أمرائه وندب له الجند للدفاع …
وخرج جان بردي على رأس الجيش المصري إلى غزة، فلم يَكَدْ يتراءى له جيش السلطان سليم حتى أسلم له جان بردي جنده ورايته، وعاد إلى القاهرة عجلانَ في زيِّ منهزم قد أفلت من مَنِيَّتِه، ومثل بين يدي السلطان طومان باي يصف له ما لقي من شدة بأس ابن عثمان وقوة عسكره.
وكان الجيش العثماني في أثره يجتاز الحدود إلى مصر.
قال السلطان طومان باي: ألهذا بعثتك على رأس الجيش يا جان بردي؟َ!
قال جان بردي في لهجة المعتذر: لو رأيت يا مولاي ما حشد الروم من الجند والعتاد، وما تزود به من أدوات التحطيم والدمار؛ لرأيت جيشًا لا يسلم من بطشه أحد من عدوه.
قال السلطان مؤنِّبًا وعلى شفتيه ابتسامة غيظ وحنق: ومع ذلك فقد سلَّمت أنت يا أمير!
وصلت القافلة التي فيها أرقم ونوركلدي القاهرة، والقاهرة يومئذٍ في أمر مريج، فقد بلغ جيش الروم حدود مصر، وأوشكت خيله أنْ تَطَأَ أرض الوادي الذي استعصى على الفاتحين، فلم يدخلْه جيش أجنبيٌّ منذ استقل عن الدولة العباسية لعهد ابن طولون، حتى التتر والصليبيين — على ما اجتمع لهم من أسباب القوة — قد ارتدوا جميعًا عن بابه مقهورين لم ينالوا منه منالًا، ونالت مصر منهم منالها، واليوم يوشك هؤلاء الترك أنْ يقتحموه؛ ليتخذوا المصريين عبيدًا وخولًا وكانوا أصحاب السلطان والسيادة …
في تلك الأيام الرهيبة، في هذه المدينة التي تموج بالخلائق من كل جنس، ويحتشد فيها الجند للدفاع عن كل باب، وتزدحم فيها أقدام المحاربين على كل طريق، ويتوزع الناس فيها الهمُّ والقلق على المصير المجهول، كان يجلس على عرش مصر طومان باي — ابن نوركلدي وأركماس — قد شغله همُّ الدولة عن هَمِّ نفسه، فلم يخطر على باله قط أنَّ على باب المدينة في ذلك اليوم رجلًا وامرأة قد أبليا الدهر سعيًا إليه، وقطعا مفازة العمر شوقًا إلى لقائه، وليس بينهما اليوم وبين أنْ يلقياه إلَّا مسيرة ساعة من شمال المدينة إلى جنوبها، فلو شاء لاجتمع بثلاثتهم شملُ أسرة لم يجتمع لها شمل منذ أربعين عامًا أو يزيد …
ها هو ذا في مجلسه من قصر القلعة بين زوجته خوند شهددار وطفلته الظريفة نوركلدي الصغيرة، مستغرقًا في الفكر لا يكاد يعرف مَن حوله.
وهذان شيخ وشيخة يضربان في طرق القاهرة، قد نال منهما الإعياء واستغرقهما الفكر، يتدافعهما زحام الناس يمنة ويسرة فلا يكاد يخلص لهما الطريق بضع خُطا. من ذا يراهما فيخطر في باله أنَّ هذا الشيخ وهذه الشيخة هما أركماس أبو السلطان طومان باي وأمه نوركلدي؟!
ولكن طومان باي اليوم ليس لأمه وأبيه ولا لأحد من أهله، إنه اليوم يحمل من همِّ الدولة ما لا يدع له فراغًا من الزمن أو من العاطفة للتفكير في شأن أمه وأبيه.
يا عجبًا! لقد عاش في هذه المدينة واحدًا من أهلها عشرين عامًا أو يزيد، يلقى الناس ويلقَوْنَه، ويتراءى لكل من يريد أنْ يراه، ويتحدث إلى كل من يريد أنْ يتحدث إليه، ويستمع إلى كل من يريد أنْ يحدثه، فلو أرادت أمه، أو لو أراد أبوه في يوم من تلك الأيام الخوالي أنْ يلقاه أو يتحدث إليه لما أعياه في أي وقت شاء أنْ يلقاه أو يتحدث إليه، ولكن أباه يومئذٍ لم يكن يدري أنه أبوه، فلم يكن يريد، ولم تكن أمه تدري أين تلقاه، فلم تكن تطمع، أمَّا اليوم فإنهما يدريان ويريدان، ولكنهما لا يستطيعان.
مَن لطومان باي بأن يعرف أنَّ أمه التي فارقها منذ ثلاثين عامًا ولا يزال يذكرها ويَحِنُّ إلى لقائها، هي اليوم منه على قربٍ قريب، فلو شاء لسعى إليها فلقيها فتحدث إليها ساعة أو بعض ساعة ثم عاد لشأنه؟!
مَن له بأن يعرف أنَّ صاحبه أرقم المسيخ خادم خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي والرمَّال الحاذق الذي يتحدث عن الغيب كأنه يقرأ في لوح مسطور، هو أبوه أركماس؟!
من له بذلك، ومن لنوركلدي؟!
ولكن الوهن لم يتطرق لحظة إلى نفس أمه العجوز الشابة، فإنها اليوم لأدنى أملًا في لقائه، إنه اليوم منها على مد الشعاع، فلولا هذه الحيطان التي تفصل بين بيوت الناس لرأته ورآها، ولكنها لا بد أنْ تراه يومًا ما، أو لا، فحسبها أنْ تسمع عنه كل يوم فكأنها لا تراه، حتى يحين الأجل المكتوب.
واتخذ لها أرقم منزلًا في سوق مرجوش، يطل على طريق الموكب السلطاني حين يغدو أو يروح؛ لتراه أمه ويراه أبوه إذا بدا له ذات مرة أنْ يغدو في موكبه أو يروح. واتخذ أرقم له حجرة في ذلك المنزل إلى جانب الباب، وراح يدبر أمره وأمر صاحبته …