السهم الأخير
عبر طومان باي النيل إلى الجيزة، وأنفذ الرسل إلى أصحابه يُؤذِنُهُم بمكانه، فلم يلبث أنْ انضم إليه جيش جديد من المصريين والأعراب وفلول المماليك، فأقام في مضارب هوارة بالصعيد يُعِدُّ عدته لغزو القاهرة واسترداد عرشه وحرية وطنه، وتلبَّث زمانًا والمتطوعون ينسلون إليه من كل حدب، وكان قايت الرجبي كبير أمناء الغوري لم يزل حبيسًا في برج الإسكندرية، فحطم أغلاله وخف لنصرته في الصعيد، وفك الظاهر قنصوه أغلاله كذلك وهمَّ أنْ يلحق به، لولا أنَّ مملوكًا من أتباع خاير بك قد اغتاله قبل أنْ يبلغ حيث أراد …
واجتمع لطومان باي في الصعيد جيش من المتطوعة كلهم صاحب عزم وقوة، قد تحالفوا على الموت أو يطردوا العدو من أرض الوطن ويردُّوا الأشرف طومان باي إلى عرشه.
وترادفت الأنباء على القاهرة بما تهيأ له من أسباب الحرب، وبما اجتمع له من العتاد والجند، وكان في القاهرة يومئذٍ بضعة نفر يشغلهم من أمر طومان باي أكثر مما يشغله من أمر نفسه، أولئك نوركلدي وأرقم الرمَّال، وزوجته الشابة شهددار بنت أقبردي، ثم مصرباي الجركسية وخاير بن ملباي!
خمسة قد ذهب الفكر بهم مذاهبه، أمَّا أمه وأبوه فجالسان ينتظران، لا يشكان أنه سيعود إلى القاهرة يومًا، فيطرد العدو إلى البادية أو إلى البحر، ويسترد عرشه وحرية وطنه، ويلقاهما كما لقي يوسف أبويه على العرش!
وأمَّا شهددار بنت أقبردي فكانت فخورًا بما تسمع من أنبائه، لا تشك أنه سيحارب حتى ينتصر أو يموت، وحسبها من السعادة أنْ تستيقن أنَّ زوجها لن يرضى الدَّنِيَّة فيخلع لَأْمته أو يضع سيفه دون أنْ يبلغ إحدى الحسنيين، وأي عجب في أنْ يكون ذلك هو كل ما تفكر فيه شهددار، وهي بنت أقبردي الذي قضى حياته مكافحًا حتى مات وسيفه في يده!
على أنَّ لحظات ثقيلة كانت تمر بها حين تنظر في عيني طفلتها الظريفة نوركلدي، وحين تسمع هتافها باسم أبيها الذي لم تره منذ بعيد، فتأسى ويجثم على صدرها الهم، ثم لا تلبث أنْ تذكر ماضيها وماضي طومان، وما اعترض سبيلهما من عقبات قبل أنْ يلتقيا، فتردها الذكرى إلى الأمل في لقياه.
وأمَّا مصرباي وخاير بك فآهِ مما كان يحيك في صدريهما!
إنَّ مصرباي اليوم لأرملة قد مات زوجها الظاهر قنصوه بعد سبعة عشر عامًا في الأسر، وإنها لتطمع أنْ تعود إلى العرش سلطانة، وأنْ يصعد خاير بك إلى العرش سلطانًا في ظل راية ابن عثمان … فهل تظل راية ابن عثمان مرفوعة على قلعة الجبل تُلقي ظلها على القاهرة، أو ينتزعها من ساريتها طومان باي ليرفع الراية المصرية؟!
وأمَّا القاهرة كلها فكانت على يقين واحد بأن طومان باي سيعود، وسيصعد ثانية إلى العرش الذي لم يصعد إليه سلطان أحب إلى الشعب منه، أفتصبر القاهرة على عسف السلاطين هذه السنين المتطاولة، حتى إذا جاءها السلطان الذي تحبه وتفتديه وتأمل الخير على يديه، لم يتهيأ له أنْ يجلس على العرش إلَّا بضعة أشهر ثم تفقده مصر؟! إنَّ المقادير لا يمكن أنْ تبلغ من القسوة هذه الغاية، فلا بُدَّ أنْ ينتصر طومان باي، وأنْ يعود إلى عرشه، وأنْ يرتد هؤلاء الروم على أعقابهم منهزمين، كما ارتد المغول والتتر والصليبيون، وكما ارتد بايزيد العثماني — أبو السلطان سليم نفسه — أمام جيوش الأشرف قايتباي!
قال السلطان سليم لوزرائه: إني واللهِ لأخشى عاقبة هذه الحرب، فقد انقطع ما بيني وبين بلادي، ولا يزال صاحب هذه البلاد يُعِدُّ العدة ويثير الناس لحربنا في الجنوب والشمال، وإنه لذو حَوْلٍ وحيلة، والرأي عندي أنْ نهادنه فنعود إلى بلادنا قبل أنْ تدهمها خيل الصفوية!
قال خاير بك: يا مولاي …
قال الوزير يونس باشا: اسكت يا خاير بك، فإنك لنفسك تعمل، وإنما في شأن أنفسنا نفكر!
وازدرد خاير بك وجان بردي الغزالي ما كان على شفاههما من الكلام، وأمسك خشقدم الرومي فلم ينطق حرفًا …
واستأنف ابن عثمان قوله: وإني أرى أنْ نبعث إلى طومان باي رسولًا بأن تكون له مصر، على أنْ تكون السكة والخطبة باسمنا، فإن أجابنا إلى ذلك الشرط فقد كفينا شره، وحسبنا أنْ تكون في يدنا الشام وما يُتَاخِمُهَا من البلاد، وإنْ أبى فإن لنا تدبيرًا آخر …
ولم يتلبث السلطان، فبعث رسوله بشرطه إلى طومان باي، ولكن الرسول لم يعد بجواب، فقد كانت نية المصريين مجتمعة على القتال حتى يجلو ابن عثمان عن البلاد …
وعادت المعارك بين جند السلطان سليم وجند طومان باي.
هذا شهر ربيع الأول سنة ٩٢٣ قد بزغ هلاله … في مثل هذا اليوم منذ عام كانت القاهرة تشهد كتائب السلطان الغوري تتهيأ لحرب ابن عثمان، تلك الحرب التي جمع لها الغوري ما جمع من العدد والعتاد، ثم لم تلبث إلَّا ضحوة من نهار في مرج دابق، وتمزق الجيش المصري أشلاء على رمال الصحراء، واختفى أثر السلطان نفسه وبدأ زحف العثمانيين على مصر …
إذن فقد مضى عام ولم تزل مصر في حرب الروم، فهل يا ترى تحتفل القاهرة بذكرى المولد النبوي في هذا العام، أم يشغلها ما هي فيه من الفزع والتربُّص عن الاحتفال بتلك الذكرى الكريمة؟ ومن ذا يرأس الاحتفال إنْ كان، أيرأسه هذا السلطان العثماني الذي ينكر المصريون عليه وعلى أصحابه ما يرون من فعالهم، أم يرأسه طومان باي؟
إنَّ الأنباء لتتوارد منذ أيام باحتشاد جند السلطان طومان باي على النيل تجاه بولاق، في إنبابة، والمنوات، ووردان، ولعل الثاني عشر من ربيع الأول لا تشرق شمسه إلَّا وهو في القاهرة، يحتفل بالعيد النبوي الشريف في قصر القلعة، على رأسه التاج ومن حوله الخليفة المتوكل على الله، وشيخ الإسلام، والقضاة الأربعة ونوابُهم، ومن بقي من أمراء الجركس وأشراف المصريين، تلك عادة مأثورة منذ سنين بعيدة، وإنَّ الله ليحب أنْ يحتفل المسلمون بذكرى نبيه الكريم …
وأشرق وجه نوركلدي حين جاءها النبأ باحتشاد الجند على شاطئ النيل استعدادًا للمعركة الفاصلة، وإذن فسينتصر طومان باي، وسيدخل القاهرة في موكب الفتح، وسيحتفل بذكرى المولد النبوي في قصر القلعة، كما كان يحتفل أسلافه من السلاطين.
وأقامت القاهرة أيامًا تنتظر في لهفة وشوق، فلما كان يوم الأحد السادس من ربيع الأول، بدأ جيش ابن عثمان حركته وعسكر على شاطئ النيل استعدادًا للدفاع، فما أهلَّ اليوم العاشر حتى كانت جموعهم مجتمعة، ثم نشبت المعركة الخامسة بين المصريين والروم!
ولعب المصريون بالسيوف والرماح في رقاب الروم، وانطلقت قذائف البارود من أفواه البنادق الرومية تحصد المئات، وكان جان بردي الغزالي مُلَثَّمًا متنكرًا في زي أعرابيٍّ، قد اندس بين الأعراب في جيش السلطان طومان باي، حتى حانت له الفرصة فانخذل بطائفة غير قليلة من حزبه، وكشف ظهر المصريين للعدو … ووقع أصحاب طومان باي بين نارين من وراء ومن أمام، فتبعثروا على ظهر الفلاة يطلبون النجاة …
وطِيفَ برءوس القتلى من عسكر السلطان طومان باي منصوبة على سَوَارٍ من خشب في شوارع القاهرة ينادي أمامها المنادون، وأُلْقِيَتْ سائر الجثث في النيل، فلم تأتِ ليلة المولد حتى كان في كل درب من دروب القاهرة مأتم ونُواح.
قالت نوركلدي: فهذا ما رأيت يا أرقم من غلظة السلطان سليم، فكيف تراه يصنع بولدي طومان إنْ ظفر به؟
– لن يظفر به يا نوركلدي!
– ولكنه قد انهزم وذهب في الأرض، ويوشك أنْ يعثر به جند السلطان سليم فيسوقوه إليه في الأغلال!
– إنما الحرب سجال، فما انهزم طومان، وما أحسبه يقع في يد السلطان سليم، وما أراه إلَّا عائدًا إلى القاهرة في يوم قريب وقد اجتمع له جيش يسترد به القاهرة ويجلس على عرشه.
– أَتصدُقُني القول يا أرقم أم هي أمنية تتمناها؟
– بل هو اليقين يا نوركلدي.
– ولكن أتباعه قد تبعثروا أشلاء، وطِيف برءوسهم على السواري، فمن أين له جيش يحارب به فينتصر؟!
– إنَّ مصر لم تعقم ولم تفقد رجاءها يا نوركلدي، وإنَّ طومان باي لحبيب إلى كل نفس!
– ولكن هذه الهزائم المتوالية يا أرقم تفرق القلوب المجتمعة، وتصدع الرأي الملتئم، وتقلقل العزم الراسخ!
– أنت إذن لا تعرفين طومان باي يا نوركلدي!
– إنني أنا أمه!
– نعم، ولكنني أنا … أنا صديقه!
وعاودته أحزانه فأطرق صامتًا وأطرقت نوركلدي صامتة، لقد أوشك أنْ يقول كلمة أخرى لولا أنْ ثاب إليه وعيه فأمسك. نعم، إنه أبوه … ولكنه في مرآة نوركلدي وفي مرايا الناس: أرقم المسيخ!