قنصوه الغوري
كانت الفتنة ناشبة في القاهرة بين أقبردي وقنصوه الخمسمئي؛ تنافُسًا على العرش، على حين كان سائر الأمراء العِظَام يتربَّصُون منتظرين، وكان قنصوه الغوري وحده في حلب، يدبر لأمر ما في هدوء وصمت، كأنما لا يعنيه من أمر تلك الفتنة شيء …
لم يكن الغوري يومئذٍ بالمنزلة التي تسمح له أنْ ينافس على عرش مصر أقبردي الدوادار وقنصوه الخمسمئي، نعم إنه من أقدم مماليك الأشرف قايتباي وأدناهم إليه منزلة، ولكن أين هو من أقبردي وقنصوه الخمسمئي؟ وأين وسائله للكفاح؟ إنه لا يملك المال الذي يصطنع به الأشياع، ولا الجاه الذي يتكثر به من الأتباع، وليس له كغيره من الأمراء جيش من المماليك يُعده للهجوم والدفاع، فمن أين له أنْ يبلغ ما يأمله؟ ولكنه إلى ذلك يملك الصبر والحيلة، أفليس يسعه الانتظار حتى يتفانى هؤلاء الأمراء العظام ويأكل بعضهم بعضًا، فينفرد في الميدان؟ بلى، وإنه ليستطيع إلى ذلك أنْ يتعجل آخرتهم بما يزين لهم من الأماني، فإذا وثب بعضهم على بعض سقط الضعيف وانتهى أمره، وانحلَّت عروة القوي فزال خطره، ومَن ذا يبقى في طريقه إلى العرش بعد تمراز الشمسي، والأمير أزبك، وأقبردي الدوادار، وقنصوه الخمسمئي؟ من ذا يبقى في طريقه إلى العرش بعد هؤلاء؟ محمد بن قايتباي، ذلك الصبي الذي لم يبلغ حد التمييز؟! نعم، وإنه لأقواهم جميعًا، أفليس هو ابن الأشرف قايتباي سيده ومولاه، فحسبه بذلك قوة! ولكن من ذا يزعم أنَّ هذا الطفل سيبقى فلا تَطؤُه أقدام أولئك العماليق، وهم يتصارعون بين يدي العرش؟
أفيمكن هذا؟ أفيكون عرش مصر لقنصوه الغوري يومًا؟ أفيبلغ هذا الأمل بالصبر والحيلة، حين لا مال معه، ولا جاه، ولا جند؟ لقد جاوز الخمسين ولم يزل أميرًا، نائبًا لقلعة حلب، وهناك مماليك أحدث منه عهدًا في «المملوكية» قد بلغوا عرش السلطنة ولم يبلغوا الأربعين!
يا ليت ذلك الحلم يتحقق! وماذا يمنع؟ إنَّ الأقدار لتمده بما لم يكن يتوقع من المعونة: لقد غادر بلاده منذ ثلاثين سنة — مطلوبًا بثأر — في ركاب قافلة من تجارة الرقيق، لا يدري أين تسعى به قدمه، حتى انتهت به المقادير إلى مصر رقيقًا يُساوَمُ عليه بالمال، ثم لم تمضِ إلَّا سنوات حتى كان مملوكًا من مماليك «الخاصة» في حاشية السلطان قايتباي، ومضى يترقى في درجات المملوكية درجة بعد درجة، حتى بلغ أنْ يكون نائب قلعة حلب، وصار أميرًا من أمراء السلطان يشار إليه بالبَنان، فهل كان يأمل أنْ يبلغ هذه المنزلة يومًا؟ فماذا يمنع أنْ يبلغ أرفع منها فيصير سلطانًا؟ أيكون ما بينه وبين بلوغ رتبة السلطنة أبعدَ مما كان بين ماضيه وحاضره؟
إنه لموقن يقينًا لا شبهة فيه أنَّ الأقدار تُعِينُه وتمهد له الطريق، وتهيئ له من الأسباب ما لا يخطر له على بال، فقد تعقَّبه أركماس من بلاد الكرج إلى القاهرة ليأخذ منه ثأر أبيه، ولَقِيَهُ وجهًا لوجه، وأمكنته الفرصة منه، وجرَّد أركماس سيفه وهمَّ أنْ يضربه الضربة القاضية، ولمع على رأسه السيف فلم يكن بينه وبين الموت إلَّا أنْ يهوي على رأسه فيقدُّه قدًّا، وفجأة حدثت المعجزة، وتدخلت الأقدار في اللحظة الأخيرة، فبرز في الطريق جمل هائج، فألقى أركماس على الأرض وداسه تحت أخفافه، ونجا الغوري، فمضى في طريقه لم يتلفت ولم ينظر وراءه، وانمحى الثأر والثائر، أفليس ذلك تدبير الله؟ أليس فيه الدليل على أنَّ الأقدار تدَّخره لأمر عظيم، تهيئ له أسبابه وتمهد طريقه؟ بلى، فماذا يمنع أنْ يبلغ رتبة السلطنة، وأنْ يجلس على عرش مصر، وأنْ يذهب تمراز، وأزبك، وأقبردي، وقنصوه الخمسمئي، يذهبون جميعًا ويأكل بعضهم بعضًا، فلا يجلس واحد منهم على عرش مصر، ويجلس عليه قنصوه الغوري … بالصبر والحيلة!
هكذا كان يحدث الغوري نفسه وهو وحيد في مجلسه من قلعة حلب، حين جاءته الأنباء من القاهرة بما ثار من الفتنة بين أقبردي الدوادار وقنصوه الخمسمئي في سبيل المنافسة على العرش، وقال لنفسه مبتسمًا: الصبر حتى يأكل بعضهم بعضًا ويتفانَوْا؛ حينئذٍ يخلص لك الطريق إلى عرش مصر، أيها … أيها الأفَّاق المطلوب بالثأر من أقصى بلاد الأرض!
وقهقه قهقهة عميقة تردد صداها بين جدران المجلس، ثم نهض فلبس ثيابه، وأخذ زينته وخرج إلى الطريق لا يتبعه أحد من غلمانه. وما حاجته إلى غلام يتبعه وليس في حلب كلها إلَّا صديق يحبه ويفتديه بدمه!
فإنه لَيَمْشِي في طريقه بأحد دروب حلب، إذ لقيه صديقه جقمق الأشرفي تاجر المماليك، وكان زميله في «الطبقة» منذ بضع وعشرين سنة، حين كانا مملوكين يتلقيان أصول العلم في مدرسة المماليك بالقلعة، ويتدرَّبان على أساليب الحرب والفروسية، وكان كل أملهما في ذلك الزمان البعيد أنْ يترقيا درجة فيخرجا من مماليك «الطبقة» ويصيرا من المماليك «الخاصة»، الذين يركبون في مواكب السلطان ويختصون بصحبته!
وإنهما اليوم لأميران من أمراء السلطان!
قال جقمق ضاحكًا: ومع ذلك فها أنا ذا أراك تمشي وحيدًا في المدينة لا يتبعك غلام، كأنك لا غلام لك، وأنت نائب قلعة حلب!
قال الغوري: وهل عندك غلام تخص به صديقك نائب قلعة حلب؟
قال تاجر المماليك: غلامان وجارية إذا أردت، إلَّا أنْ يبدو لك أنْ تستغني بالغلامين عن الجارية، وإنَّ فيهما لغناءً ومتعة!
فوضع الغوري كفه على فم صديقه وهو يقول: صه! إنك لا تزال مهذارًا كعهدي بك منذ كنت، فاذكر أنك اليوم تتحدث إلى نائب قلعة حلب!
وكانا قد بلغا في مسيرهما خان مسعود، فودَّع جقمق صاحبه الغوري، ودخل الخان يتفقد شئون غلمانه.
ولقي جقمق جاره ملباي في بهو الخان، فقال له ملباي: الآن أستودعك الله يا صديقي؛ فقد اعتزمت أنْ أبدأ غدًا رحلتي إلى القاهرة، فهل لك من حاجة إلى بعض أصحابك هناك؟
قال جقمق آسفًا: أكذلك تفارقنا سريعًا! لقد كنت أحسبك مقيمًا معنا في حلبٍ أيامًا أخرى، حتى يتهيأ لي أنْ أجمع بعض الغلمان فنصطحب في الرحلة!
قال صاحب الخان مشاركًا في الحديث: فإن بين نزلائنا الليلة جاني باي الخشن تاجر المماليك، وأحسبه سيبدأ رحلته غدًا إلى القاهرة، ومعه عصبة من أقارب السلطان عاد بهم من بلاد الجركس … فإن شاء ملباي رافقه في الرحلة.
قال جقمق: جاني باي هنا؟ فإني أريد أنْ ألقاه …
وحضر جاني باي، فما كاد يراه صديقه جقمق حتى أسرع إليه فاعتنقه بشوق، ثم استدار بهم المجلس يتبادلون فنونًا من الأحاديث حتى تقدم الليل، فافترقوا وذهب كلٌّ منهم إلى مضجعه لينام.
فلما كان الصباح، بصر طومان بخاير بن ملباي يتمشى ثقيل الخطو عند باب الغرفة، حيث كانت مصرباي جالسة بين يدي مولاها وفي وجهها أَمَارات القلق واللهفة، فأدرك طومان ما بين جنبيها من السر، وهمس لنفسه قائلًا: يا للمسكينة! لقد غلبها الفتى على أمرها، ولكن لا بأس، فسيذهب من وجهها بعد ساعات فلن تراه بعدُ، وتنجو الشاة من سكين الجزار!
ولكن صوت سيده لم يلبث أنْ رده إلى فكر جديد حين سمعه يقول: اسمعي يا مصرباي! ستكونين يا ابنتي منذ اليوم تحت يد صديقي جاني باي، وستصحبينه في رحلته غدًا إلى القاهرة، حيث أرجو لك أيتها العروس الصغيرة حظًّا سعيدًا …
ثم صمت برهة ونظر إلى طومان وخشقدم، فإذا في أعينهما سؤال حائر، فأردف قائلًا: أمَّا أنتما يا طومان وخشقدم فستبقيان هنا في حلب … ولعل القدر يهيئ لكما فرصة سعيدة في صحبة قنصوه الغوري نائب قلعة حلب. إنه في حاجة إلى رجل صغير مثلك يا طومان، يعتمد عليه في مهماته، وإنك في حاجة إلى أمير قويٍّ مثل الغوري يهيئ لك السبيل إلى الإمارة … وستجد صديقًا لطيف المعشر في زميلك خشقدم …
عبس خشقدم حين رأى منزلته في حديث مولاه دون منزلة صاحبه، أمَّا طومان فلم يفكر وقتئذٍ إلَّا في أمر واحد، هو أمر صديقته الصغيرة مصرباي التي حيل بينه وبين حمايتها من ذلك الذئب، فصاح محتجًّا: سيدي …
قال جقمق غاضبًا: صه! لقد عقدتُ الصفقة ولا سبيل إلى الرجوع بعدُ!
وكان خاير بن ملباي لا يزال يتمشى ثقيل الخطو عند باب الغرفة التي يتحدث فيها جقمق إلى غلمانه، ولكن أمارات القلق واللهفة كانت قد زالت عن وجه مصرباي، ورفَّت على شفتيها ابتسامة رضا واطمئنان …
ونهض طومان إلى باب الغرفة ففتحه، فإذا هو وجهًا لوجه أمام خاير بن ملباي، أمَّا خاير فطأطأ رأسه خجلًا وأوفض في السير، وأمَّا طومان فتمتم في غيظ: اذهب حيث شئت، فلا بُدَّ أنْ نلتقي يومًا …
ثم أغلق باب الغرفة وعاد إلى مجلسه بين يدي أستاذه جقمق!
ومضى الركب لوجهه وفيه ملباي الجركسي وأولاده الأربعة، وفيه جاني باي وصحابته من أقارب السلطان، ومعهم مصرباي.
وتبع طومان وخشقدم مولاهما في الطريق إلى قلعة حلب، حيث كان نائبها قنصوه الغوري ينتظر … ومثل طومان وصاحبه بين يدي نائب القلعة، وأحنى طومان رأسه تأدبًا وفي عينيه ذبول وانكسار!
وقال الغوري وعلى شفتيه ابتسامة رقيقة: ادنُ يا غلام!
وربت على خده بيد ناعمة بضة، ثم دعاه إلى الجلوس بين يديه وعيناه تسرحان في محاسن وجهه الدقيق الفاتن …
قال جقمق: إنَّ في إهاب هذا الفتى يا قنصوه فارسًا لا يُغالَبُ، وإنَّ بين جنبيه قلب رجل كبير وفي أَنْفِهِ حَمِيَّة، فلا يشغلك منه منظر عن مخبر! أمَّا هذا الفتى الرومي …
قال قنصوه ضاحكًا: حسبُك يا جقمق، فقد فهمت كل ما تعنيه، ولكن أين الجارية؟
قال جقمق: وما حاجتك أنت إلى الجارية؟ لقد ذهب بها صديقي جاني باي إلى القاهرة، حيث يجد من يغالي بثمنها أضعاف ما يجد في حلب أو دمشق.
قال الغوري: لقد أذكرتني …
ثم مد إليه يده بصُرَّةٍ فيها دنانير، فتناولها من يده وهو يصطنع الإباء، ودسها في جيبه.
ودخل حاجِبُه يُؤْذِنُهُ بمَقْدَمِ صاحب البريد من القاهرة، فنهض جقمق يتهيَّأ للانصراف، وصحب الحاجب الغلامين إلى الطبقة، وخلا المجلس للغوري.
وفض غلاف الرسالة التي جاء بها البريد وراح يقرؤها باهتمام، ثم رفع عنها عينيه وهو يقول وعلى شفتيه ابتسامته: الصبر يا قنصوه حتى يتفانى أعداؤك ويأكل بعضهم بعضًا، وحينئذٍ يخلو لك الميدان.