عودة الماضي
عاش طومان في قلعة حلب سيدًا صغيرًا، ليس لأحد عليه سلطان، وقد اجتمعت له كل أسباب الرفاهية والنعمة، ولكنه مع ذلك لم يَكُنْ سعيدًا؛ فإن ذكريات عزيزة من ماضيه كانت تُلمُ به حينًا بعد حين، فتسلبه الطمأنينة والقرار، فلا يزال يذكر أيامه في بلاد الغور، حيث تنبسط الأرض حواليه على مدِّ البصر وقد تناثرت فيها الخيام، يذهب فيها حيث يشاء ويعود حين يشاء، ليس عليه رقيب يعدُّ خطاه ويحصي عليه أنفاسه هناك في أرض الحرية، حيث السماء والماء والهواء، كان ذلك ملك خالص له هو وحده على ما يخيل إليه، ليس بينه وبين شيء يريد أنْ يبلغه قيود ولا سدود، ولا حدَّ للحرية التي يستمتع بها عابثًا لاهيًا بين خيام القبيلة، وعلى شواطئ الغدران، وبين الغنم السائمة في المراعي النضرة. أين منه كل أولئك في هذه القلعة المنيعة، في هذه المدينة المحوطة بالأسوار وبالأسرار!
بلى، إنَّ هنا الطعام والشراب، وهنا الفراش الوثير كأنه حين يُسلم إليه جسده ينام على جناح النسيم، وهنا من وسائل النعيم ما لا رأت عينه ولا سمعت أذنه، ولا خطر له على قلب، ولكن ما نَفْعُ ذلك كله وهو وحيد فريد، ليس له أمٌّ تحنو عليه، ولا صاحب يأوي إليه، ولا رفيق يحمل بعض همه، وإنه مع ذلك كله عبدُ سيده، لا يخطو خُطوة إلَّا بإرادته، ولا يفتح شفتيه بكلمة إلَّا أنْ يأذن له. أكان يهجس بخاطر أمه نوركلدي أنْ ينتهي ولدها العزيز طومان إلى هذا المصير؟! وحضرتْه ذكرى أمه، يا لها من بعده، تلك الأرملة التي وهبت له شبابها النضر، واعتبرته كل حَظِّهَا من دنياها، فليس لها وراءه أمل تأمله … كيف هي الساعة وأين ذهبت بها الظنون لبعده، وماذا فعلت بها من بعده الأيام!
واستجابت له عيناه فأرسل دموعه على خديه!
وسمع وقع خُطًا تقترب من الباب، فهبَّ واقفًا يمسح دموعه بكمِّ قميصه، ودخل الغوري فاتخذ مجلسه في صدر القاعة، وظلَّ الصبي واقفًا بين يديه … ورأى سيدُه في عينيه أشجانه فأهمه ما رأى، فاستدناه إليه وربَّت على ظهره بحنان، وضمه إليه بعطف وهو يسأله عمَّا به. وسمع الفتى وأحسَّ لأول مرة منذ فارق أمه نبضةَ قلب في نبرة صوت وضمةِ حنان، فعادت دموعه تنحدر على خديه، واحتبس الصوت في حلقه! فأرسله الغوري من بين يديه وأذن له في الجلوس وهو يقول: حدِّثني يا بني ما خطبك، فلعلي أنْ أزيل عنك بعض ما تنوء به من الهم!
وكان في صوته رنة صدق، فانحلت عقدة لسانه طومان وراح يتحدث بخبره إلى مولاه …
قال الغوري: فأنت من بلاد الغور؟
قال طومان: نعم يا سيدي، ولم تزل أمي هناك!
فهش الغوري ورفت على شفتيه ابتسامة وهو يقول: إنك بعض أهلي يا بنيَّ! هيه!
واطمأنَّ كلٌّ منهما إلى صاحبه وصفا ما بينهما، فمضى طومان يتحدث إلى مولاه وفي نفسه هدوء ورضا، ومضى الغوري يتحدث إلى نفسه صامتًا، ويستعيد ذكرياته في بلاد الغور منذ ثلاثين عامًا أو يزيد، يوم كان فتى في ريعانه يغترُّه الشباب وتتصباه المنى.
وتذكر الغوري أيامه الأخيرة هنالك، حين سوَّل له أَهْلُ البغي أنْ يقتل بغير ذنب رجلًا من أهله؛ ليقدم برهانه إلى الناس بأنه قد بلغ الرجولة … فطعنه الطعنة القاضية وفَرَّ بدَمِه تحت الليل، وخلَّف أهله وراءه يبكون القتيل والقاتل!
ومضى طومان في حديثه يصف ما كان من أمره، ويقص قصة ماضيه في بلاد الغور منذ أحس وجود نفسه في خيمة نوركلدي، إلى يوم خطفه نخاس خوارزم، إلى ذكرياته في خان يونس، وفي معتقله من بلاد الروم، إلى أمله في لقاء أمه ولقاء أبيه …
كانا جالسَيْن وجهًا لوجه يتحدث كلٌّ منهما إلى نفسه حديثًا لا يسمعه أحد غيره، والذكريات تذهب بهما مذاهب بعيدة فلا يكادان يلتقيان؛ فإن مجلسهما لقريب، ولكن بينهما من البُعد في الزمان ثلاثين عامًا أو يزيد، ومن البعد في المكان بقدر المسافة بين قلعة حلب والغور المنبسط وراء جبال القبج …
واسترسل الغوري في ذكرياته وعاوده داء الوطن.
لقد كان يزعم لنفسه أنه قد سلا وانقطع ما بينه وبين ماضيه وبلاده وأهله، ثم برز له أركماس في بعض دروب القاهرة ذات يوم شاهرًا في وجهه السيف ليثأر منه لأبيه، فرده إلى ذلك الماضي بعنف وبسط لعينيه صحيفته، ولكن القدر لم يمهل أركماس حتى يبلغ غايته، فطواه الجمل الهائج تحت خُفِّهِ ونجا الغوري. وعادت الأيام تسدل الستار بينه وبين ماضيه وبلاده وأهله، حتى أوشك أنْ ينسى، وابتسمت له الأيام بعد عبوس، فراح يَرْقَى في سلك المماليك درجة بعد درجة، حتى بلغ المنزلة التي تُنازعه فيها نفسه إلى العرش، كأن لم يكن يومًا ذلك الشريد الأفَّاق المطلوب بالثأر من أقصى بلاد الأرض …
ثم … ثم ها هو ذلك الماضي ينبعث ثانية أمام عينيه كأنه حادثة اليوم، وها هو ذا فتى من بلاد الكرج — كان في ذلك التاريخ البعيد ذَرَّةً سابحة في صلب أبيه — قد جاء يرده إلى ذلك الماضي البعيد، يُريه منه ما يَرى الواقف على حافَة بئر من قاعها العميق المظلم: لا يرى شيئًا مما في القاع، ولكنه يرى أوهامه …
وكان الفتى لا يزال يتحدث إلى مولاه ومولاه في غفلة من ذكرياته، قال طومان: ولم أرَ أبي؛ لأنه ذهب قبل أنْ أخرج إلى الدنيا …
وانتبه الغوري فقال: لم ترَ أباك!
قال طومان: نعم، اختفى ذات مساء حيث لا يعلم أحد، وتظن أمي أنه راح يطلب ثأرًا قديمًا، فلم يعد …
واعتدل الغوري في مجلسه، وقال وفي وجهه أمارات الاهتمام والقلق: ولم تحدثك أمك أين راح أبوك يطلب الثأر؟
قال طومان: نعم، فإنها هي لم تكن تعرف، فقد كان ذلك سر أركماس وحده! كذلك كانت تقول لي أمي!
شحب وجه الغوري وهو يردد في صوت خافت: أركماس! أركماس.
وبلغ صوته أذن الفتى، فكف عن الحديث ورفع عينيه إلى وجه مولاه؛ ليرى الشحوب وأمارات القلق بادية في وجهه، كما لم يرها في وجه إنسان قط …
فهتف في لهفة: سيدي! أنت تعرف أبي أركماس؟
وثاب الغوري إلى رشده سريعًا، واسترجع عزيمته، فقال في صوت يحاول أنْ يكون مطمئنًّا هادئًا: نعم يا بني، لقد كان أركماس … أخي … إنني … إنني أنا عمك!
ذهل الفتى مما سمع وغلبته أشجانه، فغصَّ بأنفاسه، وارتمى على صدر الغوري، ودفن رأسه الصغير في صدره وهو يجهش باكيًا …
وسقطت دمعتان على وجه الغوري، ثم انحدرتا حتى توارتا في لحيته، وقبض أصابعه في لحم الغلام وهو يضمه إلى صدره بعنف … وحنان!
قال الفتى ولم يزل بين يدي مولاه وعيناه مغرورقتان بالدمع: وتعرف أمي نوركلدي يا عماه؟
واختلجت شفتا الغوري قبل أنْ يجيب: نعم، أظنني أعرفها، أعني أنني أعرفها حين كانت طفلة في حجر أمها، قبل أنْ يتزوجها أخي أركماس!
وعضَّ على شفتيه في غيظ وحيرة وندم.
واسترسل الفتى يسأل وقد برقت عيناه بريق الأمل والسعادة: وهل يمكن أنْ ألقاها ثانية يا عم؟ هل يمكن أنْ أرى أمي نوركلدي بعد ذلك الفراق؟
قال الغوري هادئًا وعلى شفتيه ابتسامة غامضة: نعم، كما لقي يوسف أبويه على العرش … على العرش يا طومان يلتقي البعداء!
آه! يا للرجلين! ذلك الفتى، قَتل ذلك الرجلُ أباه وجدَّه، فلتكن كفارة هذا الذنب أنْ يتبناه لينمحي من صحيفة ذكرياته ذلك الماضي!
وأعتق الغوري طومان من رقٍّ؛ ليدعوه الناس جميعًا منذ ذلك اليوم: ابن أخي الغوري! وأخلص له الحب والمودة حتى لا يعرف طومان صلةً تربط به، إلَّا أنه عمه!
وقال خشقدم الرومي لنفسه وقد عاد وحيدًا كما بدأ: وهذا زميل آخر قد مضى لوجهه حرًّا وخلَّفني في أسر الرق، وغدًا يدعونه سيدي وكان رقيقًا مثلي … ذلك الجركسي الأمرد! أما والله إنْ امتد بي الأجل لأكونن سيدَه، ولا يشفع له يومئذٍ أنَّ خده ناعم مصقول كخد الفتاة!