أطماع المماليك
تتابعت الحوادث في مصر بين أتباع أقبردي وأتباع قنصوه الخمسمئي، ثم نشبت بينهما الحرب سافرةً، وكان أولها مُؤْذِنًا بالغلبة لأقبردي الدوادار، ولكن كفة الميزان لم تلبث أنْ رجحت بحظ قنصوه …
على أنَّ مراحل المعركة بين الأميرين العظيمين لم تكُن طبيعيَّة، فقد كانت ثمة أيدٍ خفية تعمل في الظلام لتؤلِّب كِلَا الحزبين على الآخر؛ لأن تلك الأيدي لم يكن يعنيها من المنافسة بين الأميرين إلَّا أنْ تستمر الحرب بينهما، حتى يتفانى أتباعهما ويبرزا في الميدان رجلًا لرجل ليس لواحد منهما ظهر يحميه!
وخيل لقنصوه الخمسمئي أنه قد بلغ غايته حين ألجأ منافسه إلى الفرار، وتدانى له الأمل البعيد حين رأى السلطات كلها قد اجتمعت في يديه، وإنْ كان السلطان لم يزل حيًّا يجلس على العرش، ويمضي مراسيم التولية والعزل وليس له على الحقيقة أمر ولا نهي!
ثم حلت الساعة المرتقبة وأوفى الأشرف قايتباي على أجله، ولكنَّ حزب القصر كان قد أعد عدته لهذه النازلة قبل أنْ تقع، فلم يكد نعي السلطان الأشرف قايتباي يبلغ آذان قنصوه الخمسمئي، حتى كان السلطان الناصر محمد بن قايتباي جالسًا على عرش أبيه!
وصَرَّتْ أسنان قنصوه من الغيظ، ولكنه لم يلبث أن ملك زمام أمره؛ فدبر خطة للقضاء على تمراز وأقبردي قبل أنْ يقضيا عليه ويفرضا إرادتهما على السلطان الصغير. وزحف قنصوه بمماليكه إلى القلعة، فضم جناحيه على العرش والجالس عليه، واستأثر بالسلطان حتى لم يبقَ فوق أمره أمر، وإنْ زعم الناس أنَّ السلطان هو الناصر ابن قايتباي … فلما استوسق الأمر كله لقنصوه وأيقن أنَّ أعداءه قد ذهبت رِيحُهُم وتفرقوا في البلاد، وثب وثبته فخلع السلطان وزحف إلى القلعة بجيش لجِب من مماليكه وأتباعه؛ ليلبس التاج ويقبض على الصولجان.
ولكن القلعة لم تكُن يومئذٍ خالية من أسباب الدفاع وفيها قنصوه خال السلطان الناصر وأخو أصل باي، وإنه لفتى لا يؤتَى من قريب وإنْ لم يحسب له قنصوه الخمسمئي حسابًا. وانصبَّت القذائف من القلعة على الجيش الزاحف، فتوقف، ثم ارتد، ثم انهزم، وعاد الناصر إلى عرشه، ولكن السلطات كلها اجتمعت في يد قنصوه الخال …
وتألق نجمه، ذلك الشاب الذي كان منذ سنوات مملوكًا خاملًا من مماليك الطبقة تنبو عنه العيون!
وخلا الجو من قنصوه الخمسمئي، وأقبردي، وتمراز … وكان أزبك قد شاخ وبرد دمه، فليس له انبعاث إلى شيء من مطامع الأمراء.
وعاد الغوري من الشام إلى القاهرة بعد غيبة طويلة يصحبه «ابن أخيه» طومان، وقد خلا الميدان من فرسانه، ولكن في صفوف الأمراء وجوهًا جديدة ينكرها الغوري: مَن قنصوه الخال وما شأنه بين الأمراء حتى تجتمع في يديه كل السلطات؟ ومن جانبلاط هذا الذي يستأثر بعطف السلطان والأم والخال، ويرتفع فجأة إلى منصب الدوادار الكبير؟ ومن ذلك الشاب طومان باي الدوادار الثاني؟ تلك أسماء جديدة لم تكن شيئًا مذكورًا يوم كان الغوري من أقرب مماليك السلطان إلى السلطان! ولكن خطب هؤلاء يسير، ولا بُدَّ أنْ يغلبهم قنصوه الغوري بالصبر والحيلة!
واستدنى إليه ابن أخيه طومان ليفضي إليه بسره، وبدا كأن الفتى قد فهم ما أُلْقِيَ إليه، فخرج لأمره وخلَّف عمه في مجلسه يقدر ويدبِّر …
وكأنما بدا لطومان أنْ يتخفف من بعض ما يحمل من الأعباء، فاقترح عليه غلامه أبرك أنْ يصحبه في جولة في بعض دروب القاهرة، يجتليان بعض مناظر المدينة التي أخملت ذكر بغداد وقرطبة، يوم كانت بغداد وقرطبة تتنافسان في أسباب الترف، وتزعم كلٌّ منهما أنها حاضرة الدنيا، وركب الفارس الشاب جواده وتبعه غلامه على جواده، ومضيا في شوارع المدينة يتعرفان الأبنية والدور والمتاجر، ويتصفحان وجوه الناس، والعيونُ ترمقهما بالإعجاب في المتاجر، وعلى جانبي الطريق، وفي الشرفات من وراء الأستار!
وكانا قد أشرفا على الرملة حين سمع طومان صوتًا ناعمًا يهتف باسمه، فنظر حواليه فلم يجد وجهًا يعرفه! فعاد ينظر إلى غلامه متسائلًا: هل سمعت؟
قال أبرك: نعم يا مولاي.
ثم دار بعينيه فيما حوله وارتد إلى سيده يقول: أحسبه صوتَ سيدة من وراء بعض الشرفات!
قال طومان ولم يزل ماضيًا في طريقه: فإن عليك يا أبرك أنْ تعرف مَن هذه التي تهتف باسمي من وراء حجابها في هذه المدينة التي لم أطرقها إلَّا منذ قريب؛ فإنه ليخيل إليَّ أنني أعرف ذلك الصوت …
قال أبرك: سأعرف يا مولاي.
واجتازا باب زويلة، إلى الشرابشيين، إلى سوق مرجوش، وتلبَّثا قليلًا عند بركة الرطلي، ثم أمعنا في السير حتى انتهيا إلى قبة الأمير يشبك الدوادار بالمطرية … ثم كَرَّا راجعَيْن من حيث أتيا قبل أنْ تنحدر الشمس إلى مغربها، فلما جاوزا باب الوزير شد طومان لجام فرسه، وأرهف أذنيه للسمع وطأطأ رأسه، ومشى الفرس يتهادى به وئيدًا كأنه مزهوٌّ بفارسه الجميل، وحذا أبرك خطوات مولاه وعيناه تختلسان نظرات خاطفة إلى الشرفات …
وخيل إلى طومان كأنه سمع مرة ثانية ذلك الصوت، فالتهبت وجنتاه كأن شعاعة عين قد لامستْ خديه … وهمس أبرك قائلًا: كأنْ قد عرفتُ يا مولاي …
ولم يُجِبْ طومان، واستمرا في طريقهما إلى قصر الغوري … وترجل طومان عن فرسه وولج الباب، وثنى أبرك عِنان جواده راجعًا من حيث أتى، فغاب درجة ثم عاد إلى مولاه لينبئه … وكان في مجلس طومان وقتئذٍ جاني باي تاجر المماليك … فآثر الغلام الصمت حتى يخلو بسيده المجلس …
قال طومان لضيفه: وإذن فأنت لم تدع مصرباي لخاير بن ملباي؟
قال جاني باي: نعم يا سيدي، وأحسبها تعيش في قصر أقبردي الدوادار منذ عادت من صفد بعد موت زوجها كرت باي …
ثم صمت برهة وعاد يقول: وللناس في شأنها أحاديث يتزيَّد فيها من يتزيَّد، ويقتصد من يقتصد، ولأهل مصر يا سيدي فنٌّ وبراعةٌ في اختراع الأراجيف …
واسترعى الحديث انتباه أبرك منذ جرى على لسان جاني باي ذكر أقبردي الدوادار، فأرهف أذنيه للسمع.
وقال طومان: لست أفهم ما تعني يا جاني باي: بماذا يتحدث الناس عن مصرباي؟
فأنغض رأسه وهو يقول: يزعمون يا سيدي أنَّ لها شأنًا مع سلطاننا الناصر بن قايتباي، وأنَّ زوجها كرت باي لم يمُت حتف أنفه …
قال طومان: تعني أنها قتلته؟
قال جاني باي: نعم؛ لتخلص للناصر الذي شغفها حبًّا وشغفته، منذ كانت وصيفة في قصر السلطان قايتباي، هكذا يزعم الناس، ولكنني لا أصدق!
– لا تصدق!
– نعم يا سيدي، أنا على يقين بأن ذلك غير الحق، فقد وقفتُ على السر كله من إحدى جواري القصر …
– أيَّ سرٍّ تعني؟!
– سر صلتها بقنصوه الخال، إنه هو فتاها المرتجى، الذي يصحبها خيالًا في اليقظة ورؤيا في المنام … وإنما يلهج الناس باسم الناصر لأنه …
– ماذا؟
– أحسب سيدي يعرف شهرة الناصر في مباذله، حتى كأن نساء مصر جميعًا حظاياه، فليس فيهن حَصانٌ طاهرة الذيل لا تنالها الريبة!
ومط طومان شفتيه أسفًا واستنكارًا، ثم أطرق يفكر … واستأذن جاني باي وهمَّ بالانصراف، ثم توقف برهة ليقول لطومان: ولا ينسَ سيدي أنني رهن أمره في كل ما يأمر به، فليرسل ورائي في أي وقت شاء من ليل أو نهار، يرني ماثلًا بين يديه!
قال طومان: شكرًا يا جاني باي، وإنَّ بي حاجة إلى جارية عاقلة أريبة تحسن الخط، فإذا وجدتها فلك عندي ما تريد …
قال جاني باي وهو في طريقه إلى الباب: فسأجدها، وليس لي ما أريده غير رضا مولاي!
وخرج تاجر المماليك، فالتفت طومان إلى غلامه يسأله: ماذا وراءك يا أبرك؟
قال أبرك باسمًا: أظنني عرفت الدار وصاحبها.
قال طومان مسرورًا: هكذا سريعًا؟ لله أنت!
قال وهو يضحك: ليس فضل ذلك إليَّ يا مولاي، وإنما عرفت طرفًا من الأمر هناك، وعرفت تمامه فيما سمعت من حديث جاني باي إلى مولاي. إنَّ تلك الجارية يا مولاي تقيم في دار أقبردي الدوادار!
قال طومان متهللًا: آه! إذن فهي مصرباي التي كانت تهتف باسمي!
ثم غشَّت وجهه كآبة واختلجت شفتاه من الغيظ وأطرق يفكر، وتسحب أبرك ليدع لسيده أنْ يستمتع بخلوته!