سلطان الشهوات
سرى الرعب في أنحاء المدينة كأنما شَبَّ حريق جائح، أو هبَّت ريح عاصفة لا تُبقي ولا تذر، فغلَّق التجار دكاكينهم واستوثقوا من أقفالها، وسُدَّت أبواب الدروب؛ حتى لا يكاد ينفذ منها الراجل، واختفت البضائع من الأسواق فلا بائع ولا مشترٍ، وهدأت الرِّجل في الطرقات، فلا يمشي ماشٍ ولا يركب راكب إلَّا حذرًا يتلفَّت؛ يخاف أنْ يأخذه الموت من كل ناحية، وقبع النساء والأطفال وراء أستار النوافذ المغلقة يرقُبون الطريق من خصاصها، في انتظار الآباء والأزواج الذين تعوَّقوا عن العودة إلى دورهم في هذا اليوم الذي ينذر بالشر.
لقد انبثَّ مماليك السلطان ومماليك الأمراء جميعًا في الأسواق يكبسون الدور، وينهبون المتاجر، ويحطمون الأبواب، ويخطفون العمائم، ويهتكون الحرمات، ولهم في الطريق عطعطة وزياط وضجة …
ذلك شأن المماليك كلما آنسوا ضعفًا من السلطان؛ فإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما أرادوا أنْ يحملوا السلطان على إجابتهم إلى شيء يطلبونه منه. وإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما طال بهم السكون ومَلُّوا الدَّعَة والاستقرار؛ لأنهم يرون ذلك مظهرًا من مظاهر النشاط، يتفرجون به مما يُحِسُّونَ من ملل وضيق. وإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما وقع بينهم وبين السلطان، أو بينهم وبين الأمراء جفوة وخصام؛ ليشعروا السلطان وأمراءه بأن فيهم عزمًا وقوة يتقيهما من شاء أنْ يتقي. وإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما سمعوا صريف الدراهم والدنانير، أو اشتاقوا إلى أنْ يسمعوا صريف الدراهم والدنانير.
وإنهم مع ذلك كله ليثيرون الشغب والفتنة، وإنْ لم يكن لهم مطلب عند السلطان، ولا بهم ملل من الدعة والاستقرار، ولا بينهم وبين السلطان جفوة، ولا حاجة بهم إلى الدراهم والدنانير، وإنما يثيرونها عبثًا ولهوًا وعادة … ولا عليهم بعد ذلك مما يصيب الناس من الذعر والفزع والخسار!
فلم تمضِ إلَّا ساعات من ذلك اليوم، حتى كانت المدينة كلها خالية إلَّا من أولئك المماليك، يجوسون خلال الديار راكبين أو ماشين متأهبين للشر، وقد سكنت الأصوات وراء الجدران، فكأنما يجوسون خلال القبور الصامتة ليس وراءها إلَّا رمم بالية وعظام نخرة!
وفي ذلك اليوم العصيب، في تلك المدينة التي ركبها الفزع، وعلى بعدٍ قريب من العمران — عند كوم الجارح — كان طائفة من المتصوفة، فيهم لفيف من أبناء المصريين، إلى خليط من العربان والترك والجركس، مجتمعين إلى شيخهم وصاحب طريقتهم الشيخ أبي السعود الجارحي، قد جلس الشيخ بينهم مُطرِقًا وأحاطوا به حلقة وراء حلقة وراء حلقة، صامتين لا ينبسون، قد تعلقت به أبصارهم، وبين يديه مجمرة يتصاعد منها بخور عطِر، لا يزال يذكيها حينًا بعد حين خادمه أرقم، وهو رجل مشوه الخلق، أصلم الأذن، معوج الأنف، مائل الفك، أحمش الساقين، مستكرش البطن، كأنه صُرة ثياب على عصوين من قصب …
وكان أرقم على منظره هذا الذي يثير السخرية والإشفاق جميعًا، أدنى المريدين منزلة من شيخه أبي السعود الجارحي، فليس لأحد غيره من المريدين أنْ يقتحم على الشيخ صمته حين يصمت، أو يقطع عليه حديثه حين يتحدث، وليس لأحد غيره من المريدين شرفُ خدمة الشيخ حين ينقطع للعبادة في خلوته، أو حين يجلس لتلاميذه في الحلقة!
وطال صمت الشيخ ومريديه، وخبَت النار في المجمرة رويدًا رويدًا ثم بردت، ونحَّاها أرقم من بين يدي أستاذه، ثم عاد فجلس مجلسه بين يديه، ورفع الشيخ رأسه ودار بعينيه فيمن حوله ثم سأل: أين جلال الدين اليوم فإنني لا أراه؟!
فسرت همهمة بين المريدين، وكأنما همُّوا جميعًا أنْ يجيبوا، ثم سكتوا، وقال أرقم: أظن سيدنا الشيخ يعلم ما أصاب أخانا جلال الدين …
قال الشيخ: تعني تلك الحادثة؟
قال: نعم، فهو منذ فقد زوجته لا يأنَس إلى أحد من الناس، ولا يُرى إلَّا على باب دكانه مطرقًا لا يكاد يرفع رأسه، أو ماشيًا في الطريق بين داره ومتجره صامتًا لا يتحدث إلى أحد، وفي يديه ابنتاه الصغيرتان يصحبهما غاديًا أو رائحًا، أو قابعًا على باب دكانه، وإنه لدائم الفكر والتذكُّر حتى لأخشى يا سيدنا الشيخ أنْ يختلط عقله!
قال الشيخ: مسكين! ولكن الصبر أجملُ به!
وكان جلال الدين هذا رجلًا من مساتير التجار، له ضيعة ودار ووفر من المال، وله زوجة واحدة يحسده على جمالها كل ذي عينين، ويغبطه على محبتها كل ذي قلب … وقد أنجبت له ابنتيه هاتين، وعاشت له ولابنتيه وعاش لها، وكانت أيامهما شهدًا خالصًا ليس فيها مرارة … وفجأة حلت به الكارثة، وجاءه الصريخ في دكانه ليدعوه إلى داره ذات مساء، فذهب ليشهد زوجته ذبيحًا تتشحط في دمها، وابنتاها عند رأسها تبكيان … وكان الذي ذبحها هو السلطان الناصر نفسه، بسيفه، بيده … رآها، فطمع أنْ ينالها، فأرسل إليها رسوله، فلما تأبَّت عليه سعى إليها على قدميه … وحاولت أنْ تفرَّ بعرضها فأدركها … وعاد من حيث أتى في كوكبة من مماليكه وجنده … بل لعله لم يعد إلى قصره في ذلك اليوم إلَّا بعد أنْ أتم جولته في المدينة، وخرج من دار إلى دار إلى دار، وتناول من كل كأس جرعة!
مسكين جلال الدين! ولكن الصبر أجمل به!
قال رجل من أقصى المجلس: يا سيدنا الشيخ، هذا والله ما لا صبر عليه! وقد بلغ هذا السلطان الصبي من الطيش والنزق والجرأة على الله مبلغًا بعيدًا، وإنَّ السكوت على مثل هذا لإثم في ذات الله!
قال الشيخ: نعم، ولكن ماذا تملك أنْ تفعل؟
قال الرجل الذي إلى جانبه: نملك أنْ نجود بأرواحنا، وما حِرصُنا على الحياة وهؤلاء المماليك يسوموننا ألوانًا من العذاب، لا ينظرون إلينا إلَّا كما ينظر الناس إلى السائمة، ليس لهم منها إلَّا درُّها أو لحمها! وقد جفَّ الضرع وذاب الشحم واللحم!
فابتسم الشيخ مشجِّعًا، ثم قال: أفلح إنْ صدق …
ثم نظر إلى يمينه حيث يجلس شابٌّ من المماليك له زيٌّ ووقار وسمت.
وأردف قائلًا لمحدِّثه: ولكن ما لك تجمع المماليك كلهم في قرن، كأنما تريد أنْ تُوزرهم جميعًا وزر فرد منهم، وتأخذهم بجريرة محمد بن قايتباي!
قال أعرابي: يا سيدنا الشيخ، إنما هي بلادنا لا بلاد الجركس، وقد جاءوا إلينا رقيقًا في يد النخاس، فما هي إلَّا أنْ أقاموا بيننا حينًا حتى ملكوا رقابنا، واستصفَوْا أموالنا، وها هم أولاء يريدون آخر الأمر أنْ تكون نساؤنا وبناتنا حظايا في قصورهم. لقد كان عرش هذه البلاد للعرب منذ رُتِّل فيها قرآن، وإنما تركناه وديعة في يد الكرد إلى حين، يوم غزانا التتار، فأسلَمَه الكردُ إلى هؤلاء المماليك، وقد حان أنْ تُرد الأمانات إلى أهلها.
قال الشيخ باسمًا: وترى من يسمع لقولك هذا من أبناء مصر فيعينك عليه يا أخا العرب؟
قال الأعرابي: أبناء مصر! إنهم لا يصلحون إلَّا أنْ يقادوا مقهورين، كما يقاد البعير المخشوش من أنفه!
وسرى همسٌ خفيٌّ بين المريدين من أبناء مصر، ثم ارتفع الهمس فصار لغطًا، وارتفع اللغط فصار ضجيجًا غاب فيه صوت الأعرابي، وهمَّ المريدون أنْ يتماسكوا بالأيدي وتنشب بينهم معركة، فلم يمسكوا عن الضجيج والحركة، حتى وقف بينهم أرقم يشير لهم بيديه جميعًا داعيًا إلى الصمت، ثم ارتفع صوت المملوك الجالس إلى يمين الشيخ، فصيحًا قويًّا عميق النبر، يقول: على رسلكم أيها الإخوان، إنما نحن جميعًا هنا أبناء مصر، جراكسة، وأعرابًا، ومصريين، كلنا سواسية في الحق والواجب، وإنما يغلبنا السلطان الجائر على أنفسنا بهذه العصبية التي تفرقنا، وتشق عصا جماعتنا! وماذا يُجدينا أنْ نفاخر بأنسابنا وهذا السيف مُصْلَتٌ على رءوسنا جميعًا في يد صبيٍّ عابث، قد استبدت به شهواته فليس يعنيه من أمر هذا الشعب قليل ولا كثير؟ ليس فينا من يرضى هذه الحال الأليمة. أمَّا الأعراب فيعبرون عن سخطهم بهذه الغارات المتتابعة على أطراف المدينة وفي البوادي، وعلى حدود المدائن في الشمال والجنوب، فلا ينالون شيئًا من السلطان، ولكن ينالون من إخوانهم ومن أنفسهم. وأمَّا المماليك فيتخذون سلطانهم قدوة فلا يزالون يعيثون في الأرض الفساد: ينهبون، ويفتكون، ويهتكون، وإنما يتعجلون آخرتهم بهذه المظالم. وأمَّا المصريون فينظرون إلى هؤلاء وأولئك ساخرين أو شامتين، ثم لا يزال فتيانهم يؤلفون العصائب للتخويف والإرهاب وانتهاز الفرص، ويتندرون فكِهين بما كان وبما سيكون، والسلطان يلهو … وإنما سبيل الخلاص واحدة: هي اجتماع الكلمة على تقويم المعوج، وليكن السلطان بعد ذلك من يكون: مصريًّا، أو عربيًّا، أو من أبناء الجركس … فكلنا لمصر!
قال الشيخ مؤمِّنًا: هو ما قلت يا طومان، وإنما عليكم أنتم أيها الجراكسة أنْ تبدءوا بصلاح أنفسكم … وإنْ شئت فابرز اليوم إلى القاهرة؛ لترى بعينيك كيف انتشر مماليك السلطان يبثون الرعب في القلوب، وينذرون بالويل والثبور.
قال طومان: قد رأيت بعض ما كان، وأحسبهم سيثوبون إلى رشادهم بعد قليل، لقد تركت عمي قنصوه الغوري يهدئ ثائرتهم، وأراه أهلًا لأن يملك زمام الأمر!
وأذَّن المؤذن لصلاة الظهر، فانتظم المريدون صفوفًا خلف شيخهم … فلما قُضِيَتِ الصلاة تأهب طومان للانصراف، فاستأذن شيخه واتخذ طريقه نحو الباب تشيعه أنظار الجماعة بالإكبار والحب، على أنَّ أرقم المسيخ خادم خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي، كان أشد المريدين إعجابًا بذلك المملوك الشاب، فظلت عيناه طوال الوقت معلقتين به وأذناه تسمعان، فلما هَمَّ أنْ ينصرف تبعه إلى الباب، ومد يده إليه مصافحًا وهو يقول في تأثر: صحبتك السلامة يا بني حتى تبلغ مأملك.
ثم فاضت به عاطفته حتى همَّ أنْ يضمه إليه ويُقَبِّلَ جَبِينَهُ، ولكنه اكتفى من ذلك بأن يضغط بأصابعه النحيلة على يد الشاب وهو يقول: أرجو أنْ تذكر دائمًا يا بنيَّ صديقك أرقم خادم خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي، إنني في خدمتك حيث تشاء، وفي أي وقت تريد.
ثم عاد إلى مجلسه يتخلع في مشيته، وقد ارتسمت على شفاه المريدين بسمات، فلولا ثقتهم به، ولولا مكانته من نفس شيخهم الجليل، لزعموا أنه صاحب هَوًى عند ذلك المملوك الجميل، وركبوه بالعبث والدعابة.
كانت المدينة تموج بهذه الأحداث والسلطان الشاب في شغل بنفسه عن كل ما هنالك، قد جمع حوله بطانة من الشباب والشيوخ، يزينون له الشهوات ويهيئون له أسبابها، ولم تكن حادثة زوجة التاجر جلال الدين هي الحادثة الفريدة في بابها، فكم فتاة وكم زوجة قد سال دمها على الفراش، أو سال على حَدِّ سيفه! وكم زوج مثل جلال الدين وكم أبٍ! وانهتكت حرمات البيوت، حتى بيوت الأمراء وأصحاب الوظائف … وحتى ليفتدي الأمراء أنفسهم وأعراضهم بالمال يبذلونه للسلطان، والسلطانُ نهم لا يشبع، شهوان لا يصبر، نشوان لا يفيق …
وعاد من جولته في المدينة منتشيًا، سعيدًا بما بلغ من حَظِّ نفسه، فاتخذ مقعدًا في الحوش وحلا له أنْ يلعب بالكرة. ولحلبة الكرة في الحوش السلطاني نظام وتقاليد مرسومة، ولكن السلطان الشاب لا يخضع للتقاليد المرسومة، وكان في الحوش وقتئذٍ طائفة من صغار الأمراء، وعصبة من المماليك الخاصة، ولم يكن ثَمَّةَ من الأمراء الكبراء إلَّا طومان باي الدوادار، ولطومان باي فنون في حلبة الكرة …
وتقاذف الأمراء الكرة بصوالجهم في الحلبة، يتقاربون حينًا ويتباعدون، ويتقابلون ويتدابرون، وتتماسُّ أكتافهم وتتلامس سواعدهم، والكرة تنتقل على الصوالجة من يد إلى يد، وهجم عليها طومان باي الدوادار يلقفها بصولجانه من يد الناصر، واغتاظ السلطان فهوى على ظهر دواداره بالصولجان على مشهد من الأمراء ومماليك الخاصة، وتَقَبَّضَ وجه طومان باي من غضب ثم اصطبر، وعادت الكرة تتقاذفها الصوالجة، ولقفها الدوادار مرة ثانية، وهوى السلطان على ظهره مرة أخرى بصولجانه! واحمرت عيناه من الغيظ ثم استرد جأشه … وعاد يلعب … وعاد السلطان يضربه … وكان على شفاه المماليك معانٍ خرساء، وفي عيونهم نظرات، وجاشت نفس الدوادار بمعانيها …
ثم انفضت الحلبة وصعد السلطان إلى قصره …
وفي جناح آخر من القصر السلطاني كانت أصل باي أم السلطان جالسة في مقعدها الوثير بين الحشايا والوسائد، صامتة قد ضاق صدرها بما تحمل من الهم والضجر، وجلست عند قدميها جاريتها شاخصة العين إليها لا تكاد تطرف. وتنفست أصل باي نفسًا عميقًا، ثم خرجت عن صمتها قائلة: أنتِ على يقين مما تقولين يا جارية؟
قالت: نعم يا مولاتي، وقد رأيت السلطانَ بعينيَّ هاتين يدخل دارها بالرملة، ليس معه أحد من مماليكه وجنده، ثم خرج تحت الليل فاتخذ طريقه راجلًا إلى القلعة …
فصرخت أصل باي غاضبة: تكذبين عليَّ يا فاجرة … احذري غضبي وغضب السلطان!
فشحب وجه الجارية قليلًا، ثم استردت جأشها وقالت: عفوًا يا مولاتي، فإنما حدثتك بما رأيت … إنَّ مصرباي الجركسية أرملة كرت باي، لا تزال تمد شباكها إلى مولاي، تطمع أنْ تكون سلطانة على العرش …
ثم صمتت برهة، واستأنفت حديثها قائلة: ولعل سيدي الأمير قنصوه الخال يعرف طرفًا من ذلك السر؛ فقد لقيتُ جاريته اليوم خارجة من دار مصرباي تتلفَّت …
فاعتدلت أم السلطان في مجلسها وهي تقول: ماذا! أخي قنصوه يعرف ما بين السلطان ومصرباي؟
قالت الجارية: أظن ذلك يا مولاتي …
فهبت الأميرة واقفة، وقد زاغ بصرها وتتابعت أنفاسها من البهر، وقالت: تلك أحاجيُّ لا أكاد أجد سبيلًا إلى فهمها، إلَّا أنْ تكون مؤامرة محبوكة الأطراف للنيل من السلطان … اذهبي يا جارية فأتيني بجارية أخي الأمير قنصوه … لا بُدَّ أنْ أعرف ذلك السر … لا بُدَّ أنْ أعرف!
وذهبت الجارية لشأنها، وظلت أصل باي الأمُّ تذرع غرفتها مبهورة متتابعة الأنفاس، وهي لم تزل تردد بينها وبين نفسها: لا بُدَّ أنْ أعرف … لا بُدَّ أنْ أعرف … ولن أمكن لمصرباي تلك الأفعى الخبيثة أنْ تنال من ولدي … ولن أمكن لقنصوه أنْ يطمع في عرش ابن أخته الصغير، بالدس والخيانة!
هل كانت مصرباي الجركسية تحب السلطان الصغير محمد بن قايتباي؟ أم كان هواها مع الشاب الطامح قنصوه الأشرفي خال السلطان وأخي أصل باي؟ أم لا يزال قلبها ينازعها إلى خاير بن ملباي، ذلك الأمير الشاب، الذي كان أول من أيقظ أحلامها النائمة، وفتَّح عينيها المغمضتين على أماني العرش والجاه والسلطان؟
إنَّ مصرباي الجركسية نفسها لا تكاد تعرف كيف تجيب، لو بدا لها أنْ تسأل نفسها سؤالًا من هذه الأسئلة، كل الذي تعرفه وتطمح إليه ويتخايل لعينيها، رؤيا في المنام وخيالًا في اليقظة، هو أنْ تصير يومًا ما سلطانة، تجلس إلى مرآتها في غرفة الزينة، فتنطبع عليها صورتها وصورة جارية وراءها ترجِّل لها شعرها المُرسَل، وخُطَا السلطان تقترب من باب الغرفة …
تلك كانت كل أمانيها، أمَّا ذلك السلطان من يكون فليس يعنيها جواب ذلك السؤال …
فهل عرفت أصل باي أم السلطان هذه الحقيقة أم لم تعرفها، وقد جهدت في البحث والتحري والاستقصاء منذ ألقت إليها جاريتها ذلك النبأ … يا لها في حيرتها! … أهي مؤامرة تدبر لخلع ولدها عن العرش، يشترك في تدبيرها قنصوه الخال، وخاير بن ملباي، وطومان ابن أخي الغوري؟ لقد جاءتها الأنباء اليوم بأن صلة جديدة قد نشأت بين طومان ومصرباي؛ فإنه لَيزورها كل يوم في دارها فيطيل الزيارة، وإنَّ جاريته لتسعى بين داره ودارها تحمل منه رسائل وتعود إليه برسائل؟
ما وجه ذلك كله وما دلالته؟ آه! مَن لها بأن تعرف الحقيقة؟
وخيل إلى أصل باي أنها تستطيع تدبير الأمر على أي وجهٍ كان، فأشارت على ولدها السلطان أنْ يباعد بينه وبين خاير بن ملباي، فيرسله في سفارة بعيدة إلى ابن عثمان سلطان الروم؛ فهذا واحد، أمَّا أخوها قنصوه الأشرفي فإن لها شأنًا آخر معه!
ودعته إليها، فلما مثل بين يديها استحلفته بحق الأخوة والخئولة، ورابطة الدم وذكريات الماضي، ألَّا يكون حربًا على ابن أخته! ودهش قنصوه وسألها: ولكن ماذا يدعوك إلى ذلك يا أختاه؟!
قالت: ليطمئن قلبي.
قال قنصوه ساخرًا: فليحلف لي هو كذلك ألَّا يكون حربًا على خاله.
وعضت أصل باي على شفتيها من الغيظ، ثم قالت مستسلمة: لك ذلك.
ثم دعت بمصحف عثمان، وجاء ولدها فحلف وحلف له خاله، ثم خرج قنصوه — طاعة لأمر السلطان ومشورة أصل باي — على رأس حملة إلى خارج القاهرة؛ لتأديب بعض الثائرين من العربان …
واطمأنَّت إلى بعض ما دبرت لحماية ولدها من دسائس الأمراء، ولكن ما شأن ذلك الفتى — طومان ابن أخي الغوري — مع مصرباي؟ وما تردُّده مصبحًا وممسيًا بين داره ودار أقبردي الدوادار حيث تقيم تلك الأفعى؟!
وماذا تملك من أمر ذلك الفتى، وأمر تلك الجارية اللعوب الفاتنة؟
آه! لو كان صديقها الأمير جانبلاط قريبًا منها! إذن لاستطاع أنْ يهديها إلى الرأي ويدبر تدبيره، ولكن الأمير جانبلاط يقيم اليوم في الشام نائبًا لحلب، لكأنما أراد أخوها قنصوه أنْ يحول بينها وبين لقياه، فبعث به إلى ذلك المنفى البعيد …
وطارت على أجنحة الأماني إلى حلب … إلى حيث كان صديقها جانبلاط، أتراه يفكر في شأنها ويذكرها كما تفكر في شأنه وتذكره؟ ومن أين له — وهو بعيد بعيد — أنْ يعرف أنه الساعة الرجل الوحيد الذي تُطيف به أماني خوند أصل باي حَظِيَّة قايتباي، وأم ولده السلطان الناصر! ليته يدري! ليته يدري! إذن لهدأ وَجِيبُ قلبها، واطمأنت إلى سعادة اليوم والغد. حسبها أنْ يذكرها جانبلاط، وأنْ تطيف بخياله وبينهما ذلك البعد البعيد!