فاقد الشيء لا يعطيه١
بعد منتصف ليلة الخميس الماضي أيقظني صراخ في الشقة المجاورة، ليس صراخ امرأة يضربها زوجها؛ فأنا أعرف هذا الصوت، سمعته يتردد في الليل من وراء الأبواب المغلقة، وليس صراخ امرأة في المخاض، أو الألم بسبب المرض؛ فقد عشت مع هذه الأصوات السنين الطويلة بحكم عملي كطبيبة.
هذا الصراخ كان غريبًا، اخترق جسدي مثل الموت وأنا غارقة في النوم، وجدتُني أمشي حافية القدمين نحو الصوت، كأنما يأتي من بطن الأرض، أو من بطن التاريخ القديم منذ آلاف السنين، حين كانت الأسياخ المحمية في النار تثقب أجساد النساء بحثًا عن علامة الشيطان، أو حين كانت امرأة تُعلَّق من شعرها في شجرة وتُرجَم بالحجارة حتى الموت لأنها لم تنزف ليلة الزفاف.
كان الصوت يقودني في الظلمة إلى المجهول أو المعلوم، أعرفه ولا أعرفه، أحفظه في التاريخ وأنساه، فالنسيان مثل غريزة البقاء، دفاع عن الحياة ضد الموت.
فتحت باب شقتي وخرجت، كالسائرة في النوم، يأخذني الصوت إلى حيث يكون، إلى الهلاك أو الموت، فأنا ذاهبة إليه، مشدودة نحوه، بماذا؟ بالمصير النسوي المشترك؟ بالحتف المكتوب على جبين النساء قبل المولد؟
باب شقتها كان مفتوحًا والضوء الكهربي الساطع، وفتاة واقفة شاحبة مثل خيال الموت، عيناها ثابتتان في الفراغ العلوي، فمها مفتوح، تسأل الكون: بقه ده يرضيك يا رب؟ السؤال بلا جواب منذ الأزل، منذ وُلدتُ أسمعه يتردد على أفواه النساء والنسوة.
ما الذي حدث تلك الليلة؟! دخلَت أُم هذه الفتاة إلى المطبخ وحرقت نفسها حتى أصبحت قطعة فحم، ماتت من آلام الحرق قبل أن أصل إليها، على عتبة بابها انقطع صوتها، لكنه ظل في أذني حتى عدت إلى شقتي، إلى سريري، لم يفارقني صوتها في اليوم التالي، ولا الثالث والرابع، حتى اليوم. يُذكرني، ينخس ذاكرتي بما نسيته في طفولتي ومراحل عمري، بما بقي في ذاكرة الجسد غير قابل للنسيان، وبما حملَته إليَّ سيارة الإسعاف وأنا طبيبة بالمستشفى، أجساد النساء المحروقات، تموت المرأة منهن قبل أن تحكي قصتها، وقد تحكي لي الحكاية، وهي حكاية واحدة، أصلها واحد، جذورها ممدودة في التاريخ حتى العصر العبودي، ونشوء ذلك الشيء الذي اسمه «حق الرجل».
في المحكمة يرتفع الصوت من فوق المنصة يقول: هذا حق الرجل! والمحكمة في الجيزة قريبة من بيتي، أكاد أسمع الصوت يخترق أذني وأنا في شقتي؛ حق الأب في حرمان ابنته من المدرسة وتزويجها من رجل عربي عجوز، لا تجد الابنة خلاصًا إلا في الموت؛ حق الزوج في خيانة زوجته أو طلاقها بإرادته المنفردة أو الزواج عليها أو ضربها للتأديب، لا تجد الزوجة إلا الجاز والكبريت لتشعل النار في جسدها؛ حق الرجل في الحب أو خداع العذراوات، تُنهي الواحدة منهن حياتها بيدها خوفًا من الفضيحة؛ فالشرف هو حق الرجل وإذا كان هو الجاني، والمرأة بلا شرف وإن كانت الضحية.
لا تكاد تخلو حياة المرأة من مأساة واحدة على الأقل. تستسلم أغلب النساء للقضاء والقدر، يكبتن الألم في صدورهن حتى الموت، أو يستعجلن الموت بعود كبريت أو زجاجة سم سريع أو بطيء.
كم نقرأ من هذه القصص في الصحف، نقرؤها وننساها، نمضي في حياتنا، نتظاهر بأننا لم نعرف ولم نشهد شيئًا، فإذا ما نهضت بعض النساء للدفاع عن حقوقهن اتسعت العيون بالدهشة أو الاستنكار، ماذا تريد هؤلاء النساء؟ أقل ما يوصفن به أنهن متمردات على الدين أو القيم والتقاليد، يفتعلن قضية المرأة، أو يستوردنها من الغرب؛ فالمرأة في بلادنا ليس لها قضية، وإن كانت لها قضية فهي ثانوية، غير مُلحَّة، يمكن تأجيلها حتى ننتهي من طرد الاستعمار أو القضاء على الفقر أو البطالة أو غيرها من القضايا الوطنية أو القومية.
تحت اسم «القضية الوطنية» يتم تجاهل «القضية النسائية»، ويصبح اسمها «القضية النسوية»، ينطقون كلمة «نسوية» بازدراء بطرف اللسان، كأنما «النسوية» أدنى من كلمة «النسائية»، مع أنه في اللغة تعني كلمة «النسوة» أو «النسوان» هؤلاء الفقيرات الأميات، أو الطبقة الشعبية التي تحظى عندهم بما يشبه التقديس، يوجهون اللوم والتأنيب إلى النساء المتعلمات من الطبقة الوسطى، ويتهمون الحركة «النسوية» بإهمال مشاكل الفقيرات، وعدم الاهتمام إلا بمشاكل المرأة التافهة مثل الختان أو الطلاق أو تعدد الزوجات أو غيرها من قضايا المرأة الخاصة.
ينطقون كلمة «الخاصة» بازدراء بطرف اللسان، كأنما هي أدنى من كلمة «الخاص» منفصل عن «العام»، أو أن قضية المرأة منفصلة عن قضية الوطن، كأنما الوطن ليس نصفه من النساء.
فإذا ما انعقد مؤتمر للمرأة نراهم يسعون إليه، يهرولون إليه، يتسابقون في إلقاء الكلمات، أو رئاسة اللجان، كأنما مؤتمرات المرأة شيء آخر غير قضية المرأة أو القضية «النسوية» التي سرعان ما يعودون إلى اتهامها بأنها مستوردة من الخارج، ضد الإسلام، يجب ألا تنشغل بها النساء من ذوات الوعي الوطني.
هذا التناقض أو الازدواجية أصبح المناخ العام الذي نعيشه، نتنفسه كل يوم، أصبح عاديًّا ومألوفًا فلم نعد نراه، نشترك فيه دون وعي، نهرول إليه دون أن ندري، بل ندري أننا نهرول، نسعى إلى الكسب السريع، ليس في مجال الاقتصاد فحسب أو السوق الحرة، لكن أيضًا في مجال السياسة أو الديمقراطية أو التعددية الحزبية أو إصلاح التعليم أو إصلاح الإعلام أو القضاء على الفساد أو الإرهاب.
كما يتناقض رجال الأعمال في السوق الحرة أصبح رجال الإعلام أو التعليم يتناقضون في الكلام الحر … أصبحت القضايا الوطنية أو القومية حبرًا تُسوَّد به الصفحات من الورق، وبيانات تنتهي بانتهاء الأزمة أو عدم انتهائها.
في زحمة الكلام والتنافس على الكتابة يختفي أصحاب الفكر والتاريخ، وتنتشر الأفكار السطحية المتسرعة، البراجماتية التي تؤمن بالمنفعة الأجنبية أو الربح السريع، وتتصاعد التيارات الإرهابية وتصبح القوة فوق الحق، وتُضرب حركات التحرير الساعية إلى العدل والحرية، ومنها حركة النساء.
بل أولها حركة النساء؛ فالأضعف هو الذي يُضرب أولًا، والأضعف هو من تسيل دماؤه حين تصوَّب الضربات؛ لهذا تكون المرأة أول من يسيل دمها في الحرب أو في السلم، داخل البيوت المغلقة أو في الشوارع، حين ينطلق الرصاص يصيب الأبرياء الضعفاء بلا سلاح، وأضعف الأبرياء هن النساء، وأرخص الدماء هي دماء النساء الفقيرات أو «النسوة».
تدفع النسوة من دمهن ثمن العار؛ لأن الرجل وإن اغتصب المرأة لا يصيبه العار، فالشرف للرجل وإن خان، ودم الرجل إن سال له ثأر وله فدية، لكن دم المرأة لا فدية له ولا ثأر.
وأفتح الصحف يوم الجمعة الماضي، بعد أن ماتت جارتي محروقة، وبعد أن حكمت المحكمة ضد المرأة بأن للرجل الحق في أن يطلقها بإرادته المنفردة، وأن يتزوج عليها بحقه المطلق، وأن يضربها إذا اعترضت على خيانته، فهو الذي يؤدبها لأنه المتهم والقاضي معًا؛ أقرأ في الصحف ذلك اليوم تصريحًا بلسان أحد المؤتمرين في مؤتمر المرأة يعلن أن الحركة «النسوية» مستوردة من الغرب، تفصل بين نضال النساء ونضال الرجال داخل الحركة الوطنية أو القومية.
غالبًا لا يأتي الفصل بين قضية المرأة وقضية الوطن إلا من القوى السياسية المعادية لهما معًا، والتي تحاول عزل النسوة عن الحياة العامة، أو تحاول عزل الوطن عن نصفه الآخر من النساء.
منذ نشوء النظام الطبقي الأبوي في التاريخ نجحت هذه القوى السياسية والاقتصادية في عزل النساء عن حياة المجتمع، فرضت عليهن دورًا خاصًّا أطلقت عليه اسم «الدور النسائي» أو «النسوي» المحدود بالأعمال البيولوجية أو الجسمية داخل البيت وخارجه.
ولم تكف النسوة عن النضال ضد هذا النظام منذ بداياته في العصور القديمة حتى عصرنا الحديث؛ فالحركة النسوية متصلة في التاريخ تضرب بجذورها داخل كل بلد، وليست هي حركة مقصورة على الغرب أو ناشئة في أوروبا أو أمريكا خلال هذا القرن فحسب.
ويؤكد التاريخ أن النسوة في مصر وأفريقيا سبقن زميلاتهن في أوروبا في النضال النسائي، ليس لأسباب تتعلق باللون أو العرق أو العنصر، وإنما لأسباب سياسية وثقافية تتعلق بنشوء الحضارة القديمة في مصر وأفريقيا، وانعكاس ذلك على حياة النسوة وارتفاع وعيهن …
وقد أصبح معروفًا أن النظام الطبقي الأبوي قد تعثَّر في مراحله الأولى وتأخر في الظهور أكثر من ألف عام بسبب الحركة النسوية في بعض البلاد منها مصر القديمة، واتضح أن الثورات الشعبية في ذلك الزمن كانت تقودها النسوة البارزات في الحضارات القديمة.
من البديهي أن البشر جميعًا من النساء أو الرجال يثورون ضد النظم الظالمة أينما كانت وأينما كانوا، هذه صفة إنسانية عامة ليست مقصورة على الرجال دون النساء، أو أهل الغرب دون أهل الشرق.
نحن نعرف أن الحركات النسوية أو النسائية في التاريخ قد نشأت لسبب أساسي هو مقاومة الحركات الانفصالية التي أرادت فصل النساء عن الرجال بدعوى أنهن الجنس الأدنى، وفصل العبيد أو الأُجراء الكادحين عن الأسياد المُلاك بدعوى أنهم الطبقة الأدنى.
هذا الفصل إذن لم يكن من صنع الحركة النسوية ذاتها، لكنه فُرض عليها بالقوة الطبقية الأبوية التي حكمت المجتمع حينئذٍ تدعمها فلسفة معكوسة غير إنسانية تقوم على عقاب الضحية أو الأضعف بدلًا من عقاب المذنب الحقيقي لمجرد أنه السيد الأقوى.
وأصبحت الحركات النسائية متهمة بأنها حركات انفصالية، لا تقبل التعاون مع الرجال، أو تفصل بين الرجال والنساء، في حين أن النساء هن ضحية هذا الفصل التعسفي من قِبل النظام السياسي السائد، وقد قامت حركتهن أصلًا لتلغي هذا الفصل، وتعيدهن إلى الحياة الفكرية والسياسية العامة.
لكن هذه الحقائق تغيب عن كثير من الأذهان، هناك من يتصورون أن حركة تحرير المرأة المصرية أو العربية ليست إلا حركة مقلدة أو مستوردة من الغرب، كأنما نساء الغرب هن وحدهن من يملكن الكرامة أو العقل لرفض الظلم، ونساؤنا المصريات أو العربيات لا يملكن إلا الاستسلام، وإن نهضن للدفاع عن حقوقهن فإن حركتهن غير أصيلة ولا تنبع منهن وإنما مستوردة من الخارج.
من مظاهر الردة أيضًا أن يعتمد العمل السياسي على المنافع الآنية السريعة وليس المبادئ الإنسانية، فإذا بالجبهات والتحالفات تقوم بين الخصوم والأعداء لمجرد «التكتيك»، أو التعاون مع القوي (اليوم) لضربه غدًا، هذا «التكتيك» يؤدي بالضرورة إلى التضحية بالضعيف، بدعوى أن السياسة «فن الممكن» أو «لعبة المصالح»، وهكذا تُضرَب الحركات النسائية من أجل إرضاء التيارات السياسية الأقوى.
في العقدين الأخيرين شهدنا محاولات ضرب الحركة النسوية — أو النسائية لا فرق — والتضحية بحقوق النسوة المكتسبة عبر نضال طويل؛ لإرضاء التيارات العنصرية المتصاعدة، المتخفية تحت مبادئ الأديان أو احترام الأصوليات العرقية أو الاختلافات النوعية والجنسية. وتزايدت النعرات والمزايدات الوطنية التي تزرع التناقض بين قضية المرأة وقضية الوطن، تحاول أن تضربهما معًا بادعاء الوطنية الزائدة أو التدين الزائف.
وتحتاج الحركة النسوية أو النسائية في بلادنا إلى دماء متجددة وروح مخلصة لا تضحي بالحقوق النسوية لكسب أصوات الرجال أو التيارات الدينية، أو لإثبات البطولات الوطنية المحلقة في النظريات أو الجدل النظري داخل الغرف المغلقة.
تحتاج الحركة النسوية إلى كشف هذه المحاولات التي تسعى لضربها تحت اسم الحركة النسائية ذاتها، والتي تحاول تفتيت القوى النسائية أو النسوية تحت دعاوى وطنية أو طبقية أو غيرها.
إن الدفاع عن حقوق الشعب لا يعني إغفال حقوق النسوة أو النساء أو تجاهل مشاكلهن الخاصة المُلحَّة داخل البيت وخارجه؛ فالحياة الخاصة للإنسان (امرأة أو رجل) لا تنفصل عن الحياة العامة لكلٍّ منهما، والمرأة العاجزة عن الدفاع عن كرامتها وحريتها لا تستطيع أن تدافع عن كرامة الوطن أو حريته؛ فاقد الشيء لا يعطيه.