المرأة والطبيعة كبش فداء١
حركة تحرير المرأة ليست مستوردة من الغرب
أصبحت قضية المرأة علمًا من العلوم له كرسي في الجامعات مثل الطب والهندسة، وأصبح علينا أن ننظر إلى هذه القضية نظرة علمية عميقة؛ لارتباطها بكل مجالات الحياة العامة والخاصة.
وهناك فكرة خاطئة تقول إن حركة تحرير المرأة إنما هي فكرة مستوردة من الغرب، لكن دراسة تاريخنا المصري والعربي تكشف لنا أن حركة تحرير المرأة في بلادنا قديمة قدم نشوء العبودية، وأن فلسفة إيزيس المصرية لم تنهزم بسهولة، وظلت تقاوم عشرات القرون حتى منتصف القرن السادس الميلادي، وفي عام ٣٨٠م أصدر الإمبراطور ثيوسيوس أمره بحرق كل مخلفات إيزيس وغيرها من رموز الحضارة المصرية القديمة، وقُتلت «هيباثيا» المصرية أستاذة الفلسفة بجامعة الإسكندرية، وحُرقت الكتب والمكتبات، ونجا من ذلك التخريب بعض الآثار في أقاصي الصعيد وخاصةً في جزيرة فيلة التي أصبحت الملجأ الأخير لأعوان إيزيس، ويقال إن أربعين ألف صورة وتمثال لإيزيس دُمِّرت دفعة واحدة في ذلك العهد.
إن هؤلاء الذين يقولون إن حركة تحرير المرأة مستوردة من الغرب لا يقرءون تاريخ المرأة المصرية القديمة ولا الحديثة. ونضال المرأة في مصر ضد الظلم والعبودية لم يتوقف حتى اليوم، وعندنا كتابات متعددة أسهمت بها المرأة المصرية في النضال التحريري النسائي والوطني منذ بداية هذا القرن.
إلا أن حركة تحرير المرأة تتميز بأنها حركة محلية وعالمية في آنٍ واحد، مثلها مثل الحركات التحريرية الإنسانية الأخرى: حركة الزنوج، حركة الشباب، حركة الخضر … إلخ.
إن المؤتمرات الدولية التي تُعقد في مختلف أنحاء العالم تساعد هذه الحركات التحريرية على تبادل الخبرات والأفكار والتعاون معًا من أجل تحرير الإنسان من بقايا القيم العبودية والعنصرية التي تفرق بين الناس على أساس الدين أو الجنس أو العرق أو اللون أو السن أو الطبقة الاجتماعية.
العلاقة بين المرأة والطبيعة
بسبب الخطر الذي أصبح يهدد البيئة بالتلوث وازدياد الاهتمام بحماية البيئة والطبيعة، خاصةً من جانب النساء، برز السؤال: هل هناك ترابط بين المرأة والطبيعة؟ هل تحرير المرأة يعتمد على تحرير الطبيعة؟ أم تحرير الطبيعة يعتمد على تحرير المرأة؟
إن الفكرة الأساسية وراء حركات تحرير المرأة هي أن العبودية الأولى في التاريخ البشري كانت عبودية المرأة وسيطرة الرجل عليها. وقد أدت هذه السيطرة في العلاقات البشرية إلى فكرة السيطرة على الطبيعة.
إن استعباد الطبيعة واستغلالها بواسطة النظام العبودي (الذي يُسمى الآن النظام الطبقي الأبوي) مرتبط باستعباد المرأة واستغلالها؛ ولذلك فإن تحرير النساء يرتبط أيضًا بتحرير الطبيعة.
ولهذا كان طبيعيًّا أن يكون أغلب المشاركين في أحزاب الخضر وحماية الطبيعة من النساء غربًا وشرقًا.
لكن الفكرة القديمة التي تبنتها بعض القيادات النسائية في الغرب (ومنهم سيمون دوبوفوار) كانت تقول إن تحرير المرأة يقتضي الفصل بين المرأة والطبيعة. كان ذلك نوعًا من رد الفعل إزاء فكرة العبودية التي تعتبر الرجل رمز العقل والحضارة والفلسفة والتاريخ، أما المرأة فهي رمز الجسد والأرض والطبيعة.
لكن التطور الفكري خلال القرن الأخير أدى إلى محاولة إلغاء هذا الفصل التعسفي بين الجسد والعقل وبين المرأة والرجل، وساهمت النساء من خلال حركات الخضر والحركات النسائية في إعادة العلاقة الوثيقة الحميمة بين الطبيعة والإنسان (امرأة ورجل)، وفي رفع الوعي الإنساني بأننا جميعًا نساءً ورجالًا جزء من طبيعة أكبر.
العلاقة بين التاريخ والطبيعة
في بداية الستينيات قاومت الحركة النسائية الربط بين خضوع المرأة للرجل وخضوع الطبيعة للإنسان. كان هناك الخوف الموروث القديم من طرد المرأة من التاريخ، باعتبارها مركز الطبيعة. وكانت الأفكار الاشتراكية المنتشرة حينئذٍ تجعل التاريخ مناقضًا للطبيعة: إن الإنسان من أجل أن يصنع تاريخه لا بد أن يكون كائنًا حرًّا مستقلًّا عن الطبيعة ومسيطرًا عليها. وقد قامت النهضة الصناعية على السيطرة على الطبيعة واستغلالها دون وعي بالأضرار الناتجة عن ذلك.
لكن اليوم، وبعد إدراك مخاطر تلوث البيئة، فقد بدأت المحاولات لإعادة فهم العلاقة بين التاريخ والطبيعة، أو العلاقة بين التاريخ البشري والتاريخ الطبيعي، فوق كوكبنا الأرض، دون الإقلال من حرية الإنسان ودون الإضرار بالطبيعة. وهذا هو المحور الفكري الجديد الذي تقوم عليه حركات الخضر والحركات النسائية المهتمة بالبيئة، وتُسمى اليوم الحركات النسائية الإيكولوجية.
إن الفرق الأساسي بين الحركات النسائية الإيكولوجية الجديدة وما سبقها من حركات نسائية هو تبني هذه الفكرة الجديدة القائمة على إعادة دراسة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي لمعرفة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى السيطرة على المرأة والطبيعة في آنٍ واحد.
مفهوم الطبيعة
إن مفهوم «الطبيعة» اليوم قد تغير أيضًا. لم تَعد شيئًا ثابتًا حتميًّا تتحكم فيه البيولوجيا أو ما عُرف باسم الطبيعة البيولوجية للمرأة أو الرجل مثلًا. لم تَعد الطبيعة هي المطلق الثابت، ولكنها ذلك الترابط بين جميع الكائنات الحية من أرض وهواء وإنسان وحيوان ونبات، وبين عقل الإنسان القادر على تطوير الطبيعة وإثرائها وليس تحطيمها وتلويثها. إن الفكر النسائي الإيكولوجي الجديد فكر نقدي تحليلي تاريخي يفكك العلاقات القديمة (منذ العبودية والإقطاع والرأسمالية والاشتراكية) ثم يعيد ربطها على نحو أكثر إنسانية وعدالة في التعامل مع المرأة والطبيعة سواءً بسواء.
ومعنى هذا أنها ثورة فكرية مختلفة تعتمد على أن نجاح الرجل في الحياة لا يعني سيطرته على الطبيعة أو على المرأة أو على أي إنسان آخر. أصبح نجاح الإنسان في الحياة هو إدراك العوامل التي تؤلف بين الإنسان والطبيعة، وبين الرجل والمرأة، وبين جميع الكائنات الحية الأخرى التي تشاركنا الحياة فوق كوكبنا هذا. بعبارة أخرى: العودة إلى الفكرة الإنسانية الأولى القائلة باحترام الحياة الكلية واعتبارها شيئًا مقدسًا.
لقد أدى النظام العبودي (الطبقي الأبوي) منذ نشوئه إلى تقديس حياة الأسياد الرجال الملاك فحسب، وإهدار ما عدا ذلك من كائنات أخرى بشرية أو في الطبيعة …
من يقتل الأشجار والأطفال؟
وقد لعبت النساء في الغرب والشرق دورًا فكريًّا بارزًا في هذا المجال، وظهرت كتب جديدة منها كتاب سوزان جريفين «المرأة والطبيعة» (١٩٧٨)، وكتاب كارولين ميرشانت عن الثورة العلمية بعنوان «موت الطبيعة» (١٩٨٠). كما لعبت الحركات النسائية دورًا بارزًا في مقاومة الحرب النووية، وتلوث البيئة، ومشكلات التكنولوجيا، ومخلفات الصناعة وعلى رأسها المخلفات النووية، وكشفن عن المؤامرات الاستعمارية لإرسالها إلى بلاد العالم الثالث.
وعُقدت مؤتمرات لهذا الغرض كان أولها عام ١٩٨٠ في أمهرست بالولايات المتحدة، ولعبت النساء دورًا في مقاومة سباق التسلح في عهد ريجان وبوش، وربطن بين عنف التسلح والحرب والعنف الواقع على النساء والطبيعة. وبرزت مجموعات نسائية تُسمي نفسها «النساء ضد العنف والحرب»، ومجموعة نساء «الحياة على الأرض» التي نشأت في إنجلترا من نساء «جرينهام كومان» اللائي حاربن القواعد الحربية الأمريكية، وكذلك في الهند واليابان، ومجموعات «النساء والسلام».
أهم ما يميز هذه الحركات النسائية أنها تربط بين مشكلات البيئة ومشكلات النظام الرأسمالي الصناعي الذي قهر النساء بمثل ما قهر البيئة بمثل ما قهر الفقراء، خاصةً هؤلاء الذين يعيشون في العالم الثالث.
إن الاهتمام بحياة الأشجار في بلادهم لا تنفصل عن الاهتمام بحياة الملايين الجائعة من البشر في بلادٍ أخرى؛ وذلك لأن الذي يسبب موت الأشجار هو نفسه الذي يسبب موت الأطفال جوعًا، وموت النساء قهرًا.
ولهذا تتجه الحركات النسائية إلى الاستعمار الجديد والقديم بجميع أشكالهما الواضحة والخفية.
حركة «عناق الأشجار في الهند»
عدم التضحية بالطبيعة والأم
منذ نشوء العبودية قامت فكرة سمو الذكر على الأنثى. على التضحية بالأم من أجل أن يكتسب ابنها الرجولة أو الدور الاجتماعي والثقافي والسياسي للذكر.
لكن الأمومة قسمان: الولادة، وهي عمل من أعمال الطبيعة. رعاية الطفل، وهي عمل من أعمال المجتمع والقيم الثقافية السائدة. إن الفصل بين البيولوجي والطبيعي لا يمكن أن يحدث إلا نظريًّا فقط.
وقد بدأ أخيرًا الانتباه لمخاطر تلوث البيئة، واكتشاف مساوئ الحضارة الصناعية الحديثة التي قامت على استعباد الطبيعة والمرأة معًا.
إن تربية الطفل هي العملية التي تربط في حياة الأم بين ما هو طبيعي وما هو اجتماعي. ومن أجل أن يصبح الولد رجلًا ناضجًا فإنه يضحي بأمه ويفصل نفسه عنها ليصبح شبه أبيه، وينسى تمامًا أنها هي التي ولدته. ينسى الذكر تمامًا أن أمه هي الأصل، ويتصور أن «الأب» هو الأصل. وأنه جاء من رأس الإله زيوس أو من آدم، وأن أمه ليست إلا ضلعًا من أضلاع أبيه؛ وهكذا تم إنكار المرأة وإنكار الطبيعة لها.
وهذا يُذكرنا بمأساة بوليس دراميا المعروفة إذ تخلى الابن عن أمه ليصبح رجلًا ناضجًا محترمًا.
من أجل هذه الحضارة غير الإنسانية التي نعيشها، والتي أدت إلى تلوث الطبيعة وتلوث الحياة الإنسانية بالقهر والظلم وتفوق القوة والعنف على الحق والفضيلة، من أجل هذا أصبحت المرأة والطبيعة كبش الفداء، من أجل هذا وُضعت المرأة على ذلك الخط في نظر المجتمع الطبقي الأبوي السائد الفاصل بين الاجتماعي والطبيعي، أو الخط الفاصل بين العقل والجسد. في مراحل الردة والتأخر يدفعها المجتمع إلى أن تكون مجرد الجسد، تُغطى أو تُعرى حسب الظروف وتحت شعارات تجارية أو أخلاقية …
وفي مراحل التقدم والازدهار يدفعها المجتمع إلى أن تكون إنسانة لها عقل وجسم مثلها مثل الرجل.
ولهذا السبب تلعب الحركات النسائية دورًا فكريًّا بارزًا لإلغاء ذلك الفصل التعسفي بين العقل والجسد وإعادة التحام الطبيعي والاجتماعي معًا، وإلغاء الفلسفة العبودية المورثة التي تجعل الإنسان عدوًّا للطبيعة وتجعل من الرجل عدوًّا للمرأة لا يحبها إلا إذا كانت خاضعة منكسرة مغمضة العينين مثل حيوان أليف.