جوهر الفضيلة وتعدد الزوجات١
عارض البعض ما كتبته عن إصدار قانون يمنع تعدد الزوجات، مستندين إلى أن القرآن الكريم فيه نص واضح يسمح بالتعدد.
والحقيقة أن القرآن الكريم لا يسمح بالتعدد، بل يمنعه بوضوح لا يقبل الشك، والآية القرآنية التي تقول: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً تكفي لمنع التعدد باشتراط العدل، الذي هو مستحيل كما تؤكده الآية القرآنية: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ.
أهناك وضوح أكثر من هذا في القرآن؟ هذا الوضوح الذي استندت إليه المدرسة الفقهية الكبيرة التي أصدرت قوانين تمنع التعدد في كثير من الدول الإسلامية منها تونس، كما استند إليها كثير من الرواد المسلمين المصلحين أمثال الشيخ محمد عبده الذي طالب بمنع تعدد الزوجات منذ أكثر من ستين عامًا؛ حفاظًا على الأسرة المسلمة من التفكك وتشريد الأمهات والأطفال.
إن جوهر الفضيلة هو العدل، والأديان جميعًا قائمة على العدل، والله هو العدل، عرفه الناس بالعقل والفطرة، وليس بالإكراه أو الإرهاب أو العنف. ويبدأ العدل في البيت، ابدأ بنفسك ومن تعول، أن يعول الأب أطفاله ويرعاهم.
هذا هو الدين الصحيح والعبادة الحقيقية، وكان رجل يصلي الليل والنهار، فذهب الناس إلى رسول الله، وقالوا له: فلان يقوم الليل والنهار. فسألهم الرسول: ومن يرعى أطفاله؟ قالوا: كلنا. قال: كلكم خير منه.
إن الحفاظ على سلامة الأسرة والأطفال هو الدين والفضيلة، والأسرة هي البناء الأساسي الأول الذي تقوم عليه الدولة، فهل يستقيم البناء الكلي إذا كان الأساس غير مستقيم؟ هل يمكن أن تعيش الأسرة في أمان واستقرار وهي تدرك أن أحد أفرادها يمكنه في لحظة — ولمجرد نزوة — أن يهددها ويشردها ثم يحميه القانون؟
إن الأمان في حياة الأسرة المسلمة مفقود لأسباب متعددة، أولها حق الرجال في تعدد الزوجات والطلاق دون قيد أو شرط. وفي بلادنا تتمتع الأسرة القبطية بأمان واستقرار أكثر من الأسرة المسلمة؛ لأن الرجل القبطي لا يستطيع أن يطلق زوجته أو يتزوج عليها في لحظة ولمجرد نزوة. إن الشروط التي تقيد الطلاق والتعدد ضرورية لحماية الأسرة من التفكك. إن التهديد بالطلاق أو بالزواج بأخرى قد يكون أكثر تدميرًا لنفسية النساء وأطفالهن من وقوع الحدث ذاته؛ لأن وقوع البلاء أهون من انتظاره، كما يقول المثل.
كان أبي زوجًا مخلصًا حنونًا، عاش ومات دون أن يتزوج امرأة غير أمي، ولم يهددها يومًا واحدًا بالطلاق أو بالزواج من أخرى، إلا أن شبح «الضرة» أو الزوجة الأخرى لم يكن يفارق أمي في كوابيس النوم مثل غيرها من النساء. وفي طفولتي كنت أشعر بالرعب حين أفتح عيني في الصباح فلا أجد أبي أو أمي، كنت أرى أطفالًا من عمري مشردين في الشوارع بسبب تفكك الأسرة بالطلاق أو تعدد الزوجات، وكنت أخشى أن يخلو البيت فجأة من أبي أو أمي وأصبح أنا وإخوتي مشردين في الشوارع أو في بيوت الأقارب.
وفي بلادنا لا تزيد نسبة من يمارسون تعدد الزوجات على ٢٪ من الرجال. إذن التعدد ليس هو القاعدة بل الاستثناء، فلماذا يكون القاعدة القانونية؟!
إن ٩٨٪ من الرجال في بلادنا لا يمارسون التعدد، فهل يعني ذلك أننا لسنا في حاجة إلى قانون يمنع التعدد؟ إن مهمة القانون هي إرساء المبادئ الأخلاقية القائمة على العدل واحترام حقوق الإنسان، المرأة والرجل وليس الرجل وحده. إن القانون العادل شرط ضروري لاستقامة الحياة بصرف النظر عن نسبة المخالفين. ولماذا نصدر قوانين لمنع السرقة إذا كانت نسبة اللصوص من المجتمع ١٠٪ فقط؟ ولماذا نصدر قانونًا يمنع القتل إذا كان ٢٪ فقط من الناس يقتلون؟! والقتل النفسي لا يقل خطورةً عن القتل الجسدي.
بعض النساء يقبلن تعدد الزوجات لأسباب مختلفة، على رأسها الأسباب الاقتصادية. إن المرأة الفقيرة التي لا تملك أن تعول نفسها تفضِّل أن تعيش الذل مع الضرة (الزوجة الأخرى) عن أن تخرج إلى الشارع بلا مأوًى. كذلك أيضًا المرأة العقيمة التي لا تنجب، أو المرأة التي تخشى الطلاق أو تخشى الوحدة أو تخشى كلام الناس. وتتربى المرأة منذ طفولتها على الخوف أو الخضوع وقبول القهر أو الألم دون أن تفتح فمها؛ مما يسبب لها ما يُسمى في الطب «الموت النفسي البطيء» أو «الاكتئاب المزمن» الذي تعاني منه معظم النساء في بلادنا.
إن أقسى أنواع الألم في حياة الإنسان (المرأة والرجل) هو قبول المقاسمة العاطفية أو الزوجية في الفراش. قد تقبل المرأة أو الرجل المقاسمة في الفلوس أو أي شيء آخر، إلا المقاسمة في الحب والجنس. ولا تختلف مشاعر الحب عند النساء والرجال، ويقوم الحب على الإخلاص والوفاء من الطرفين وليس من طرف واحد.
إن الفراش مكان مقدس عند المرأة والرجل المحترمين الفاضلين؛ لأنه مكان الحب والإخلاص والوفاء، لأنه مكان الفضيلة والصدق والأخلاق، إنه المكان الوحيد الذي لا يقبل الزيف أو الظلم.
ومن هنا الحكمة الإلهية التي تمنع التعدد بوضوح وحسم؛ لأن العدل مستحيل في الفراش بين الزوجات، وقد يعدل الرجل بين زوجاته في الفلوس لكن كيف يعدل في الفراش أو في الحب؟!
لهذا لا يمكن أبدًا للمرأة الحرة المعتزة بكرامتها وأنوثتها وإنسانيتها أن تستقبل في فراشها رجلًا يعاشر نساءً أخريات، وبالمثل أيضًا لا يقبل الرجل الحر ذو الكرامة أن يستقبل في فراشه امرأة تعاشر رجالًا آخرين.
إن التعددية الجنسية تتناقض مع الفضيلة إن حدثت طواعيةً، فما بال أن تحدث بالإكراه أو قوة القانون كما هو الحال عندنا في تعدد الزوجات؟ هذا التعدد نوع من التعذيب المبني على العنف، عنف القانون الظالم، الذي يعاقب المرأة لمجرد أنها امرأة أو لمجرد أنها فقيرة أو عقيمة، وعلينا أن نبحث عن علاج الفقر أو العقم بالطرق العلمية والاقتصادية السليمة وليس بالتعددية. إذا كان الرجل فقيرًا أو عقيمًا فهل يسمح القانون لزوجته أن تجمع بينه وبين رجل آخر؟ إن الرجل العقيم لا ينجب وبالتالي فإن مسألة الخلط بين الأنساب غير واردة في هذه الحالة، لكن القانون يمنع الجمع بين زوجين وإن كان أحدهما أو كلاهما عقيمًا؛ لأن المشكلة ليست الخلط بين الأنساب بقدر ما هي الحفاظ على كرامة المرأة، وهل تختلف الفضيلة؟ والسؤال هو: هل تزيد كرامة الرجل على كرامة المرأة؟ وهل تختلف الفضيلة باختلاف الجنس أو النوع؟
إن كرامة الإنسانية واحدة، والفضيلة واحدة مقياسها واحد على جميع الناس بصرف النظر عن الجنس أو الطبقة أو العرق أو العقيدة … إلخ.
إن ازدواجية المقاييس الأخلاقية تتناقض مع جوهر الأخلاق وجوهر الفضيلة. ولا أدري كيف يعارض بعض الرجال إصدار قانون يتمشى مع جوهر الفضيلة ويساعد على إصلاح حال الأسرة المسلمة ويحميها من التفكك؟!