على مفكرات الإسلام أن يقرأن التاريخ١
دار حوار مع مفكرات الإسلام في عدد … ص٥، هؤلاء المفكرات جميعًا لم يتفقن على قضية واحدة، واختلفن جميعًا حول عمل المرأة وزينتها وخروجها ولباسها … ودورها في المجتمع، ولم يتفقن حتى على تفسير الأحاديث النبوية المتعلقة بالمرأة والتي طُرحت خلال الحوار.
لكن هذه المشكلة — وهي تعدد الآراء والمدارس داخل الإسلام أو داخل علم التفسير — ليست سمة خاصة بالمفكرات من النساء فحسب، وليست مقصورة على ما يخص قضايا المرأة فقط، ولكنها تشمل أيضًا المفكرين الرجال، وقضايا الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وهي ليست على الإسلام وحده ولكنها تشمل الأديان الأخرى.
إن علم التفسير في الإسلام علم واسع كبير يضم الكثير من المدارس والاجتهادات البشرية على مر العصور؛ ولذلك فهي قد تخطئ وقد تصيب، ومن ذا الذي يحدد الخطأ والصواب في كل عصر؟
إنهم رجال الدين الذين يملكون سلطة الإعلام في أي عصر، سواء كان الإعلام من فوق مئذنة أو من فوق شاشة التليفزيون أو ورق الصحف.
ولهذا السبب طالب بعض المفكرين المسلمين بإلغاء علم التفسير كليةً؛ لأنه من صنع البشر، ولأنه يفسر القرآن والأحاديث النبوية بما يتمشى مع أهواء أصحاب السلطة، وهكذا تحول الإسلام من دين العقل والعدل إلى سيف في يد أصحاب السلطة ورجال الدين.
ويمتاز الإسلام عن غيره من الأديان بأنه ينكر وظيفة رجال الدين تمامًا، ويجعل الإنسان (رجلًا أو امرأةً) مسئولًا مسئولية مباشرة أمام الله عن فهمه للإسلام، فإن أخطأ رجال الدين في التفسير وتبعهم شخص ما فإن هذا الشخص هو المسئول عن الخطأ وليس رجال الدين.
سمعت هذا الكلام من أبي وأنا تلميذة صغيرة، وقرأته فيما بعد في الكتب الإسلامية، كلها، فليس هناك من إجماع في المدارس الإسلامية على أمر أكثر من هذا الأمر، وهو مسئولية الإنسان عن فهمه للقرآن والأحاديث وعدم مسئولية رجال الدين وعدم وجود وظيفة أصلًا لرجال الدين.
ولهذا، فإن واجب هؤلاء المفكرات الإسلاميات أن يفسرن القرآن والأحاديث النبوية بعقولهن وليس بعقول رجال الدين أو علماء التفسير.
وعلى المفكرات الإسلاميات أيضًا أن يقرأن التاريخ، وخاصةً تاريخ الأديان، مثل الدين اليهودي مثلًا، حتى يدركن أصل بعض العادات أو القيم التي نتصورها نشأت في الإسلام مع أنها لا علاقة لها بالإسلام.
مثلًا ختان الذكور لم يكن فريضة دينية قبل كتاب التوراة. نشأت فكرة ختان الذكور في المجتمعات البدائية العبودية لأسباب صحية وقائية بحتة، كانت هذه المجتمعات صحراوية وشبه صحراوية تعاني الجفاف وقلة الماء، بدأت عملية ختان الذكور لمنع التلوث بسبب انعدام وسائل التنظيف أو ندرتها. كانت إجراءً طبيًّا سليمًا في تلك المجتمعات الشحيحة المياه، ونجحت في مقاومة الأمراض العضوية أو التناسلية على نحوٍ ما، والتي كان من شأنها أن تهدد حياة الذكور وتزيد من مخاطر الجراثيم غير المعروفة في ذلك الوقت.
ولم تصبح عملية ختان الذكور فريضة دينية إلا على يد اليهود خلال الألف الثانية قبل الميلاد.
وبالمثل أيضًا فكرة حجاب المرأة؛ فقد نشأت في التاريخ البدائي القديم لأسباب صحية وقائية، ثم اكتسبت على يد اليهود صفة دينية.
لم يكن في وسع النساء في المجتمع الصحراوي الشحيح الماء أن يجدن وسائل النظافة الكافية خاصةً في فترات الطمث والولادة؛ ولهذا تقرر عزل المرأة فيما يشبه الحجر الصحي خلال أيام الولادة والطمث.
لكن اليهود حوَّلت هذه العملية الصحية حينئذٍ إلى قيمة دينية، وتصور اليهود أن الطمث نوع من المرض أو عقاب المرأة على خطيئتها الأولى «الأكل من الشجرة المحرمة وإخراج آدم من الجنة»، ونظرت التوراة إلى طمث المرأة باعتباره نجاسة، ودخل تحت خانة الأمراض المُعدية مثل الدرن والجدري والسيلان وغيرها.
وجاء في التوراة ما يلي: «وكلم الرب موسى قائلًا: … إذا حبلت المرأة وولدت ولدًا تكون نجسة سبعة أيام كما في أيام طمث علتها تكون نجسة … ثم تقيم ثلاثة وثلاثين يومًا في دم تطهيرها … كل شيء مقدس لا تمس … وإلى المقدس لا تجئ … وإن ولدت أنثى تكون نجسة أسبوعين، كما في طمثها، ثم تقيم ستة وستين يومًا في دم تطهيرها. ومتى تمت أيام تطهيرها … تأتي بخروف وفرخ حمامة أو يمامة، ذبيحة خطية إلى الكاهن. فيقدمها أمام الرب ويكفر عنها.»
وعرفنا من التاريخ أن الكاهن هو الذي كان يأكل الخروف أو الفرخ أو اليمامة وليس الرب. لكن فكرة عزل المرأة اتخذ شكلًا دينيًّا وتطور من عزل المرأة إلى فرض الحجاب عليها، واتخذ هذا الحجاب شكل تغطية رأس المرأة أساسًا، مع أن الرأس ليس عورة وليس عضوًا جنسيًّا.
لكن تغطية رأس المرأة في الدين اليهودي ارتبطت بمصالح الكهنة؛ لأن المرأة حين تغطي رأسها تمامًا — بما فيه الوجه والعينان — لا ترى مَن الذي يأكل الذبيحة التي أتت بها.
وتظن أن الرب هو الذي أكلها وليس الكاهن.
كما ارتبطت مصالح الكهنة وحصولهم الدائم على هذه الذبائح بالعمليات الصحية الوقائية مثل ختان الذكور وعزل النساء.
وكان لا بد لهؤلاء الكهنة من الاستمرار في هذه الإجراءات إلى الأبد رغم توافر المياه ووسائل النظافة فيما بعد لضمان ورود الذبائح وإن تلاشت الأسباب الأصلية لهذه العمليات مثل قلة المياه وعدم وجود وسائل نظافة.
وهكذا أضفى الكهنة — وكانوا هم الأطباء أيضًا — على هذه العمليات الصحية الصفة الدينية أو القدسية.
وتعلمت أجيال اليهود المتعاقبة على يد الكهنة أن ختان الذكر واجب مقدس، وأن جسد المرأة — وليس دمها فقط — خطيئة كبيرة في عين الرب، وأن عين الرب تتأذى من منظر المرأة وبالذات الرأس.
ولماذا الرأس؟ وأجاب الكهنة: لأن الرب خلق المرأة ناقصة، وأهم ما ينقصها هو العقل أو الرأس؛ ولهذا عليها أن تشعر بالخزي من نقصها وتغطي رأسها!
ولكن إذا كانت المرأة قد خُلقت ناقصة بغير رأس وزوجها هو رأسها كما قال الكهنة، فكيف تغطي شيئًا غير موجود أصلًا؟!
وهكذا من دراسة التاريخ يمكن لنا أن نعرف الكثير، ويمكن لمفكرات الإسلام أن يدركن أن عزل المرأة بالبيت لا علاقة له بالإسلام، وأن حجاب المرأة كذلك.
أما أن تنادي مفكرات الإسلام بأن ترتدي المرأة الحجاب أو النقاب حمايةً لها من حوادث الاغتصاب فهذا أيضًا مخالف للعقل والمنطق الذي دعا إليه الإسلام … وكلنا نعرف أن الفتاة التي تعرضت للاغتصاب أو هتك العرض أو ما شابهه في ميدان العتبة كانت ترتدي الحجاب وكانت تصلي وتؤدي الفرائض جميعًا، بل وتدعو إخوتها لذلك أيضًا.
علينا أن نعالج المشاكل الاجتماعية علاجًا علميًّا سليمًا سواء كانت مشاكل مخدرات أو اغتصاب أو سرقة أو رشوة أو فساد أو غيرها.
إن قطعة من القماش تلف بها المرأة رأسها لن تقضي على هذه المشاكل الاجتماعية الخطيرة أو تلغي أسبابها الاقتصادية أو السياسية.
وإن الحماية الحقيقية للمرأة هو عقلها ووعيها وعملها وإرادتها وشجاعتها وقوتها في مواجهة المشاكل وليس الاختفاء وراء حجاب.
إن أخلاق المرأة القوية الحقيقية تُمتحن حين تواجه الحياة والمشاكل وليس داخل الجدران الأربعة.
إن الفضيلة بالإكراه كذب، وليس أدل على فضيلة المرأة من قدرتها على حماية نفسها بنفسها وإدراكها المسئولية وعدم إلقاء مسئوليتها على غيرها؛ فالإنسان رجلًا أو امرأةً مسئول مسئولية شخصية أمام الله عن أعماله وعن فهمه للإسلام وليس رجال الدين.