حقوق المرأة لم تكن فقط … ثمرة كتابين لقاسم أمين!١
أصبح الحديث عن حقوق المرأة مشروعًا هذه الأيام بسبب ما حدث لقانون الأحوال الشخصية. وقد آثرت أن أترك القلم لأخوض تجربة العمل الشعبي وسط النساء؛ فالنضال من أجل تحرير الإنسان (المرأة أو الرجل) له أشكال متعددة، منها الكلمة المطبوعة التي تُقرأ في صحيفة أو بيان، ومنها الكلمة المنطوقة التي تُسمع في الاجتماعات. وقد تكون الكلمة المطبوعة أوسع انتشارًا بين الناس، لكن الكلمة المسموعة في الاجتماعات الشعبية أقوى أثرًا في النفوس والعقول. ولا يزال النضال بالكلمة المكتوبة أسهل أشكال النضال، وليس من الصعب على الكاتب أن ينشر على الناس عبارات منطقية يؤمن بها الجميع، مثل: الديمقراطية هي مشاركة الشعب في وضع القوانين، وعلى النساء كنصف المجتمع أن يشاركن الشعب في وضع مشروع جديد للأحوال الشخصية. هذه العبارات سهلة ميسورة فوق الورقة، لكن تطبيقها في الواقع الحي أمر بالغ الصعوبة. والمشكلة أن الكتابة وحدها لا تكفي لتعريف النساء أو الرجال بحقوقهم السياسية والاجتماعية؛ فالمعرفة لها جناحان لا ينفصلان، هما: الوعي النظري بالحقوق، والوعي العملي بكيفية الحصول على هذه الحقوق. ومن هنا أهمية الحركة الشعبية نساءً ورجالًا من أجل المشاركة في وضع قانون متطور للأحوال الشخصية. وكلمة «الأحوال الشخصية» — في رأيي — خاطئة أو قاصرة؛ لأن الأحوال الشخصية في حياة الناس لا تنفصل عن الأحوال العامة؛ فالأسرة وحدة اجتماعية سياسية اقتصادية ثقافية. الأسرة هي نواة المجتمع، أو دعامته، ولا يمكن فصل الدعامة عن الشيء ذاته.
قانون سياسي وشخصي في آنٍ واحد
ولهذا السبب لاحظنا أن الصراع حول قانون الأحوال الشخصية شمل المجتمع بأسره، وانعكست عليه جميع الصراعات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والنفسية. إنه قانون سياسي وشخصي في آنٍ واحد؛ فهو يمس صميم حياة البشر رجالًا ونساءً وأطفالًا … ولا يمكن الإحاطة بالمشكلة الراهنة حول هذا القانون دون الإحاطة بمشكلات المجتمع العامة ومشكلات الإنسان الخاصة؛ ولهذا فإني أختلف مع بعض الكُتَّاب الذين حمَّلوا المرأة المصرية وحدها مسئولية النضال لتطوير هذا القانون، إنها مسئولية النساء والرجال معًا، وهي مسئولية الحركة السياسية الوطنية المصرية بأسرها وليس فقط الجمعيات واللجان النسائية أو المهتمين بالشئون الاجتماعية. إن الفصل بين الشئون الاجتماعية والشئون السياسية إنما هو فصل نظري فحسب، وفي الحياة الواقعية للبشر ليس هناك فصل بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي. ولقد قرأت معظم ما كُتب عن قانون الأحوال الشخصية في الفترة الأخيرة، ولاحظت أن أقلام الرجال ساهمت في القضية بمثل ما ساهمت أقلام النساء، ورفض الكثيرون من الكُتَّاب تيار المزايدة الدينية على حساب القيم الحضارية العريقة لمجتمعنا المصري، وعلى حساب جوهر الدين والشريعة الإسلامية الحقة التي تحكم بالعدل بين الناس بصرف النظر عن اللون أو الجنس أو الطبقة أو العرق.
الأفكار المستنيرة
في خضم الصراع الفكري حول قانون الأحوال الشخصية ظهر لنا بوضوح أن تيار المزايدة خافت وباهت إلى جوار تيارات الأفكار المستنيرة والعقول الواسعة الأفق الحريصة على تقدم المجتمع وسلامة الأسرة وحقوق الإنسان، المرأة والرجل على السواء. وقد برز في هذا المجال الدكتور حسين أمين بمقالاته المتعددة عن كرامة المرأة وقانون الأحوال الشخصية وتاريخ ظهور الحجاب. وأنا أتفق تمامًا مع حسين أمين في أن دراسة التاريخ تؤكد أن فكرة تحجيب النساء ليست إسلامية وإنما هي فكرة نشأت في المجتمع العبودي القديم في اليونان والرومان، ولي بعض الدراسات المنشورة أوائل السبعينيات في هذا المجال. وكان البيت أو الأسرة عند قدماء الرومان اسمه «الفاميليا» ويتكون من الرجل وعدد من الزوجات والسراري والأولاد من الزوجات والإماء وزوجات الأولاد والأحفاد بالإضافة إلى العبيد. ويرأس هذا البيت الأب ويُسمى «روش» أي «رأس»، وله سلطة مطلقة ويملك زوجاته وبناته وأولاده ملكية مطلقة. وقد عرف الإنسان (الرجل والمرأة) الحجاب قبل ظهور الأديان السماوية. وكتب التاريخ القديمة مملوءة بأخبار الحجاب الذي كان يُتخذ لستر جسم الإنسان أو يُتخذ للوقاية من الحسد، ويشترك فيه الرجال والنساء. وأخبار البرقع جزء من الأخبار عن حجاب العزلة في المنازل وخارج المنازل في الطرقات والأسواق. وكان اليونان في العصر العبودي القديم ممن فرضوا هذه العزلة على نسائهم، وكان الرومان يسنُّون القوانين التي تُحرم على المرأة الظهور بالزينة في الطرقات قبل ميلاد المسيح بمئات الأعوام، ومنها قانون عُرف باسم «أوبيا»، وبالَغ الأثرياء من الأقدمين في العصور العبودية في تحجيب زوجاتهم، وتسريح الإماء (أي سفورهن وبهرجتهن)، وقال عباس محمود العقاد في ذلك: «حجبوا المرأة ضنًّا بها وسرحوها هوانًا عليهم لأمرها، وأوشك إعزازها أن يكون شرًّا عليها من هوانها.»
لماذا تغطي المرأة رأسها؟
وكانت الفلسفة اليهودية هي أول فلسفة دينية تعتنق فكرة تحجيب المرأة. وجاءت الفكرة من فكرة أخرى هي تأثيم حواء؛ لأنها ساقت آدم إلى «الخطيئة»، وصورت المرأة على أنها الجسد الآثم والرجل هو الروح الطاهرة، وهو صورة كاملة من الله، وأن المرأة لا تصبح صورة من الله إلا إذا انضم إليها زوجها الذي هو رأسها. وترتكز هذه الفكرة على الآية في التوراة التي تنص على أن يُصلي الرجل لله دون أن يغطي رأسه لأنه صورة من الله، أما المرأة فلا بد أن تغطي رأسها وهي تُصلي. وفُسِّر ذلك بأن المرأة ناقصة، والذي ينقصها بالذات هو الرأس أو العقل. ويفسر فلاسفة اليهودية النص في العهد القديم الداعي إلى أن تغطي المرأة رأسها احتقارًا لهذا الرأس المدنس. وفي العهد الجديد أيضًا كلمات تقول: «لا حاجة بالرجل إلى تغطية رأسه فهو صورة الله. ولم يُخلق الرجل من أجل المرأة، بل خُلقت المرأة من أجل الرجل؛ ولهذا وجب على المرأة أن تلبس نقابًا على رأسها.»
وليس في القرآن كلمات مثل هذه الكلمات المحددة التي تدعو إلى تحجيب النساء، فهل يمكن بعد كل ذلك أن تقول عن الحجاب إنه الزي الإسلامي للمرأة؟
لا شك أننا جميعًا ضد البهرجة وتحويل المرأة إلى أداة للإعلان أو الإغراء، ولا شك أننا جميعًا مع الاحتشام في ملبس الإنسان رجلًا كان أو امرأةً، لكننا أيضًا ضد عدم الفهم أو عدم دراسة التاريخ وفرض الحجاب على المرأة تحت اسم الإسلام.
جوهر الإسلام والشريعة
ويرتكز جوهر الإسلام والشريعة على العدالة، وتقتضي العدالة أن أية شركة تتم بإرادة طرفين لا يمكن أن تُفض إلا بإرادة الطرفين. والزواج شركة تتم بإرادة الرجل والمرأة، فكيف تُفض بإرادة طرف واحد هو الرجل؟
وعلى هذا الأساس الجوهري للعدالة في الدين الإسلامي استطاعت بلاد إسلامية كثيرة أن تجعل الطلاق أمام القاضي، وأن يكون حق الرجل والمرأة على السواء وليس الرجل وحده. ومن هذه البلاد تونس والعراق وسوريا واليمن والصومال وغيرها. وفي مصر عام ١٩٢٨ وضع شيخ الأزهر «محمد مصطفى المراغي» مشروع قانون يمنع تعدد الزوجات إلا بإذن من القاضي. وقد هاجم الشيخ محمد عبده تعدد الزوجات والطلاق كحق مطلق للرجل في أوائل هذا القرن، وتعرض الشيخ محمد عبده لكثير من الهجوم من رجال الدين في ذلك الوقت، لكنه لم يتردد في الاستمرار في دعوته، ومقاومة السلطة المطلقة للرجل داخل الأسرة.
ويمكن القول إن دعوة الشيخ محمد عبده منذ ثمانين عامًا كانت أكثر تقدمًا وفهمًا للإسلام من كثير من الدعوات التي نسمعها اليوم.
إن السلطة المطلقة داخل الأسرة تجعل الرجل هو الآمر الناهي والمرأة هي المطيعة متلقية الأوامر. وفي هذا الجو الدكتاتوري يتربى الأطفال ويكبرون. يقلد الأبناء منهم الآباء، وتقلد البنات منهن الأمهات. ولا يمكن بعد ذلك تحقيق الديمقراطية في المجتمع؛ فالديمقراطية ليست عضوًا ينبت فجأة تحت قبة البرلمان بواسطة قرار، ولكنها سلوك ينتهجه الإنسان منذ الطفولة وفي جميع مراحل العمر. وهل يمكن أن نعرف الديمقراطية في حياتنا السياسية العامة إذا لم نعرفها في حياتنا الشخصية الخاصة؟
إذا كانت بيوتنا ومدارسنا غير ديمقراطية، فهل يمكن أن يكون البرلمان ديمقراطيًّا؟ …
كما أن السلطة المطلقة تفسد الإنسان لأنها تفصل بين المسئولية والقوة. إن سلطة الرجل المطلقة في الطلاق وتعدد الزوجات تشجعه على عدم الإحساس بالمسئولية تجاه زوجته وأطفاله، فإذا به قادر على إنهاء الزواج في لحظة غضب أو لمجرد نزوة طارئة.
وأنا أتفق مع الأستاذ حسين أمين في قوله بإحدى مقالاته بالمصور أن الحقوق التي تأتي من علٍ لا تبقى وليست أهلًا للبقاء. ولكنني أتساءل: هل قانون «الأحوال الشخصية» هو القانون الوحيد الذي ينطبق عليه هذا القول؟ ولماذا المرأة دائمًا هي أول من يدفع ثمن الصراع بين القوى السياسية المختلفة؟ ألأن النساء ليس لهن قوة سياسية ذات بال؟!
نضال المرأة المصرية
ويقول الأستاذ حسين أمين أيضًا: «إن المرأة الأوروبية أو الأمريكية لم تنل حقوقها وحريتها إلا بعد كفاح مرير لعدة قرون، أما المرأة المصرية فإن حقوقها لم تكن ثمرة كفاح حقيقي على مر السنين، ولا جزاءً على مشاركة حيوية للرجل في جهاد ضد العدو، وإنما جاءت نتيجة كتابين أو ثلاثة صدرت في أوائل هذا القرن، مؤلفوها رجال، ونشاط بعض النسوة من زوجات الأكابر.»
وهنا أختلف مع الأستاذ حسين أمين، فالمرأة الأوروبية أو الأمريكية رغم نضالها الطويل لم تنل حقوقها بعد، ولا تزال تناضل حتى اليوم ضد المجتمع الطبقي الأبوي المتمثل في المجتمع الرأسمالي، أما كفاح المرأة المصرية فلا يقل عن نضال النساء في الغرب، لكن التاريخ كثيرًا ما يتجاهل حركة النساء في بلادنا. وقد شهدتُ كيف تجاهلت أجهزة الإعلام والصحف حركة النساء المصريات على مدى الشهور الماضية لحماية حقوقهن الجزئية داخل قانون الأحوال الشخصية الذي أُلغي لعدم دستوريته. شهدتُ النساء وهن ينظمن الاجتماعات ويصدرن البيانات ويجمعن التوقيعات. حدث ذلك في العلن، لكن عين التاريخ كانت مغمضة عن حركة النساء المصريات، وعيون الكُتَّاب الرجال والنساء كانت أيضًا مغمضة «إلا أقل القليل». ولم يسمع التليفزيون المصري عن اجتماعات النساء المصريات، لكن التليفزيون الياباني سمع عنها وسجل أحد هذه الاجتماعات في جمعية هدى شعراوي يوم ١٥ مايو الماضي، وحضر هذا الاجتماع أكثر من ٤٠٠ امرأة مصرية، وطالبن بتكوين الاتحاد النسائي المصري، وتنظيم مسيرة لمجلس الشعب.
وإذا تجاهل التاريخ نضال المرأة المصرية اليوم فهل يذكر نضالها بالأمس أو القرن الماضي أو أوائل هذا القرن؟
إن قراءة جديدة للتاريخ تكشف عن أن المرأة المصرية ناضلت داخل ثورات العبيد وداخل الثورات التحريرية ضد الاستعمار القديم والجديد. وفي ثورة ١٩١٩ خرجت النساء المصريات في مظاهرة ضد الاستعمار البريطاني. خرجت الفلاحات مع الرجال إلى الطرق الزراعية يقطعن أسلاك التليفون وينزعن قضبان السكك الحديدية ليحجزن قطارات السلطات الإنجليزية. وقد هجم بعض هؤلاء النساء على المراكز التي اعتُقل فيها الثوار المصريون وسقطت بعضهن قتلى وجرحى برصاص الإنجليز. ومن شهيدات ثورة ١٩١٩: شفيقة محمد التي قتلها الإنجليز يوم ١٤ مارس ١٩١٩، وحمدية خليل من كفر الزغاري بالجمالية، وسيدة حسن، وفهيمة رياض، وعائشة عمر، وغيرهن من المناضلات المصريات الفقيرات اللائي يتجاهلهن التاريخ.
ودور هدى شعراوي ودرية شفيق وسيزا نبراوي وأمينة السعيد من أجل تحرير المرأة بارز في غير حاجة إلى تعريف. ولا يمكن لأحد أن ينكر دور الكاتبات المصريات وعشرات بل مئات من الأقلام النسائية العلمية أو الأدبية.
وقد شاركت المرأة في النضال بقلمها منذ بداية هذا القرن، ومن هؤلاء النساء: عائشة التيمورية، ثم جاءت بعدها زينب فواز. أما ملك حفني ناصف التي اشتُهرت باسم باحثة البادية (١٨٨٦–١٩١٨) فقد شاركت بقلمها القوي في الكتابة من أجل رفع الظلم عن المرأة، وكانت معاصرة لقاسم أمين وأصبحت آراؤها تكملة لدور رفاعة الطهطاوي. وكانت أكثر تقدمًا من الطهطاوي وقاسم أمين؛ لأنها اعتبرت دعوة الطهطاوي إصلاحًا، أما قاسم أمين فقد اعتبرها تحريرًا. وقد نبغت ملك حفني ناصف في التأليف إلى حد أن لطفي السيد قال إن كتاباتها صورة للكاتبات العربيات اللائي تفوَّقن على كثير من الكُتَّاب الرجال.
ومن المناضلات بالقلم كانت «مي زيادة» التي استطاعت برغم تخلف نظرة المجتمع للمرأة واعتبارها «ناقصة العقل» أن تفرض وجودها العقلي في مصر عام ١٩١٥. كانت أمها من فلسطين وأبوها من لبنان، ومع ذلك فرضت وجودها الفكري في مصر في وقت ضُرب فيه الحجاب على مثيلاتها من النساء المصريات.
ودفعت «مي زيادة» ثمن نضالها الفكري والأدبي غاليًا من حياتها، وماتت في ريعان شبابها بعد أن اتُّهمت بالجنون وأدخلوها أحد المستشفيات العقلية، وكتب الأطباء تقريرًا ينفي إصابتها بأي مرض عقلي، ومع ذلك لم يخرجها المستشفى بحجة أن تقوى صحتها، ولم تترك مي زيادة بعد موتها إلا كتاباتها وأشعارها ولوحاتها ومحاضراتها التي ألقتها في بيروت والقاهرة عن الأدب والفن واستقلال المرأة.
ولم يختلف مصير مي زيادة عن مصير فيرجينيا وولف الكاتبة الإنجليزية الرائدة، أو درية شفيق المناضلة المصرية من أجل حقوق المرأة، وغيرها من المفكرات والمناضلات في العالم.
مؤتمر عام للرجال والنساء المستنيرين في مصر
لا شك أن إلغاء قانون الأحوال الشخصية (الأفضل أن نسميه قانون الأسرة) قد حرك أقلامًا كثيرةً من الكُتَّاب ذوي العقل المستنير، وأحدهم هو الأستاذ حسين أمين. لقد ساهموا جميعًا بأقلامهم واتساع أفقهم أن يقنعوا الكثيرين بحق المرأة والأسرة والأطفال، ويكشفوا عن جوهر الإسلام الحق وعن زيف المزايدة الدينية.
وما أحوجنا في هذه الأيام إلى جميع العقول المستنيرة! فلماذا لا يتجمع الرجال والنساء الحريصون على سلامة هذا المجتمع في مؤتمر عام لمقاومة تيار المزايدة الذي يحاول أن يشد بلادنا إلى الوراء؟