الحفاظ على قيم العائلة في أمريكا١
وأنا في التاسعة من عمري كنت أسمع جدتي الفلاحة تقول إن «ربنا هو العدل عرفوه بالعقل.» كان عمدة قريتنا خادمًا لنظام الحكم حينئذٍ «الملك والإنجليز»، كان يظلم الفلاحين وينهب عرقهم طول العام تحت اسم الطاعة والولاء لله والوطن. كانت جدتي تشقى في الأرض هي وبناتها الست ثم لا تجد في النهاية إلا العيش الناشف والجبنة الحادقة، والديون تدفعها للعمدة. شوَّحَت جدتي بيدها في وجه العمدة وصاحت: ده ظلم يا عمدة! ربنا هو العدل عرفوه بالعقل! لكن العمدة كان يقول لها إن ربنا هو الطاعة.
إن الفقراء والمقهورين من النساء والرجال يرون الله على أنه «العدل»، لكن الحكام ذوي السلطة من الرجال والنساء في الدولة أو في العائلة يرون الله على أنه الطاعة.
الفرق شاسع بين المفهومين؛ بين مفهوم العدل ومفهوم الطاعة.
منذ نشوء العبودية حتى اليوم، في الولايات الأمريكية المتحدة أو في أوروبا أو آسيا أو أفريقيا، دار الصراع بين هذين المفهومين.
تكاد تؤكد القيادات السياسية والإعلامية أن غياب أو اضمحلال قيم العائلة أو القيم الأسرية هي السبب وراء جميع المشاكل العامة والخاصة، ابتداءً من الأزمة الاقتصادية والديون والتضخم إلى انحراف الشباب والمخدرات والإدمان والجريمة … إلخ.
ليس السبب هو النظام السياسي الاقتصادي العسكري الذي يزيد الهوَّة بين الأغنياء والفقراء داخل أمريكا (وفي العالم أجمع)، ليس السبب هو الظلم الطبقي الأبوي الذي يفرِّق بين الناس داخل أمريكا على أساس اللون والجنس والعرق والطبقة والدين … إلخ، ليس النظام الاقتصادي الذي يُسمي نفسه باقتصاد السوق الحر؛ أي حرية القوي الغني أن يبطش بالفقير الضعيف، ليس الإعلام الأمريكي الذي يكسب البلايين من أفلام الجنس والجريمة، ليس كل ذلك، بل إنه غياب قيم العائلة.
فكر في ذلك أنور السادات في مصر حين كان يقول إن غياب «قيم القرية» هو السبب في مشاكلنا. وأطلق على نفسه اسم «رب العائلة»، وقال إن «العيب» هو انتهاك قيم القرية وعلى رأسها قيم رب العائلة هذا. ووضع السادات ما أسماه «قانون العيب»، وأدخل به إلى السجون ١٣٥٦ رجلًا وامرأةً من المعارضين له في أربعة أيام فقط (من ٢–٦ سبتمبر ١٩٨١).
إن كلمة «قيم العائلة» لها صدًى وجداني عميق عند الناس؛ فالناس تتكون من عائلات، إذا غابت قيم العائلة فسوف تنهار العائلة أو الأسرة وبالتالي ينهار المجتمع.
أي خديعة يستخدمها الحكام وساسة الحكام لإخفاء الأسباب الحقيقية لأية أزمة؟!
في المؤتمر الدولي للسكان الذي عُقد في القاهرة خلال سبتمبر ١٩٩٤ توارت الأسباب الحقيقية للفقر وزيادة السكان في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية (وفي أمريكا الشمالية وأوروبا)، وبدلًا من الكشف عن النظام العالمي الاقتصادي العسكري الخطير انشغل الآلاف من المدعوِّين في المؤتمر بموضوع الإجهاض والشذوذ الجنسي والاقتران بطرق غير مألوفة.
ولا شك أن موضوع الإجهاض من الموضوعات المهمة، إلا أنه في مثل هذا المؤتمر أقل أهمية من موضوعات أخرى، وكان يجب أن يناقَش الإجهاض داخل حدود حجمه الحقيقي كمشكلة لا أن يغطي على المشاكل الأخرى.
إن الجنس أيضًا من المشاكل الصحية والاجتماعية المهمة، إلا أنه مثل الإجهاض أو أي مشكلة أخرى كان يجب ألا يتضخم إلى هذا الحد.
إن حرية المرأة أيضًا ضرورية ومهمة، إلا أنها قد تُستخدم أحيانًا لضرب حرية النساء والفقراء على حدٍّ سواء.
أي خديعة مستمرة يدفع ثمنها الكثيرون من النساء والرجال ضحايا التجهيل الإعلامي وتزييف الوعي؟!
كثير من الناس يربطون بين قيم العائلة والدين والأخلاق. كل هذه الكلمات لها هوًى وجداني عميق عند الناس؛ ولهذا تُستخدم هذه الكلمات بالذات بواسطة الحكام والساسة لضرب الناس الذين يؤمنون بها، مثل كلمة «الشرف»؛ هل هناك إنسان عاقل ضد الشرف؟ لكن السؤال: ما هو مفهوم الشرف؟ هل الصحفي الذي ينافق الحاكم شريف لمجرد أن ابنته حسنة السير والسلوك؟! أو عذراء؟
هل التاجر الذي يستورد لحومًا فاسدة ويقتل الناس شريف لمجرد أن سمعة نسائه طيبة؟!
بالمثل أيضًا كلمة قيم العائلة؛ هل هناك إنسان عاقل ضد قيم العائلة؟ لكن السؤال: ما هي قيم العائلة تلك؟!
هل الزوج الذي يطلق زوجته بلا سبب أو يتزوج عليها امرأة لإرضاء نزوة جنسية يحافظ على قيم العائلة؟! هل الزوج الذي يشرد زوجته وأطفاله ليمارس حقه في تعدد الزوجات يحافظ على قيم العائلة؟! هل الأب الذي يبيع ابنته في سوق الزواج ويفرض عليها زوجًا ثريًّا يحافظ على قيم العائلة؟! هل الأب المسيطر الذي يفرض الطاعة (وليس الجدل) على أولاده يحافظ على قيم العائلة؟!
هل قيم العائلة هي دكتاتورية الأب والزوج؟! هل قيم العائلة هي الطاعة، أو الجدل والنقاش والفهم؟
هل قيم العائلة هي أن تتزوج المرأة رجلًا لا تريده حتى لا تعيش وحدها؟!
أليست الوحدة خيرًا من جليس السوء؟ هل المرأة الأرملة هي فقط التي يحق لها الاستمتاع بالوحدة؟!
إن قيم العائلة الصحيحة يجب أن تقوم على احترام حقوق الإنسان: المرأة والرجل والطفل والطفلة والشاب والشابة. أول حقوق الإنسان هو الحرية، والحرية مسئولية.
إن الرجل الحر مسئول؛ ولذلك فإن الرجال الأحرار أكثر إخلاصًا لزوجاتهم وأطفالهم. الرجل الحر لا يشرد أطفاله وزوجته من أجل الزواج بأخرى.
إن المرأة الحرة مسئولة؛ ولذلك فإن المرأة الحرة أكثر إخلاصًا لزوجها وأطفالها. المرأة الحرة لا تشرد أطفالها وزوجها من أجل رجل آخر.
هذه هي قيم العائلة الصحيحة: الحرية، العدل، المسئولية، المساواة، الجدل، النقاش، الفهم، الاحترام، الحب … إلخ.
قيم العائلة الصحيحة ليس فيها سيطرة أو بطش أو طاعة.
إلا أن الحكام والساسة في العالم لا يريدون هذه القيم العائلية الصحيحة. إنهم يريدون قيمًا عائلية تقوم على السيطرة والبطش والطاعة.
ذلك أن العائلة هي نواة الدولة؛ إذا كان النظام الحاكم قائمًا على السيطرة والبطش والطاعة فلا بد أن النظام العائلي أيضًا يقوم على البطش والسيطرة والطاعة.
في الولايات المتحدة لا يُسمي رئيس الدولة نفسه باسم رب العائلة كما سمَّى السادات نفسه في مصر أو كما فعل الشاه في إيران، أو غيرهما من حكام العالم الثالث.
ذلك أن الناس في أمريكا لم يعودوا منخدعين بهذه الكلمات؛ لذلك يجب تغيير الكلمات لخداع الناس في أمريكا.
إن الرئيس الأمريكي مؤمن بالديمقراطية مثلًا؛ إنه رئيس ديمقراطي. كلمة ديمقراطية لها صدًى في وجدان الناس في أمريكا. إنهم يتصورون أنهم يعيشون تحت ظل نظام ديمقراطي. إن الآلاف في واشنطن ونيويورك وشيكاجو وغيرها من المدن يعيشون تحت خط الفقر، بلا بيوت، بلا عائلات، بلا تأمين صحي، بلا عمل، إلا أن الرئيس الأمريكي ديمقراطي، إن الناس يمكن أن تنقد هذا الرئيس. إن الإعلام الأمريكي يمكن أن يتحدث عن عشيقة الرئيس الأمريكي، لكن الإعلام الأمريكي لا يمكن أن يتحدث عن مساوئ الرأسمالية أو السوق الحر أو الخصخصة أو أسباب الفقر الحقيقية داخل الولايات المتحدة وأسباب الفقر الحقيقية في أفريقيا أو آسيا أو أمريكا الجنوبية.
رغم الإعلام المكثف في الولايات المتحدة حول مؤتمر السكان الدولي في القاهرة ١٩٩٤، فإن أسباب الفقر الحقيقية لم تُناقَش. لم يتحدث عنها.
إن أسباب الفقر في بلادنا هي ارتفاع معدل خصوبة النساء، هي الزيادة السكانية وليس النظام العالمي الاقتصادي العسكري الذي يفرض الفقر على ٨٠٪ من سكان العالم تحت اسم الحرية أو السوق الحر (حرية الأقوى لفرض القيود على الأضعف).
إن الولايات المتحدة تريد أن تفرض على مصر (وغيرها من دول ما يُسمى العالم الثالث) أن تفتح أسواقها دون قيود للسلع الأمريكية، لكن أمريكا تفرض القيود على مصر وغيرها من دول العالم!
إن أمريكا تفرض على كوريا الشمالية أن تفتح معاملها النووية للفحص الأمريكي، لكن الترسانة النووية في الولايات المتحدة أو في إسرائيل لا يفحصها أحد!
أي خديعة تحدث تحت اسم السلام العالمي. إن كوريا الشمالية هي التي تهدد السلام العالمي وليس إسرائيل أو الولايات المتحدة التي تملك أكبر قوة مسلحة في العالم، والتي لا تتردد في غزو جزيرة صغيرة في المياه الأمريكية (هايتي)، وتجمع معها ٢٤ جيشًا من جيوش العالم لغزو هذه الجزيرة الصغيرة.
إنها لم تتردد في ضرب العراق بواسطة جيشها ومعها ثلاثون جيشًا من جيوش العالم، ولا تزال تجمع الجيوش لضرب الدول وتجويع الشعوب.
إن شعوب العراق وليبيا وكوبا يتم تجويعهم تحت سمع وبصر العالم دون أن يتحرك أحد.
لكن العالم قام وقعد لأن امرأة أجهضت نفسها. قام الفاتيكان والبابا ورجال الأديان؛ كيف يُقتل الجنين؟ قتل الروح حرام!
أي خديعة تحت ستار الأديان أو الأخلاق أو قيم العائلة في كل مكان؟!