وجاءت الأميرة بعد ساعتين١
إلى مكتبي بجامعة «ديوك» جاءتني الدعوة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس بالرباط. هناك مؤتمر دولي حول «المرأة في أبريل ١٩٩٥» وعليَّ إلقاء كلمة في اليوم الأول عن الإبداع وحرية الاختلاف.
لم أكن أعرف أن المؤتمر سوف يُفتتح رسميًّا بحضور إحدى الأميرات من الأسرة الملكية. ركبت الطائرة من ديرهام، اجتازت بي المحيط الأطلنطي وقارة أوروبا والبحر المتوسط، قضيت في الجو ثلاث عشرة ساعة قبل أن أهبط في مطار الدار البيضاء، ومنها ركبت السيارة مع لجنة الاستقبال إلى فندق «تيرمونوس» بالقرب من القصر الملكي.
منذ الملك فاروق وأنا أكره لفظ صاحب الجلالة، خاصةً إذا ارتبط بكلمة الله والوطن. منذ أعوام قليلة دُعيت إلى مؤتمر أدبي نسائي في مدينة «فاس» ودهشت حين رأيت الكلمات الثلاث «الله الملك الوطن» فوق الجبل منقوشة على الحشيش الأخضر والحجر الأصفر كأنما هي جزء من الطبيعة.
بيني وبين المغرب الشقيق علاقة حب قديم منذ تعلمت حروف اللغة العربية وأنا طفلة في الرابعة من عمري.
وقرأت في المدرسة عن فاس ومراكش وطنجة المطلة على مضيق جبل طارق الذي يصل البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلنطي.
من الجو رأيت شريط الماء الذي يفصل المغرب عن جنوب إسبانيا. تذكرت الأندلس وقرطبة وغرناطة والحضارة العربية. ملأتني البهجة التي سرعان ما تبددت في اليوم الأول لمؤتمر الرباط. رأيت جموع الشباب والشابات من طلاب الجامعة واقفين في الفناء خارج قاعة المؤتمر. وقفوا على أقدامهم أكثر من ساعتين حتى وصلت صاحبة السمو الأميرة … هذه هي التقاليد الملكية المتبعة في مثل هذه المؤتمرات الرسمية وفي أي بلد عربي.
كانت كلمتي هي الأولى بعد انصراف الأميرة وحاشية البلاط الملكي، رأيت جموع الشباب والشابات واقفين في مؤخرة القاعة وتساءلت: لماذا لم يُعقد المؤتمر في قاعة واسعة من قاعات الجامعة؟ وكان الزمن المحدد لكلمتي هو عشرون دقيقة، وشعرت بالإهانة، أن أسافر هذه المسافة كلها عبر المحيط الأطلنطي لأقبع في الكرسي أنتظر وصول الأميرة أكثر من مائة وعشرين دقيقة مطبقة الشفتين ثم يقولون لي: الوقت ضيق ولكِ فقط عشرون دقيقة.
هكذا وقفت على المنصة أشعر بالغضب لأتحدث عن الإبداع. هناك علاقة بين الإبداع والغضب بشرط ألا يتحول الغضب إلى الداخل لتدمير الذات.
بدأت كلمتي بالحديث عن الغضب والصمت، قلت إن الصمت عن الإهانة هو نقيض الإبداع. إن الانتظار الطويل دون عمل نوع من العبودية. إن الإبداع لا يكون إلا في جو من الحرية بحيث يُعبِّر الإنسان عن نفسه دون خوف. إننا نتربى على الخوف منذ الطفولة، الخوف من نار جهنم، والخوف من عصا الأب أو الأم التي تتحول إلى عصا المدرس في المدرسة، ثم عصا الرئيس في العمل، ثم عصا الملك أو الحاكم في الدولة. أما المرأة فهي يزيد عليها عصا الزوج.
صفق الجميع إلا واحدة من الطبقة الحاكمة كانت ملكية أكثر من الملك، فقامت بعد أن أنهيت كلمتي ونلت التصفيق الحار الطويل، قامت ودافعت عن التقاليد الملكية الموروثة عن الأسلاف بما في ذلك الانتظار بل الركوع أيضًا، إلا أن القاعة ضجت بالاعتراض، واضطرت السيدة أن تترك المنصة، ثم دعتني في قصرها الفاخر كنوع من الاعتذار، ورأيت لها صورة في غرفة الاستقبال مع صاحب الجلالة الملك.
تعودت دائمًا أنني لا أُدعى مرتين من أي جماعة في الغرب أو الشرق. أصبحت لي سمعة سيئة في الأوساط العليا بأنني أُعبر عن نفسي دون خوف.
إلا أنه لحسن الحظ هناك جماعات أخرى من الأجيال الجديدة في الغرب والشرق معًا ممن لديهم قدرة على دعوة أمثالي دون خوف. وهذا هو الأمل الجديد الذي يجعلني متفائلة طول الوقت. والذي يجعلني أندهش في كل مرة تأتيني فيها دعوة للكلام.
في الرباط كنت أرتدي ثوبًا أبيض من القطن المصري، أملك من هذا الثوب ثلاثة أبدلها اليوم بعد الآخر وأغسلها بيدي في الفندق. تصورت بعض النساء من الطبقات العليا أنني لا أملك إلا ثوبًا واحدًا هو ذلك الأبيض؛ وسُررت لذلك كثيرًا فأنا أحب أن أعلن فقري أمام الأثرياء.
يوم السبت ١٥ أبريل ١٩٩٥ نظم الطلبة والطالبات في جمعية الطلبة الباحثين في الأدب واللغة لقاءً مفتوحًا معي، ثلاث ساعات قضيتها في حوار في القاعة الواسعة المكتظة بالشباب الجامعي. قالوا لي إنها تعويض عن الوقت القصير الذي أُعطي لي في المؤتمر الرسمي. اكتشفت في هذا اللقاء أن الشباب والشابات في المغرب يقرءون كتبي، بل يردون على بعض التيارات الدينية السياسية التي تحاول تشويه أفكاري.
حضر اللقاء كثير من الطالبات والطلبة الإسلاميين المستنيرين، ساد الحوار — رغم اختلاف الآراء — كثير من الود والحرية.
سُررت لهذا الجو الصحي داخل الجامعة، إنهم يقرءون لأجيال جديدة من الأساتذة الإسلاميين ليسوا إرهابيين ولا يكفرون من اختلف معهم. أعطاني الطلبة بعض كتب أستاذ اسمه الدكتور أحمد الأبيض. دهشت حين وجدت أن هذا الأستاذ الإسلامي يستشهد بكلامي المنشور في كتبي عن المرأة. في كتابه «مقاربة إسلامية للاستلاب النسائي» يكتب الدكتور أحمد الأبيض (ص١٥) مؤيدًا كتاباتي عن أن جمال المرأة ليس هو المكياج والأزياء والغلاف الخارجي، ولكنه جمال العقل وذكاؤه وفاعليته وصحة الجسم ونظافته وتوازن النفس وسلامتها، وأن تُقلع المرأة عن أن ترى الجمال في «تراكم الشحم وتراكم الوهم وادعاء الضعف والسلبية.» هذه هي العبارة نفسها التي أخذها من كتابي «الوجه العاري للمرأة العربية» «ص٢٠٣». وفي كتاب آخر للدكتور أحمد الأبيض في السلسلة نفسها التي تُسمى «سلسلة الحوار» من منشورات الفرقان في الدار البيضاء شوال ١٤١١ الموافق أبريل ١٩٩١ ص٤٨، يقول الدكتور أحمد الأبيض تحت عنوان «من أجل خير أكبر من جغرافيا الجسد» إن المرأة ليست شيئًا أو جسدًا فحسب، ويستشهد بكلامي في كتابي «المرأة والجنس» (ص١٢٦) أن «المرأة إنسان لها عقل مبدع، وأن اليد خُلقت لتعمل وتبتكر، أما اليد التي لا تعمل شيئًا سوى أن تدلك أصابعها بالكريم فهي يد عاطلة قبيحة مهما بلغت أصابعها من النعومة والغضاضة.»
وفي فصل آخر تحت عنوان «الاعتراف بالذات» يكتب الدكتور أحمد الأبيض هذه الكلمات (ص٥٧): «ولعل أكبر دليل على عدم ثقة المرأة بنفسها — كما تقول الدكتورة نوال السعداوي — هو تلك المساحيق الكثيرة التي تحاول بها إخفاء حقيقتها، وتلك الطبقة السميكة من الطلاء التي تتنكر تحتها؛ فقد فقدت المرأة الثقة في نفسها إلى الحد الذي أصبحت فيه عاجزة عن أن تواجه الناس بوجهها الحقيقي. ومن النادر أن نجد امرأة على قدر من الشجاعة والثقة بالنفس إلى الحد الذي تخرج به من بيتها بوجه مغسول بغير مساحيق.» (المرأة والجنس، ص١٥١).
سُررت كثيرًا لهذا الوعي الإسلامي لدى الدكتور أحمد الأبيض وقدرته على الاستفادة والإفادة من كتبي عن المرأة رغم الاختلاف أحيانًا في الآراء.
قارنت كتاباته بتلك الكتابات الأخرى التي نشرها في مصر بعض المتاجرين بالإسلام والذين أصدروا كتابًا تحت عنوان «نوال السعداوي في قفص الاتهام» حاولوا فيه تشويه أفكاري وآرائي أنني أدعو إلى الإباحية وتعدد الأزواج!
وفي نهاية الندوة مع جمعية الطلبة قدموا لي هدية جميلة، وهي بطاقة عضوية في الجمعية منقوشة كالآتي:
وفي الختام وقفت طالبة وقدمت لي قصيدة شعرية مطلعها:
وابتلعت الدموع وأنا جالسة داخل ثوبي الأبيض وشعري الأبيض ومن حولي وجوه شابة يملؤها الأمل في المستقبل مثل النور الأبيض.
وتساءلت وأنا داخل الطائرة من الدار البيضاء إلى القاهرة: لماذا يحدث مثل هذا اللقاء المفتوح في المغرب ولا يحدث في جامعات أخرى في المشرق؟
هل يسبق شباب المغرب في إدراك معنى الإبداع الفكري وعلاقته بالحرية؟
وهل يمكن أن تكون الأنظمة الملكية في المغرب أكثر ديمقراطية من الجمهوريات المشرقية؟!
أم أنه لا كرامة لمبدع في وطنه؟!