المجلودون والمجلودات، الأحياء منهم والأموات١
على غلاف مجلة روز اليوسف (٥ يونيو ١٩٩٥) قرأت عبارة خففت قليلًا من الذكرى الأليمة ليوم ٥ يونيو، وهي أن «الطبيب المجلود يرد على الحكومة السعودية»، الطبيب المصري «د. محمد كامل» يفنِّد مزاعم وأكاذيب البيان الرسمي السعودي، لديه مستندات بكل كلمة يقولها ومستعد لتقديمها لأية جهة تطلبها.
ما أجمل هذا الكلام الذي سوف يؤكد لنا كيف تكذب الحكومات ذات السطوة والمال على الأفراد الذين بلا سطوة ولا مال.
إلا أن قضية فرد واحد قد أصبحت قضية عامة؛ لأن هذا الفرد الواحد تمسَّك بحقه واستمر يدافع عنه حتى آخر رمق. وهذا مَثَل يستحق التقدير. والتقدير هنا ليس مجرد كتابة المقالات ثم ننسى الموضوع، لكن التقدير هو أن نتابع قضية الدكتور محمد كامل حتى نهايتها، ألا يُغلَق هذا الملف كما أُغلقت «ملفات» وضاعت حقوق الناس تحت اسم «حالة فردية» أو عدم الإساءة إلى الدول الصديقة، أو الصالح الاقتصادي العام … إلخ.
وقرأت في عدد روز اليوسف نفسه ما كتبه «أسامة أنور عكاشة» عن أنه منذ خمس سنوات صدر قرار برفض سيناريو فيلم «سالمة يا سلامة» تحت اسم «عدم إغضاب إخوتنا في الخلية»، وأن هذا السيناريو ما زال حتى اليوم حبيس الأدراج. وهذه أيضًا ليست قضية خاصة بمؤلف واحد؛ فهناك الكثيرون من الأدباء والأديبات أُوقفت أعمالهم للسبب ذاته، بل أكثر من ذلك: أُغلقت جمعياتهم وصودرت كتبهم أو مجلاتهم، وشُوِّهت سمعتهم، واندرجت أسماؤهم في «قوائم الموت» التي نشرتها السلطات السعودية في العالم بما لها من قوة إعلامية. إحدى هذه القوائم نشرتها مجلة الناقد في لندن عام ١٩٨٩، وتشمل حوالي خمسين اسمًا من الأدباء في مصر والبلاد العربية منهم نجيب محفوظ وأدونيس ويوسف إدريس وغادة السمان ونوال السعداوي وزكي نجيب محمود وفرج فودة وغيرهم.
في حالة الدكتور محمد كامل رأينا كيف استطاعت قوة السلطة والمال أن تُحول الطبيب المصري من ضحية إلى جانٍ يتم جلده ثمانين جلدة في مكان عام رغم أن له «ملفًّا» مركونًا على مكتب خادم الحرمين ومسئولين آخرين في الحكومة السعودية والمصرية.
وكم من الملفات المركونة في سراديب الحكومة المصرية والسعودية، وكم من المجلودين والمجلودات الذين كُتمت أصواتهم حتى الموت. والجلد الجسدي قد يكون أحيانًا أخف وطأةً من الجلد النفسي أو الأدبي أو الأخلاقي. كم من رجال ونساء شُوِّهت سمعتهم وحُكم عليهم بالزندقة ومعاداة الإسلام وترويج الفساد أو الإباحية أو تعدد الأزواج. لقد صدر كتاب كبير تحت عنوان «نوال السعداوي في قفص الاتهام»، يتهمونني بأنني أدعو إلى تعدد الأزواج! لقد قلبوا الأوضاع وكنت أدعو إلى الإخلاص الزوجي ومنع تعدد الزوجات إلا في أضيق الحدود وللضرورة القصوى وليس لإشباع الشهوات، فإذا بهم يقولون العكس تمامًا.
أكثر من ذلك لقد تدخلت قوة السلطة والنفط لتصادر مجلة «نون» وإغلاق جمعية تضامن المرأة العربية دون تحقيق ودون أي حق ومصادرة أموالها وتحويلها إلى جمعية أخرى اسمها «نساء الإسلام». ولم نسكت على هذا الاغتصاب للحق؛ رفعنا القضية رقم ٦٦٨٤ لسنة ١٩٩١، والتي تحولت إلى ملف مركون منذ أربع سنوات في درج من أدراج مجلس الدولة (القضاء الإداري) بالقاهرة، وكلما سألنا عنها يقولون: ياه … لسة بدري أوي، مستعجلين على إيه؟ فيه قضايا بتاخد عشر سنين أو خمستاشر سنة!
ولأنني تجاوزت الستين عامًا وربما أموت قبل أن يصدر حكم عادل في هذه القضية، لهذا قمت بنشر كتاب صدر بالقاهرة عام ١٩٩٢ تحت عنوان «معركة جديدة في قضية المرأة» ضمَّنته جميع الوثائق الخاصة بهذه القضية، لتكون في ذمة التاريخ. فماذا نفعل نحن الأدباء والأديبات وأصحاب الأقلام سوى أن نكتب، وأن نواصل الكتابة، وألا نغلق هذه الملفات أبدًا؟!
إن تقديرنا للدكتور محمد كامل لا بد أن يتجسد في أن يفتح كلٌّ منا الملف المركون الخاص به أو الخاص بغيره إن كان لديه المعلومات والوثائق. وتبدأ قصتي مع السلطات السعودية حين زارني الدكتور فرج فودة ذات يوم في مكتبي ومعه نسخة من كتاب الحجاب والسفور في الكتاب والسنة، وسألني: هل قرأتِ هذا الكتاب؟ قلت: لا. قال: لا بد أن تقرئيه، وخاصةً وأن مؤلفه هو مفتي الديار السعودية الذي يتحكم في الإعلام داخل المملكة السعودية وخارجها في العالم الإسلامي والعربي كله، بل يمتد نفوذه إلى أوروبا وأمريكا عبر شبكات الإعلام والصحف والتليفزيون والقنوات الفضائية والإعلانات والمجلات ودور النشر التي تمولها أموال النفط.
قرأت الكتاب الذي كتبه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وهو من ٢٣٠ صفحة، صادر عن دار الكتب السلفية بالقاهرة عام ١٩٨٦. قرأته في ليلة واحدة ودهشت لِما فيه من مغالطات دينية وتناقضات، منها مثلًا أن «وجه المرأة عورة ويجب أن يُغطى بالنقاب تمامًا فيما عدا عينًا واحدة أو نصف عين.» هذا هو ما قرره، ويطالب المؤسسات الإسلامية أن تشتري بأموال النفط صفحة أو أكثر من مجلة «بوردا» الألمانية للأزياء؛ وذلك لغرض الموديلات المتعددة لأزياء المرأة المسلمة! ويكتب المؤلف بالحرف الواحد الآتي (ص١٨٧): «إن ألوف الدنانير التي ستُصرف سنويًّا على هذه الفكرة (النشر في مجلة بوردا الألمانية) ستساعد في دفع المرأة المسلمة إلى التمسك بقيم الإسلام وإنقاذها من الخوف والشعور بالنقص والاستحياء، وستؤثر على القريب والبعيد في حركة إصلاح العالم الإسلامي.»
قبل ذلك منذ صفحات قليلة كان الشيخ ابن باز يعترض على ضياع المال في زينة النساء والموديلات، فإذا به يدعو إلى إنفاق آلاف الدنانير لمجرد نشر موديلات إسلامية في مجلة ألمانية!
هكذا كتبت في مجلة «نون» مقالًا تعرضت فيه لهذا الكتاب بالتحليل العلمي المنطقي وقلت إننا النساء العربيات الواعيات لا ننفق مليمًا واحدًا لقراءة مجلة «بوردا» أو أية مجلة نسائية للأزياء أو عرض الموديلات، ونحن لا نرى أي علاقة بين مجلة بوردا والإصلاح الإسلامي، كما أن الإسلام الصحيح لا يفرض على المرأة أن تخفي وجهها إلا عينًا واحدة أو نصف عين! فالوجه هو هوية الإنسان، وإنسان بلا وجه هو إنسان بلا هوية … إلخ.
وتم إغلاق مجلة «نون» والجمعية التي تصدرها في ١٥ يونيو ١٩٩١، ولم تمضِ بضعة أيام حتى صدرت جريدة الأمة الإسلامية بالسعودية تحمل مانشيت كبيرًا في صفحتها الأولى يقول: «حل جمعية نوال السعداوي»، وموضوع كبير يتهم الجمعية بالزندقة والرذيلة ومعاداة الإسلام والآداب، وفي النصف الآخر من الصفحة نفسها مقال بقلم الشيخ ابن باز يدور حول آيات الله: وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أجل، لقد فهمت أن الشيخ ابن باز هو الشديد العقاب، وهو الذي يتستر وراء كلمة «الله». إلا أنني غضبت كما غضب الدكتور محمد كامل لاغتصاب طفله ابن السبع سنوات. شعرت أن الشيخ ابن باز قد اغتصب حق المجلة والجمعية في الوجود على ظهر الدنيا. وقررت عدم الاستسلام، وبدأ المشوار الطويل الذي بدأته منذ أربع سنوات، وانتهى بأن أصبح الملف مركونًا في أحد الأدراج، بل وجدت نفسي محاصرة ومهددة بالقتل. أصبحت أعيش تحت حراسة من رجال الأمن المصري، وبودي جارد يتبعني حيث أذهب ليل نهار، وظهرت المقالات والأخبار الكاذبة في الصحف ضدي، وعلى أرصفة الشوارع ظهرت كتب وكتيبات أو مجلات تنشر الشائعات وتشوه صورتي لدى الناس باعتباري معادية للإسلام والآداب والأخلاق وأدعو إلى الإباحية وتعدد الأزواج!
أليس هذا هو الجلد الأدبي الذي قد يفوق أي جلد جسدي؟! أليس هذا هو الذي جعل الكثيرين يسكتون ويخافون ولا يتحمسون للدفاع عن أنفسهم فما بال الدفاع عني أو غيري ممن لسعتهم الكرابيج السعودية أدبيًّا أو ماديًّا!
إن تقديرنا للدكتور «محمد كامل» يستوجب منا عدم السكوت، عدم الخوف. لا بد لنا أن نتابع بدقة وعناية قضية الدكتور محمد كامل، لا بد لنا أن نفتح جميع الملفات وليبدأ كلٌّ منا بنفسه؛ ولهذا كتبت هذا المقال.