اسألوا عن أصل الأشياء١
سألت وأنا طفلة صغيرة عن أمنا حواء، وهل كانت بيضاء البشرة مثل أمي أم سمراء الوجه مثلي. وقد ورثتْ أمي بشرتها البيضاء عن جدتها التركية التي حجبها الثراء والبرقع عن أشعة الشمس. أما أنا فقد ورثت بشرتي السمراء عن جدتي (أم أبي) التي دفعها الفقر إلى العمل في الحقل تحت قرص الشمس بوجه مكشوف.
ومن نظرات أبي العاشقة لبشرة أمي البيضاء أصبحت أخفي وجهي تحت طبقة من الجير الأبيض، وكلما أسمع عن اسم شخص يحظى بتقدير أبي أو إعجابه حتى أرسم له في خيالي بشرة بيضاء؛ ولهذا تراءت لي وجوه الأنبياء جميعًا بيضاء، وفي أحلامي رأيت وجه الله أبيض تحوطه هالة من الضوء الأبيض، أما إبليس فكان يلوح لي دائمًا أسود البشرة ملامحه زنجية.
وفي المدرسة والأطفال من حولي لم نكن نكف عن الأسئلة من نوع: من أين جاءت الشمس؟ ومن أين جاء الله؟ ومن أين جاء آدم؟ لكن البيئة في مدارسنا أو بيوتنا لم تكن تشجعنا على البحث عن أصل الأشياء، ولا أنسى «أبلة حكمت» في مدرسة منوف الابتدائية التي ضربتني بالمسطرة على مفاصل أصابعي العشرة لأنني سألتها عن أصل حواء بعد أن عجز خيالي عن توليدها من ضلع آدم.
واليوم، وبعد مرور خمسة وأربعين عامًا منذ تلقيت هذه الضربات على أصابعي، اكتشفت أن عقلي في الطفولة كان أكثر شجاعةً في البحث العلمي. وها أنا اليوم وبعد أن جاوزت الخمسين عامًا ببضعة أعوام ما أزال أبحث عن الإجابة عن الأسئلة الأولى في الحياة، وعلى مدى الثلاثين عامًا الماضية لم أكف عن البحث في الكتب القديمة والأبحاث العلمية الجديدة عن السلف القديم للإنسان.
ومن أقدم الكتب في التاريخ البشري هو كتاب التوراة، وله نصوص ثلاثة: (العبودية والسامرية والسبعونية)، وفي هذه النصوص لا يزيد عمر الإنسان فوق ظهر الأرض على ٣٣٨٩ عامًا، لكن علم الآثار المصري في عام ١٧٩٣ قدم حقائق جديدة وبراهين مادية تؤكد أن الإنسان المصري المتحضر عاش في وادي النيل منذ ١٥ ألف عام، ونشأ معركة فكرية وفلسفية عنيفة من عام ١٧٨٩ حتى عام ١٨٨٠ بين علماء الآثار المصرية وبين رجال الكنيسة الأوروبية، انتهت المعركة بانتصار علم الآثار بعد أن اكتشف «شامبليون» الخطوط المصرية القديمة (الديموتيقي والهيراتيقي) عام ١٨٢٩، وترجم «إيمانويل دي روجي» أوراق البردي عام ١٨٦٣، وظهر علماء جدد في إنجلترا (لي بيج رينوف)، وفي ألمانيا (لبسبوس)، وفي فرنسا (لينورمان)، وتم التأكد بالأدلة والبراهين العلمية أن حضارة مصر أقدم من التاريخ الذي حدده لها كتاب التوراة، وهكذا اضطر رجال الكنيسة الأوروبية إلى التراجع والاعتراف بصحة علم الآثار المصري.
الأطفال المثاليون في بلادنا
وبالرغم من أن الفضل في كسب هذه المعركة الفكرية الهامة يرجع إلى علم الآثار المصري، إلا أن معظم العلماء الباحثين في هذا المجال ليسوا من بلادنا ولكنهم من بلاد أجنبية؛ لماذا؟ لماذا لم يخرج من بلادنا علماء جدد لهم نظريات علمية جديدة في الفلسفة أو التاريخ أو البيولوجي أو الأنثروبولوجي وغيرها من العلوم الطبيعية والإنسانية؟
والسبب واضح بسيط؛ إن الطفل في بلادهم لا يُضرَب على أصابعه بالمسطرة إذا تساءل عن أصل الأشياء، وفي بلادنا نقرأ كل يوم عن برامج تدور في فلك العقلية المدرسية التي تُحرِّم التساؤل عن أصل الأشياء، ونرى في الصحف صور الأطفال المثاليين المطيعين الذين لا يسألون عن أشياء إن تُبدَ لهم تسؤهم.
ولا يزال أكبر علمائنا لا يعرفون من النظريات العلمية عن أصل الإنسان إلا نظرية دارون، لكن نظريات جديدة شقت طريقها إلى الوجود، ومن الظواهر الجديدة في العالم اليوم ما اكتشفته الدكتورة «ربيكا كان»، وهي أستاذة في جامعة «هاواي» أدت اكتشافاتها العلمية إلى نظرية جديدة في علم الإنسان (الأنثروبولوجي).
أمنا حواء امرأة ريفية سوداء
تجاوزت الدكتورة «ربيكا كان» النظريات القديمة في علم الإنسان ومنها نظرية دارون التي قامت على دراسة مقارنة في علم التشريح بين الإنسان والشمبانزي، ومنها أيضًا نظرية «ججين جودال» التي تعتمد على دراسة مقارنة لعلم السلوك وطرق استخدام الأدوات ومفردات اللغة، ومنها أيضًا النظريات القائمة على دراسة الجماجم والحفريات والآثار القديمة.
إن المجال الذي بحثت فيه «ربيكا كان» هو المجال البيولوجي، وفي العالم اليوم ثورة في علم البيولوجي لا تقل أهميةً عن الثورة التكنولوجية الجديدة، ويطلَق عليها الثورة البيولوجية الجديدة؛ فقد تم اكتشاف أدوات ووسائل علمية جديدة للفحوص داخل المعامل مثل فحوص الدم والخلية واكتشاف أسرار الوراثة ونقل الصفات الوراثية عن طريق الأم أو الأب من خلال بعض المواد داخل الخلية، وأهمها ذلك الحامض الذي اشتهر اليوم باسم «د. ن. أ».
ولا تقل الاكتشافات البيولوجية لهذه المادة «د. ن. أ» أهمية في نتائجها عن اكتشاف انقسام الذرة. وتوصلت «ربيكا كان» في أبحاثها إلى أن نواة الخلية تحتوي على نوع آخر من «د. ن. أ» تختلف تمامًا عن الموجود في الجزئيات الصغيرة خارج النواة، والتي تُسمى «الميتوكوندريا»، وأن ذلك الأخير يورَث من الأم فقط، أما الأول داخل النواة فيورَث عن طريق الأم والأب معًا. وبدراسة خواص «د. ن. أ» في خلايا أشخاص من أفريقيا وآسيا وأوروبا وأستراليا وغينيا الجديدة وجدت «ربيكا كان» الفروق بين هذه الأجناس المختلفة لا تزيد على ١٠٪، أما الفروق داخل العرق الواحد فتصل إلى ٩٤٪، واكتشفت أن جميع الأشخاص المفحوصين رغم انتمائهم لقارات مختلفة إلا أن لهم سلفًا واحدًا أو أمًّا واحدةً بشرتها سوداء من أفريقيا، وأنها عاشت على أرض هذه القارة السوداء من ٥٠٠٠٠٠ عام. وتدرس «ربيكا كان» الآن حركة الهجرة البشرية بين القارات وعلاقاتها بالصفات الوراثية البيولوجية والثقافية وتاريخ الحضارات.
أثينا السوداء
ويتحدث العالم اليوم أيضًا عن كتاب جديد اسمه «أثينا السوداء» كتبه أحد علماء الحضارات القديمة واسمه «مارتن بيرنال» يكشف فيه (بعد دراسات لأكثر من ثلاثين عامًا) أن الحضارة اليونانية القديمة جذورها راسخة في التربة المصرية والتربة الأفريقية السوداء، لكن هذه الجذور تم تجاهلها وحذفها من التاريخ الذي دوَّنه الأوروبيون الذين أرادوا لأسباب عنصرية إثبات أن الحضارة اليونانية التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة ليس لها جذور سوداء في المناطق الأفريقية والآسيوية، وإنما جذورها شمالية بيضاء نتجت عن حضارة سكان الشمال الأوروبيين. وهكذا تتكشف حقائق كثيرة طمسها التاريخ عن أصل الإنسان وأصل الحضارات البشرية. ولا يكشف عنها إلا أصحاب العقول الشجاعة الذين لم يُضرَبوا في طفولتهم لأنهم سألوا عن أصل الأشياء في الماضي.
إن فهم الماضي فهمًا علميًّا صحيحًا يقودنا إلى فهم الحضارة بطريقة أصح، ويقودنا أيضًا إلى علم المستقبل الحديث الذي برز فيه علماء كثيرون خارج بلادنا. أما نحن، فأين هم علماء المستقبل عندنا؟ وأين هي الكتب العربية (وليس الكتب المترجمة) التي قام بتأليفها علماء من بلادنا عن علم المستقبل؟!