أمينة السعيد التي عرفتها١
أول مرة سمعت فيها اسم أمينة السعيد كان عمري تسعة عشر عامًا، طالبة في سنة أولى بكلية الطب عام ١٩٥٠. كانت معي زميلة اسمها «فوزية» يحمر وجهها وتتلعثم إذا تحدث إليها أحد الزملاء. كان ذلك يحدث لمعظم الفتيات اللائي لم يعرفن من قبل الاختلاط بالجنس الآخر. إلا أن حالة فوزية كانت أشد، فكتبتْ رسالة إلى صحفية تحرر باب بريد القلوب أو الشباب في إحدى المجلات اسمها أمينة السعيد.
وجاء رد أمينة السعيد على فوزية بالمجلة كالآتي: «إن احمرار وجه الفتاة وتلعثمها دليل على خجلها من الجنس الآخر. والخجل هو صفة تتحلى بها البنات العذراوات المستقيمات الأخلاق.»
لم أكن أتلعثم حين أتكلم مع زملائي الطلبة، فهل معنى ذلك أنني لست مستقيمة الأخلاق في نظر أمينة السعيد؟ هكذا فكرت في تلك المرحلة المبكرة، وأدركت في أعماق عقلي أن «الخجل» ليس هو الحياء ولا علاقة له بالأخلاق.
ثم قرأت بعض مقالات لأمينة السعيد وأعجبني دفاعها عن حق المرأة في التعليم والعمل، إلا أنها لم تكن ثائرة مثل أبي ضد الملك والحكومة والإنجليز، بل إنها كانت تشعر بالفخر إذا ما جاءتها دعوة من إحدى نساء الأسرة المالكة أو الطبقة الحاكمة.
كنت فتاة في أول الشباب قادمة من الريف الفقير، ليس لي في مدينة القاهرة إلا أن أمشي في شوارعها في المظاهرات الطلابية نهتف ضد الحكومة والإنجليز، ولم يكن مَثلي الأعلى في الحياة إلا هؤلاء الذين قاتلوا ضد الظلم والعبودية وماتوا داخل السجون أو في المنفى. ولم تكن أمينة السعيد واحدة من هؤلاء. كنت أرى صورها المنشورة في المجلات مكتملة الأناقة والزينة ونحن نمشي في المظاهرات يطاردنا البوليس من شارع إلى شارع.
وسقط النظام الملكي بعد ثورة يوليو ١٩٥٢، وجاء عبد الناصر إلى الحكم بعد عامين، وراح ينادي بطرد جنود الاحتلال من قناة السويس، والقضاء على الإقطاع وتذويب الفوارق بين الطبقات.
إحدى رائدات الحركة النسائية مثل درية شفيق رفضت تأييد الثورة؛ فانقلب عليها عبد الناصر وحكومته وحكموا عليها بالعزلة أو الانتحار السياسي والأدبي حتى انتحرت هي بنفسها. لكن أمينة السعيد كانت ضمن المؤيدين للثورة، وتحمست مع المتحمسين لمبادئها، خاصةً بعد إعطاء المرأة حق الترشيح في البرلمان عام ١٩٥٦، وتأميم قناة السويس في العام نفسه، وصدور الميثاق الوطني عام ١٩٦٢ يتضمن هذه الكلمات: «إسقاط بقايا الأغلال التي تحيط بالمرأة وتشجيعها على المشاركة بفعالية في بناء المجتمع الاشتراكي الجديد.» وتم أيضًا تعيين أول وزيرة في مصر هي حكمت أبو زيد، وكانت مُدرستي للتاريخ في حلوان الثانوية للبنات عام ١٩٤٧، وقد عاشت المنفى خارج مصر سنين عديدة بعد انتهاء حكم عبد الناصر.
وفي عام ١٩٦٥ جاءتني منحة دراسية من اتحاد الجامعيات الأمريكيات للحصول على درجة الماجستير في الصحة العامة من جامعة كولومبيا، وكنت قد أصبحت طبيبة وأديبة أنشر القصص والروايات في المجلات، وكنت قد تزوجت أيضًا، وشجعني زوجي (شريف حتاتة) على السفر والاستفادة من المنحة، ولكن ما إن وصلت إلى الولايات المتحدة حتى أراد اتحاد الجامعيات الأمريكيات إعادتي إلى مصر. لماذا؟ لأنني كنت حاملًا في الشهر الثاني.
حين وصل الخبر إلى مصر غضب الكثيرون من زملائي الأدباء والكُتَّاب الصحفيين، ومنهم أحمد بهاء الدين، وكان رئيسًا لتحرير مجلة المصور؛ فكتب مقالًا اشتهر حينئذٍ تحت عنوان «اضبط حامل» سخر فيه من حرية النساء في أمريكا حيث تُمنع المرأة الحامل من مواصلة دراستها العليا.
إلا أن أمينة السعيد ردت عليه بمقال تؤيد فيه قرار اتحاد الجامعيات الأمريكيات، وتؤكد أن المرأة الحامل يجب ألا تسافر حرصًا على صحة طفلها وحرصًا على سمعة مصر أيضًا. ولم أعرف ما دخل سمعة مصر هنا؛ كنت متزوجة زواجًا رسميًّا والحمل شرعي وليس سفاحًا!
ثم التقيت بأمينة السعيد لأول مرة عام ١٩٧٠، كنت قد أنشأت مع بعض زميلاتي الكاتبات جمعية تهدف إلى تشجيع الإبداع الأدبي لدى النساء، أطلقنا عليها اسم «جمعية الكاتبات المصريات»، ولم يكن لواحدة فينا حسب التقاليد الموروثة أن تكون رئيسة جمعية قبل أن تبلغ الخمسين أو الستين من العمر؛ لهذا بدأنا نبحث عن رئيسة لجمعيتنا من الأجيال السابقة.
لم نجد أمامنا إلا سهير القلماوي وأمينة السعيد. إنهما أول من دخل جامعة فؤاد الأول حين فتحت أبوابها للنساء في العشرينيات من هذا القرن.
واخترنا أمينة السعيد. كانت تبدو لنا أكثر تقدمًا فيما يخص قضية المرأة. قرأنا لها مقالات تؤكد حق المرأة في التعليم والعمل والمساواة بالرجل، وقد هاجمت بعض المشايخ الذين أرادوا للمرأة أن تبقى في البيت وإن خرجت لضرورة قصوى أن تتغطى بالحجاب.
وانتخبنا أمينة السعيد رئيسة جمعية الكاتبات عام ١٩٧١، وانتخبتني الزميلات «نائبة للرئيسة»، إلا أنه بعد فترة قصيرة فاجأتنا أمينة السعيد بالاستقالة. لماذا؟ لقد اتصل بها وزير الثقافة حينئذٍ ونصحها بتقديم استقالتها، ولم تشرح لنا الأسباب، ثم أدركنا أن أنور السادات قد بدأ تغيير السياسة الاقتصادية والثقافية في مصر وإزالة آثار سياسة عبد الناصر، وعلى رأسها القرارات الاشتراكية. واستقالت مع أمينة السعيد بعض العضوات من مجلس الإدارة، وتجمد نشاط الجمعية لأكثر من عشرين عامًا.
وفي سبتمبر عام ١٩٨١ أدخل أنور السادات قيادات المعارضة في السجون ١٥٣٦ رجلًا وامرأةً (كنت واحدة منهم) أصبحوا وراء القضبان بلا تحقيق ولا جريمة إلا الكتابة في الصحف والإعلان عن رأيهم المختلف مع الحكومة القائمة.
لم تكتب أمينة السعيد كلمة احتجاج واحدة وصعدت إلى قمة الصحافة في مؤسسة دار الهلال.
وقد التقيت بها بعد ذلك مرات قليلة في بعض الاجتماعات، كانت ترحب بي بنوع من التحفظ، في عينيها أرى شيئًا من الإعجاب إلا أن الاختلاف بيننا واضح. وكان يعجبني فيها ذلك التمرد الكامن في أعماقها والذي يظهر أحيانًا فإذا بنا نتفق ونتصالح.
حين أغلقت الحكومة جمعيتنا الجديدة «تضامن المرأة العربية» وصادرت مجلتنا «نون» عام ١٩٩١ دون تحقيق ودون جريمة، وصدر قرار حكومي بتحويل أموال الجمعية إلى جمعية أخرى اسمها «نساء الإسلام»، لم نقرأ كلمة احتجاج واحدة في الصحف لأمينة السعيد.
إلا أنني — رغم كل ذلك — أعتقد أن أمينة السعيد واحدة من الرائدات المصريات في مجال الصحافة وتحرير المرأة لا تقل أهميتها عن رائدات سابقات مثل هدى شعراوي ودرية شفيق وسيزا نبراوي وإنجي أفلاطون وغيرهن.
ماتت أمينة السعيد يوم ١٣ أغسطس ١٩٩٥. تلقيت الخبر وأنا في مدينة ديرهام بولاية نورث كارولينا في أمريكا الشمالية. أحسست بالحزن العميق، والعزاء الوحيد هو أن الرواد والرائدات لا يموتون ولا يذهبون بذهاب أجسامهم؛ لأن أعمالهم تبقى، وقد اندثرت أعمال الكثيرات من الرائدات في بلادنا بسبب الإهمال وضعف الحركة النسائية المصرية، التي أود ألا تفعل ذلك بأعمال أمينة السعيد.
إن الحركة النسائية مطالبة اليوم بحفظ قياداتها، وأمهاتها وجداتها السابقات؛ فليس هناك حركة اجتماعية أو سياسية بلا تاريخ. وكم هو محزن أن تندثر كتابات النساء في التاريخ.
لا شك أن الحركة النسائية في مصر تواجه اليوم عقبات كثيرة. منذ أكثر من شهر في بلدة المنصورة ماتت طفلة في الثالثة عشرة من عمرها (سمر عماد الدين) بعد أن ضربها أبوها وأمها حتى الموت. لماذا؟! لأنها خلعت النقاب عن وجهها في يوم شديد الحرارة.
لا بد أن أمينة السعيد ماتت من الحزن على هذه الطفلة، وغيرها من البنات والنساء في بلادنا اللائي أصبحن كبش الفداء، الضحية بين القوى السياسية المتصارعة في الداخل وفي الخارج، ضحية القوى السياسية المتاجرة بالدين في حلبة الصراعات … وضحية المجتمع الاستهلاكي الذي تشجعه السوق العالمية ووسائل الإعلام. أصبحت المرأة في بلادنا أول ضحية للتزمت والجمود والردة المفروضة بالتيارات الدينية المتصاعدة، وأول ضحية للانفتاح والفساد الأخلاقي والتحرر المزيف أو الفقر المتزايد الناتج عن الاستعمار الجديد وفشل الحكومات المحلية.
إلا أن التاريخ البشري يمضي إلى الأمام رغم كل شيء. والنساء نصف المجتمعات البشرية، وحركتهن نصف حركة المجتمع، ولا شيء تفقده النساء مع الشجاعة والإقدام إلا بقايا الأغلال.