المرأة والرجل والعدل الغائب وثنائيات أخرى باطلة١
لا يختلف أحد من الرجال أو النساء في أي بلد في العالم وفي أي دين من الأديان على أن العدل هو أساس الحكم.
إن العدل هو المطلق الثابت الذي يؤمن به البشر على اختلاف أجناسهم وعقائدهم وألوانهم.
لماذا إذن يغيب العدل في هذا الصراع الدائر حول «الأرض» بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟ وتتغير الشعارات المرفوعة من «الأرض مقابل السلام» إلى «الأرض مقابل الأمن»، للاستيلاء على أكبر نصيب من الأرض دون حق، وقد تم من قبلُ الاستيلاء على أرض كنعان أو فلسطين كلها تحت شعار «الأرض مقابل الختان»، الذي جاء في كتاب التوراة على شكل عهد بين بني إسرائيل وربهم الأعلى في السموات، أن يعطيهم الأرض الموعودة بشرط أن يقطعوا غرلة الذكور، ما علاقة الاستيلاء على أرض الغير بالقوة المسلحة وختان الذكور؟ سؤال لم يحاول أحد الإجابة عنه حتى اليوم.
ولماذا يغيب العدل في هذا الصراع الدائر حول حقوق الرجال والنساء داخل الزواج أو خارجه؟ أهو منطق القوة نفسه الذي يحكم العلاقات الدولية، يحكم أيضًا العلاقات الشخصية؟ ولماذا يتحمس الكثيرون من أجل العدالة في القانون الدولي، يرفعون أصواتهم ويكتبون ويكشفون الظلم أو الكيل بمكيالين في الاتفاقات الدولية، على حين أنهم يصمتون تمامًا فيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية، بل أحيانًا يقفون ضد العدل، بل ضد المنطق والعقل.
في قانون الأحوال الشخصية هناك شعار سائد يقول إن «الطاعة مقابل الإنفاق»، إن سيطرة الزوج على زوجته ترجع إلى أن الرجل ينفق، «الرجال قوامون على النساء بما أنفقوا من أموالهم»، من هذا المبدأ أصبحت الطاعة واجبة على الزوجات، وأصبح الإنفاق واجبًا على الأزواج.
إلا أن ظروف الحياة المتغيرة، وخروج أعداد متزايدة من النساء للعمل بأجر، ساعد المرأة في كثير من الأحيان على الإنفاق، على نفسها وأطفالها، أصبحت الزوجة في كثير من العائلات تشارك زوجها الإنفاق على الأسرة، وتغيرت العلاقات بين الرجل والمرأة بسبب هذه التغيرات الاقتصادية، لم يعد الشعار القديم «الطاعة مقابل الإنفاق» يتمشَّى مع الأوضاع الجديدة؛ فالمرأة تنفق مثل الرجل، فهل يسري عليها قانون الطاعة مثل المرأة التي لم تكن تنفق؟! بالطبع لا، إن العدل أو المنطق لا يمكن أن يساوي بين من ينفق ومن لا ينفق، وإلا فلماذا كان «الإنفاق» هو الأساس الذي بُنيت عليه سيادة الرجل على زوجته؟!
إن ظروف الحياة متغيرة على الدوام، معها تتغير الواجبات والحقوق في العلاقات بين البشر رجالًا ونساءً، وقد أصبحت المرأة قادرة على الإنفاق في كثير من الحالات في المدن؛ لأنها تتقاضى أجرًا عن عملها خارج البيت، وفي الريف قد تصبح المرأة الفلاحة قادرة على الإنفاق إذا زرعت بيديها وباعت محصولها في السوق، وكانت جدتي الفلاحة تنفق على أسرتها؛ لهذا لم يطبق عليها قانون الطاعة، عاشت مستقلة مرفوعة الرأس قادرة على التصدي لأحكام العمدة الظالمة للفلاحين والفلاحات وليس فقط لزوجها في البيت.
إذن المرأة القادرة على الإنفاق لا تقبل الخضوع لمبدأ «الطاعة مقابل الإنفاق» في قانون الزواج؛ ومن هنا حالات الطلاق المتزايدة بين النساء القادرات على الإنفاق، أو ما يُسمى «حالات العنوسة» أو عدم الزواج أصلًا، تُفضل المرأة في هذه الحالات ألا تتزوج وأن تعيش وحيدة عن أن تتزوج وتخضع لقانون الطاعة.
بدأت هذه الظاهرة في أوروبا وأمريكا واليابان وآسيا وأفريقيا، وأخيرًا انتشرت الظاهرة في بلادنا العربية مع تزايد خروج النساء للعمل بأجر.
وتغيرت قوانين الزواج أو الأحوال الشخصية في جميع بلاد العالم بما فيها بلادنا العربية؛ لأن العدل هو المطلق الثابت وهو أساس الحكم، لكن هذا العدل يحتاج دائمًا إلى قوة اجتماعية تطالب به وتؤيده وتسانده في مواجهة القوى الظالمة. إن الحق بغير قوة اجتماعية يضيع ولا يتحقق، وبالمثل أيضًا فإن القوة بغير حق تصبح ظالمة وباطشة، وقد استطاعت القوة الاجتماعية والسياسية المنظمة للنساء في كثير من البلاد أن تغير من أحكام القوانين الخاصة بالزواج أو الطلاق أو النسب أو الإرث أو حضانة الأطفال أو غيرها. وقد تم تحريم تعدد الزوجات في أكثر بلاد العالم شرقًا وغربًا، بما في ذلك بعض البلاد الإسلامية، كما تساوت النساء مع الرجال في الإرث بعد أن أصبح «الإنفاق» مسئولية المرأة والرجل، وكان الرجل يرث أكثر من المرأة لأنه المسئول عن الإنفاق وحده.
وقد كثر الحديث في بلادنا مؤخرًا عن ظواهر جديدة أو أشكال من العلاقات الزوجية تختلف عن الشكل التقليدي الرسمي، منها الزواج العرفي والذي يستند أساسًا على احتفاظ الزوجة بمواردها الاقتصادية (معاش الحكومة) التي تضيع منها في ظل الزواج الرسمي. وانتشر أيضًا ما يُسمى «الزواج المسيار»، فالمرأة القادرة على الإنفاق على بيتها وأطفالها يمكن أن تتزوج رجلًا عاجزًا عن الإنفاق. إن الزواج التقليدي الرسمي يجعل الإنفاق واجب الزوج، لكن هذا الزواج يكسر هذه القاعدة، يصبح الإنفاق واجب المرأة، يتحرر الرجل من هذا العبء الذي لازَمه قرونًا كثيرة، وتتحرر المرأة أيضًا من عبء «الطاعة» التي فُرضت عليها قرونًا.
إلا أن بعض الرجال العاجزين عن الإنفاق يتمسكون بحقهم التقليدي القديم؛ أي طاعة المرأة لهم أو سيادة الرجل، رغم أن أسباب هذه السيادة قد زالت، لكن الصراع لا يزال دائرًا بين النساء القادرات على الإنفاق ورجالهم، سواء داخل الزواج الرسمي أو غير الرسمي. ويقول التاريخ إن العدل هو أساس الحكم؛ لهذا سوف تتغير العلاقات الزوجية على الدوام مع تغير العلاقات الاقتصادية والثقافية كما يحدث في جميع المجتمعات البشرية.
إن سيادة الزوج على زوجته ليست هي المطلق الثابت بل هي تتغير حسب الظروف والأحوال، إن تعدد الزوجات ليست هي المطلق الثابت بل تتغير حسب الظروف والأحوال، إن تحريم الإجهاض ليس هو المطلق الثابت بل يتغير حسب الظروف والأحوال.
كثر الحديث مؤخرًا في بلادنا عن إباحة الإجهاض في حالات الاغتصاب الجنسي، وافق المفتي وشيخ الأزهر على إباحة الإجهاض في هذه الحالات إنقاذًا للفتاة المسكينة من المشكلة التي تواجهها، وهي الحمل غير الشرعي. إنها خطوة متقدمة — لا شك — تنقذ كثيرًا من البنات اللائي يتعرضن للاغتصاب الجنسي، وقد طالبت منذ تخرجت في كلية الطب منذ أكثر من أربعين عامًا بإباحة الإجهاض لهؤلاء الفتيات، واللائي أغلبهن خادمات فقيرات، بل اعترفت في كتابي «مذكرات طبيبة» الذي صدر في نهاية الخمسينيات أنني أجهضت خادمة فقيرة جاءت إلى عيادتي الطبية تعاني الحمل بعد أن اعتدى عليها جنسيًّا رب البيت الذي تشتغل فيه، وقد غضبت مني نقابة الأطباء حينئذٍ؛ لأن هناك «قَسَم» نقسم عليه نحن الأطباء والطبيبات عند التخرج، يشمل القَسَم هذه العبارة: «وألا أجهض حاملًا.» كان هذا المبدأ في نقابة الأطباء هو المطلق الثابت، إلا أنه أصبح خاضعًا لرياح التغيير بعد أن اشتدت أزمة حالات الاغتصاب الجنسي؛ مما اضطر السلطة الدينية في بلدنا أن تدعو إلى إباحة الإجهاض في هذه الحالات.
وقد أباحت السلطة الدينية أيضًا إعادة العذرية بعملية جراحية لحالات الاغتصاب الجنسي، وهي خطوة متقدمة أيضًا، إلا أنها ليست صالحة من الناحية الطبية أو الصحية أو الأخلاقية؛ فالمفروض أن الرجل الذي يغتصب امرأة هو الذي يفقد شرفه وليس المرأة؛ هذا هو العدل والحق.
فكيف يكون مقياس الشرف علامة في جسد الأنثى فقط؟! أو غشاءً تولد به أو لا تولد؟ من المعروف طبيًّا أن نسبة لا تقل عن ٣٠٪ من البنات يولدن بدون غشاء بكارة، وأن نسبة أخرى يولدن بأنواع مختلفة من الغشاء لا تنزف عند الاتصال الجنسي بالرجل. ثم كيف يمكن لمشرط الجراح أن يعيد الشرف للإنسان، امرأة أو رجل؟ وهل الشرف قاصر على السلوك الجنسي للأنثى ولا يشمل سلوك الرجال الجنسي أو سلوكهم السياسي والاقتصادي والثقافي؟!
كما أن إصلاح الغشاء جراحيًّا له مخاطره على صحة المرأة جسديًّا ونفسيًّا، قد يحدث نزيف أو تلوث للجرح أو مضاعفات، إلا أن المضاعفات النفسية أخطر، يكفي أن تتدرب النساء على الكذب وإخفاء الحقيقة، كأنما المرأة مسئولة عما حدث ولم تكن ضحية.
هناك أيضًا مخاطر على الرجل ذاته الذي يتزوج هذه المرأة، التي أصلحت غشاءها عند الجراح، الذي يترك عادةً غرزة أو فتلة في الغشاء قد تسبِّب مخاطر للرجل أثناء الاتصال الجنسي، قد تمزق الفتلة رأس العضو الذكري ويحدث نزيف أو مضاعفات أخرى.
وبالمثل في حالات الإجهاض، قد تتعرض الفتاة الحامل لمخاطر جسدية ونفسية، منها النزيف أو تلوث الجرح، أحيانًا الموت. أما المخاطر النفسية فهي كثيرة، أهمها أن الأم الحامل تفقد طفلها، بعد عملية الإجهاض تشعر الأم بالمرض النفسي الناتج عن فقدان الطفل.
جاءتني حالات كثيرة من هذا النوع في عيادتي الطبية النفسية، والمفروض ألا يُفرض الإجهاض على كل فتاة أو امرأة تتعرض للاغتصاب، إذا شاءت الأم أن تحتفظ بطفلها فإنه من العدل والمنطق أن تحتفظ به، وأن يكون الطفل شرعيًّا مثل الأطفال الآخرين، ليس من العدل ولا المنطق أن نعاقب الطفل البريء دون ذنب لمجرد أن الأب هرب أو رفض أن يمنحه اسمه. لماذا لا يكون اسم الأم مشرفًا للابن أو الابنة مثل اسم الأب؟
في معظم بلاد العالم أصبح من حق الأم أن تمنح اسمها لأطفالها، أصبح الأطفال يحملون اسم الأب والأم معًا، لم يَعد الأطفال يعاقَبون بسبب الآباء أو الأمهات، أصبح من حق الطفل أن يكون شرعيًّا في جميع الظروف والحالات، وأن يحمل اسم أمه وأبيه في آنٍ واحد، ويمكن له بعد أن يكبر أن يختار اسمًا واحدًا أو يحتفظ بالاسمين الأم والأب معًا.
يحدث هذا في بلاد أفريقية منها تنزانيا، وليس فقط في أوروبا أو أمريكا، والمسألة هنا لا علاقة لها بما يُسمى الانحلال أو الإباحية، بل تتعلق بالعدل وحماية النساء والأطفال الأبرياء من الظلم الواقع عليهم بسبب احتكار الرجل لموضوع الشرف والنسب.
إن الانحلال الأخلاقي في التاريخ البشري قد نشأ بنشوء النظام العبودي ومعه الازدواجية في القوانين والكيل بمكيالين في العلاقات بين الدول أو بين الأفراد ومنهم الرجال والنساء. هذه الازدواجية تكرس الفساد السياسي والأخلاقي معًا؛ لأن القوة هي التي تحكم وليس العدل، ومع غياب العدل يغيب العقل والمنطق، يتلاعب الأقوى بالشعارات الكاذبة من نوع الأرض مقابل الختان، الأرض مقابل السلام، الأرض مقابل الأمن، الإنفاق مقابل الطاعة، الإنفاق مقابل السيادة، وهكذا ندور في الحلقة المفرغة التي نعيشها اليوم في حياتنا العامة والخاصة.