عبد الله بن المقفع وعبد الحميد بن يحيى
نشأ للعربية في أوائل القرن الثاني للهجرة كاتبان بليغان، يصح أن يُدْعيا واضعي أساس الإنشاء العربي، وناهجي طريقة الكتابة المرسلة، فكانا منارًا يهتدَى به إلى يوم الناس هذا، ونعني بهما: عبد الله بن المقفع، وعبد الحميد بن يحيى الكاتب. ظهر هذان الإمامان واللغة في نضرتها الأولى، فكان لهما من فطرتهما السليمة أعظم مساعد لهما على النبوغ، وزادت شهرتهما لاتصالهما بالخلفاء والأمراء، ومرانهما على الكتابة في الأغراض الكثيرة التي كانت تطلب إليهما؛ فيخوضان عبابها مجليين مبرزين.
نشأ ابنُ المقفع في العراق على ما ينشأ عليه أبناء اليسار. وكان والده ينتحل نحلة مجوس الفرس، وليَ خراج الفرس للحجاج بن يوسف الثقفي في الدولة الأُموية. ولقب بالمقفع؛ لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده؛ أي تشنجت، لمدِّها لأخذ الأموال، على ما يُقال. وربي ابنه عبد الله تربية إسلامية، وأُولع بالعلم وهو مكفي المؤنة، فجاء منه في سن العشرين ما يندر أن يكون مثلُه لأبناء الأربعين والخمسين، واتصل بعيسى بن علي عم السفاح والمنصور الخليفتين الأولين من بني العباس، وكتب له واختص به، وأراد أن يدين بالإسلام؛ فجاء إلى عيسى بن علي وقال له: قد دخل الإسلامُ في قلبي، وأُريد أن أُسْلم على يدك. فقال له عيسى: ليكنْ ذلك بمحضر من القواد ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر، ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس ابن المقفع يأكل ويزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام. فقال: أكره أن أبيت على غير دين، فلمَّا أصبح أسلم على يده فسُمي بعبد الله، وكني بأبي محمد.
أهم كتب ابن المقفع التي طار ذكرها كتاب «كليلة ودمنة» الذي نقله عن الفارسية، ورسالتُهُ المعروفة باليتيمة في طاعة السلطان. قال القفطي: وهو أوَّل من اعتنى في الملة الإسلامية بترجمة الكتب المنطقية لأبي جعفر المنصور، وترجم كتب أرسطوطاليس المنطقية الثلاثة، وهي: كتاب قاطيغورياس، وكتاب باري أرمينياس — أو بارميناس — وكتاب أنالوطيقا، وذكر أنه ترجم إيساغوجي تأليف فرفوريوس الصوري. والأرجحُ أنه نقل هذه الكتب عن الفارسية أو نقلها له ناقلٌ عن اليونانية، وصاغها هو في قالب عربي فنُسبت له، إذ لم يثبت أنه كان يعرف غير الفارسية من اللغات، وعبارة ابن أبي أصيبعة في تاريخ الأطباء تُشبه قول القفطي في تراجم الحكماء، والغالب أنهما نقلا عن مصدر واحد مع تغيير طفيف في عبارتيهما.
قال ابن النَّديم: واسمه بالفارسية روزبه، وهو عبد الله بن المقفع، ويُكَنَّى قبل إسلامه أبا عمرو، فلمَّا أسلم اكتنى بأبي محمد. والمقفع بن المبارك، إنما تقفع لأن الحجاج بن يوسف ضربه بالبصرة في مال احتجنه من مال السلطان ضربًا مُبرحًا فتقفعت يده، وأصله من خوز؛ مدينة من كورفاس. وكان يكتب أولًا لداود بن عمر بن هبيرة، ثم كتب لعيسى بن علِي علَى كرمان. وكان في نهاية الفصاحة والبلاغة، كاتبًا شاعرًا فصيحًا، وهو الذي عمل شرط عبد الله بن علِي علَى المنصور، وتصعَّب في احتياطه فيه، فأحفظَ ذلك أبا جعفر، فلمَّا قتله سفيان بن مُعاوية حرقًا بالنَّار، وقع ذلك من المنصور بالموقع الحسن فلم يطلب بثأره وطل دمه.
وكان أحد النَّقَلة من اللسان الفارسي إلى العربي، مضطلعًا باللغتين، فصيحًا بهما، وقد نقل عدة كتب من كتب الفُرس منها كتاب خداينامه في السير، كتاب آيين نامه في الإصر، كتاب كليلة ودمنة، كتاب مزدك، كتاب التاج في سيرة أنوشروان، كتاب الآداب الكبير، ويُعرف بماقراحسيس، كتاب الأدب الصغير، كتاب اليتيمة في الرَّسائل.
وقال: إنَّ أبا الجاموس ثور بن يزيد أعرابيٌّ كان يَفِدُ البصرة على آل سُليمان بن علي، وعنه أخذ ابن المقفع الفصاحة ولا مصنف له. وقال: بلغاء الناس عشرة: عبد الله بن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد، أنس بن أبي شيخ، وعليه اعتمد أحمد بن يوسف الكاتب، سالم، مسعدة الهرير، عبد الجار بن عدي، أحمد بن يوسف، وذكره في الشعراء والكُتَّاب فقال: إنه مقلٌّ، وقال: قد كانت الفُرس نقلت في القديم شيئًا من كُتُب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية؛ فنقل ذلك إلى العربية عبد الله بن المقفع وغيره. وقال في الكتب المصنفة في الأسماء والخرافات أن عبد الله بن المقفع من جملة من كان يعمل الأسمار والخرافات على ألسنة الناس والطير والبهائم.
والراجح أن الحسد غَلَتْ مراجلُه في صدور بعض معاصريه، والمعاصرة — كما قيل — حرمان؛ فنسبوا إليه ما نسبوا إلى الزَّندقة؛ لقصورهم عن بلوغ شأْوه، أو لغرضٍ في أنفسهم، قال ابن خلكان نقلًا عن الجاحظ: إنَّ ابن المقفع ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد كانوا يُتهمون في دينهم. قال بعضهم: كيف نسي الجاحظ نفسه؟ قلنا: وعبارة الجاحظ في بعض رسائله بشأن ابن المقفع تُشير إلى قصوره في علم الكلام فقط؛ لأنه قال: فصلٌ، ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع، ويكنى: أبا عمرو. وكان يتولى لآل الأهتم. وكان مُقدمًا في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير. وكان جوادًا فارسًا جميلًا، وكان إذا شاء أن يقول الشعر قاله. وكان يتعاطى الكلام ولا يحسن منه لا قليلًا ولا كثيرًا، وكان ضابطًا لحكايات المقالات ولا يعرف من أين غر المغتر ووثق الواثق، وإذا أردتَ أن تعتبر ذلك إن كنت من خُلَّص المتكلمين ومن النظارين؛ فاعتبر ذلك بأن تنظر في آخر رسالته الهاشمية؛ فإنك تجده جيدَ الحكاية لدعوى القوم، رديء المدخل في مواضع الطعن عليهم، وقد يكون الرَّجل يُحسن الصنف والصنفين من العلم يظن بنفسه عند ذلك أنه لا يحمل عقله على شيء إلا بعُد به. ا.ﻫ.
لا جرم أن إطلاق ابن المقفع لسانه في المعتزلة دعا أحد أئمتها إلى أن يُصدر عليه هذا الحكم الغريب، ولكنَّ الجاحظ أيضًا على ثبوت تديُّنه لم يسلم من هذا الطعن كما رأيت. وإن مسألة التهمة في الدين من الأمور التي شاعت في كل عصر ومصر، ويكون المتهمون بها في معظم الأحوال أبرياء، وإلا فكيف تسجل الزَّندقة على ابن المقفع إذا جرينا مع الدليل. وليست الزَّندقةُ بحثًا عما يُضمره الإنسانُ في نفسه؛ لأن مثل هذا لا يطلع عليه إلا الله تعالى، ويكفي أن يُقال: هلا شققت عن قلبه، بل الزندقةُ التي تُذكر في الكتب وتترتب عليها الأحكام. وسَوَّغ أن يُقال عن فلان إنه زنديق أمورٌ تقوم عليها بيناتٌ ظاهرةٌ من أقوال وأفعال، وكلام ابن المقفع في الدين يدلُّ على شدة تَمَسُّكه وفرط ميله على ما يتجلى لك من رسائله. ولو كان ثم سبيلٌ لِما يُنسب إليه، لا سيما مع غضب المنصور عليه؛ لَكان الأقرب أن يتقرب مثل المنصور بمثل ذلك، وفيه ما فيه من إرضاء العامَّة وشفاء الغليل من العدو، بحيثُ ينتقم منه مع إسقاطه ولا يعدم المنصور حينئذ حيلة في قتله جهارًا بهذه التهمة. أمَّا اتهام ابن المقفع بمعارضة القرآن فيتصرف على القاعدة في اتهامه بالزَّندقة. وما نظن القاضي عياضًا والباقلاني إلا ناقلَين عن أناس من أهل السذاجة، ومع ذلك فإنهما قالا: إنه أناب.
التهمةُ بالزندقة أمرٌ نشأتْ منه مضارُّ كثيرة؛ حتى لم يخل منها مثل الإمام الغزالي الذي كان أعظمَ أنصار الدين، فانظرْ إلى كتاب: فيصل التفرقة بين الإسلام والزَّندقة، الذي ألفه في الرد على أولئك الذين نسبوا إليه ما نسبوا؛ فإنَّ فيه الغناء. وأغرب من ذلك المقال على أبي حاتم بن حبان البستي، إمام المحدثين في عصره، وصاحب الصحيح المشهور به، والكتب الممتعة الكثيرة واستحصال الأمر بقتله لو لم ينجُ من ذلك بعوارضَ لا تخطر في البال.
ومعارضةُ القرآن أكثر ما تُنسب للزنادقة المشهورين بالأدب، وأفضل من يشيع ذلك أناسٌ يَقصدون إهلاكَ عدوهم بأي وسيلة كانت، أو أناس هم أقربُ إلى الزندقة ممن ينسبون إليها؛ حتى إنَّ أبا العلاء المعري، على اضطراب الأقوال في نهاية أمره مع ما عُلم به من أحواله، قد عزي إليه كتاب كان معروفًا في بلاد المغرب يُسمى بالفصول والغايات، ولا يتوقف مَن كان قريبَ العهد من عصره في أنه عمله في معارضة السُّوَر والآيات. وكان كثيرٌ ممن يميلون إلى أبي العلاء المعري من أهل المغرب يعجبون مما وقع فيه من سخافة القول الذي ينحطُّ عن جميع كلامه المعروف، مع أنه ليس له يَدٌ في الكتابة، كما عُلم من كتاب سر الفصاحة، وكلامه في رسالة الغفران ينادي بخلاف ذلك.
وعلى الجملة؛ فإنَّ نِسبة الزَّندقة إلى ابن المقفع لا تثبُت بوجهٍ من الوجوه التي تُعقل في إثباتها. وإذا نظرنا إلى ما يتعلق بالغيب؛ فالحكمُ الشرعيُّ أنه هو والناسبون إليه جميعًا في معرفة ما ينطوون عليه سواء؛ لأنه لم يذهب أحدٌ إلى أن الإيمان أو لوازمه لرجل بعينه.
وتهمة الزندقة الشنعاء كثيرًا ما يُتهم بها المشتغلون بالفلسفة أمثال ابن رشد والفارابي، وابن الصائغ، وابن سينا، ونُسب لهذا أنه عارض القرآن، وقد كتب رسالة في رَدِّ افتراء من افترى عليه ذلك. ومن هنا تظهر لك حسن سياسة المأمون؛ لأن فتح باب البحث عن الزنادقة قد أوجب من المضارِّ ما لا يُحصى، كما يُعلم من التواريخ، ورُبما كان عصر المأمون أقربَ إلى قلة الزندقة، في الحقيقة، من العصور التي كثُر اتهام معظم المفكرين بها، وغيرهم ممن يُراد الانتقام منه.
عرفت بهذا أن كلام القائلين بزندقة ابن المقفع، مع ما عُرف من كلامه، هو من ذلك الباب. قال المرتضى في أماليه: روى ابن شبة، قال: حدثني من سمع ابن المقفع، وقد مر ببيت نار للمجوس بعد أن أسلم فلمحه، وتمثل:
وقال صاحبُ الأغاني نقلًا عن الجاحظ: كان والبة بن الحباب، ومطيع بن إياس، ومنقذ بن عبد الرَّحمن الهلالي، وحفص بن أبي وردة، وابن المقفع، ويونس بن أبي فروة، وحماد عجرد، وعلي بن الخليل، وحماد بن أبي ليلى الراوية، وابن الزبرقان، وعمارة بن حمزة، ويزيد بن الفيض، وجميل بن محفوظ، وبشار المرعث، وأبان اللاحقي؛ ندماءَ يجتمعون على الشراب وقولِ الشعر، ولا يكادون يفترقون، ويهجو بعضهم بعضًا هزلًا وعمدًا، وكلهم متهمٌ في دينه.
قلنا: واجتماع المتشاكلين قديمٌ في الناس، والغالب أنهم يتحرجون من إدخال من ليس على شاكلتهم في زمرتهم؛ فيُتهمون بما هم منه براء، كما اتُّهم جماعة أبي حيان التوحيدي الذي نقل بعض مجالسهم الفلسفية في مقابساته. وكانوا من أهل النحل المختلفة تجمع بينهم جامعةُ العلم والفلسفة، كما جمعتْ بين ابن المقفع وأصحابه جامعةُ الأدب. فقالوا: إنهم كانوا يجتمعون على شراب واتُّهموا بالمروق. وفي كتاب البيان والتبيين للجاحظ ذكرُ أناس كانوا شديدي التصافي والالتحام مع شدة التبايُن في المذاهب.
أما كيفية مقتل ابن المقفع: فقد أجمع مُترجموه على أنه كان بسبب كتابته أمانًا لعبد الله بن علي، قال فيه: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤُه طوالقُ ودوابُّه حبس، وعبيده أحرار، والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد ذلك على المنصور جدًّا وخاصَّة أمر البيعة، وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي، وهو أمير البصرة من قِبله؛ فقتله. وكان سفيان هذا شديد الحنق عليه؛ لأن ابن المقفع، على ما يُقال، كان ينال منه ويستخف به، حتى عزم على أنْ يغتاله فجاءه كتاب المنصور بقتله فقتله سرًّا في داره. ويقال: إنه عاش ستًّا وثلاثين سنة. وسأل سليمان وعيسى عنه فقيل: إنه دخل دار سفيان سليمًا ولم يخرج منها فخاصماه إلى المنصور وأحضراه إليه مقيدًا وحضر الشهود الذين شاهدوه وقد دخل داره ولم يخرج، فأقاموا الشهادة عند المنصور. فقال لهم المنصور: أنا أنظر في هذا الأمر. ثم قال لهم: أرأيتم إن قتلت سفيان به؟ ثم خرج ابن المقفع من هذا البيت وأشار إلى بابٍ خلفه وخاطبهم: ما تروني صانعًا بكم، أأقتلكم بسفيان؟ فرجعوا كلهم عن الشهادة وأضرب عيسى وسليمان عن ذكره، وعلموا أن قتله كان برضا المنصور.
ولابن المقفع شعر قليل، ولكنه جيد نقل له صاحب الحماسة ثلاثة أبيات، يقال: إنه رثى بها يحيى بن زياد. وقال الأخفش: والصحيح أنه رثى بها ابن أبي العوجاء، وهي:
قال ثعلب: البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر والشر ممزوج بالخير، فتأملْ.
ومما يُذكر عن ابن المقفع ما رواه صاحبُ الأغاني وغيرُه قال: حدثني اليزيديُّ، قال: حدثني عمي عبيد الله، قال: حدثني أحمد، قال: سمعتُ جدي أبا محمد يقول: كنتُ ألقى الخليل بن أحمد، فيقول لي: أُحب أن يُجمع بيني وبين عبد الله بن المقفع. فجمعت بينهما، فمر لنا أحسن مجلس وأكثره علمًا، ثم افترقنا فلقيت الخليل، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن، كيف رأيت صاحبك؟ قال: ما شئت من علم وأدب إلا أني رأيت علمه أكثر من عقله، ثم لقيت ابن المقفع فقلت له: كيف رأيت صاحبك؟ قال: ما شئت من علم وأدب إلا أن عقله أكثر من علمه. وقال المرتضى: إن من جمعهما كان عَبَّاد بن عباد المهلبي، فتحادثا ثلاثة أيام وليالهن.
قال الأصمعي: قيل لابن المقفع: مَن أدَّبك؟ فقال: نفسي؛ إذا رأيت من غيري حسنًا أتيتُهُ، وإن رأيتُ قبيحًا أبيتُه، ودعاه عيسى بن علي للغداء فقال: أعز الله الأمير، لست يومي للكرام أكيلًا. قال: ولِمَ؟ قال: لأني مزكوم، والزكمة قبيحةُ الجوار، مانعة من عِشرة الأحرار. ومن كلامه: شربت من الخُطب ريًّا ولم أضبط لها رويًّا؛ ففاضت ثم فاضت، فلا هي نظامًا وليس غيرها كلامًا.
ومما يؤثر عنه وهو ما يدلُّ على رأيه في الإنشاء أنه قال لبعض الكُتَّاب: إياك والتتبُّع لوَحْشِيِّ الكلام طمعًا في نيل البلاغة؛ فإنَّ ذلك هو العيُّ الأكبر. وقال لآخر: عليك بما سهُل من الألفاظ مع التجنُّب لألفاظ السفلة، وقيل له: ما البلاغة؟ فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يُحسن مثلها.
وفي البيان والتبيين عن إسحاق بن حسان بن فوهة، أنه قال: لم يفسر البلاغةَ تفسير ابن المقفع أحدٌ قَطُّ؛ سئل ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لِمَعانٍ تجري في وجوه كثيرة، منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرًا، ومنها ما يكون سجعًا وخُطبًا، ومنها ما يكون رسائلَ، فعامَّةُ ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة.
فأمَّا الخطب بين السِّمَاطين وفي إصلاح ذات البين؛ فالإكثار في غير خطل والإطالة في غير إملال. قال: وليكن في صدر كلامك دليلٌ على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيتُ الذي إذا سمعتَ صدره عرفتَ قافيته، كأنه يقول: فَرِّقْ بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة المواكب؛ حتى يكون لكل فن من ذلك صدرٌ يدل على عجُزه؛ فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يُشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت والغرض الذي إليه نَزَعْت.
قال: فقيل له: فإنْ مَلَّ المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام؛ فلا تهتم لِما فاتك من رضا الحاسد والعدو؛ فإنهما لا يرضيهما شيء، وأمَّا الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شيءٌ لا تناله، وقد كان يقال: «رضاء الناس شيء لا ينال.»
وقال عبد العظيم ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير، في البديع، في باب التهذيب والتأديب: قد كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة، ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإن كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، ومعانيهم ناصعة، وعباراتهم رائقة، وفصولهم مُتقابلة، وتلك طريقة الإمام علي — عليه السلام — ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام؛ كابن المقفع، وسهل بن هارون، وأبي عثمان الجاحظ، وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء.
وقال الأمين المحبي فيما يعوَّل عليه في المضاف والمضاف إليه: يتيمة ابن المقفع يُضرب بها المثل لبلاغتها وبراعة منشئها، وهي رسالة في نهاية الحُسن، تشتمل على محاسنَ من الأدب، وقد ذكرها أبو تمام وأجراها مثلًا في قوله للحسن بن وهب:
وقال جلال الدين في المزهر نقلًا عن أبي الطيب عبد الواحد اللغوي في مراتب النحويين: قال محمد بن سلام: سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في المعجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع.
وقال المعري في عبث الوليد: كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللام على كل وبعض. وروى الأصمعي أنه قال كلامًا معناه: قرأت آداب ابن المقفع، فلم أر فيها لحنًا إلا في موضع واحد، وهو قوله: العلم أكبر من أن يُحاط بكله فخذوا البعض.
وروي أن بعضهم ذكر ابن المقفع فقال: ألفاظه معانٍ، ومعانيه حِكم، فَصْل خطابه شفاء، وخصل بيانه كفاء، وسمع أبو العيناء بعض كلام ابن المقفع فقال: كلامُه صريح، ولسانُهُ فصيح، وطبعه صحيح، كأن بيانه لؤلؤ منثور وروض ممطور. وقال جعفر بن يحيى: عبد الحميد أصل وسهل بن هارون فرع، وابن المقفع ثمر، وأحمد بن يوسف زهر.
وعبد الحميد هذا هو الذي يُضرب به المثل في البلاغة حتى قيل: فُتحت الرسائل بعبد الحميد وخُتمت بابن العميد. وكان أحمد بن يوسف يقول في رسائل عبد الحميد: ألفاظ محككة وتجارب محنكة. قال صاحب الوفيات: وكان في الكتابة، وفي كل فن من العلم والأدب، إمامًا، وهو من أهل الشام، وكان أولًا معلم صبية يتنقل في البلدان وعنه أخذ المترسلون، ولطريقته لزموا ولآثاره اقتفَوا، وهو الذي سهَّل سبيل البلاغة في الترسُّل ومجموع رسائله مقدار ألف ورقة.
وقال ابنُ نباتة: إنه البالغ إلى أعلى المراتب في الكتابة البليغة، يُقال: إنه كان في أول عمره معلم صبيان بالكوفة، ثم اتصل بمروان الجعدي قبل أن يصلَ إلى الخلافة، وصحِبه وانقطع إليه، فلما جاء الأمرُ بالخلافة سجد مروان وسجد أصحابُه إلا عبد الحميد. فقال له مروان: لِمَ لا سجدت؟ فقال: ولِمَ أسجد على أن كنت معنا فَطِرت عنا؛ يعني بالخلافة. فقال: إذن تطير معي. قال: الآن طاب السجود. وسجد. وكان كاتب مروان طول خلافته.
وهو أوَّلُ مَنْ أخذ التحميدات من فصول الكتب، واستعمل في بعض كتبه الإيجاز البليغ، وفي بعضها الإسهاب المفرط على ما اقتضاه الحال، فمن الإيجاز بعض عمال مروان أُهدي إليه عبدٌ أسودُ فأمره بالإجابة ذامًّا مختصرًا، فكتب: «لو وجدت لونًا شرًّا من السواد وعددًا أقل من الواحد لأهديته.» وأمَّا الإسهاب؛ فإنه لَمَّا ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس كتب إليه عن مروان كتابًا يستميله ويُضمِّنه ما لو قرئ لَأَوقع الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم. وكان من كبر حجمه يُحمَل على جمل، ثم قال لمروان: قد كتبتُ كتابًا متى قرأه بطل تدبيرُهُ؛ فإن يكُ ذلك وإلا فالهلاك. فلمَّا ورد الكتاب على أبي مسلم لم يقرأْه وأمر بنار فأحرقه، وكتب على جزازة منه إلى مروان:
ولَمَّا اشتدَّ الطلب على مروان وتتابعتْ هزائمُه المشهورة قال لعبد الحميد: القومُ محتاجون إليك لأدبك، وإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حُسن الظن بك؛ فاستأمن إليهم وأظهر الغدر بي؛ فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي. فقال عبد الحميد:
ثم قال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ الذي أمرتَني به أنفعُ الأمرين إليك وأقبحهما بي، ولكني أصبرُ حتى يفتح الله عليك، أو أُقتل معك؛ فلمَّا قُتل مروان استخفى عبد الحميد فغُمز عليه بالجزيرة عند ابن المقفع وكان صديقه، وفاجأهما الطلب وهما في بيت فقال الذين دخلوا: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل واحد منهما: أنا؛ خوفًا على صاحبه. إلى أن عُرف عبد الحميد؛ فأُخذ وسلَّمه السفاح إلى عبد الجبار صاحب شرطته فكان يحمي له طشتًا ويضعه على رأسه، إلى أن مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقيل: إنه قُتل مع مروان في مصر.
قال المسعودي إنه رأى له عقبًا بفسطاط مصر، يُعرفون ببني مهاجر، وقد كان منهم عدة يكتبون لآل طولون. وكان أبو جعفر المنصور يقول: غلبنا بنو أُمية بثلاثة أشياء: بالحجاج وعبد الحميد والمؤذن البعلبكي. وقيل لعبد الحميد: ما الذي مكنك من البلاغة؟ قال: حفظ كلام الأصلع، يعني: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — كَرَّم الله وجهه. وقيل له: أيما أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ قال: إنما أُحب أخي إذا كان صديقي. وقال: أكرموا الكُتَّاب فإنَّ الله تعالى أجرى الأرزاق على أيديهم. وقال: القلم شجرة ثمرتها الألفاظ، والفكر بحرٌ لؤلؤه الحكمة. ومن كلامه: خير الكلام ما كان لفظه فحلًا، ومعناه بكرًا.
قال صاحب وفيات الأعيان: وكان كثيرًا ما ينشد:
ومما نقله عنه أنه ساير يومًا مروان بن محمد على دابة قد طالت مدتها في ملكه. فقال له مروان: قد طالت صحبةُ هذه الدابة لك. فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ من بركة الدابة طولُ صحبتها وقلة علفها. فقال له: فكيف سيرها؟ فقال: همها أمامها وسوطها عنانها، وما ضربت قط إلا ظلمًا.
ولعبد الحميد كصديقه وضريعه عبد الله بن المقفع شعر نادرٌ، فمنه:
هذا ما وصلنا من أخبار هذين الإمامين، ونحن نعلم أن ترجمتهما، على ما أثبتناها هنا؛ ليست مستوفاة من عامة وجوهها، ولكن تلاوة كلامهما أحسنُ مترجِمٍ عنهما؛ إذ كلام المرء قطعةٌ من عقله.