الرسالة العذراء
بسم الله الرحمن الرحيم
فَتَقَ الله بِالحِكْمَةِ ذِهنَك، وشَرَحَ بها صَدْرَك، وأَنْطق بالحقِّ لِسَانَك، وشَرَّفَ به بيانك، وصل إليَّ كتابُك العجيبُ الذي استفهمتني فيه بجوامِعِ كَلِمِكَ جوامع أسباب البلاغة، واستكشفتني عن غوامض آداب أدوات الكتابة، سألتني أن أقف بك على وزن عُذُوبة اللفظ وحلاوته، وحدود فخامة المعنى وَجَزَالته، ورشاقة نظم الكتاب ومشاكلة سَرْدِهِ، وحُسن افتتاحه وختمه، وانتهاء فُصُوله، واعتدال وصوله، وسلامتهما من الزلل، وبُعدهما من الخطل. ومتى يكون الكاتب مستحقًّا اسم الكتابة، والبليغ مسلمًا له معاني البلاغة، في إشارته واستعارته، وإلى أي أدواته هو أحوجُ، وبأي آلاته هو أعملُ، إذا حصحص الحقُّ، ودُعِيَ إلى السبق، وفهمته وأنا راسم لك — أيدك الله — من ذلك ما يجمع أكثر شرائطَك، ويُعَبِّر عن جملة سؤالك، وإن طولت في الكتاب وعرضت وأطنبت في الوصف وأسهبت، ومستقص على نفسي في الجواب على قدر استقصائك في السؤال، وإن أخل به التياث الحال، وسكون الحركة، وفتور النَّشاط، وانتشار الروية، وتقسُّم الفِكْرِ، واشتراك القلب، والله المستعان.
اعْلَمْ — أيَّدَك الله: أن أدوات ديوان جميع المحاسن، وآلات المكارم طاعةٌ منقادةٌ لهذه الصناعة التي خطبتُها وتالية تابعة لها، وغير خارجة إلى جَحْد أحكامها، ولا دافعة لما يلزمها الإقرار به لها، إضرارًا منها إليها وعجزًا عنها؛ فإن تقاضتْك نفسك علمها ونازعتْك همتُك إلى طلبها؛ فاتخذ البرهان دليلًا شاهدًا والحقَّ إمامًا قائدًا، يقرب مسافة ارتيادك، ويسهل عليك سُبُل مطالبها، واستوهب الله توفيقًا تستنجح به مطالبك، واسْتَمْنِحْه رشدًا يقبل إليك بوجه مذاهبك، فاقصد في ارتيادك، وتأمل الصواب في قولك وفِعْلِك، ولا تسكنْ إلى جحود قصد السابق باللجاج، ولا تخرج إلى إهمال حق المصيب بالمعاندة والإنكار، ولا تستخفَّ بالحكمة ولا تصغرْها، حيث وجدتها فترحل نافرةً عن مواطنها من قلبك، وتظعن شاردة عن مكانها من بالك، وتتعفى بعد العمارة من قلبك آثارها، وتنطمس بعد الوضوح أعلامها.
واعْلَمْ أن الاكتساب بالتعلُّم والتكلُّف، وطول الاختلاف إلى العلماء ومُدَارَسَة كُتُب الحكماء؛ فإنْ أرَدْت خَوْضَ بحار البلاغة وطلبت أدوات الفصاحة، فتصفحْ من رسائل المتقدمين ما تعتمد عليه، ومن رسائل المتأخرين ما ترجع إليه في تلقيح ذهنك، واستنجاح بلاغتك، ومن نوادر كلام الناس ما تَستعين به، ومن الأشعار والأخبار والسير والأسماء ما يتسع به منطقك، ويعذب به لسانك ويطول به قلمك.
وانظرْ في كُتُب المقامات والخطب ومحاورات العرب، ومعاني العجم وحدود المنطق وأمثال الفُرس ورَسَائِلهمْ وعُهُودهمْ، وتَوقيعَاتهم وسيرهم ومكايدهم في حروبهم، بعد أن تتوسط في علم النحو والتصريف واللغة والوثائق والشُّروط؛ ككتب السجلات والأمانات؛ فإنه أوَّلُ ما يحتاج إليه الكاتبُ وتَمَهَّرْ في نَزْعِ آيِ القُرآن في مواضعها، واجتلاب الأمثال في أماكنها واختراع الألفاظ الجزلة، وقرض الشعر الجيد وعلم العروض؛ فإنَّ تضمين المثل السائر والبيتِ الغَابِرِ مما يُزين كتابتك، ما لم تخاطب خليفة أو ملكًا جليل القدر، فإنَّ اجتلاب الشِّعر في كُتُب الخلفاء والجلة الرؤساء عيبٌ واستهجانٌ للكتب، إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشعر والصانع له؛ فإن ذلك مما يزيدُ في أبهته، ويدُلُّ على براعته، وإن شدوت من هذه العلوم ما لا يشغلك محله، وتنقبت من هذه الفنون ما تستعين به على إطالة قلمك، وتقويم أود بيانك.
بعد أن يكُون الكاتِبُ صحيح القريحة، حُلو الشَّمائل، عَذْب الألفاظ، دقيق الفهم، حسن القامة، بعيدًا من الفدامة، خفيف الروح، حاذق الحسن، محنكًا بالتجربة، عالمًا بحلال الكتاب والسنة وحرامهما، وبالملوك وسيرها وأيامها، وبالدهور في تقلُّبها وتداوُلها مع براعة الأدب، وتأليف الأوصاف، ومُشاكلة الاستعارة، وحسن الإشارة، وشرح المعنى بمثله من القول حتى تنصب صورًا منطقية تُعْرِبُ عن أنفسها، وتدُلُّ على أعيانها؛ لأن الحكماء قد شرطوا في صفات الكُتَّاب طول القامة، وصغر الهامة، وخفة اللهاذم، وكثافة اللحية، وصدق الحس، ولطف المذهب وحلاوة الشمائل وملاحة الزي، حتى قال بعض المهالبة لولده: تزيوا بزي الكتاب؛ فإن فيهم أدب الملوك وتواضع السُّوقة.
وخَاطِبْ كُلًّا على قدر أبهته، وجلالته، وعُلُوِّه وارتفاعه، وتفطُّنه وانتباهه، واجعلْ طبقات الكلام على ثمانية أقسام: فأربعةٌ منها للطبقة العُلوية وأربعة دونها، ولكلِّ طبقة منها دَرَجَةٌ، ولكل قسمة حظٌّ لا يتسع للكاتب البليغ أن يقصر بأهلها عنها، ويقلب معناها إلى غيرها: فالطبقة العليا الخلافة التي أعلى الله شأنها عن مساواتها بأحد من أبناء الدنيا في التعظيم والتوقير والمخاطبة والترسُّل. والطبقة الثانية الوزراء والكُتاب الذين يخاطبون الخلفاء بعقولهم وألسنتهم، ويرتقون الفتوق بآرائهم ويتجملون بآدابهم. الطبقة الثالثة أمراء ثغورهم، وقُوَّاد جيوشهم، يخاطب كل امرئ على قدره وبما حمل من أعباء أمورهم وجلائل أعمالهم. الطبقة الرَّابعة القضاة؛ فإنَّهم وإن كان لهم تَوَاضُعُ العُلماء وحلية الفُضَلاء، فمعهم أبهة السلطنة وهيبة الأمراء.
أمَّا الطبقاتُ الأربعُ الأخرى: فالملوك الذين أوجبتْ نعمهم تعظيمهم في الكُتب وأفضالُهم تفضيلَهم فيها. والثانية: وزراؤهم وكتابهم وأتباعهم الذين بهم تُقرع أبوابهم وبعنايتهم تُستماح أموالُهم. والثالثة: هم العُلَمَاءُ الذينَ يجبُ توقيرهم في الكُتب لشرف العِلْمِ وعُلُوِّ درجة أهله. الرابعة: لأهل القدر والجلالة والظرف والحلاوة والعلم والأدب؛ فإنهم يضطرونك بحدة أذهانهم وشدة تمييزهم، وانتقادهم إلى الاستقصاء على نفسك في مكاتبتهم.
واستغنينا عن الترتيب للتُّجار والسوقة والعوام رتبة لاستغنائهم بتجارتهم عن هذه الآلات، واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات، ولكُلِّ طَبَقَةٍ من هذه الطبقات معانٍ ومذاهبُ يجبُ عليك أن تراعيها في مراسلتك إليهم في كتبك، وتَزِنَ كَلامَكَ في مخاطبتهم بميزانه وتُعْطِيه قسمه وتوفيه نصيبه؛ فإنك متى أضعت ذلك لم آمن بك أن تعدل بهم غير طريقهم، وتجري شعاع بلاغتك في غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك في غير سلكه، فلا يُفيد المعنى الجزلُ ما لم تُلْبِسْه لفظًا جزلًا لائقًا بمن كاتبته، ومشابِهًا لمن راسلته.
وإِنَّ إلبَاسَكَ المعنى وإنْ شَرُف وصُلح لفظًا مختلفًا عن قدر المكتوب إليه، لم تجر به عادتهم؛ تهجينٌ للمعنى وإخلالٌ بقدرِه، وظُلمٌ لحق المكتوب إليه ونقصٌ مما يجب له، كما أن في امتناع تعارفهم وما انتشرت به عاداتهم، وجَرَتْ به سُنَنُهم؛ وضعًا لقدرهم، وخُرُوجًا من حقوقهم، وبلوغًا إلى غير غاية مرادهم وإسقاطًا لحُجَّة أدبهم، ضمن الألفاظ المرغوب عنها، والصدور المستوحش منها في كتب السادات والأمراء والملوك على اتفاق المعاني، مثل أبْقَاكَ الله طَويلًا وعَمَّرَك مليًّا، وإن كُنَّا نعلم أنه لا فرقان بين قولهم: أطالَ الله بقاءك، وبين قولهم: أبقاك الله طويلًا، ولكنهم جعلوا هذا أرجحَ وزنًا وأَنْبَهَ قدرًا في مخاطبة الملوك، كما أنهم جَعَلُوا أكرمك الله وأبقاك أحْسَنَ منزلة في كتب الظرفاء والأدباء من جُعِلْتُ فداك على اشتراك معناه، واحتماله أن يكون فداء من الخير، كما يكون فداء له من الشر. ولولا أن رسول الله ﷺ قال لسعد بن أبي وقاص: «فداك أبي وأمي» لكرهت أن يكتب بها أحدٌ، على أن كُتاب العسكر وعوامهم قد أُولعوا بهذه اللفظة، حتى استعملوها في جميع محاوراتهم وجعَلُوها هِجِّيرَاهم في مخاطبة الشَّريف والوضيع والصغير والكبير؛ ولذلك قال محمود الوَرَّاق:
وكَذَلكَ لم يجيزوا أن يكتُبُوا بمثْل أَبْقَاك اللهُ، وأمْتَعَ بكَ إلا إلى الحرْمَة والأهْلِ والتَّابِعِ والمنقَطِعِ إليك، وأمَّا في كُتُب الإخوان فغير جائز، بَل مَذْمُومٌ مرغوبٌ عنه؛ ولذلك كتب عبد الله بن طاهر إلى مُحمد بن عبد الملك الزيات:
فكتب إليه محمد بن عبد الملك:
وأما صُدُور السلف؛ فإنما كانت من فلان بن فلان إلى فلان، كذلك جرتْ كُتُب رسول الله ﷺ إلى العلاء بن الحضرمي وإلى أفيال اليمن وإلى كِسرى وقيصر، وكتب أصحابه والتابعين كذلك حتى استخلص الكُتَّاب هذه المحادثات من بدائعِ الصدور، واستنبطوا لطيف الكلام ورتبوا لكُلٍّ رُتبَةٍ وجَرَوْا على تلك السُّنة الماضية إلى عصرنا هذا في كتب الخلفاء والأمراء، وثبتوا على ذلك المنهاج في كتب الفتوحات والأمانات والسجلات، ولكل مكتوب إليه قدرٌ، ووزْنٌ ينبغي للكاتب ألَّا يتجاوز به عنه ولا يُقَصِّرَ به دُونه، وقد رأيتُهم عابوا الأحوصَ حينَ خَاطَبَ الملُوكَ بمخَاطَبَة العوام في قوله:
فهذا معنًى صحيحٌ في المدح، ولكنَّهم أجَلُّوا أقدار الملوك أن يمدحوا بما يمدح به العوام؛ لأن صدق الحديث وإنجاز الوعد، وإن كان مدحًا فهو واجبٌ على كل، والملوك لا يُمدحون بالفروض الواجبة، وإنما يحسن مدحهم بالنوافل؛ لأن المادح لو قال لبعض الملوك: إنك لا تزني بحليلة جارك، وإنك لا تخون ما استُودِعت، وأنك تصدق في وعدك وتفي بعهدك؛ كان قد أثنى بما يجب، ولكنه لم يصل بثنائه إلى مقصده. وقال: ما لا يُستحسن مثله في الملوك.
ونحنُ نعلَمُ أن كُلَّ أميرٍ تَوَلَّى من أمُور المؤمنين شَيئًا، فهو أميرُ المؤمنين غيرَ أنهم لم يطلقوا هذه اللفظة إلا للخلفاء خاصَّة، ونعلمُ أن الكَيْس هو العَقْلُ إذا عَنَوا به ضِدَّ الحمق، ولكنك لو وصفت رجلًا فقلت: إن فلانًا لَعاقل كنت قد مدحته عند الناس. ولو قلتَ: إنه كيس كنت قد قصرت في وصفه وقصرت به عن قدره إلا عند أهل العلم باللغة؛ لأن العامة لا تلتفت إلى معنى الكلمة إلا إلى حيث جرتْ منها العادةُ في استعمالها في الظاهر مع الحداثة والعزة وخساسة القدر وصغر السن، فقد روينا عن علي — رضي الله عنه — أنه تبجح بالكيس حين بنى الكوفة. وقال:
وقال آخر: ما يصنعُ الأحمقُ المرزوق بالكَيِّسِ، ونَعْلَمُ أن الصَّلاةَ: رَحْمَةٌ غَيْرَ أنهم قد حَرَّمُوها إلا على الأنبياء، كَذَلِكَ رُويَ عن ابن عَبَّاسٍ — رضي الله عنهما — وسَمع سعْدُ بنُ أبي وقاص أخًا لَه يُلَبِّي ويَقُولُ: يا ذا المعارج، فقال: نحنُ نَعْلَمُ أنه ذو المعَارج، ولكنْ ليس كذلكَ كنَّا نُلبي على عَهْدِ رسول الله ﷺ إنما كُنَّا نقول: لبيك اللهم لبيك. وكان أبُو إبراهيمَ المزَني قالَ في بَعض ما طَالَبَ به داود بن علي خلف الأصبهاني فقال: وإنْ قَالَ كَذَا فَقَد خَرَجَ من الملَّة، والحمدُ لله، فانتقد عليه ذلك داود وقالَ: تحمدُ الله على أن يَخْرُج مسلم من الإسلام؟! هذا موضعُ استرجاع، وللحمد مكانٌ يليق به، ونحن نقول على المصيبة: إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة: ١٥٦).
فامتثلْ هذه الرسوم والمذاهب واجرِ على آدابهم، فلكلٍّ رسومٌ امتثلوها، وتَحَفَّظْ في صدور كتبك وفصولها وافتتاحها وخاتمتها، وضع كُلَّ مَعْنًى في موضع يليقُ به، وتخيرْ لكُلِّ لَفْظَة معنًى يُشَاكلها، وليكنْ ما تختم به فصولك في موضع ذكر الشكوى بمثل: والله المستعان، وحسبُنا الله ونعم الوكيل، وفي موضع ذكر البلوى، نسأل الله دفع المحذور، ونسأل الله صرف السوء، وفي موضع المصيبة بمثل: إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، وفي موضع ذكر النِّعَم بمثل: والحمدُ لله خالصًا والشكر لله واجبًا؛ فإنها مواضعُ ينبغي للكاتب تَفَقُّدُها؛ فإنما يكون كاتبًا إذا وَضَعَ كُلَّ معنًى في موضعه، وعَلَّق كل لَفْظَة على طَبَقَتها من المعنى، فلا يجعلُ أول ما ينبغي له أن يكتب آخر كتابه في أوله، ولا أوله في آخره؛ فإني سمعت جعفر بن محمد الكاتب يقول: لا ينبغي للكاتب أن يكُون كاتبًا، حتى لا يستطيعَ أحدٌ أن يؤخر أولَ كتابه ولا يقدم آخرَه.
واعْلَمْ أنه لا يجوزُ في الرَّسَائلِ ما أتى في آيِ القرآن من الإيصال، والحذف ومخاطَبة الخاص بالعام، والعامِّ بالخاصِّ؛ لأن الله — سبحانه وتعالى — إنما خاطب بالقُرآن أقوامًا فُصَحَاءَ فَهمُوا عنه — جل ثناؤُه — أمرَه ونهيه ومُرَاده، والرَّسائل إنما يُخاطب بها قومٌ دُخَلاءُ على اللغة لا عِلْمَ لهم بلسَان العرب، وكذلك ينبغي للكاتب أن يتجنب اللفظ المشترك والمعنى الملتبس؛ فإنه إن ذهب على مثل قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ (يوسف: ٨٢)، واسأل العير، وبَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهار (سبأ: ٣٣)، احتاج أن يبين بل مكركم بالليل والنهار، ومثله في القرآن كثير.
ولا يجوزُ في الرَّسَائِلِ ما يجُوزُ في الشِّعْرِ؛ لأن الشِّعْرَ موضِعُ اضطِرارٍ، فاغتفروا فيه الإغراب وسوء النَّظم والتقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار، فمن الحذف قول الحطيئة: من صنع سلام؛ يريد سليمان بن داود.
وكقول الآخر: والشيخ عثمان أبو عفان.
وكقول الآخر:
أراد ابن سَيَّار، وكقول النَّابغة: ونَسَجَ سُليمٌ كُلَّ قضاء زائل. يريد سليمان، وكذلك ينبغي في الرسائل ألَّا يصغر الاسم موضع التعظيم، وإن كان ذلك جائزًا على مثل قولهم: دويهية وجذيل وعذيق، ومما لا يجوز في الرسائل: كلمت إياك وأعني إياك.
وإساءَةُ النَّظْمِ في التَّأليفِ في الشِّعْرِ كثيرٌ، وتَكُونُ الكَلِمَة بَشِعَةً حتى إذا وضعت موضعها وقرنت مع أخواتها حَسُن حالها وراقت، كقول الحسن بن هاني:
والكدُّ كلمة قلقة؛ لا سيما في الرقيق والغزل والتشبيب، غير أنها لَمَّا وقعت في موضعها حسنتْ، كما أن اللفظة العَذْبَة إذا لم توضع موضعها نفرت، قال:
فأوقَعَ الجِلْفُ الجافي هَذِهِ اللَّفْظَة غير موقعها وظَلَمَها؛ إذ جعلها في غير مكانها؛ لأن المساحي لا تكون ولا تصلح للغرائر، وأين كان عن قول الشاعر:
فتخيرْ من الألفاظ أَرْجَحَها وزنًا، وأَجْزَلَها معنًى، وأَلْيَقَها في مكانها، وليكنْ في صدر كتابك دليلٌ واضحٌ على مُرادِك، وافتتاحِ كَلامِكَ بُرْهانٌ شَاهِدٌ على مقصدك، حيثُمَا جريتَ فيه من فنون العلم ونَزَعْتَ نحوه من مَذَاهِب الخطب والبلاغات؛ فإن ذلك أجزلُ لمعناك وأحسن لِاتِّساق كلامك، ولا تُطيلَنَّ صَدْرَ كلامك إطالة تخرجه من حده، ولا تقصر به عن حقه. ولو صُوِّر اللفظ وكان له حدٌّ لوقفتُكَ عَلَيْه، غير أنهم في الجملة كرهوا أن يزيدوا سُطُور كُتُب الملوك على سطرين، وهذه إشارة لا تعبر إلا عن الجملة من المقصود إليه؛ لأن الأسطُر غير محدودة.
واعْلَمْ أن أوَّلَ مَا يَنْبَغي لكَ أنْ تُصْلح آلتك التي لا بُدَّ لك منها، وأدواتَك التي لا تتمُّ صِنَاعَتُك إلا بها وهي: دواتك، فابدأ بعمارتها وإصلاحها وتخيرْ لها ليقة نقية من الشَّعر والوَدَج؛ لئلا يخرج على حرف قَلَمك ما يُفْسِدُ كتابك، ويشغلك بتنقيته، وخُذ من المدَادِ الفَارسي خمسة دراهم، ومن الصمغ العربي درهمًا، وعفصًا مَسْحُوقًا نصف درهم، ورَمَاد القرطاس المحرق درهمين، ثم تسحقها وتغربلها وتجمعها ببياضِ البيض، ثم بندقها واجعلْها في الظل، فإذا احتجت إليها أخذت منها مقدار حاجتك، فكسرته وحشوت به دواتك، وإذا نقعتَه في ماء السلق حتى ينحل ويَذُوب ويختمر، ثم أمددت من مائه دواتك كان أَجْوَدَ وأنقى، ثُم اخْتَرْ بعد ذلك من أَنَابِيبِ القلم الذي يَصْلُح لكتابة القراطيس: أقله عُقْدة، وأكثفه لحمًا، وأجلبه قشرًا، وأَعْدَلَه استواءً، وتجنَّب الأقلام الفَارِسِيَّة ما استطعت؛ فإنها ما تصلح إلا للكواغد والرقوق.
واجعل لقلمك براية حادة؛ فإن تعثر يد الكاتب وقت قطع القرطاس ناقصٌ مروءته ومخل بظرفه، وإن قدرتَ ألَّا تقطع القرطاس، إذا فرغت من كتابك إلا بخرطوم قلمك فافعلْ؛ فإن ذلك أكملُ لمروءتك وأبدعُ لظرفك وقطعك.
واستعملْ لبري القلم سكينًا طواويسيًا مُذَلَّق الحدِّ وميض الطَّرف، فيَكُون ذلك عونًا لك على بَرْيِ أقلامك؛ فإنَّ محلَّ القَلَمِ من الكَاتِبِ محلُّ الرُّمح من الفَارِسِ، ولإن قيلَ: كأنه الرُّمح الرديني، فقد قال الكاتب: كأنه القلم البحري. وتفقد الأنُبوبة قبل بَرْيِكَها؛ لئلا تجعلها منكوسة، وأبرها من ناحية نبات القصبة، وأرهف ما قدرت جانبي قلمك؛ ليرد ما انتشر من المداد ولا تطل شِقَّهُ؛ فإن القلم لا يمج المداد من شقه إلا مقدار ما احتملت شَبَتَاهُ، فارفع شبتيه ليَجْمَعَا لك حَوَاشي تحضيره، وأمَّا قَطُّ القلم فعلى قدر القَلَمِ الذي يَتَعَاطاه الكاتبُ من الخط، غيرَ أن المسَلْسَل لا يكادُ يتسلسلُ إلا بالقلم المربع القط، كما أن كُتُب الملوك والسِّجِلات لا تحْسُنُ إلا بالقلم المحرف الكوفي، وأما قلم اللازورد فهو المعتمد عليه، والمقصود إليه في النوائب والمهمات.
ورأيتُ كثيرًا من الكُتَّاب يختارُون قَلَمَ النَّرجس لتَجَعُّدِهِ وتجانُسِهِ، ومن اللازورد أبسط منه وأقوم حروفًا، وأمَّا الموشَعُ والمولع والمدبج والمنمنم والمسهم، فعلى قدر رشاقة خَطِّ الكاتب وحلاوة قلمه، وأمَّا حُسْنُ الخطِّ فلا حَدَّ له، قال عليُّ بنُ زيز النَّصراني الكاتب: أعلمك الخط في كلمة واحدة لا تكتبن حرفًا، حتى تستفرغ مجهودك في كتابة الحرف المبدوء به، وتجعل في نفسك أنك لا تكتب غيره، حتى لا تعجل عنه إلى غيره، وإياك والنَّقْط والشكل في كتابك، إلا أن تمر بالحرف المعضِل الذي تعلم أن المكتوب إليه يعجز عن استخراجه، فلأن يشكل عليَّ الحرف أحب إليَّ من أن يعاب بالنقط والإعجام. وقال المأمون لكُتَّابه: إياي والشونيز في كتبكم، يعني: النقط؛ ولذلك قال ابن هاني:
ولا تغفل الصلاة على النبي — عليه الصلاة والسلام — فقد قال أبو العيناء: إن بني أُمَيَّة هم الذين كانوا أمروا كتابهم، فطرحوا ذلك من كتبهم فجَرَتْ عادةُ الكتاب إلى يومنا هذا على ما سنوه، وقد قال — عليه الصلاة والسلام: «لا تجعلوني كقدح الراكب، ولكني اجعلوني في أول الدعاء وأوسطه، وآخره» صلى الله عليه وعلى آله وسلم أولًا وأوسطَ وآخرًا.
وأحب أن تجعل بَدَلَ الإشَارَة التُّراب، فَإنَّ النبي ﷺ قال: «أتربوا كتبكم فإنه أنجح للحَاجة.» ولا تَدَعِ التَّاريخ؛ فإنَّه يَدُلُّ على تحقيق الأخبار وقُرْبِها وبُعدها، وانظرْ إلى ما مضى من الشهر وما بقي منه؛ فإن كان الماضي أَقَلَّ من نصف الشهر قلت لكذا ليلة مضت من شهر كذا، وإن كان الباقي أقل من النصف قلت لكذا أيضًا بقيتْ، وقد قال بعض الكُتَّاب: إنَّ الماضي من الشهر تُحصيه والباقي لا تُحصيه؛ لأنك لا تدري أيتم الشهر أو ينقص. وليس هذا بشيء؛ لأن تأريخ الكتاب ليس من الأحكام في شيء، وما على الكاتب أن يكتب إلا بما ظهر، وتبين لا بما يظن.
ولا تجعل سحاة كتبك غليظة إلا في العهود والسجلات، التي تحتاج إلى خواتمها وطوابعها؛ فإنَّ محمد بن عيسى الكاتب كاتب آل طاهر، أخبر عنهم: أن عبد الله بن طاهر كتب إلى العراق في أشخاص كاتب كان كَتَبَ إليه، فكَتَبَ وغلظ سحاة كتابه فَرَدَّ الكِتَابَ إليه؛ فقدم عليه راجيًا لبره وجائزته. فقال عبد الله بن طاهر: إن كان مَعَكَ مسحاةٌ فاقطع خَزْمَ كتابك وانصرفْ وراءك، وكذلك لا تُعَظِّم الطينة؛ ففي المثل من عظم الطينة، فإنه مظلوم، ولا تطبعها إلا بعد عنواناتها؛ فإنَّ ذلك مرادٌ بهم وقد يجب عليكَ علمُ إلصَاق القَرَاطيس ومحوها، ولم أر شيئًا في إلصاقها ألطف من أن ينقع الصمغ العربي في الماء سَاعَةً حتى يذوب، ثم يلصق به، وكذلك ماء الكثير أو النشاستج، ثم تَطْوِيهِ طيًّا رقيقًا وتجعله في منديل نظيف ويرفع تحت وسادة حتى يجف، وأمَّا محوُها فَعَلَى قدر لُطْف الكَاتِبِ وتَأنِّيه، غيرَ أنه ينبغي له ألَّا يلقط السواد من القرطَاسِ إِلَّا بمثل الشَّمْعِ المسَخَّن واللبان الممضوغ وما أشبههما، ثم يكون لقطه رويدًا رويدًا كُلَّما لقط جانبًا حوله إلى الجانب الآخر.
وأمَّا قراءة الكُتُب المختومة والتلطُّف لنقض خواتيمها فمما لا نذكره خوفًا من سفيه.
وأما تضمين الأسرار حتى لا يقرأها غير المكتوب إليه ففيه أدبٌ، وقد تعلقت العامة بالقمي والأصبهاني، فيجب أن يبدل الحروف تبديلًا يَخْفَى، وألطف من ذلك أن تأخذ لبنًا طيبًا فتكتب به في قرطاس، فيذر المكتوب إليه عليه رمادًا حارًّا من رماد القراطيس فإنه يظهر، وإن كتب بماء الزاج وذر عليه العَفْص المدقوق بجاز أو بماء العفص وذُرَّ عَليه شَيءٌ من الزَّاج، أو تنقع شيئًا من وشق، ثم تكتب به ثم نثرت عليه الرماد؛ فإنه يظهر وإن أحببته لا يُقرأ بالنهار ويقرأ بالليل، فاكتبه بمرارة السلحفاة، وإن حاولت صنعَة رِسَالَةٍ أو إنشاء كتاب فزن اللفظة قبل أن تخرجها بميزان التصريف إذا عرضت، والكلمة بعياره إذا سنحت، فربما مر بك موضع يكون مخرج الكلام إذا حسب، أنا فاعل أحسن من أنا أفعل، واستفعلتُ أحلى من فعلتُ.
وأَدِر الألفاظ في أماكنها واعرضها على معانيها، وقلِّبها على جميع وجوهها، حتى تقع موقعها، ولا تجعلها قَلِقَةً نَافرَةً؛ فمَتَى صَارَتْ كذلك هَجَنْتَ الموضع الذي أردت تحسينه، واعلم أن الألفاظ في أماكنها كترقيع الثوب الذي إذا لم تتشابه رقاعه تغير حسنه، قال الشاعر:
وارْتَصدْ لكتَابكَ فراغَ قلبك وساعة نشاطك، فتجد ما يمتنع عليك بالكد والتكلُّف؛ لأن سماحة النَّفس بمكنونها، وجُودَ الأذهان بمخزونها؛ إنما هو مع الشَّهوَة المفْرِطَة في الشَّرِّ والمحبَّة الغَالِبَة فيه أو الغضب الباعث منه ذلك، قيل لِبَعْضِهِم: لم لا تقُولُ الشِّعْرَ، قال: كيف أقولُه وأنَا لَا أغْضَبُ ولا أطرب، وهذا كله إن جريتَ من البلاغة على عِرْق، وظهرت منها على حظ، فأما إن كانت غير مناسبة لطبعك، ولا واقعةٍ شَهْوَتُك عليها، فلا تُنْضِ مَطِيَّتَكَ في الْتِمَاسِها، ولا تُتْعِبْ بَدَنَكَ في ابتغائها، واصرف عنانك عنها، ولا تطمع فيها باستعاراتك ألفاظ النَّاس وكلامهم؛ فإنَّ ذلك غيرُ مُثمر لك ولا مجد عليك، ومن كان مَرْجِعُه فيها إلى اغتصاب ألفاظ من تقدم والاستضاءة بكوكب من سبقه، وسحب ذيلِ حُلَّة غيره، ولم يكن معه أداة تُوَلِّد له من بنات قلبه ونتائج ذهنه الكلام الحر والمعنى الجزل، فلم يكن من الصناعة في عير ولا نفير.
على أن كَلامَ العُظَمَاء المطْبُوعين ودَرْسَ رَسَائل المتقدمين على كل حال، مما يفتق اللسان ويُوسع المنطق ويشحذ الطَّبع ويستثير كوامنه إن كانت فيه سجية.
قال العَتَّابي: ما رأينا فيما تَصَرَّفْنَا فيه من فنون العلم، وجَرَيْنَا فيه من صُنُوف الآداب شيئًا أصعب مَرَامًا ولا أَوْعَرَ مَسْلَكًا، ولا أدلَّ على نقص الرجال ورجاحتهم، وأصَالَةِ الرَّأي وحُسْنِ التَّمييز منه، واختياره من الصناعة التي خطبتها، والمعنى الذي طلبته وليس شيءٌ أصْعَبَ من اخْتيارِ الألفاظ وقَصْدك بها إلى موضعها؛ لأن اللفظة تكون أخت اللفظة وقسيمتها في الفصاحة والحسن ولا يحسن في مكان غيرها، وبتمييز هَذه المعاني ومُنَاسبة طبائع جَهابذَتها ومُشَاكَلَة أروَاحهم، جَعَلُوا الكتَابة نَسبًا وقرابةً، وأوجبوا على أهلها حفظها.
سهلُ بن وَهْب: الكتَابَةُ نفسٌ واحدَةٌ تجزَّأتْ في أبْدَان مُفترقة، ومَن لم يَعْرف فضْلَها وَجَهِلَ أهْلَها وتَعَدَّى بهم رُتْبَتَهم، التي وصفهم الله بها، فإنَّه ليسَ من الإنسانية في شيء.
قالت البرامكة: رسائل المرء في كتبه دليلٌ عَلَى عَقْلِهِ وشَاهِدٌ على غَيْبه، قال الشاعر:
آخر:
الشَّعبيُّ: يُعرَفُ عَقْلُ الرَّجل إذا كتب وأجاب.
العُتبيُّ: عُقُولُ النَّاس مُدَوَّنَةٌ في كُتُبُهم. ابنُ المقفع: كَلامُ الرَّجل وافدُ عقلِهِ.
وشَبَّهَت الحكماءُ المعَاني بالغَوَاني والألفَاظَ بالمعَارض، فإذا كَسَا الكَاتِبُ البَليغُ المعنى الجزل لفظًا رائقًا، وأعَارَه مخرجًا سهلًا؛ كان للقلب أحلى وللصدر أَمْلَى، ولكنه بقي عليه أن ينظمه في سلكه مع شقائقه كاللؤلؤ المنثور الذي يتولى نظمه الحاذقُ، والجوهريُّ العالم يُظْهِر بإحكام الصنعة له حسنًا هو فيه، ومنحه بهجة هي له، كما أن الجاهل إذا وضع بين الجوهرتين خرزة هَجَنَ نَظْمَهَ وَأَطْفَأَ نوره، كان حبيب بن أوس رُبَّما وَقَعَ على جَوْهَرة، فجعلها بين بعرتين. قال الشاعر:
والياقوت حَسَنٌ، وهو في جِيدِ الحسناء أحسن، وكذلك الشعر الجيد مونق، ولكنه من أفواه العظماء آنقُ، والتاج الشريف بهي المنظر، وهو على الملك أبهى، كما قال ابن الرُّقيات: «يعتدل التاج فوق مَفْرِقِهِ.»
قال أبو العتاهية لابن مناذر بلغني أنك تقول الشعر في الدهر والقصيدة في الشهر. فقال: نعم لو رضيتُ لنفسي أنْ أؤلِّف تأليفَك وأقُولَ: يا عُتْبُ يا دُرَّةَ الغَوَّاص؛ لقلت في اليوم والليلة ألف قصيدة.
وقال عمر بن لُجَأٍ لشاعرٍ: أنا أَشْعَرُ منك، قال: ولِمَ؟ قال: لأنك تقول البيت وابن عمه وأنا أقول البيت وأخاه.
فإن مُنيتَ بحبِّ الكتَابةِ وصِنَاعَتِها والْبَلاغَةِ وتَألِيفِها، وجَاشَ صَدْرُك بشِعْرٍ مَعْقُود أو دَعَتْكَ نَفْسُكَ إلى تأليف الكَلام المنثور، وتهيأ لك نظمٌ هو عِنْدَك معتدلٌ وكَلامٌ لديك مُتَّسقٌ، فَلا تَدعُونَّك الثقة بنَفْسكَ والعُجْبُ بتأليفك، أنْ تهجم به على أهل الصناعة؛ فإنَّك تنظُرُ إلى تأليفِكَ بعَينِ الوَالِدِ لولده، والعاشق إلى عشيقه كما قال حبيب:
ولكنِ أعْرضه على البلغاء والشعراء والخطباء ممزوجًا بغيره؛ فإن أصغَوا إليه وأذنوا له وشخصوا بالأبصار واستعادوه وطلبوه منك وامتزج، فاكشف من تلك الرِّسَالة والخُطْبَةِ والشِّعْر اسْمَه وانْسُبْه إلى نفسك، وإنْ رَأيتَ عنه العُيُونَ منصرفة والقلوب عنه واهية؛ فاستدلَّ به على تَخَلُّفِك عن الصناعة وتقاصُرك عنها، وَاسْتَرِبْ رأيك عند رأي غيرك من أهل الأدب والبلاغة: فَقَد بَلَغَني أن بعض الملوك دعا إنسانًا إلى مُؤانسته حتى ارتفعت الحِشْمَةُ بينهما، فأخرج له كِتَابًا قد غشاه بالجلود، وجَمَع أطرافه بالإبريسم وسَوَّى ورَقَه وزخرف كتابته، وجَعَلَ يَقْرَأُ عَلَيْه كَلامًا قد حَبَّرَه فيه وَنَمَّقَه عند نفسه، وجعل يستحسن ما لا يُحْسنُ، ويقف على ما لا يستثقل قراءته، حتى أتى عَلَى الكتَاب. فقال له: كيف رأيت ما قرأتُ عليك؟! فقال: أرى عَقْلَ صَانِعِ هَذا الكلامَ أكثر من كَلامه، فَفَطِنَ له ولم يُعاوده، إلى أن وقف به على تَنُّور مَسْجُور، ثم قذف بالكتاب في النار، وهذا رجل في عقله فضل، وفيه تمييز.
وإنما البلية فيمن إذا بينت له سوء نظمه واختياره، ووقفته على سخافة لفظه؛ هجرك وعاداك، فاجْعَلْ هذا الأصل مَيْزَانًا تَزنُ به مَذْهَبَكَ في رسائلك وبلاغتك، ولا تُخَاطِبَنَّ خَاصًّا بكَلامٍ عَامٍّ ولا عَامًّا بكلام خاص، فَمَتى خاطبت أحدًا بغَيرِ مَا يُشاكله، فقد أجريت الكلام غير مجراه وكشفته، وقَصْدُك بالكلام الشريف للرجل الشريف، تنبيهٌ لقدر كلامك ورفعٌ لدرجته قال:
فلا تخرجن كلمة حتى تزنها بميزانها، فتعرف تمامها ونظامها ومواردها ومصادرها، وتجنبْ — ما قدرت — الألفاظَ الوحشيةَ، وارتفعْ عن الألفاظ السخيفة، واقتضب كلامًا بين الكلامين.
الجاحظ: ما رأيت قومًا أمثل طريقة في البَلاغة من هَؤُلاء الكُتَّاب؛ فإنهم التَمَسُوا من الألفاظ ما لم يكن مُتَوعِّرًا وحَشيًّا ولا ساقطًا سوقيًّا.
وقال خَالد بن صَفْوانَ: أبْلَغُ الكلام ما لا يحتاج إلى كلام، وأحْسَنُه ما لم يكن بالبدوي المغرب، ولا القَرَوي المخْدج، الذي صحت مبانيه، وحسُنَتْ مَعَانيه، ودَارَ على أَلْسُن القائلين، وخفَّ على آذان السامعين، ويَزدادُ حُسنًا على ممر السنين بتجلية الرُّواة، وتنقية السراة، والكاتبُ المستحق اسم الكتابة والبليغ المحكوم له بالبلاغة؛ مَنْ إذا حاول صنعةَ كِتَابٍ سَالَتْ على قَلَمِه عُيُونُ الكلام من ينابيعها، وظهرتْ من مَعَادِنِها، وتَدَرَّبَ من مواطنها عن غير استكراهٍ ولا اغتصاب.
حدثنا صديقٌ للعتابي قال له: اعمل لي رسالة واستمدَّه مَرَّةً بعد أُخْرَى. فقال له: ما أرى بلاغتك إلا شاردة! فقال له العَتَّابِيُّ: لما تَنَاولتُ القلم تداعت علي المعاني من كل جهة فأحببت أن أترك كل معنًى يرجع إلى موضعه ثم أجتبي لك أحسنها.
أملى يزيدُ بن عبد الله أخو دينار على كاتب له، وأعجل عليه الإملاك، فتعثر قلمُ الكاتب عن تقييد إملاله، فقال مُتَحَرِّشًا: اكتُبْ يَا حمارُ. فقال الكَاتِبُ: أصلَحَ الله الأمير إنَّه لما هطلت شآبيب الكلام، وتدافقت سُيُوله على حرف القلم كَلَّ القلمُ عن إدراك ما وَجَبَ عليه تقييدُهُ، فليتذكر الأميرُ عُذْري، فكان جوابه أبلغ من بلاغة يزيد، وكُلَّمَا احلَوْلَى الكلامُ وعذب ورقَّ وسهلت مخارجه، كان أسهل وُلُوجًا في الأسماع، وأَشَدَّ اتصالًا بالقلوب وأَخَفَّ على الأفواه، ولا سيما إذا كان المعنى البديع مترجمًا للفظ مونق شريف، ومعبرًا بكلام مؤلف رشيق لم يشنه التكلف بميسمه، ولم يفسده التعقُّد باستهلاكه، كقول ابن أبي كريمة:
فهَجَنَ المعْنَى بِتَوَعُّرِ مَخارج الحرُوُفِ، وأخذه الحسن بن هاني فسهله، وقال:
وكلاهما من حَسَّانَ حيث يقول:
وانظر إلى سلاسة الحسن بن سهل، حيث قال:
وكتب عيسى بن لهيعة كتابًا إلى بعضهم، فعَقَّد كلامه وجَازَ المقْدَارَ في التنطُّع، فوقع له:
ودخل كاتب على مريض فوجده يئنُّ، فخرج من عنده فوجد طائرًا يُقال له الشفانين بباب الطاق فاشتراه وبعث به إليه، وكتب كتابًا يتنطع فيه ويذكر أنه يقال له الشفانين شفاء من الأنين. فأجابه: لو عَطَسْتَ ضبًّا لم تكن عندي إلا نبطيًّا، فاقصر عن بغضك وسَهِّلْ كلامَك، ومثله بمخلد الموصلي يهجو حبيب بن أوس الطائي:
وسألني بعضُ أهْلِ العلم أن أكتُبَ له قِصَّةً إلى جَعْفَرِ بن عبد الواحد القاضي، وقال: اكتب له قصة سهلة بليغة الألفاظ، فقلت له: دعني أكتب لك ما يصلح للقُضَاة، فغضب وقال: ما أسأل أن تعطيني شيئًا إنما أسألك هذا المعنى الرخيص. فاحتملت عُتْبَه لذمام، فكتبت له قصة لا تصلح أن تدفع إلا لرؤبة بن العجاج يقرأها، أو الطرماح، فلما حصلت بيد القاضي أراد قراءتها، فإذا هي مغلقة عليه. فقال له: أنت كتبت هذه القصة، قال: نعم، قال: إذن فاقرأْها، فذهب ليقرأَها، فإذا هي بالسودانية استعجامًا عليه. فقال له: أصلح الله القاضي إنما أقرأها في بيتي. فقال له: فاطلب حاجتك إذن في بيتك، فرجع إليَّ غضبان أسفًا يشتم ويؤذي وسألني أن أكتب له قصة على ما أرى، فكتبتُ له كتابًا يشبه أن يكون من مثله إلى القضاة، فقرأها وقضى حاجته، وعلم أنه لم يكتب واحدة منهما. والكِتَاب إذا لم يكن شبيهًا بحاجة صاحبه كان أحد الأسباب المانعة، والمعاني كُلُّها ممتثلة والكلام مشبعًا، ولكنَّ سياسَتَه صَعْبَةٌ وتأليفَه شديدٌ إلا على جهابذته، وفُرْسَانه أمراء الكلام يصرفونه كيف شاءوا، ولا يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ويكون اللفظ الأسبقَ إلى الأسماع من معناه إلى القلوب.
الجاحظ كان لفظه في وزن إشارته، وطبعه في معناه في مطابقة معناه.
ذكَرَ الحسَنُ بنُ وَهْبٍ أحمد بن يوسف. فقال: ما كنتُ أدْري أَلَفْظُه آنَقُ أم معناه، أو معناه أجزل أم لفظه؟ والمعاني وإن كانت كامنة في الصدور؛ فإنها مصورة فيها ومتصلة بها، وهي كاللآلئ المنظومة في أصدافها، والنَّار المخبوءة في أحجارها؛ فإن أظهرتَه من أكْنَانِهِ وأصْدَافِهِ تبيَّنَ حُسْنُهُ، وإن قدحت النار من مكانها وأحجارها انتفعتَ بها، وإلا بقيت محجُوبَةً مَسْتُورَةً، ورُبما يستثار الكامن منها ويستخرج المستتر من جواهرها بقدر حِذْقِ المستنبط وصَوَابِ حَركات المستخرج، وقَصْدِ إشَارَتِهِ ولُطْفِ مَذَاهبه، وكذلك ليسَ كُلُّ نَاطِقٍ ولا كَاتِبٍ يوُضِّحُ عن المعنى ولا يصيب إشارته، وكلما كان الكلام أفصح والبيان أوضح، كان أدلَّ على حُسن وجه المعنى الخفي بالروح الخفي، واللفظ الظاهر بالجثمان الظَّاهر، وإذا لم ينهض بالمعنى الشريف لفظٌ شريف جزلٌ، لم تكن العِبَارَةُ واضحة ولا النظم متسقًا، والدال على المعنى أربعة أصناف: لفظ وإشارة وعقدٌ وخَطٌّ، وذكر أرسطاطاليس خامسًا، وهي التي تُسَمَّى النصبة، وهي الحالةُ الدَّالَّةُ التي تَقُوم مَقَامَ تِلْكَ الأصناف الأربعة النَّاطقة بغير لفظ، والمشيرة إليه بغيرِ يَدٍ، وذلك ظاهرٌ في خلق السماوات والأرض، وفي كلِّ صامت وناطق، وهي داخلةٌ في جُملة هذه المعاني الأرْبَعَة وخارجة منها بالحلية، ولكُلِّ واحد من هذه الدلائل صُورةٌ مخالفة لصُورة صَاحِبَتها، وحليةٌ غيرُ مُشاكلة لحلية أختها، غير أنها — في الجملة — كاشفةٌ عن أعيان المعاني، وأوضح هذه الدلائل صنفان منها: وهما اللسان والقلم، وكلاهما يُتَرْجِمَّان ويَدُلَّان على القلب، ويستمليان منه ويؤديان عنه ما لا تؤدي هذه الأصنافُ الباقية.
وأَمَّا اللِّسَانُ فهو الآلَةُ التي يَخْرُجُ الإنسان بها من حد الاستبهام إلى حد الإنسانية؛ ولذلك قال صاحب المنطق: حد الإنسان الحي الناطق، وإنما يُبين عن الإنسان اللسان وعن المودة العينان، والله — سبحانه — رَفَعَ دَرَجَةَ اللِّسَان فأنْطَقَه من بين الجوارح بتوحيده، وما جعل الله مَن عبر عن شيء، مثل من لم يعبر عنه.
الأعور التيمي:
وقال آخر:
الطائي:
لِلْخَطِّ صورةٌ معروفةٌ، وحِلْيَةٌ مَوْصُوفَةٌ وفضيلة بارعة، ليست لهذه الأوصاف؛ لأنه ينوب عنها في الإيضاح عند المشهد ويُفَضِّلُها في المغيب، وَكَفَى بفضيلة العلم والخط قول الله — عز وجل: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (العلق: ٤، ٥)، وأقسم به كما أقسم بغيره ثم أقسم بما يكتبه القلم إفصاحًا عن حاله، وإعظامًا لشأنه وتنبيهًا لذكره. فقال: وَمَا يَسْطُرُونَ (القلم: ١).
ومن فضيلة الخط: أنه لسانُ اليد، ورسُولُ الضَّمير، ودليلُ الإرادة، والنَّاطق عن الخواطر، وسفير العقول وَوَحْيُ الفكر، وسلاح المعرفة، ومحادثة الأخلاء على التنائي، وأُنس الإخوان عند الفرقة، ومستودَع الأسرار، وديوان الأمور، وترجمان القلوب، والمعبر عن النفوس، والمخبر عن الخواطر، ومورثُ الآخِرِ مَكَارِمَ الأوَّلِ والنَّاقِلُ إليه مآثر الماضي والمخلد له حكمته وعلمه، والمسامر للعين بسر القلب، والمخاطب عن النَّاصت، والمجادِلُ عن الساكت، والمفصح عن الأبكم، والمتكلم عن الأخرس الذي تشهد له آثارُهُ بفضائله، وأخبارُه بمناقبه، وقد وقعت البلاغة من العلم علو القدر، وباذخ العز: كأبي مسلم صاحب الدولة فرقت شمله، وبَدَّدَتْ جَمْعَه ونقضت برمه، وأفسدت صلاحه، وضعضعت بُنْيَانه مع ذكائه وتَفَطُّنِهِ، ومكايده ودَهائِهِ وأصَالَةِ رأيِهِ وشدة شكيمته، وامتناعه على أبي جعفر ونفاره عنه، كيف استفزه ابن المقفع وصالح بن عبد القدوس وجبل بن يزيد واستمالوه بسِحْرِ ألفاظهم وبلاغة أقلامهم، حتى نَزَلَ من باذخ عزه وجاء مبادرًا، حتى وقع في الشَّرَك المنصوب له فتفرق جمعه، وانطفأ نوره وصار خبرًا سائرًا ورسمًا وأثرًا.
ورَفَعَ القَلَمَ خَاشِعَ الطَّرْفِ، صغيرَ الخطَرِ، لئيمَ الجِنْسِ، درَجَ من عش التجار، ونشأ بين المكيال والميزان، كيف أشالت البلاغة بضبعيه، ورفعت من ناظريه، حتى شافهتْ به عَنَانَ السماء، ورفعت بناءه فوق البناء، حتَّى طلبه الراكب، وقصده الطالبُ، وخَشَعَتْ له الرِّجَالُ، ولحظتْه العيون بالوقار، وتمكن من الصنائع، ومُدَّتْ نحوه الأصابع، فَشُكِرَتْ منه اللفظة، ورُجيت منه اللحظة، كمحمد بن عبد اللمك بن الزيات، وفيه يقول علي بن الجهم:
فأجابه محمد بن عبد الملك:
ومَدَحَه حبيبُ بنُ أوس يمدَحُهُ، ويصف قلمه:
وكان محمدٌ من ألطف الناس ذهنًا، وأَرَقِّهِم طبعًا، وأصدقهم حسًّا، وأرشقهم قلمًا، وأملحهم إشارة، إذا قَالَ أصاب، وإذا كتب أبلغ، وإذا أشعر أحسن، وإذا اخْتَصَرَ أغْنَى عن الإطالة، أَمَرَه الواثقُ أن يتلطف بعبد الله بن طاهر، ويُعْلِمَه أنه صرفه عن أمر الجزائر والعواصم، وفوَّض ذلك لابن عمه إسحاق بنِ إبراهيم، فكتب أمَّا بعد: فإن أمير المؤمنين رأى أن يخلع ما في يمينك من أمر الجزائر والعواصم فيجعله في شمالك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
سهلُ بنُ بَرَكَةَ يَهْجُو أبا نوح النصراني الكاتب. فقال:
- الرومي: البلاغة وضوح الدلالة، وانتهاز الفرصة، وحسن الإشارة.
- الفارسِيُّ: هي معرفة الفصل من الوصل.
- الهنديُّ: هي البَصَرُ بالحجَّة، والمعرفة بمواضع الفُرْصَةِ، ثم أنْ يَدَعَ الإفصَاحَ بها إلى الكناية عنها، إذا كان الإفصاحُ أَوْعَرَ طَريقًا، ورُبما كان الإطراقُ عنها أَبْلَغَ في الدَّرَك وأحقَّ بالظَّفَر.
- غيرُهُ: جماع البلاغة التماسُ حسن الموقع والمعرفة بساعات القول، وقلة الحذق بما التبس من المعاني وغَمُضَ، وبما شرد عليك من اللفظ وتعذر، ثم قال: وزَيْنُ ذلك كُلِّه وبهاؤه وحلاوتُه أن تكون الشمائل معتدلة، والألفاظ موزونة واللهجة نقية؛ فإنْ جَامَعَ ذلك السن والسمت والجمال وطول الصمت، فقد تَمَّ كل التمام.
وقيل لهندي: ما البلاغة؟ فأخرج صحيفةً مكتوبةً عندهم فيها أول البلاغة احتمالُ آلة البلاغة، وذلك أن يكون البليغُ رابطَ الجأش ساكن الجوارح، قليلَ اللحظ متخير اللفظ، لا يُكَلِّمُ سَيِّدَ الأمة بكلام الأمة، ولا الملوك بكلام السوقة، ويكُونُ في قواه فضلٌ للتصرف في كل طبقة، ولا يُدَقِّقُ المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح، ويصعبها كل التصعبة، ويُهذبها غاية التهذيب، ولا يكون كذلك حتى يُصَادف فيلسوفًا حكيمًا عليمًا، ومن قد تَعَوَّدَ حذف فضل الكلام، وأسقط مشترك اللفظ.
أَنُوشِرْوَان لبُزُرْجُمْهُرَ: متي يكون العَيِيُّ بليغًا؟ فقال: إذا وصف بليغًا.
أرسطاطاليس: البلاغةُ حسنُ الاستعارة.
بشر بن خالد: البلاغة التقرُّب من المعنى البعيد، والتباعُد عن خسيس الكلام، والدلالة بالقليل على الكثير.
خَالِدُ بن صفوان: ليسَ البَلاغَةُ بخفة اللسان، ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابةُ المعنى، والقرع بالحجة.
عُمَرُ بن عبد العزيز: البليغُ من إذا وجد كثيرًا ملأهُ، وإذا وجد قليلًا كفاه، ابن عتبة: البلاغة دُنُوُّ المآخذ وقَرْعُ الحجة والاستغناء بالقليل عن الكثير. بعضهم: إني لأكرَه للإنسانِ أنْ يَكُون مقدار لسانه فاضلًا عن مقدار عقله، كما أكره أن يكون مقدار عقله فاضلًا عن مقدار لسانه وعلمه، يكفي من حظ البلاغة ألَّا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع.
عمرو بن عبيد ما البلاغة؟ فقال: ما بَلَّغَكَ الجنة وعدل بك عن النار، وما بصرك بمواقع رُشْدك وعواقب غَيِّكَ. فقال السائل: ليس هذا أريد. فقالَ: من لم يحسن أن يسكُت لم يحسن أن يسمع، ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول، قال: ليس هذا أُريد. قال النبي — عليه الصلاة والسلام: إنا معاشر الأنبياء بَكَّاؤُون. وكانوا يكرهون أن يزيد منطقُ الرجل على عقله. فقال له السائل: ليس هذا أريد، قال: كانوا يخافون من فتنة السكوت وسقطات الصمت. فقال: ليس هذا أريد. فقال: فكأنك إنما تريد تَخَيُّر اللفظ في حسن إفهام؟! إنك أردت تقرير حجة الله في عقول المكلفين، وتخفيف المؤنة عن المستمعين، وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالألفاظ المستحسنة في الآذان المقبولة عند الأذهان، رغبة في سرعة استجابتهم، ونفي الشواغل عن قُلُوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة، كنت قد أوتيت فصل الخطاب، واستوجبت من الله — سبحانه — جزيل الثواب.
الخليلُ بن أحمد: كُلُّ مَا أدَّى إلى قَضَاءِ الحَاجَةِ فهو بَلاغَةٌ، فإِنِ اسْتَطَعْتَ أن يكون لفظُك لمعناك طِبْقًا، ولتلك الحال وِفْقًا، وآخر كلامك لأوله مشابهًا وموارده لمصادره موازنًا فافعلْ، واحرص أن تكون لكلامك مُتَّهِمًا وإن ظَرُف، ولنظامك مستريبًا وإن لَطُف بمواتاة آلتك لك، وتصرف إرادتك معك، فافعل، إن شاء الله.
وهذه الرسالة عذراء؛ لأنها بِكْرُ معان لم تفترعها بلاغة الناطقين، ولا لمستها أكف المفوهين، ولا غاصت عليها فطن المتكلمين، ولا سبق إلى ألفاظها أذهان الناطقين، فاجعلها مثالًا بين عينيك ومُصَوَّرة بين يديك، ومُسَامَرَةً لك في ليلك ونهارك تهطل عليك شآبيب منافعها، ويُظلك منها بركاتها وتوردك مناهل بلاغاتها، وتدُلُّ على مهيع رُشْدِها وتُصْدِرُك، وقد نُقِعَ ظمؤك بينابيع بحر إحسانها إن شاء الله — عز وجل — والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.