ترجمة المؤلف ابن شرف القيرواني
نَبَغَ أبو عَبْدِ اللهِ محمَّدُ بنُ أبي سَعِيدِ بن أحمَدَ بنِ شَرَفٍ الجذَامِيُّ
القيرواني نحو (سنة ٣٩٠ﻫ)، من إحدى البيوتات الشريفة القَادِمَة مع الجيش العربي
الفاتح، والقيروانُ إذْ ذاك زَاهيةٌ زَاهِرَةٌ بالعُلُوم رافلةٌ بالمعارف والفُنُون،
فرَوَى المعقولَ والمنقولَ عن أَفَاضِلِ ذلك العصر كأبي الحسن القابسي، وأخذ الفنون
الأدبية من أساتذتها: كأبي إسحاق إبراهيم الحصري القيرواني، ومحمد بن جعفر القَزَّاز،
وغيرهما، حتى برع فيها وأَجَادَ؛ فألحقه حينئذٍ المعز بن باديس الصنهاجيُّ أمِيرُ
إفْريقية بديوان حاشيته؛ لِما رَأى فيه من الذكاء والنَّجَابة، وهناك التقى ابنُ شَرَف
بجماعةٍ من الكُتَّاب البلغاء، والشُّعراء الظُّرفاء الذين كان يجمعهم ديوانُ الملك،
مثل علي بن أبي الرجال الكاتب، رئيس قلم الإنشاء، وأبي علي الحسن بن رشيق صاحب العمدة،
ومحمد بن حبيب القَلَانِسِيِّ، وغيرِهِم.
وطبيعيٌّ أن وُجُود ابنِ شَرَف في مثل هذا الوَسَط، دَعَاه إلى تَتَبُّع
الوُجْهَةِ التي شَبَّ عليها وقوي نشاطُهُ؛ إذ كان أولئك الأدباء الأَجِلَّاءُ يتسابقون
في التقرُّب بنَظْمِهِمْ ونثرهم إلى الأمير؛ رَغبةً في العطايا الهائلة والهبات
الطائلة، وحَصَلَ عن هذا التنافُسِ والتزاحُمِ حَرَكةٌ فِكْرِيَّةٌ أدبيةٌ لم تر
إفريقية مِثْلَها في عصرٍ من عُصُور السلطنة الإسلامية، وصارت القيروان كعبَةَ العلم
التي يحجُّ إليها العلماء من جميع أصقاع المغرب حتى من الأندلس، وقد خصص المعز لصحبته
من بين هؤلاء الزُّعماء المتقدمين ابن شرف هذا، وابن رشيق، فكان يَلْتَفِتُ تارة إلى
الأول وأُخرى إلى الثاني، وجرى بسبب ذلك بين هذين الأديبين مناقضاتٌ ومهاجَاةٌ رسمها
كل
منهما في رسائلَ مُسْتَقِلَّةٍ، ومَقَامَاتٍ متنوعة لم يصل إلينا منها شيءٌ — فيما
نعلم.
حَكَى ابن شَرَفٍ المترجم له في كتابه «أبكار الأفكار»، قال: استدعاني المعز بن باديس
يومًا، واستدعى أبا علي الحسن بن رشيق الأزدي، وكنا شاعري حضرته وملازمي ديوانه. فقال:
أحبُّ أن تصنعا بين يدي قطعتين في صِفَةِ المَوْز على قافية الغين، فصنعنا حالًا من غير
أن يقف أَحَدُنَا على ما صنعه الآخر، فكان الذي صنعته:
يَا حَبَّذَا الْمَوْزُ وَإِسْعَادُهُ
من قَبْلِ أَنْ يَمْضُغَ الْمَاضِغُ
قد لَانَ حَتَّى لَا مَجْلِسَ لَهُ
فَالْفَمُ مَلْآنٌ بِهِ فَارِغُ
سِيَّانِ قُلْنَا مَأْكَلٌ طَيِّبٌ
فِيهِ وَإِلَّا مَشْرَبٌ سَائِغُ
والذي صَنَعَه ابنُ رَشِيقٍ:
مَوْزٌ سَرِيعٌ أَكْلُهُ
من قَبْلِ مَضْغِ الْمَاضِغِ
فَمَأْكَلٌ لِآكِلٌ
وَمَشْرَبٌ لِسَائِغِ
فَالْفَمُ من لِينٍ بِهِ
مَلْآنُ مِثْلُ فَارِغِ
يُخَالُ وَهْوَ بَالِعٌ
لِلْحَلْقِ غَيْرَ بَالِغِ
فأمرنا للوقت أن نصنع فيه على حرف الذال، فعملنا ولم ير أحدنا صاحبه ما عمل، فكان
ما
عملته:
هَلْ لَكَ فِي مَوْزٍ إِذَا
ذُقْنَاه قُلْنَا حَبَّذَا
فِيهِ شَرَابٌ وَغِذَا
يُرِيكَ كَالْمَاءِ الْقَذَى
لَوْ مَاتَ من تَلَذُّذٍ
بِهِ لَقِيلَ ذَا بِذَا
وما عمله ابنُ رَشيق:
للهِ مَوْزٌ لَذِيذٌ
يُعِيذُه الْمسْتَعِيذُ
فَوَاكِهٌ وَشَرَابٌ
بِهِ يُدَاوَى الْوَقِيذُ
تَرَى الْقَذَى الْعَيْنُ فِيهِ
كما يُرِيها النَّبِيذُ
قال ابن شرف: فأنْتَ تَرَى هذا الاتِّفَاقَ، لما كانتِ القَافِيَةُ واحدة والقصدُ
واحدًا، ولقد قال من حضر ذلك اليوم: ما نَدْري مم نعجب أمن سرعة البديهة، أم من غرابة
القافية، أم من حسن الاتفاق.
وحكى المؤلف المترجم له أيضًا في كتابه المذكور قال: «استخلانا المعز يومًا. وقال:
أريد أن تصنعا شعرًا؛ تَمْدَحَانِ به الشعر الرَّقيق الخفيف، الذي يكون على سوق بعض
النِّساء فإني أستحسنه، وقد عاب بعضُ الضرائر بعضًا به، وكُلُّهنَّ قارئاتٌ كاتباتٌ
فأُحِبُّ أن أُرِيَهُنَّ هذا، وأدَّعى أنه قديم لأحتج به على من عابه، وآسى به مَنْ
عِيبَ عليه، فانْفَرَدَ كُلٌّ منَّا وصنع في الوقت، فكان الذي قلت:
وَبِلْقِيسِيَّة زِينَتْ بِشَعْرٍ
يَسِيرٍ مِثْلِ مَا يَهَبُ الشَّحِيحُ
رَقِيقٍ فِي خَدَلَّجَةٍ رَدَاحٍ
خَفِيفٍ مِثْلِ جِسْمٍ فِيهِ رُوحُ
حَكَى زَغَبَ الْخُدُودِ وَكُلُّ خَدٍّ
بِهِ زَغَبٌ فَمَعْشُوقٌ مَلِيحُ
فَإِنْ يَكُ صَرْحُ بِلْقِيسٍ زُجَاجًا
فَمن حَدَقِ الْعُيُونِ لَها صُرُوحُ
وكان الذي قال ابنُ رَشيق:
يَعِيبُونَ بِلْقِيسِيَّةً أَنْ رَأَوْا لَها
كما قد رَأَى من تِلْكَ مَنْ نَصَبَ الصَّرْحَا
وَقد زَادَها التَّرْغِيبُ مِلْحًا كَمِثْلِ مَا
يَزِيدُ خُدُودَ الْغِيدِ تَرْغِيبُها مِلْحَا
فانتقد المعِزُّ على ابن رشيق قوله يعيبون. وقال: «أَوْجَدْتَ لخصمها حجة بأن بعض
الناس عابه».» فانظر ما ألطف هذه المناضلات، وما أحلى هذه الحكايات. ولولا خوف الإطالة
لزدنا من هذه طرفًا تروق الخاطر.
واستمر ابنُ شرف على خدمة المعز إلى أن زحف عرب الصعيد من هِلَالِيِّينَ ورياح
وغيرهم، واستولوا على غالب القطر التونسي بعد ما خربوه ودمروه، واضطر الأميرُ المعزُّ
إلى ترك القيروان أمام تلك القبائل المتوحشة (سنة ٤٤٩ﻫ)، وفر إلى المهدية واتخذها دار
ملكه، وقد تبعه إليها شعراؤه وحاشيتُهُ، وفي خلاء القيروان يقول ابن شرف من قصيدة
رنانة:
بَعْدَ خُطُوبٍ خَطَبَتْ مُهْجَتِي
وَكان وَشْكُ الْبَيْنِ أَمْهارَها
ذَا كَبِدٍ أَفْلَاذُها حَوْلَها
وَقَسَّمَتِ الْغُرْبَةُ أَعْشَارَها
أطْفَالُها مَا سَمِعَتْ بِالْفَلَا
قَطُّ فَعَادَتْ فِي الْفَلَا دَارَها
وَلَا رَأَتْ أَبْصَارُها شَاطِئًا
ثُمَّ جَلَتْ بِاللَّجِّ أَبْصَارَها
وَكانتِ الْأَسْتَارُ آفَاقَها
فَعَادَتِ الْآفَاقُ أَسْتَارَها
وَلَمْ تَكُنْ تَعْلُو سَرِيرًا عَلَا
إِلَّا إِذَا وَافَقَ مِقْدَارَها
ثُمَّ عَلَتْ فَوْقَ عُشُورِ الْخُطَا
تَرْمِي بِهِ فِي الْأَرْضِ أَحْجَارَها
وَلَمْ تَكُنْ تَلْحَظُها مُقْلَةٌ
لَوْ كَحَّلَتْ بِالشَّمْسِ أَشَفْارَها
فَأَصْبَحَتْ لَا تَتَّقِي لَحْظَةً
إِلَّا بِأَنْ تَجْمَعَ أَطْمَارَها
وأقام ابنُ شَرَف مُدَّةً بالمهْدِيَّة مع زُمْرَة شُعراء الملك يخدم الأمير المعز،
وابنه تميمًا إلى أن رحل عنها قاصدًا جزيرة صقلية، لِمَا سَمِعَ عن كَرَمِ أميرِها،
وإليها لحقه رَصيفُه ابنُ رَشيق، وقد قَدَّمْنَا أنه كان وقع بينهما بالقيروان، ما وقع
بين جريرٍ والفرزدق، أو بين الخوارزمي وبديع الزَّمان، فلما اجتمعا بصقلية تسامحا،
وأقاما بها زمنًا ثم استنهض يومًا ابن شرف رفيقه على جواز الأندلس، فأنشد حينئذ ابن
رشيق البيتين المشهورين بين الخاص والعام:
مِمَّا يُزَهِّدُ فِي أَرْضِ أَنْدَلُسٍ
سَمَاعُ مُقْتَدِرٍ فِيها وَمُعْتَضِدِ
أَلْقَابُ سَلْطَنَةٍ من غَيْرِ مَمَلْكَةٍ
كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَوْلَةَ الْأَسَدِ
فأجابه ابن شَرَفٍ بَدِيهَةً:
إِنْ تَرْمِكَ الْغُرْبَةُ فِي مَعْشَرٍ
قد جُبِلَ الطَّبْعُ عَلَى بَعْضِهِمْ
فَدَارِهِمْ مَا دُمْتَ فِي دَارِهِمْ
وَأَرْضِهِمْ مَا دُمْتَ فِي أَرْضِهِمْ
واجتاز ابن شرف وحده الأندلس، وسكن ألمرية وغيرها، وتردد على ملوك طوائفها كآل عباد
بإشبيلية وغيرهم، وبهذه المدينة الأخيرة كانت وفاته (سنة ٤٦٠ﻫ/١٠٦٧م)، وخلف ابنًا يدعى
أبا الفضل جعفرًا كان أديبًا مجيدًا أيضًا، أورد له العماد في خريدته والفتح في
قَلائِدِهِ قَصَائِدَ وفُصُولًا، تشهد له بِطُولِ الباع.
أمَّا تآليف محمد بن شرف فكثيرةٌ، على ما نقله إلينا المؤرخون، فمنها كتاب «أبكار
الأفكار» جمع فيه ما اختاره من نَظْمِهِ ونثره، وهو أنفسُ مُصَنَّفَاتِهِ «مفقود وقد
يوجد منه شيء في بعض كتب الأدب»، ومنها كتاب «أعلام الكلام» به نخب وملح «مفقود أيضًا»،
ثم «رسائل الانتقاد»، والمظنون أنه ألفها بعد هجرته القطر التونسي، كما يستفاد من سياق
كلامه في مقدمتها، وغيرها من هذه المصنفات الأدبية النفيسة.
وها نحن نأتي هنا على منتخبات نثر وشعر من كلام محمد بن شرف؛ ليرى القارئُ براعة هذا
المؤلف الجليل، ومكانته من الأدب.
فمن نَظْمِهِ في الشوق إلى بلاده القيروان مدة إقامته بالأندلس:
يَا قَيْرَوَانُ وَدِدْتُ أَنِّي طَائِرٌ
فَأَرَاكِ رُؤْيَةَ بَاحِثٍ مُتَأَمِّلِ
يَا لَوْ شَهِدْتُكِ إِذْ رَأَيْتُكِ فِي الْكَرَى
كَيْفَ ارْتِجَاعُ صِبَايَ بَعْدَ تَكَهُّلِ
وَإِذَا تَجَدَّدَ لِي أَخٌ وَمُنَادِمٌ
جَدَّدْتُ ذِكْرَ أَخٍ خَلِيلٍ أَوَّلِ
لَا كَثْرَةُ الْإِحْسَانِ تُنْسِي حَرْسَتِي
هَيْهاتَ تَذْهَبُ عِلَّتِي بِتَعَلُّلِ
لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّ آخِرَ عَهْدِهِمْ
يَوْمُ الرَّحِيلِ فَعَلْتُ مَا لَمْ أَفْعَلِ
وله في شكوى الزَّمان:
إِنِّي وَإِنْ عَزَّنِي نَيْلُ الْمُنَى لَأَرَى
حِرْصَ الْفَتَى خُلَّةً زِيدَتْ عَلَى الْعُدْمِ
تَقَلَّدَتْنِي اللَّيَالِي وَهْيَ مُدْبِرَةٌ
كَأَنَّنِي صَارِمٌ فِي كَفِّ مُنْهَزِمِ
وأنشد في المعنى:
عِتَابًا عَسَى أَنَّ الزَّمَانَ لَه عُتْبَى
وَشَكْوَى فَكَمْ شَكْوَى أَلَانَتْ لَه الْقَلْبَا
إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا إِلَى الدَّمْعِ رَاحَةٌ
فَلَا زَالَ دَمْعُ الْعَيْنِ مُنْهَمِلًا سَكْبَا
وقال أيضًا:
وَمَا بُلُوغُ الْأَمَانِي فِي مَوَاعِدِها
إِلَّا كَأَشْعَبَ يَرْجُو وَعْدَ عُرْقُوبِ
وَقد تَخَالَفَ مَكْتُوبُ الْقَضَاءِ بِهِ
فَكَيْفَ لِي بِقَضَاءٍ غَيْرِ مَكْتُوبِ
ومن شعره في الحكم قوله:
احْذَرْ مَحَاسِنَ أَوْجُهٍ فَقَدَتْ مَحَا
سِنَ أَنْفُسٍ وَلَوَ انَّها أَقْمَارُ
سُرُجٌ تَلُوحُ إِذَا نَظَرْتَ فَإِنَّها
نُورٌ يُضِيءُ وَإِنْ مَسَسْتَ فَنَارُ
وقوله:
لَا تَسْأَلِ النَّاسَ وَالْأَيْامَ عن خَبَرٍ
همَا يَبُثَّانِكَ الْأَخْبَارَ تَطْفِيلَا
وَلَا تُعَاتِبْ عَلَى نَقْصِ الطِّبَاعِ أَخًا
فَإِنَّ بَدْرَ السَّمَا لَمْ يُعْطَ تَكْمِيلَا
لَا يُؤْيِسَنَّكَ من أَمْرٍ تَصَعُّبُهُ
فَالله قد يُعْقِبُ التَّصْعِيبَ تَسْهِيلَا
بِعْ مَنْ جَفَاكَ وَلَا تَبْخَلْ بِسِلْعَتِهِ
وَاطْلُبْ بِهِ بَدَلًا إِنْ رَامَ تَبْدِيلَا
وَصَيِّرِ الْأَرْضَ دَارًا وَالْوَرَى رَجُلًا
حَتَّى تَرَى مَقْيِلًا فِي النَّاسِ مَقْبُولَا
وله:
إِذَا صَحِبَ الْفَتَى سَعْدٌ وَجِدٌّ
تَحَامَتْه الْمَكَارِه وَالْخُطُوبُ
وَوَافَاه الْحَبِيبُ بِغَيْرِ وَعْدٍ
طُفَيْلِيًّا وَنَادَلَه الرَّقِيبُ
وله أيضًا:
يَا ثَاوِيًا فِي مَعْشَرٍ
قد اصْطَلَى بِنَارِهِمْ
إِنْ تَبْكِ من شِرَارِهِمْ
عَلَى يَدَيْ شِرَارِهِمْ
أَوْ تُرْمَ من أَحْجَارِهِمْ
وَأَنْتَ فِي أَحْجَارِهِمْ
فَمَا بَقِيتَ جَارَهمْ
فَفِي هَوَاهمْ جَارِهِمْ
وَأَرْضِهِمْ فِي أَرْضِهِمْ
وَدَارِهِمْ فِي دَارِهِمْ
ومن كلامه في التغزُّل، قوله في ليلة أنس:
وَلَقد نَعِمْتُ بِلَيْلَةٍ جَمُدَ الْحَيَا
بِالْأَرْضِ فِيها وَالسَّمَاءُ تَذُوبُ
جَمَعَ الْعِشَاءَيْنِ الْمُصَلِّي وَانْزَوَى
فِيها الرَّقِيبُ كَأَنَّه مَرْقُوبُ
وَالْكَأسُ كَاسِيةُ الْقَمِيصِ كَأَنَّها
لَوْنًا وَقدرًا مِعْصَمٌ مَخْضُوبُ
هِيَ وَرْدَةٌ فِي خَدِّهِ وَبِكَأْسِها
تَحْتَ الْقَنَانِي عَسْجَدٌ مَصْبُوبُ
منِّي إِلَيْهِ وَمن يَدَيْهِ إِلَى يَدِي
فَالشَّمْسُ تَطْلُعُ بَيْنَنَا وَتَغِيبُ
وقوله أيضًا:
قَامَتْ تَجُرُّ ذُيُولَ الْعُصْبِ وَالْحَبَرِ
ضَعِيفَةَ الْخَطْوِ وَالْمِيثَاقِ وَالنَّظَرِ
تَخْطُو فَتُولِي الْحَصَا من حلْيِها نُبَذًا
وَتَخْلِطُ الْعنبَرَ الْوَرْدِيَّ بِالْعَفَرِ
تَلَفَّتَتْ عن طَلًا وَسْنَانَ وَابْتَسَمَتْ
عن وَاضِحٍ مِثْلِ نُورِ الرَّوْضَةِ الْعَطِرِ
مَا لَذَّ لِلْعَيْنِ نَوْمٌ بَعْدَ مَا ذَكَرَتْ
لَيْلًا سَمَرْنَاه بَيْنَ الطَّلِّ وَالسَّمَرِ
تَسَاقَطَ الطَّلُّ من فَوْقِ النُّحُورِ بِهِ
تَسَاقُطَ الدُّرِّ فِي اللِّبَّاتِ وَالثَّغْرِ
وله من خمرية سمية:
خَلِيلَ النَّفْسِ لَا تُخْلِي الزُّجَاجَا
إِذَا بَحْرُ الدُّجَى فِي الْجَوِّ مَاجَا
وَجَاهِرْ فِي الْمُدَامَةِ مَنْ يُرَائِي
فَمَا فَوْقَ الْبَسِيطَةِ مَنْ يُدَاجَى
أَمِطْ عنكَ الْكَرَى وَاللَّيْلُ سَاجٍ
وَدَعْنَا نَلْبَسُ الظَّلْمَاءَ سَاجَا
وَهاتِ عَلَى اهْتِمَامِ الرُّوحِ رَاحًا
فَبَعْدَهمُ النُّفُوسُ لَها افْتِرَاجًا
إِذَا مِرِّيخُها اتَّقَدَا احْمِرَارًا
صَبَبْنَا الْمُشْتَرِي فِيها مِزَاجًا
وله:
بَكَيْتُ دَمًا وَالْقَاصِرَاتُ سَوَافِرُ
فَلَاحَتْ خُدُودٌ كُلُّهُنَّ مُوَرِّدُ
وَقد وَقَفَ الْوَاشُونَ فِي كُلِّ وَجْنَةٍ
عَلَى مَحْضَرٍ فِيهِ الْمَدَامِعُ تَشْهَدُ
وله:
يَقُولُ لِيَ الْعَاذِلُ فِي لَوْمِهِ
وَقَوْلُه زُورٌ وَبُهْتَانُ
مَا وَجْه مَنْ أَحْبَبْتَه قِبْلَةٌ
قُلْتُ وَلَا قَوْلُكَ قُرْآنُ
وقال:
قُلْ لِلْعَذُولِ لَو اطَّلَعْتَ عَلَى الَّذِي
عَايَنْتُه أَعْنَاكَ مَا يَعْنِينِي
أَتَصُدُّنِي أَمْ لِلْغَرَامِ تَرُدُّنِي
وَتَلُومُنِي فِي الْحُبِّ أَمْ تُغْرِينِي
دَعْنِي فَلَسْتَ مُعَاقَبًا بِجِنَايَتِي
إِذْ لَيْسَ دِينُكَ لِي وَلَا لَكَ دِينِي
وقال فيمن اسمه عمر:
يَا أَعْدَلَ النَّاسِ أَسْمَاكُمْ تَجُورُ عَلَى
فُؤَادِ مُضْنَاكَ بِالْهُجْرَانِ وَالْبَيْنِ
أَظُنُّهمْ سَرَقُوكَ الْقَافَ من قَمَرٍ
فَأَبْدَلُوها بِعَيْنٍ خِيفَةَ الْعَيْنِ
وله أيضًا:
غَيْرِي جَنَى وَأَنَا الْمُعَاقَبُ فِيكُمُ
فَكَأَنَّنِي سَبَّابَةُ الْمُتَنَدِّمُ
وقال يَمدح أُستاذه الكاتب أبا الحسن علي بن أبي الرجال:
جَاوِرْ عَلِيًّا وَلَا تَحْفَلْ بِحَادِثَةٍ
إِذَا ادَّرَعْتَ فَلَا تَسْأَلْ عَنِ الْأَسَلِ
اسْمٌ حَكَاه الْمُسَمَّى فِي الْفَعَالِ فَقد
حَازَ الْعُلَيَّيْنِ من قَوْلٍ وَمن عملِ
فَالْمَاجِدُ السَّيِّدُ الْحُرُّ الْكَرِيمُ لَهُ
كَالنَّعْتِ وَالْعَطْفِ وَالتَّوْكِيدِ وَالْبَدَلِ
زَانَ الْعُلَا وَسِوَاه شَانَها وَكَذَا
تَمَيُّزُ الشَّمْسِ فِي الْمِيزَانِ وَالْحَمَلِ
وَرُبَّمَا عَابَه مَا يَفْخَرُونَ بِهِ
يَشْنَا من الْخَصْرِ مَا يَهْوَى من الْكِفَلِ
سَلْ عنه وَانْطِقْ بِهِ وَانْظُرْ إِلَيْهِ تَجِدْ
مِلْءَ الْمَسَامِعِ وَالْأَفْوَاهِ وَالْمُقَلِ
ومن نَظْمِهِ في أنواعٍ شَتَّى: قال في العُود:
سَقَى الله أَرْضًا أَنْبَتَتْ عُودَكَ الَّذِي
زَكَتْ منه أَغْصَانٌ وَطَابَتْ مَغَارِسُ
تَغَنَّى عَلَيْها الطَّيْرُ وَالْعُودُ أَخْضَرُ
وَغَنَّتْ عَلَيْهِ الْغِيدُ وَالْعُودُ يَابِسُ
وقال في الدرهم والدينار:
أَلَا رُبَّ شَيْءٍ فِيهِ من أَحْرُفِ اسْمِهِ
نَوَاه لَنَا عنه وَزَجْرٌ وَإِنْذَارُ
فُتِنَّا بِدِينَارٍ وَهمْنَا بِدِرْهَمٍ
وَآخَرُ ذَا هَمٍّ وَآخَرُ ذَا نَارِ
وقال من قصيدة في وصف سيف:
إِنْ قُلْتَ نَارًا أَتُنْدِي النَّارُ مُلْهِبَةً
أَوْ قُلْتَ مَاءً أَيُرْمَى الْمَاءُ بِالشَّرَرِ
وله من أُخرى:
وَقد وَخَطَتْ أَرْمَاحُهمْ مَفْرِقَ الدُّجَى
فَبَانَ بِأَطْرَافِ الْأَسِنَّةِ شَائِبَا
ومن نثره ما كتبه مستعطفًا على محبوس في دَيْنٍ:
قد حكمتَ بسِجْنِ الأشْبَاحِ، وهي سُجُونُ الأرواح، فامننْ على ما شئت منهما
بالسراح، فالحبس نزاعُ الأرواح، والعَقْلَةُ أخت القتلة، وكلاهما فقدٌ، ومَهْرٌ
للخُطُوب ونقدٌ، وإنما بينهما نَفَسٌ مُتَصَاعِدٌ، وأَجَلٌ متباعدٌ، فألحِقْ
منهما ما أجلت بما عجلت، وقد أخرنا الدين، إلى يوم الدين.
ومن منثور كلامه في «أبكار الأفكار»:
لَمَّا فَنِيَ عمرُ الأمس، وطُفِئَ سراجُ الشَّمس، لاحَتْ بُرُوق الثُّغُورِ
اللوامِعِ، وجلجلت رُعُود الأوتار في المسامع، وبُعِثَ مُخارِقٌ وابنُ جامع،
فلم يزل ذلك دَأْبَنَا، ما أقلع سَحَابُنَا، حتى مسأنا هجعة، وكلنا نقول
بالرجعة.
وله في القَرَابة: الوَجيه بين أقاربه، كالوادي بين مذانبه، تجذبُنَّ ماءَه وتطلبن
ظماءه.
وفي العداوة: كم قاطَعَكَ مَنْ رَاضَعَك، وقَابَحَكَ مَن مَالَحَك، ونافقك من وافقك،
وناصبك من صاحبك، وحَادَّك مَن وادَّك.
في أنواع شتى: الجودُ أنصَرُ من الجنُود، مَنْ بخل بماله، سَمَحَ بعِرْض آلِهِ، الباذِلُ
كثيرُ العاذل، الكريم كثير الغريم، احذر الكريم إذا افتقر، واللئيم إذا اقتدر،
احذر التقيَّ إذا أنْكَرَ، والذَّكِيَّ إذا فَكَّرَ، المطل أحدُ المنعَيْنِ
واليَأْسُ أحَدُ الصَّنْعَينِ، العِشْقُ أحدُ الرِّقَّيْن، والسَّلْوُ أَحَدُ
العتقين، رَفَثُ الكلام أحدُ السفاحين، وموالاةُ القُبَل أحد النكاحين، جميل
الرد أحد الجودين، وبقاء الذِّكر أحد الخلودين، طول الجمود أحد القبرين، وبقاء
الثناء أحدُ العُمْرَين، بِئْسَ النَّصِيرُ التقصير، المتَحَاسِرُ خَاسِرٌ، من
كَثُرَ فُجْرُهُ، وَجَبَ هَجْرُهُ، من كرمتْ خصالُهُ، وجب وصالُهُ، سحابَةُ
صيف، وزيارة ضيف، الوسيلة جَنَاحُ النَّجاح، رُبَّ عين إذا رأت زنت، لا كرم بمن
حرم، المسْتَلِمُ أحزمُ من المتَسَلِّم.
هذا ما قصدنا إيرادَه هنا على أن ما جمعناه من كَلامِ هَذَا الأديبِ البَارِعِ،
هُو أطوَلُ من ذلك، وقد لَاقَيْنَا صُعُوباتٍ جمةً في نظم ما تَشَتَّتَ؛ إذ لا يُوجد
تأليفٌ يحوي تراجمَ فضلاءِ القُطْر التونسي — والله المسئول الإعانة (ح.ح.ع).