كتاب العرب
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا، قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة: جَعَلَنَا الله وإياك على النعم شاكرين، وعِنْدَ المحن والبَلْوَى صَابرين، وبالقَسْمِ من عَطَائِهِ رَاضين، وأعاذَنَا من فِتْنَةِ العصبية وحَمِيَّةِ الجاهلية وتحامُل الشعوبية؛ فإنَّه بفرط الحسد وبغِلِّ الصَّدْرِ تُدْفَعُ العَرَبُ عن كل فضيلة، وتلحق بها كل رذيلة، وتغلو في القول، وتسرف في الذم، وتُبْهَتُ بالكذب وتُكَابِرُ العِيان، وتكاد تكفر ثم يمنعها خوفُ السيف وتغص من النبي ﷺ إذا ذكر بالشَّجَا، وتَطْرِفُ منه على القذى، وتبعد من الله بقدر بُعدها مِمَّنْ قرُب واصطفى.
وفي الإفراط الهلكة، وفي الغلو البوارُ، والحسد هو الداء العياء، أول ذنب عُصِي اللهُ به في الأرض والسماء، ومن تبين أمر الحسد بعدل النَّظر أوجب سخطه على واهب النعمة وعداوتِهِ لمؤتي الفضيلة؛ لأن الله تعالى يقول: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهمْ مَعِيشَتَهمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا (الزخرف: ٣٢) فهو — تبارك وتعالى — باسط الرزق وقاسم الحظوظ والمبتدي بالعطا، والمحسود آخذٌ ما أعطي وجار إلى غاية ما أجري.
وقال ابنُ مَسْعُودٍ: لا تُعَادُوا نِعَمَ الله! قيل: ومن يُعَادي نعَمَ الله؟ قَالَ: حَاسدُ الناس وفي بعض الكُتُبِ يقُولُ الله: الحاسِدُ عدوٌّ لِنِعْمَتِي مُتَسخِّطٌ لقَضَائِي، غيرُ رَاضٍ بقسمي.
قال ابنُ المقَفَّع: الحاسِدُ لا يَبْرَحُ زَاريًا على نِعْمَةِ الله لا يجدُ لها مَزَالًا، ويُكَدِّرُ على نَفْسِهِ مَا بِهِ، فَلا يجدُ لها طَعْمًا، ولا يَزَالُ سَاخِطًا على مَنْ لا يَتَرَاضَاهُ، ومُتَسَخِّطًا لِما لا يَنَالُ فَوْقَهُ، فهو مَكْظُومٌ هَلِعٌ جزوعٌ، ظالمٌ أشبه شيء بمظلوم، محروم الطلبة منغص المعِيشَةِ دَائِمُ السَّخْطَةِ، لا بما قُسِمَ له يقنع، ولا على ما لم يقسم له يغلب، والمحسُودُ يتقَلَّبُ في فضل الله مباشرٌ للسرور، ممهلًا فيه إلى مدة لا يقدر الناس لها على قطعٍ وانتقاض، ولو صَبَرَ الحسُودُ على ما به وضَمَرَ لِجُرْنِهِ كان خيرًا له؛ لأنه كلما هَرَّ خَسَأَه الله، وكُلَّمَا نَبَحَ قُذِفَ بحجره، وكلما أراد أن يطفئ نور الله أعلاهُ الله وَيَأْبَى اللَّه إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَه وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (التوبة: ٣٢)، ولله در القائل:
ولم أر في هذه الشعوبية أرْسَخَ عداوةً ولا أشَدَّ نَصْبًا للعَرَب من السِّفْلَةِ والحشوة وأوباش النبط وأبناء أكَرَةِ القُرَى، فأمَّا أشرافُ العَجَمِ وذَوُو الأخْطَارِ منهم وأهلُ الدِّيَانة فيَعرفون ما لهم وما عليهم، ويرون الشرف نسبًا ثابتًا.
وقال رجلٌ منهم لرَجُلٍ من العَرَبِ: إنَّ الشَّرف نسيبٌ، والشريف من كل قوم نسبُ الشريفِ من كل قوم، وإنما لهجت السفلة منهم بذم العرب؛ لأن منهم قومًا تَحَلَّوْا بِحِلْيَةِ الأدب فجالسوا الأشراف، وقومًا اتسموا بميسم الكتابة، فقربوا من السلطان، فدخلتهم الأنفة لآدابهم والغضاضة لأقدارهم من لؤم مَغَارِسِهِم، وخُبْثِ عَنَاصِرِهم، فمنهم مَنْ ألحق نَفْسَه بأشْرَافِ العَجَمِ، واعتزى إلى مُلُوكِهِمْ وأَسَاوِرَتِهِمْ ودخل في بابٍ فسيحٍ لا حجاب عليه، ونسبٍ واسعٍ لا مُدافعَ عنه، ومنهم من أقام على خساسة ينافح عن لؤمه ويَدَّعي الشرف للعجم كلها؛ ليكون من ذوي الشرف، ويظهر بُغْضَ العرب، ينتقصها ويستفرغ مجهودَه في مَشَاتِمِها، وإظهار مثالبها، وتحريف الكلم في مناقبها، وبلسانها نطق وبهممها أنف وبآدابها تَسَلَّحَ عليها؛ فإن هو عرف خيرًا ستره، وإن ظهر حقره، وإنِ احْتَمَل التَّأويلاتِ صَرَفَه إلى أقبحها، وإن سمع سوءًا نشره، وإن لم يسمعْه نفر عنه، وإن لم يجدْه تَخَرَّصَه، فهو كما قال القائل:
ومَن ذا — رحمك الله — صفا فلم يكن له عيبٌ، وخلص فلم يكن فيه شوب.
وقيل لبعض الحكماء: هل من أحدٍ ليس فيه عيبٌ؟! فقال: لا لأن الذي ليس فيه عيبٌ هو الذي لا يموت، وعائبُ الناس يعيبهم بفضل عيبه، وينتقصهم بحسب نقصه، ويذيع عوراتِهِم ليكونوا شُرَكَاءَه في عَوْرَتِهِ، ولا شيء أحبُّ للفاسق من زَلَّة العالم، ولا إلى الخامل من عثرة الشريف، قال الشاعر:
وقال آخر:
وقد كان زيادُ بنُ أبي سُفْيَان حينَ كَثُرَ طَعْنُ الناس عليه وعلى معاوية في استلحاقه عمل كتابًا في المثالب لولده وقال: مَنْ غَيَّرَكُمْ فقَرِّعُوه بمنقَصَتِهِ، ومَن نَدَّدَ عَلَيْكُمْ فابْدَهُوه بمثلبته؛ فإنَّ الشَّر بالشر يُتَّقَى، والحديد بالحديد يُفلح.
وكان أبُو عبيدة مَعْمَرُ بن المثنى أغرى النَّاسِ بمشَاتِمِ النَّاس، وألهجَهم بمثَالِبِ العَرَبِ، وحَالُه في نسبه وأبيه الأقرب إليه حالٌ نكره أن نذكرها فنكون كَمَنْ أَمَرَ ولم يأتمر، وزَجَرَ عَنِ القَبيحِ ولم يَزْدَجِرْ، وهي مشهورةٌ ولكن كَرِهْنَا أن تُدَوَّنَ في الكتب وتخلد على الدهر، ولا سيما وهو رجل يُحمل عنه العلم ويُحتجُّ بقوله في القرآن، ومن أتْعَبُ قلبًا وأنصَبُ فكْرًا مِمَّن أرَادَ أنْ يجعل الحسنة سيئةً، والمنقبةَ مثلبةً، ويحتاج لإخراج الباطل في صورة الحق؛ فيقصد من المناقب لمثل قوس حاجب يَضحك منها ويزري بها، ويذهب في ذلك إلى خساسة العود وقلة ثمنه، وهذا لو كان على مذاهبِ التجار والسُّوق في الرُّهون والمعاملات لَرَجَعَ بالعَيْبِ على الآخِذِ لا على الدافع؛ لأن الدافعَ لا يَأْلُو أنْ يَدْفَعَ أَحْقَرَ ما يجدُ في أكثرِ ما يأخذ، والمغبون من غُرَّ بالصغيرِ عن الكبير، وإنما رُهِنَ عَنِ العَرَبِ بما ضَمنهُ عنها، مَنْ كَفِّ الأذى عن مَمْلَكَتِهِ حتى يَحْيَوا وتنكشف عنهم ألسنةٌ. ولو كان مكان القوس مائةُ ألفِ رأس من الغنم عن هذا السبب ما كان القوسُ إلا أحسن بالدافع والقابل؛ لأن سِلاحَ الرَّجُلِ هي عِزُّه وشَرَفُهُ، وإسْلامُ المال أحسنُ من إسلام العِزِّ والشرف، وقد يَدْفَعُ الرَّجُلُ خاتمه وبُرْدَه أو رداءه عن الأمر العظيم فلا يسلمه خوفًا من السبة وأنفةً من العار.
قال أبو عبيدة: لَمَّا قَتَلَ وكيعُ بن أبي سُود التميميُّ قُتَيْبَةَ بن مسلم الباهلي بخراسان، بلغ ذلك سُليمانَ وهو بمكة وهو حَاجٌّ، خَطَبَ النَّاسَ بمسْجِدِ عَرَفَات، وذَكَرَ غَدْرَ بني تميمٍ، وإِسْرَاعَهم في الفتن، وتَوَثُّبهم على السُّلطان، وخلافهم له، فقام الفرزدق فَفَتَح رِدَاءَه وقال: يا أمير المؤمنين، هذا رِدَايَ هنا بوفاء تميم ومقامها على طاعتك، فلمَّا جاءت بيعةُ وكيعٍ قال الفرزدق:
يريد الأهتم بن سمي التميمي ورهطه.
وهذا سَيَّارُ بنُ عمرِو بن جابر الفزاريُّ ضَمن لِبَعْضِ الملوك ألفَ بعيرٍ دِيَةَ أبيه، ورهنه قوسه فقبلها منه على ذلك، وسَاقَها إليه، وفيه يقول القائلُ:
وسَيَّارٌ هذا هو جد هَرَمٍ الذي تنافر إليه عامرٌ وعلقمةُ. ومن هذا الباب قول جران، وذكر اجتماعه مع نساءٍ كان يألفهن:
يَظُنُّ مَنْ لا يَعْرِفُ هَذَا الخبر أَنَّهُنَّ سَلَبْنَه المسواك فاعتد عليهن، وأخبرهن أنه سيوجد عندهن ويُعْرف لقدر المسواك عندهن وعنده؛ ولأن الأعراب أنظرُ قوم في التافه الحقير الذي لا خَطَرَ له، وكيف يظن به وبهن هذا وبَلَدُ نَجْدٍ مستحلسٌ بضُرُوبٍ من شجر المساويك لا تُحْصَى؟! فكيفَ يَبْخَلُ عَلَى نِسَاءٍ يَهْوَاهُنَّ بِعُودٍ هو يصطلي به ويختبزُ ويَطْبُخُ بشَجَرِهِ؟! ومتى احتَاجَ إلى مِسْوَاك منه لم يتكلفه بثمن ولم يبعد في طلبه، والمعنى أَنْ نَجِدَ اختلافَ منابته فمنه: ما يُنْبِتُ الأسْحَلَ، ومنه ما يُنْبِتُ الأراك، ومنه ما ينبت البَشَامَ، فأهْلُ كُلِّ ناحيَة منهم يستاكُون بشجر بلدهم. وكان جران العود معروفًا بهؤلاء النساء يزورهن على حذر من مزار بعيد، وهو يستن من الشجر ما ينبت في بلده ولا ينبت في بَلَدِهنَّ، فلما أخذن سواكه ليتذكرنه ويسترحن إليه كما يفعل المتحابون قال: إنَّ هذا سيوجَد عندكن، وإذا وُجِدَ علم أنه مما يُنبته البلدُ الذي أسكنه فاستُدِلَّ به على زيارتي إياكن ويقصد لقول القائل:
فيتضاحكُ بالشعر ويستهزئ بالبردين والفرس الورد، ويُعَارِضُ ذلك بملوك فارسَ وأَسِرَّتِها وتيجانها، وبأن أبرويز ارتبط تسعمائة وخمسين فيلا على مرابطه، وبلغت مخدَّتُه التي كان يُشرف بها على الداخل عليه أَلْفَ إناء من الذهب، وخَدَمَتْه ألفُ جارية، وقد جهل هذا معنى الشِّعْر وأخطَأَ في المعارضة، وفخر بما ليس له فيه حظٌّ ولا نصيب.
أمَّا معنى الشعر: فإنَّ أبا عُبَيْدَة ذكَر أن وُفُودَ العَرَبِ اجتَمَعَتْ عِنْدَ النُّعمانِ بن المنذر فأَخْرَجَ بُرْدَيْ مُحَرَّقٍ وهو عمرو بن هند. وقال: ليقم أعز العرب قبيلة فيأخذهما؛ فقام عامرُ بنُ أُحَيْمِر بن بهدلة فأخذهما فاتزر بواحدٍ وارتدى بآخَرَ. فقال له: بم أنت أَعَزُّ العرب؟ فقال: العِزُّ والعُدَدُ من العرب في مَعَدٍّ، ثم نِزَارٍ، ثم في مضر في خندف، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة. فمن أنكر هذا من العرب فَلْيُنَافِرْنِي فسكت الناس. فقال النعمان: هذه عشيرتك كما تزعم، فكيف أنت في أهل بيتك وفي بدنك؟ فقال: أنا أبو عَشَرَةٍ وعم عشرة وخال عشرة يُغنيني الأكابرُ عن الأصاغرِ والأصاغرُ عن الأكابر، فأمَّا أنا في بدني فهذا شاهدي، ثم وضع قدمه على الأرض. وقال: من أزالها من مكانها فله مائةٌ من الإبل. فلم يقمْ إليه أحدٌ من الناس، فذهب بالبُرْدَين فسُمِّيَ ذا البردين، قال الفرزدق:
وأما الفَرَسُ الورد؛ فإن الخيل حصون العرب، ومنبت العز، وسُلَّمُ المجدِ، وثُمَالُ العيال، وبها تُدْرَكُ الثَّأْرُ، وعليها تَصَيُّدُ الوحش. وكانوا يؤثرونها على الأولاد باللبن ويشدونها بالأفنية للطلب والهرب، وقد كنى الله عنها في كتابه بالخير لما فيها من الخير. فقال حكاية عن نبيه سُليمان — عليه السلام: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (سورة ص: ٣٢)، يعني: الخيل، وبها كان شغلُ سليمان عن الصلاة حتى غربت الشمس.
وقال طفيل:
وقال آخر:
والبصيرةُ: الدَّمُ، يُريدُ أنهمْ لم يُدْرِكُوا الثأر؛ فثقل الدماء على أكتافهم، وأنه قد أدرك ثأره على فَرَسِهِ.
وحدثني محمد بن عبيد قال: حدثني سُفيان بن عيينة عن شبيب بن غرقدة عن عُروة البارقي قال: سمعتُ النبي ﷺ يقول: «الخيلُ مَعْقُودٌ في نَواصِيها الخيرُ إلى يوم القيامة.»
قال أبو محمد: وليس لأحدٍ مثل عتاق العرب، ولا عِنْدَ أحدٍ من الناس من العلم بها ما عندهم، وسَأَذْكُرُ من ذلك شيئًا فيما بعد — إن شاء الله — وإذا كان للرجل منها جواد مُبِرٌّ كريم شُهِرَ به وعرف، فقيل العسجدي ولاحقٌ وذا حُسْنٍ والورد. وليس أعجب من سرير كسرى وفخر العجم به وتصويرهم إياه في الصخور الصم وفي رعان الجبال، وإذا رأيت العرب تنسب إلى شيءٍ خسيس في نفسه، فليس ذلك إلا لمعنًى شريفٍ فيه، كقولهم لِهُنَيْدَةَ بنت صعصعةَ عمة الفرزدق ذات الخمار فمَنْ لم يعرف سببَ الخمار ها هنا يظن أنها كانتْ تختمر دون نساء قومها فنسبت إلى الخمار لذلك، قال أبو عبيدة: كانت هُنَيْدَةَ بنتُ صَعْصَعَةَ تقول: من جاء من نساء العرب بأرْبَعَةٍ مثل أربعتي يحل لها أن تضع عندهم خِمَارَها فصرمتي لها أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي الزِّبْرِقَان بن بدر فَسُمِّيَتْ ذات الخمار لذلك
وقال: كان هنْدُ بنُ أبي هالة ربيب النبي ﷺ يقولُ: أنا أكرمُ الناس أربعةً، أبي رسولُ الله وأُمِّي خديجة وأختي فاطمة وأخي القاسم، فهؤلاء الأربعة لا أربعتها. وأمَّا خطؤه في المعارضة؛ فإنَّ صاحب البردين لم يكن مَلِكَ العرب فيُعَارضنا عنه بِمُلْك العجم، ولم يَدَّعِ أحدٌ أنه كان للعرب في دولة العجم مثل مُلْكها وأموالها وعددها وسلاحها وحريرها وديباجها فيحتاجُ أن يَذْكُر فيَلَةَ أبرويز وجواريَه وفُرُشه، وقد كان هذا لأولئك كما ذكر، ثم جَعَلَه الله لهؤلاء فابتزوه واستلبوه والتحوهم كما يُلْتَحى القضيب، والناسخُ أفضل من المنسوخ. وأمَّا فَخْرُه بما ليس له فيه حظٌّ ولا نَصِيبٌ؛ فإنما يفخر بملك فارس أبناءُ مُلُوكِها وأبناءُ عُمَّالهم وكُتَّابهم وحجابهم وأساورتهم، فأما رجلٌ من عَرَضِ العَجَمِ وعَوَامِّهمْ لا يُعْرَفُ لَه نَسَبٌ ولا يشهر له أب فما حظه في سرير كسرى وتاجِه وحريرِه وديباجِه؟! وليسَ هو من ذلك في مراح ولا مَغْدًى ولا مظل ولا مأوى؛ فإنْ قال: لأني من العَجَم وكِسْرَى فمَرْحبًا بالمثل المبتذَل ابن جار النجار. ولو قال أيضًا: لأني من الناس وكسرى من الناس. وكان وهذا سواء وما هو بأَوْلَى بهذا السبب من العرب؛ لأن العرب أيضًا من الناس.
قال أبو عبيدة: أجريتُ الخيل فطلع منها فرسٌ سَابِقٌ، فجَعَلَ رجل من النظارة يكبر ويثب من الفرح. فقال له رجل إلى جانبه: يا فتى، أهذا السابق فرسك؟ فقال: لا، ولكن اللجام لي.
وقال المسعودي: قدمَ علينا أعرابٌ وكانوا يأتون ببضائعهم فأبيعها وأقومُ بحوائجِهِم. وكانوا يقولون: رحم الله أَبَاكَ دينارًا فكُنْتُ لا آلوهم عِنَايَةً، فقلتُ لهم: أخبروني عن السَّبَبِ بينكم وبين أبي قالوا: كان يُسَاومنا مرة بأتان، فقلت لهم: هل كان اشتراها منكُم؟ قالا: لا، قلتُ: الله أكبر، قالوا: وما ذاك؟ قلت: لو اشتراها صارت رحمًا ونسبًا.
وقد كانت العجم — رحمك الله — في ذلك الزمان طَبَّقَ الأرض شرقًا وغربًا وبرًّا وبحرًا إلا مَحَالَّ مَعَدٍّ واليمن، أفكل هؤلاء أشراف؟ فأين الوضعاء والأدنياء والكساحون والحَجَّامُونَ والدَّبَّاغُونَ والخمَّارُون والرعاع والمهان؟ وهل كان ذوو الشرف في جملة النَّاس إلا كاللمعة في جلد البعير؟ وأين ذراريهم وأعقابهم أَدَرَجُوا جميعًا فلم يَبْقَ منهم أحدٌ، وبقي أبناءُ الملوك والأشراف؟
وأعجبُ من هذا ادعاؤهم إلى إسحاق بن إبراهيم — صلى الله عليهما وسلم — وفخرهم على العرب بأنه لسارة الحرة وأن إسماعيل أبا العرب لهاجر، وهي أَمَةٌ، قال شاعرهم:
فبَنُو الأحرار عندهم العجم من وَلَدِ إسْحَاقَ وإسْحَاقُ لسارة وهي حُرَّةٌ، وبنو اللَّخناء عندهم العرب؛ لأنهم من ولد إسماعيل، وإسماعيل لهاجر وهي أمَةٌ قالوا: واللخناء عند العرب الأمة؛ فالويل الطويل لهؤلاء والبعد والثبور من هذه العداوة لأولياء الله، والأنباز القبيحة لصفوة الله، وقد غَلِطُوا في التأويل على اللغة. وليس كل أمة عند العرب لخناء؛ إنما اللخناء من الإمَاءِ الممْتَهنة في رَعْيِ الإبل وسَقْيها، وجمع الحطب وحَمْلِهِ واستقاء الماء والحلب وأشباهِ ذلك من الخِدْمَة، كما يقال الأمَةُ الوكعاء. وليس كل أَمَة وكعاء، وإنما قيل لخناء لنَتِنِ ريحها، ويقال لخن السقاء يلخن لخنًا إذا تغير ريحه وأَنْتَنَ.
وأما مثلُ «هاجر» التي طَهَّرَها الله من كل دنس وطَيَّبَها من كل دَفَر، وارتضاها للخليل فراشًا وللطيبين إسماعيل ومحمد — عليهما الصلاة والسلام — أُمًّا، وجعلهما سُلالة، فهل يجوز لِمُلْحِدٍ — فضلًا عن مسلم — أنْ يُطلق عليها اللَّخَنَ. ولو لم يكن إلا أن مَلِكَ القبط مَتَّعَ بها سَارَّةَ وكانت أنفس إمائه عندَه وأحظاهُنَّ لديه، لقد كان في ذلك دليلٌ على أنها لم تكُنْ من الإماء اللُّخُنِ. ولو جاز أن يطلق على كل أمة لخناءُ لَجاز أن يُقال لكل شريف ولدتْه أَمَةٌ هذا ابن اللخناء، كما يُقال هذا ابن الأمة، وقد ولدت الإماء الخلفاء والخيار والأبرار مثل: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
حدثني سَهْلُ بن محمد، قال: حَدَّثنا الأصْمَعِيُّ، قال: كان أهْلُ المدينة يكرَهُون اتخاذ أُمَّهات الأولاد حتى نشأ فيهم هؤلاء الثلاثة؛ ففاقوا أهل المدينة فقهًا وورعًا، فرغب الناس في السَّراريِّ. والنُّسَّاب لا يعرفون لأهل فارس ولا للنَّبَط في إسحاق بن إبراهيم حظًّا؛ لأن إسحاق تزوج رِفْقَا بنت ناحور بن تارح، وتارح هو آزر ورِفْقَا بنت عَمِّهِ؛ فولدتْ له عِيصُو ويعقوب توأمين في بطن واحد؛ فيعقوب هو إسرائيل الذي ولد الأسباطَ كلهم وكانوا اثني عشر رجلًا، وأولادُهم جميعًا يُدْعَون بني إسرائيل، وهم أهل الكتاب ليس لهؤلاء فيهم سببٌ ولا نسب، وعِيصو هو أبو الروم. وكان الروم رجلًا أصفر شديد الصفرة في بياض، ومن أجل ذلك سميت الروم بني الأصفر. قالوا: وكانت أمُّ الرُّوم بنتَ إسْمَاعِيلَ بن إبراهيمَ ووُلِدَ من الروم خمسة نفر، فكل من بأرض الروم من نسل هؤلاء الرَّهْطِ، قالوا: ولما سبقه يعقوب إلى دعوة إسحاق؛ فصارت النبوة في ولده دعا لعيصو بالنماء والكثرة؛ فالروم كلها من ولده، وبعض الناس يزعم أيضًا أن الأَشْبَان من ولده، وقالوا: النَّبَط بن ساروح بن أَرْغُو بن فالَغ بن عابَرَ بن شَالَحَ بن أَرْفَخْشَدَ بن سام بن نوح، ويُقال: إنه ابن مَاشَ بن سام بن نوح.
قالوا: وأهل فارس من ولد لَاوَدَ بن إِرَمَ بن سام بن نوح. وكان كثيرَ الولد فنزل أرض فارس فأجناس الفُرس كلهم من ولده، فليس بين هؤلاء وبين إسحاق بن إبراهيم — على ما ذَكَرَ النَّسَّابُونَ — نسبٌ يجمعهم إلا سام بن نوح.
والنَّاسُ يجتمعون في ولادة شيث بن آدم، ثم في ولادة نوح، ثم يتشعبون؛ فولد نوحٌ أربعةَ نفر: سام، وحام، ويافث، ويام، فأما يام فهلك بالطوفان فلا عقب له، وهو الذي قال له أبوه: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (هود: ٤٢)، وأمَّا حام؛ فإن أباه لعنه ودعا عليه بأن يكون عبدًا لأخويه، فخملت ذريتُه وسقطت فيه، فهم: النوبة، وفَزَّانُ، والزغاوةُ، وأجناس السُّودان، والسِّنْدُ، والقبط. وأمَّا يافث: فإنَّ أباه دعا له بالنماء والكثرة، فولد الصقالب والترك ويأجوج ومأجوج، وأُمَمًا عَدَدَ الرمل والحصا في مشارق الأرض، فأمَّا سام: فبارك عليه فأشْرَافُ الناس من ولده منهم: العماليق، ومنهم الجبابرة، وفراعنة مصر، وملوك فارس، ومَن ولد سام الأنبياء جميعًا بعد نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ومن بَعْدِهِ إلى نبينا محمد — عليه الصلاة والسلام — فالعربُ وفارس يتساوون في هذه الجملة، وتَفْضُلُها العرب بأنها من ولد إسماعيل بن إبراهيم، فهي أدنى من خليل الله دناوةً وأَمَسَّ به رحمًا.
ثم تتساوى العربُ وفارسُ في أن الفريقين ملكوا، وتفضلها العربُ بأن قواعد ملكها نُبُوَّةٌ وقَوَاعِدَ مُلْكِ فارسَ استلابٌ وغَلَبَةٌ، وتفضلها العرب بأن ملكها ناسخ وملك فارس منسوخ، وتفضلها بأن ملكها متصل بالساعة، وملك فارس محدود، وتفضلها العرب بأن ملكها واغلٌ في أقاصي البلاد، داخلٌ في آفاق الأرض، وملك فارس شظية منه ليس فيه الشام ولا الجزيرة ولا خراسان في أكثر مُدَدِهِم ولا اليمن إلا في أيام وهزر وسيف بن ذي يزن.
ومن عجب أمرهم أيضًا فخرُهم على العرب بآدم بقول النبي ﷺ: «لا تُفَضِّلُوني عليه؛ فإنما أنا حسنة من حسناته.» ثم بالأنبياء وهم من العجم إلا أربعة نفر: هود وصالح وشُعَيبٌ ومحمد ﷺ؛ وفي هذا القول وضع الفخر على غير أساس، ومَن أَسَّسَ بنيانَه على الباطل والغرور أوشك أنْ يَتَدَاعَى وأن يخر وظلم للعرب فاحشٌ، ومنه ادعاؤُهم آدم كأن العرب ليسوا من ولده، ومنه انتحالُهم موسى وعيسى وزكريا، ويحيى وأشباههم من بني إسرائيل. وليس بين فارس وبين بني إسرائيل نسبٌ على ما بينتُ لك، ومنه دَفْعُهم العَرَبَ عن قُربِهِمْ بهؤلاء الأنبياء وهم بنو عُمُومهم وعصبتُهم؛ لأن العرب بنو إسماعيل بن إبراهيم بإجماع الناس، فهمْ بنو أخي إسحاقَ بْنِ إبراهيم وأولى به وأحقُّ بشرفه وأولى بموسى وعيسى وداود وسليمان وجميع الأنبياء من ولده. وقال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (آل عمران: ٣٣)، قال إبراهيم: هم ولدُ إسحاقَ وولدُ إسماعيلَ، ثم قال: ذُرِّيَّةً بَعْضُها من بَعْضٍ (آل عمران: ٣٤).
فأَعْلَمَنا أن العرب وبني إسرائيلَ شيءٌ واحدٌ في النسب، وفيما أوحى الله إلى موسى: إني سأُقيم لبني إسرائيلَ من إخوتهم مثلك، أجعل كلامي على فيه، يُريد: أنه يُقيمُ لَهمْ من العرب نبيًّا مثل موسى يعني: نَبِيَّنَا محمدًا ﷺ وهذا عَلَمٌ من أعلامه وحُجَّةٌ من حُجَجِنا عَلَى أهل الكتاب من كُتُبهم؛ فإن قالوا في ذلك إنَّه يُقيم لهم من بني إسرائيل نبيًّا مثل موسى. وقالوا: إن بني إسرائيل بعضُهم إخوةُ بعض، أَكْذَبَهمُ النظرُ؛ لأنه لو أراد ذلك لَقَالَ لهم: من أنفسهم ومنهم كما أن رَجُلًا لو أراد أن يبعث رسولًا من خِنْدِفَ لم يقل سأبعثُ رسولًا من إخوة خِنْدِفَ، فإن كان دفعهم ولد إسماعيل عن تشابك نسبهم بولد إسحاق لنزول إسماعيل الحرم ونكاحه في جرهم؛ فإن الديار قد تتناءى والمحالَّ قد تتباين، والرجل قد ينكح في البعيد وقد يُولَدُ له من الإماء ولا تنقطعُ الأرحامُ والأنسابُ.
وإن كان إسماعيلُ نَطَقَ بالعربية فليس اختلافُ الناس في الألسنة يُخْرِجُهم عن نسبِ آبائِهِمْ وإخوانِهِمْ وعَشَائِرِهِمْ؛ فهؤلاء أهلُ السريانية قد خالفوا في اللسان أهل العبرانية وهذه الروم كفرتْ بالله ولا شيء أقطعُ للعصمة من الكُفر وتكلمت بالرومية، ورغبت عن لسان آبائها وليس ذلك بِمُخْرِجِها عن ولادة إسحاقَ بن إبراهيمَ، على أن إسماعيل لم يكن أَوَّلَ مَنْ نطق بالعربية، وإنما تَعَلَّمَها وإنما أصلُ العربية لليمن؛ لأنهم من وَلَدِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ. وكان يعربُ أولَ مَنْ تَكَلَّمَ بالعربية حين تَبلبلت الألسنُ ببابل، وسار حتى نزل اليمن في ولده ومَن تبعه من أهلِ بيته، ثم نطق بعده ثمود بلسانه وشَخَصَ حتى نزل الحِجْرَ.
حدثني أبُو حَاتِمٍ قَالَ: حَدَّثني الأصْمَعِيُّ، قَالَ: أخبرنا أبو عَمْرو بنُ العَلاء قال: تسع قبائل قديمةٍ: طَسْمٌ، وجَدِيس، وعُهَيْنَةُ، وضَجْمٌ — بالجِيمِ وبالحَاءِ — وجَعْمٌ، والعَمَالِيقُ، وقحطان، وجرهم، وثمود.
وحدثني أبو حاتم قال: حدثنا الأصمَعِيُّ قال: حَدَّثنا ابنُ أبي الزِّنَادِ عن رَجُلٍ من جُرهم قال: نحن بَدْءٌ من الخَلْقِ لا يُشَاركنا أحَدٌ في أنْسَابِنَا، يقُولُ مَنْ قدمنا فهؤلاء قُدَمَاءُ العرب الذين فتق الله ألسنتهم بهذا اللسان. وكانتْ أنْبِيَاؤُهمُ عَرَبًا: هُودٌ، وصالحٌ، وشعيب.
حدثني عبدُ الرحمن عن عبدِ المنعم، عن أبيه، عن وهبِ بن منبه أنه سُئِلَ عن هُود، أكان أبا اليمن الذي وَلَدَهم قال: لا ولكنه أخو اليمن في التوراة، فلَمَّا وقعت العصبيةُ بين العرب، وفخرت مُضَرُ بأبيها إسماعيلَ ادَّعَتِ اليَمَنُ هُودًا ليكُونَ لهم والدٌ من الأنبياء. «قال»: وأمَّا شُعَيبٌ من ولد رهطٍ من المؤمنين تبعوا إبراهيم لَمَّا هاجَرَ إلى الشام، ولم يكُن يَثْبُتُ لهم نسبٌ في بني إسرائيل، ولم تكن مَدْيَنُ قبيلةً، ولكِنَّها أُمَّةٌ بعث إليها فلَمَّا بوأ الله إسماعيل الحرم وهو طفل، وأنبط له زمزم، مرت به من جرهم رفقةٌ؛ فرأوا ما لم يكونوا يعهدونَه وأخْبَرَتْهم هاجَرُ بنَسَبِ الصَّبِيِّ وحَالِهِ، وما أَمَرَ الله أباه فيه وفيها، فتبركوا بالمكان ونزلوه وضموا إليهم إسماعيل فنشأ معهم ومع ولدانهم ثم أنكحوه فتكَلَّم بلسانهم فقيل نطق بالعربية إلا أن الياء زيدت في الاسم فحذفت في النسب، كما تحذف أشياءُ من الزَّوائد وغُيِّرَ كما تُغَيَّرُ أشياءُ عن أُصُولِها، والدليلُ على أن أصلَ اللِّسَانِ لليَمَنِ أنهم يُقال لهم «العرب العاربة» ويُقال لغيرهم «العرب المتعرِّبة» يرادُ الداخلةُ في العرب المتعلمة منهم، وكذلك معنى التَّفعُّل في اللُّغة يقال: تَنَزَّرَ الرَّجُلُ إذا دَخَلَ في نزار، وتَمَضَّرَ إذا دخل في مضر، وتَقَيَّسَ إذا دخل في قيس، وقال الشاعر:
ولو كان كلُّ مَنْ تَعَلَّمَ لِسَانًا غَيْرَ لِسَانِ قَوْمِهِ ونَطَقَ به خارجًا من نسبهم لَوَجَبَ أن يكُون كُلُّ مَنْ نطق بالعربية من العجم عربيًّا «وسأقول في الشَّرَف بأعْدَلِ القَوْلِ وأَبْيَنِ أَسبابِهِ، ولا أبخس أحدًا حَقَّهُ، ولا أتجاوز به حده.» فلا يمنعني نسبي في العجم أن أدفعها عما تَدَّعيه لها جهلتُها، وأثني أَعِنَّتَها عما تقدم إليها سِفْلتُها، وأختصر القول وأقتصر على العيون والنُّكَت ولا أعْرِضُ للأحَادِيثِ الطُّوالِ في خُطَبِ العَرَبِ وتَعْدَادِ أيامها وَفَدَاتِ أشرافها على ملوك العجم ومقاماتها؛ فإنَّ هذا وما أَشْبَهَه قد كثر في كتب النَّاس حتى أَخْلَقَ ودُرِسَ حتَّى مُلَّ، لا سِيَّمَا وأكْثَرُ هَذِهِ الأخْبَارِ لا طريق لها ولا نقلت من الثقاة المعروفين أيضًا تخبر عن التكلُّف، وتدُلُّ على الصَّنْعَة، وأرجو ألَّا يطلع ذوو العقول وأهلُ النظر مني على إيثار هوًى، ولا تعمُّدٍ لِتَمْوِيهٍ، وما أَتَبَرَأُ بعده من العثرة والزَّلة إلا أنْ يُوفقني الله، وما التوفيق إلا به.
وعَدْلُ القَولِ في الشرف أن الناس لأبٍ وأمٍّ خُلقوا من تراب وأُعيدوا إلى التراب، وجَرَوا في مجرى البول وطُوُوا على الأقذار، فهذا نسبهم الأعلى يَرْدَعُ أهْلَ العقول عن التعظيم والكبرياء، ثم إلى الله مرجعُهم فتنقطع الأنسابُ، وتبطل الأحسابُ إلا من كان حسَبُه تقوى الله. وكانت مَاتَّتُه طاعة الله.
وأمَّا النَّسَبُ الأدنى الذي يقعُ فيه التَّفاضلُ بين النَّاس في حُكْم الدُّنْيَا؛ فإنَّ الله خلق آدم من قبضة جميع الأرض، وفي الأرض السهلُ والحَزن والأحمرُ والأسودُ والخبيثُ والطَّيبُ، يقول الله — عز وجل: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُه بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا (الأعراف: ٥٨)، فجرتْ طبائعُ الأرض في وَلَدِهِ؛ فكان ذَلِكَ سببًا لاخْتِلَافِ غَرَائِزِهِمْ، فمنهم: الشُّجَاعُ، والجبَانُ، والبَخِيلُ، والجوَادُ، والحَيِيُّ، والوَقَاح، والحليم، والعَجُول، والدمث، والعَبوس، والشكور، والكَفُورُ، وسببًا لاختلاف ألوانهم وهيآتهم فمنهم: الأبيضُ، والأسودُ، والأسمرُ، والأحمرُ، والأشقرُ، والوسيمُ، والخفيفُ على القلوب، والثَّقيل، والمحبب إلى الناس من غير إحسان، والمبغض إليهم من غير ذنوب. وسببًا لاختلاف الشهوات والإرادات فمنهم: من يميلُ به الطَّبْعُ إلى العِلْمِ، ومن يميلُ به إلى المال، ومن يميلُ به إلى اللهو، ومن يميل به إلى النِّساء، ومن يميلُ به إلى الفروسية.
ثم يختلفون أيضًا في ذلك، فمنهم: من يُسْرِعُ إلى فَهْمه الفقه ويبطئُ عنه الحسابُ، ومنهم من يعلق بفهمه الطِّبُّ ويَنبو عنه النجومُ، ومنهم مَنْ يتيسر له الدقيقُ الخفيُّ ويَعتاص عليه الواضحُ الجليُّ، ومنهم من يَتَعَلَّمُ فنًّا من العلم فيرسخ في قلبه رسوخَ النقر في الحجَرِ، ويتعلم ما هو أَخَفُّ منه فيدرس دروسَ الرَّقم على الماء، ومن طَلَبَةِ المال مَن يطلبه بالتجارة، ومَن يطلبه بالجراية، ومَن يطلبه بالسلطان، ومَن يطلبه بالكيمياء، فيتلف بالطمع الكاذب والتماس المحال أثلة المال، ومن طلبة النِّساء من يريد المهفهفة، ومَن يُريد الضِّنَاك، ومن يريد الغُرَّةَ الصَّغِيرة، ومن يُريد النِّصْفَ الوثيرة، وأعجبُ من هذا مَن ربما حُبِّبَ إليه العجوز؛ قال الشاعر:
ومن لؤم الغرائز أن من الناس من يحب الذم كما يحب غيره المدح، ويرتاح للهجاء كما يرتاح غيرُه للثناء، ومنهم من يُغْرَى بذَمِّ قَوْمِهِ وسَبِّ نفسه وآبائه وشتم عشيرته، منهم عُميرة بن جعيل التغلبي، وهو القائل:
ومنهم الحرمازي، وهو القائل:
ومنهم القَحِيف، وهو القائل في أُمِّهِ:
ومنهم الحطيئة هَجَا أبَاه وأمه ونفسه. فقال في أُمِّهِ:
وقال لأبيه:
وقال لنفسه:
وأتى عيينةَ بن النَّهَّاس العِجْلِيَّ مادحًا. فقال عيينةُ لوكيله: اذهب معه إلى السوق، فلا يشيرنَّ إلى شيء، ولا يسومن به إلا اشتريتَه له، فلما انصرف عنه قال:
ومن لُؤْمِ الغرائزِ أيضًا في الناس، أن منهم: مَنْ يُؤْثِرُ ريح الكرابيس على ريح اليَلَنْجُوج، وريحَ الحشُوشِ على نفحات الوَرْدِ، ويهتاج من النساء لذات القبح والدفر، ويكسل عن الحسناء ذات العطر، ومنها أن الرجل يكون في رخاء، بعد بؤس وسعة بعد ضيق فيسأم ما هو فيه، ويرغب عنه إلى ما كان عليه. وقال أعرابيٌّ قدم المصر فحسنت حاله:
وهذا وأشباهُه من لئيم الغرائز؛ كثيرٌ في الأمم، وهذه الطبائع هي أسبابُ الشرف وأسباب الخمول، فذو الهمة تسمو به نفسه إلى معالي الأمور، وترغبُ به عن الشائنات فيخاطرُ في طلب العظيم بعظيمته، ويَسْتَخِفُّ في ابتغاء المكارم بكريمته، ويركبُ الهول ويدرعُ الليلَ، ويَحُطُّ إلى الحضيض، وتأبى نفسه إلا عُلُوًّا حتى يسعد بهمته، ويظفر ببُغيته، ويحُوز الشَّرَفَ لنَفْسِهِ وذُرِّيتِهِ، ومَن لا هِمَّةَ له جثامةٌ لُبِدَ يغتنم الأكلة، ويرضى بالدون ويستطيبُ الدَّعَةَ وإن أعدم لم يأنفْ من ذُلِّ السؤال.
والجبان يَفِرُّ عن أُمِّهِ وأبيه وصاحبتِهِ وبنيه، والشجاعُ يَحمي مَنْ لا يُناسبه بسيفه، ويقي الجارَ والرفيق بمحبته، والبخيل يَبْخَلُ على نفسه بالقليل، والجواد يجود لمن لا يعرفه بالجزيل. وقال الله — عز وجل: قد أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقد خَابَ مَنْ دَسَّاها (الشمس: ٩، ١٠) يُريدُ قد أفلح مَن أَنْمَى نفسه بالمعروف وأَعْلَاها، وقد خَابَ مَنْ أسقطها بلئيمِ الأخلاق وأخفاها. وقد يكون الرَّجُلُ مخالفًا لأبيه في الأخلاق، وفي الشمائل أو في الهمم أو في جميع ذلك لعِرْقٍ نَزَعَه من قِبَلِ أجداده لأبيه وأُمِّه. وقال الشاعر:
ومن الناس الشريف الحسيب، وذلك الذي جمع إلى محاسن آبائه محاسن نفسه، ومنهم الشريف ولا حسب له، وذلك إذا كان لئيمَ النفس، ومنهم مَنْ لا شرف له ولا حسب، وذلك إذا كان لئيم النفس لئيم السلف.
وقال قُسُّ بنُ سَاعِدَة: لأقْضِينَّ بين العَرَبِ قَضيَّةً ما قَضَى بها أحدٌ قبلي، ولا دَبَّرَها أحدٌ بعدي «أيُّما رجُلٍ رَمَى رجلًا بملامة دونها كَرَمٌ، فلا لُؤْمَ عليه وأيما رجل ادعى كرمًا دونه لؤم فلا كرم له.» يعني: أن أولى الأمور بالمرء خصالُه في نفسه؛ فإنْ كان شريفًا في نفسه وآباؤُه لئامٌ لم يَضُرَّه ذلك. وكان الشرف أولى به، وإن كان لئيمًا في نفسه وآباؤه كرام لم يَنْفَعْه ذلك.
ومثلُه قولُ عَائِشَةَ: كُلُّ شَرَفٍ دُونَه لُؤمٌ فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه شرف فالشرفُ أولى به. وقال الشاعر في مثله:
والحسَبُ مَأْخُوذٌ من قَولِكَ حَسَبْتُ الشَّيءَ أحْسِبُه حَسْبًا، إذا عَدَدْته، وكان الرجل الشريف يحسب مآثر آبائه ويعدهم رجلًا رجلًا، فيقال: لفُلانٍ حَسَبٌ أي آباءٌ يعدون وفضائلُ تحسب، فالمصدر مسكَّن والاسم مفتوح، كما تقُولُ: هدمت الحائط هدمًا فتُسكِّن المصدر، وتقول لِما سقط إلى الأرض: هَدَمٌ فتفتح الدال من الاسم، وكذلك الأمم فيها أُمَّةُ كَرَمٍ بِلَبانِها كالعَرَبِ؛ فإنَّها لم تزل في الجاهلية تتواصى بالحلم والحياء والتذُمُّم وتتعاير بالبُخْلِ والغَدْرِ والسَّفَهِ، وتتنزه من الدناءة والمذمة وتتدرب بالنجدة والصبر والبسالة، وتوجب للجار من حفظ الجوار، ورِعَاية الحقِّ فوق ما تُوجِبُه للحميم والشفيق، فرُبَّما بذل أحدُهم نَفْسَه دُونَ جاره ووَقَى ماله بماله وقتل حميمه، منهم كعب بن مامة. وكان إذا جاوره جارٌ، فمات بعض لُحمته وَدَاه، وإذا مات له بعيرٌ أو شاةٌ أعطاه مكان ذلك مثلَه، ومنهم عمير بن سُلْمَى الحنفي أحد أوفياء العرب. وكان له جارٌ فخالفه أخوه قَرِينٌ إلى امْرَأتِهِ، فاشْتَدَّ الرَّجُلُ في حفظ امرأته فقتله. وكان عُميرٌ غائبًا فلما قدم وخُبِّرَ بذلك دفع قرينًا إلى ولي المقتول، فقتله واعتذر إلى أمه وعظم جرمه. فقالت:
ومن أَعْجَبِ أَمْرٍ في الجوار قصةُ أبي حنبل، حارثة بن مر. وكان الجرادُ سقط بقرب بيته فقصد الحي لصيده، فلما رآهم قال: أين تُريدُون، قالوا: نُريدُ جَارَكَ هذا. فقال: أي جِيراني، قالوا: الجراد. فقال: أما إذ جعلتموه لي جارًا، فوالله لا تصلون إليه، ثم مُنِعَ منه حتى انصرفوا، ففخر بعضُهم. فقال:
وقال قيسُ بنُ عَاصم، يذكر قومه:
وقال مسكينٌ الدارمي:
وقال الحطيئة يعد محاسن قومه:
ولهم الضيافةُ عامَّةً شاملةً في جَمِيعِ البادين منهم، والإيثار على النفس والجود بالموجود، وأفضلُ العطاء جُهْدُ الْمُقِلِّ.
وقال عُثمان بن أبي العاص: لَدِرْهَمٌ يُخرجه أحدكم من جُهْد، فيضعه في حقٍّ خيرٌ من عشرة آلافِ درهمٍ يُخرجها أحدُنا غيضًا من فيض. ولولا ما تواصَوا به من الضيافة، وتحاضُّوا عليه من الإيثار لَمَاتَ الخيرُ وأبدع به دون غايته. وقال أرطاةُ بن سُهَيَّةَ:
وقال ابنُ أَبي الزِّنَاد: قال عبدُ الملك بنُ مروان: ما يَسُرُّني أن أحدًا من العرب ولدني إلا عُروة بن الورد؛ لقوله:
يريد أنه يُقَسِّمُ قُوتَه على أضْيَافِهِ، فَكَأَنَّه قَسَّمَ جِسْمَهُ؛ لأن اللَّحْمَ الذي يُنْبِتُ ذلك الطعام يصير لغيره، ويحسُو قَرَاحَ الماء في الشتاء، ووقت الجدب والضيق؛ لأنه يوثر باللبن، فتوقف على هذا الشعر، وعلى ما فيه من شريف المعاني. وقال آخر:
ولعَلَّ الطَّاعِنَ أنْ يَقُولَ في هذا الموضوع: فأيْنَ هو من ذِكْرِ مُزَرِّدٍ وحُمَيْدٍ الأرقط وهجائهما للأضياف؟! وأين هو من مطاعمهما الخبيثة من الحيات والضباب واليرابيع والعِلْهِز وشُربهم الفظ والمجدوح وأكل مياسرهم لُحُومَ الإبل، حنيذًا غير نضيج ونيئًا والعُرُوقَ والعَلابِي وسَقَطَ المائدة لا يعافون شيئًا، ولا يقتذرون أكل السباع ونهش الكلاب ويَفْخَرُ عليهمْ بأطعمة العجم وحلوائها وآدابها عَلَى الطَّعَام، وكلها باليارحين والسِّكِّين؟! فأمَّا هَذَان الشَّاعِرَانِ اللذان يهجوان الأضياف، ويصفانهم بكثرة الأكل وجود اللُّقم؛ فإنَّ أحَدَهمَا كان فقيرًا ضعيف الحال، فإذا نَزَلَ به الضيفُ لم يجد بُدًّا من إيثاره بقليل ما عنده أو مشاركته فيه، فيبيت طاويًا ويصبح جائعًا، ويجيش صدرُه بما حل به، والشاعرُ بمنزلة المصدور، لا بُدَّ له من أن ينفث فيستريحَ إلى ذكر لُقَمِ الضيف، ووصْف أكْله وحديثِهِ، قالَ هُو أو غيره يذكر الضيف:
وقال أيضًا يذكر الأضياف:
أراد من الأضياف مَنْ يأكُلُ التمرَ بالنَّوى، وهذا يَدُلُّ على شِدَّةِ فَقْرِه، وأمَّا مُزَرِّدٌ فكان شرهًا منهومًا والشَّرَه رَفيقُ البُخْلِ، وهو القائل:
وقال الحطيئة:
وهذا شَرُّ القَوْم وليْسَ من النَّاس صنْفٌ، إلا وفيه الخيْرُ والشَّرُّ، على ذلك أُسِّسَت الدنيا وعليه درج الناس. ولولا أحدُهما ما عُرِفَ الآخر، وإنما يُقضى بأغلب الأمور ويُحكم بأَشْهَر الأخلاق. وليس في ثلاثةٍ من الشعراء أو أربعةٍ ما هَدَرَ مكارمَ أخلاقِ آلافٍ من الناس وبَدَّدَ صنعاءهم؛ فهذا كعبُ بنُ مامة آثر بنصيبه من الماء رَفِيقَه النِّمْريَّ حتى مات عطشًا، وهذا حاتِمٌ الطَّائِيُّ قَسَّمَ ما له بضع عشرة مرة، ومَرَّ في سفره على عنزة وفيهم أسيرٌ فاستغاث به، ولم يحضره شيء فاشتراه من العنزيين فخلاه، وأقام مكانه في القيد حتى أدَّى فِدَاءَهُ، وكُلُّ فخر في طَيٍّ فهو راجع إلى نِزار، ولهم الجبلان وهمَا بنَجْدٍ وأخْذِهِم بآدابهم وتخلقهم بأخلاقهم.
وهَذَا عَدِيٌّ شَاطَرَ ابنَ دَارَة الشَّاعر ماله، وهذا معنٌ في الِإسْلام كان يُقال فيه حَدِّثْ عن البحر ولا حرج وعن معن ولا حرج، وأتاه رجلٌ يستحمله. فقال: يا غلامُ، أعطه فرسًا وبِرْذَوْنًا وبغلا وعيرًا وبعيرًا وجارية. ولو عرفتُ مركوبًا غير هذا لَأَعْطَيْتُكَهُ، وهذا نَهِيكُ بنُ مالكِ بنِ معاويةَ باع إبله وانْطَلَقَ بأثمانها إلى منًى فأنهبها، والناس يقولون مجنون. فقال:
وهذا شيء يكثُرُ جدًّا ويتسع القولُ فيه، ويخرج الكتابُ من فَنِّه باسْتِقْصَائه، وكان غرضنا في هذا الكتاب أن نُنَبِّهَ بالقَليلِ من كُلِّ شَيءٍ في عيون الأخبار، وأمَّا تعييرهم إياهم بخبيثِ المطْعَمِ كالعِلْهِزِ والحيات وخبيثِ المشْرَبِ كالفَظِّ والمجدُوح؛ فإنَّ هذا وأشباهه طعامُ المجاوِعِ والضَّرُورَات وطعام نازلةِ الفقر والفلوات. وقال الشاعر:
يريد أنهم يأكلون فيها الميتة. وقال الراعي:
وإنما كان يكُونُ هَذَا عَيْبًا، لو كانتِ العَرَبُ مُخْتَارَةً له في حَالَةِ اليُسْرِ، كما تختار بعضُ العجم الذبابَ، وبهم عنه غنًى، والسراطين والدَّجَاجُ لهم مُعْرِضَة، فأمَّا حالُ الضرورة، فالناسُ كلهم يَعْسُرُون فمن لم يجد اللحم أكل اليربوع والضب، ومن لم يجد الماء شَرِبَ المجدُوحَ والفَظَّ.
قال الأصمعيُّ: أغِيرُ على إبل حريثة، فَذَهَب فرَكِبَ بحيرة، فقيل: أتركب الحرام، فقال: يركب الحرام من لا حلال له. وقال الشاعر:
ومما يدلك على أن أهل الثروة منهم على خلاف ما عليه الصعاليك، والغثر قول الشاعر:
فانتفى من أكل لحوم الغربان، وعَيَّرَ بها قومًا.
وقال آخَرُ لامرأته:
فلو كان شُرْبُ المجدوح عنده محمودًا لم يَجْعَلْ يمينَه شُرْبَ الدَّمِ، كما يقُولُ القائل شَرِكْتُ بالله إن لم أفعل كذا وكذا.
وقال آخر:
يريد أنه يَرْغَبُ، وإن كان جائعًا عن أكل الخبز بالتمر، إلى أكلِهِ بالشَّحْمِ، ونَزَلَ رجلٌ من العرب فقُدِّم إليه جرادٌ فعافها، وأنشأ يقول:
وأما أكلهم العَلَابِيَّ والعروق واللحم النيء، وتَرْكُهم طَيِّبَةَ الأطعمة والأطبخة وحُسْنَ الأدَبِ عند الأكل؛ فهذا لَعَمْرِي هو الأغلبُ على من غَلَبَ عليه الفقرُ، فأمَّا ذوو النِّعْمَة واليسار والأقدار، فقد كانوا يعرفون أطايبَ الطعامِ ويأكلونها، ويأخذون بأحسن الأدب عليها.
فالمضيرة لهم، واسمُها يَدُلُّكَ على ذلك، تُطبخ باللبن الماضر وهو الحامضُ، فاشتُقَّ اسمها منه.
والهريسة لهم سميت بذلك؛ لأنها تُهْرَس؛ أي تُدَقُّ، ويقال للمدق: المهراس.
والوشيقة لهم والعامة تُسَمِّيها العَشِيقَةُ، سُمِّيَت بذلك؛ لأنها توشق، أي: تقطع صغارًا.
والعصيدة لهم سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنها تُعْصَدُ إذا عُمِلَتْ، أي: تُلْوَى وكُلُّ شيء ألويتَه فقد عصدتَه، ومنه قيل للمائل عنقه عاصد. وقال مزرد:
وهذا هو العصيدة. وقالَ أُمَيَّةُ بن أبي الصلت في عبد الله بن جدعان:
وهذا هو الفالوذ، وهم أَوْصَفُ الناس للطعام، وألطفُهم في ذِكْرِهِ.
حدثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعيُّ، قال: حدثنا أبو طُفيلة، قال: حدثنا شيخٌ من أهل البادية، قال: ضفنا فلانًا بحنطة كأنها مناقيرُ النغران، وتمر كأنها أعناق الوِرْلان يوحِل فيها الضِّرْس.
وحدثنا الأصمعيُّ أيضًا عن أعْرَابيٍّ أنه قَالَ: تمرنا خُرسٌ فُطْسٌ يغيبُ فيه الضرس، كأن نواهن ألسن الطير تَضَعُ التَّمْرَةَ في فيك، فتجد حلاوتها في كعبك.
وحدثني عبدُ الرَّحمن عن عَمِّه قال: قال شيخ من أهل المدينة: فأتاني بمرقة كان فيها مشقًا، فلم أر إلا كبدًا طافية فغمست يدي، فوجدتُ مضغةً فمددتُها فامتدت حتى كأني أزمر في ناي، ولهم أطبخةٌ كثيرةٌ ومن أطبختهم الغسانية، وهي لا تعرفها عامتنا كالحَيْسَة والرَّبِيكة والخَزِيرة واللَّفِيتة، تَرَكْتُ ذكرها واقتصرتُ على ما تعرف. وكانوا يقُولُون: أطيَبُ اللحم عَوْذُهُ: يُريدُونَ أطيبه ما ولي العظم كأنه عاذبه. وكانوا يقولون إذا أكلتم فسمُّوا وادنُوا يُريدون ﺑ «ادنوا»: كُلُوا مِمَّا بين أيديكم. وكانوا يكرهون أكل الدماغ ويرون استخراجه رغبًا وحرصًا. وقال قائلهم:
ومن قبائل العرب من يَعَافُ إلية الشَّاة، ويقولون هي طبق الاست. وقال قائلهم:
وكانوا يمدحون بقلة الأكل. وقال أعشى باهلة:
ويعيبون بالشَّرِهِ والنَّهِمِ والكَسِلِ، ويقُولُون للبَخِيلِ الأكُولُ أبرمًا قَرونًا، يريدُ أنه لا يخرج مع أصحابه ماشيًا ويأكل تمرتين، وأهل البرم الذي لا يسير مع القوم. وقال بعضُ الرُّجَّاز:
وقال الأحنفُ: جَنِّبُوا مَجْلِسَنَا ذِكْرَ النِّسَاء والطعام؛ فإني أبْغِضُ أن يكون الرجل وصَّافًا لبطنه وفرجه.
وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه. وقال قائلهم: أَقْلِلْ طعامًا، تُحْمَدْ منامًا. وقال أيضًا: غَلَبَتْ بَطْنَتِي فِطْنَتِي.
وقال عَمْرُو بنُ العاص لِمُعَاوِيَةَ يوم حكم الحكمان: أكثروا الطعام، فوالله ما بَطِنَ قومٌ إلا فقدوا بعضَ عُقُولِهِم، وما مضت عزمة رجل بات بطينًا.
ومثلُ هذا كثيرٌ لِمَنْ تَتَبَّعَهُ، فكيف تكون المعرفة بالطعام والأدبُ عليه إلا كما وصفنا.
فأما تَرْكُهم إنضاجَ اللحم، فلا أعلمه إلا في موضعٍ واحدٍ، وهو إذا سافروا أو غَزَوْا فإنهم يتمدحون بترك الإنضاج لعجلة الزِّمَاع. وقال الشماخ:
وقال الكُمَيْتُ:
ولم يزل الشُّربُ إذا اجتمعوا الأحداث من أولاد الملوك، وغيرهم يبادرون بالنَّشِيل قبل النُّضْجِ.
قال أعرابيٌّ نحر بعيره وشرب:
وأما أكْلُهم سقط المائدة؛ فإنَّه إكرَامٌ للطَّعَامِ وإعْظَامٌ للنِّعْمَة، وجِنْسٌ من الشكر لواهبها، ونبذُه في المزابل استخفافٌ به، وتصْغِيرٌ له وبخسٌ بمؤتيه حق عطيته، ومن وَهَبَ لك شيئًا صُنْتَه وعَظَّمْتَه؛ سَمَحَتْ لك نفسُهُ بالزيادة منه، وإن احتقرتَه وازدريتَه كان حريًّا أن يَقْطَعَهُ، والطَّعَامُ أعظَمُ نعم الله على خلقه بعد معرفته؛ لأنه مثبتُ الروح وممسك الرَّمَقِ، فمَن صَانَه فقد عَظَّمَ نعمةَ الله، واستوجب زيادة الله ومَن امتهنه في غير ما خُلِقَ له، فقد صغَّرها واستوجب سُخْط الله.
حدثنا يزيدُ بنُ عمرو قال: حدثنا أيوبُ بن سُلَيْمَان عن محمد بن زياد، عن ميمونِ بن مهران عن ابن عباس قال: ولا أعلمه إلا عن النبي ﷺ أنه قال: «أكرموا الخبز؛ فإن الله سخَّر له السموات والأرض.» وقد أمرنا ﷺ بأكل سَقْطِ المائدة، ورَغَّبَنَا فيه.
والعجب عندي من قوم نِحْلَتُهم الإسلام، ونبيهم محمد ﷺ تتابعت الأخبار عنه بشيء أمر به أو نهى عنه، فيُعارضون ذلك بالعيب والطعن من غير أن يعرفوا العلة، ولا أن يكون لهم في الإنكار له نفعٌ، أو عليهم في الإقرار به ضررٌ.
وأمَّا أكلُهم باليَارِحينَ والسِّكِّين فمُفْسِدٌ للطَّعَامِ نَاقِصٌ لِلَذَّتِهِ، والناس يعلمون — إلا مَنْ عَانَدَ منهم. وقال بخلاف ما تعرفه نفسه — أن أطيبَ المأكول، ما باشرتْه كفُّ آكلِهِ؛ ولذلك خلقت الكف للبطش، والتناول. والتقذُّر من اليد المطهَّرة ضعف وعُجْب. وأولى بالتقذر من اليد الريق والبلغم والنخام الذي لا يسُوغُ الطعام إلا به، وكف الطباخ والخباز تُبَاشِرُهُ، والإنسان ربما كان منه أقل تقذُّرًا وأشد أنسًا.
وأمَّا الشجاعة؛ فإن العرب في الجاهلية أَعَزُّ الأمم أَنْفُسًا، وأعزها حريمًا وأحماها أُنُوفًا وأَخْشَنُها جانبًا. وكانت تغير في جنبات فارس، وتطْرُقُها حتى تحتاج الملوك إلى مُدَارَاتِها وأخذِ الرَّهْن منها، والعجم تفخر بأساورَةِ فارسَ ومَرازِبتها، وقد كان لَعَمْرِي لهم البأسُ والنَّجْدَةُ، غَيْرَ أن بينَ العَرَبِ وبينها في ذلك فرقًا منه: أن العجم كانت أكثرَ أموالًا وأَجْوَدَ سِلاحًا وأحْصَنَ بيتًا وأشد اجتماعًا. وكانت تحارب برياسة ملك وسياسة سلطان، وهذه أمورٌ تُقَوِّي المنَّةِ، وتَشُدُّ الأركان وتُؤَيِّدُ القُلُوب، وتُثَبِّتُ الأقدام، والعرب يومئذ منقطعةٌ ليس لها نظام، ومتفرقة ليس لها التئام، وأكثرُها يحارب راجلًا بالسيف الكليل والرمح الذليل، والفارس منها يحارب على الفرس العربي الذي لا سرج له، وعلى السرج الرث الذي لا ركاب له، والأغلبُ على قتال العجم الرميُ، والأغلبُ على قتال العرب السيفُ والرمحُ، وهما أَدْخَلُ في الجِدِّ وأبعد من الفرار، وأَدَلُّ على الصبر.
وشُجَعَاؤُهمْ في الجاهلية، مثلُ: عُتَيْبَةَ بن الحارث بن شهاب صياد الفوارس، وبسطام بن قيس، وبُجير وعفَّاف ابني أبي مُلَيْل، وعامر بن الطفيل، وعمرو بن وُدٍّ وأشباههم، وفي الإسلام مثل: الزبير وعلي وطلحة ورجال من الأنصار، وعبد الله بن حازم السلمي، وعباد بن الحصين. وقال: ما ظننتُ أن أحدًا يعدل بألف فارسٍ، حتى رأيتُ عَبَّادًا ليلة كابل وقَطَرِيَّ بن الفُجاءة وشبيبًا الحروريَّ، وأمثال هؤلاء عدد الرمل والحصَى ليسَ منهم أحدٌ، إذا أنْتَ تَوَقَّفْتَ على أخباره وحاله في شجاعته، إلا وَجَدْتَه فوق كُلِّ أسوارٍ والرَّجَليُّون للعرب خاصة.
قال أبو عُبَيْدَة: رَجَلِيُّو العرب المشهورون: المنتشر بنُ وهب الباهلي، وسليك بن عمير السعدي، وأَوْفَى بن مطر المازِنِيُّ. وكان الرَّجُلُ منهم يلحق بالظبي، حتَّى يأخذ بقرنيه، وإذا كان زمان الربيع جعلوا الماء في بيض نعامٍ مثقوبٍ ثم دفنوه، فإذا كان الصيف وانقطع الغَزْوُ غَزَوا، وهم أهدَى من القَطَا، فيأتون على ذلك البيض، ويستثيرونه ويشربونه.
وحدثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعي أن السُّليك كان يَعْدُو فتَقَعُ سِهامُهُ من كنانته بالأرض فترتزُّ. وكان يقول في دعائه: «اللَّهمَّ إني أعوذُ بك من الخيبة، وأما الهيبةُ فلا هَيْبَةَ.»
وقرأتُ في كتب العجم أن «بِهْرَامَ جُور» كان في حجر مَلِكِ العرب بالبادية، فلَمَّا بلغه هَلاكُ أبيه، وأن الفُرْسَ عَزَمُوا على أن يملكوا غيره سَارَ بالعَرَبِ، حتى نَزَلَ السواد وطالبهم بالملك وجَادَلَهم عنه، حتى اعترفوا له بالحق ومَلَّكُوهُ.
وقد كان كسرى أغزى بني شيبان جيشًا، فاقتتلوا بذي قار، فَهَزَمَتْ بنُو شَيبان أساورةَ كسرى، فهو يَومُ ذي قار، ثم كان من أمر العرب وأمر فارس، حين جَمَعَهم الله لقتالهم بالإمام، وسَاسَهم بالتدبير ما لا حاجة بنا إلى الإطالة بذكره لشهرته.
ومِمَّا يَدُلُّك عَلَى تَعَزُّزِ القَوْمِ في جَاهليتهم وأنفتهم وشدة حميتهم، أن أبرويز ملك فارس وأشدها سطوة وإثخانًا في البلاد خطب إلى النعمان بن المنذر، إحدى بناته فرَدَّه رغبة بها عنه، ولم يزل هاربًا منه، حتى ظفر به فقتله.
وكان لقُريش بيت الله الحرام العتيق من الجبابرة المنصور بالطير الأبابيل، لم يزالوا وُلاته وسدنته والقائمين لأموره والمعظمين لشعَاره. وكان يُقال لهم أهلُ الله وجيران الله؛ لنزولهم الحرم وجوارهم البيت. وكان فيهم بَقَايا من الحنيفية يتوارثونها عن إسماعيل ﷺ منها حج البيت الحرام وزيارته والختان والغسل، والطلاق والعتق وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والرضاع والصهر.
وقد كان حاجب بن زرارة وفد على كسرى، فرأى العجم ينكحون الأخوات والبنات فسولت له نفسه التأسي بهم، والدُّخول في ملتهم فنكح ابنته، ثم ندم على ذلك فقال:
ومما كان بقي فيهم من الحنيفية إيمانُهم بالملكين الكاتبين، حدثني بعضُ أصحابنا عن عبد الرحمن بن خالد النَّاقد، قال: كان الحسَنُ بن جَهْوَر مولى المنصور خَرَّجَ إلى بعضِ وَلَدِ سُلَيْمَانَ بنِ علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب كتابًا، كان لعبد المطلب بن هاشم كتبه بخطه، فإذا هو مثل خط النساء، وإذا هو: باسمك اللهم، ذِكْرُ حق عبد المطلب بن هاشم من أهل مكة على فلان بن فلان الحِمْيَرِيِّ من أهل أَوَّلِ صَنْعَاءَ عليه ألف درهم فضة طيبة كيلًا بالحديدة، ومَتَى دعَاه بها أجَابَه شَهِدَ الله بذلك والملكان: وقال الأعشى:
قوله على شاهدي؛ أي على لساني شاهدُ الله، يعني: المَلَك.
ومن ذَلكَ أحْكَامٌ كانتْ في الجاهلية أقرها الله في الإسلام، لا يبعُدُ أنْ تكُونَ من بقايا دين إسماعيل — عليه السلام — منها ديةُ النَّفْسِ مِائَة من الإبل، ومنها اتباع حكم المَبَال في الخنثى، ومنها البينونة بطلاق الثلاثة، وللزَّوج على المرأة في الواحدة والاثنين، فهذه حالها في الجاهلية مع أحوالٍ كثيرةٍ في العلم والمعرفة، سنذكرها بتمامها بعدُ — إن شاء الله — ثم أتى الله بالإسلام، فابتعثَ منها النبي ﷺ سيد الأنبياء، وخاتَمَ الرُّسل وناسخ كل شِرْعَة وحائز كل فضيلة، ونَشَرَ عُدَدَها وجَمَعَ كلمتها وأَمَدَّها بملائكته، وأيدها بقوته ومكَّن لها في البلاد وأوطأها رِقَابَ الأُمَمِ، وجَعَلَ فيها خلافةَ النُّبوة، ثم الإمامة خالدةً تالدةً حتى يأتي المسيح — عليه السلام — فيُصلي خلف الإمام منها فاردة لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثلها.
وخاطبها وهي يومئذ لا عَجَمَ فيها. فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، فلها فضلُ هذا الخطاب والأمم طُرًّا داخلة عليها فيه، وأمَّا قوله لبني إسرائيل: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (البقرة: ١٢٢)؛ فإنه من باب العامِّ الذي أُريد به الخاص، كقوله حكاية عن إبراهيم: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (الأنعام: ١٦٣)، وحكاية عن موسى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمنِينَ (الأعراف: ١٤٣)، وقد كانت الأنبياء قبلَهمَا مؤمنين ومسلمين؛ فإنما أراد موسى زَمَانَهُ، وكذلك قوله: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ يُريد على زمانهم، وقوله لقريش: أَهمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ من قَبْلِهِمْ (الدخان: ٣٧)، ليس فيه دليلٌ على أن أهْلَ اليَمَنِ خَيرٌ من قريش في الحسب، ولا أنهم مثلهم وهم من وَلَدِ إبراهيم — عليه السلام — ومن الذرية التي اصطفى الله على العالمين. وليس لليمن والدٌ من الأنبياء دون نوح، وإنما خاطب الله بها مشركي قريش، ووَعَظَهم بِمَنْ قَبْلَهم من الأمم الهالكة لمعصيته، وحَذَّرَهم أن ينزل بهم مثل ما أصابهم. فقال: أَهمْ خَيْرٌ من أولئك الذين كانت فيهم التبابعة والملوك ذوو الجنود، والعدد فأهلكناهم بالذُّنُوب، والخيرُ قد يَقَعُ في أسبابٍ كثيرة، يُقال هذا خيرُ الفارسين يُريد أجلدهما، وهذا خير العودين يُريدُ أصْلَبَهما. وكانت قريشٌ — كما قال الله — قليلًا فكَثَّرَهم، ومُسْتَضْعَفين فأيَّدَهم بنصره، وخائفين أنْ تتخطفهم الملوك فآمنهم بحرَمِهِ، بما رَهَصَه لهم وأراد من تمكينهم وإعلاء كلمتهم وإظهار نوره لهم، وتغيير ممالك الأُمَم لهم، ومن ذا من المسلمين يَصِحُّ إسلامه ويصح عقده يُقَدَّمُ على قريش أو يعادل بها.
وقد قضى الله لها بالفضل على جميع الخليقة؛ إذ جعل الأئمة منها والإمامة فيها مقصورة عليها، ألَّا تكون لغيرها، والإمامة هي التقدُّم، وهذا نصٌّ ليس فيه حيلة لمتأول، قال رسول الله ﷺ: «الأئمة من قريش.» وروى وكيعٌ عن الأعمش عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ: «الناس تبعٌ لقريش في الخير والشر.» وروى وكيعٌ عن سُفْيَان عن ابن خثيم، عن إسماعيل، عن عبد الله، عن أبيه، عن جَدِّه قال: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ قُريشًا أهل صبر وأمانة، فمن بَغَاهم الغوائل كَبَّه الله لوجهه يوم القيامة.» ورُوِيَ عن عَبْدِ الأعْلَى عن مَعْمَرٍ، عن الزهري عن سهل بن أبي حَثْمَةَ أن رسول الله ﷺ قال: «تعلموا من قريش ولا تُعَلِّمُوها.» وقدموا قريشًا ولا تؤخروها، وروى يزيدُ بن هارون عن ابن أبي ذئب، عن الزهري عن طلحة بن عبد الله بن عوف عن عبد الرحمن عن جُبير بن مطعم أن رَسُولَ الله ﷺ قال: «إنَّ للقُرشي قُوَّةَ رجلين من غير قريش.» قيل للزُّهري: ما عنى بذلك؟ قال: فضل الرأي، قال: وكان يُقال: قريش الكتبة الحَسَبة ملح هذه الأمة، علم عالمها طباق الأرض.
وحدثني يزيدُ بن عمرو عن محمدِ بنِ يُوسُفَ، عن أبيه عن إبراهِيمَ عن مَكْحُول أن رسول الله ﷺ قال: «لا يقومن أحدٌ إلا لهاشمي.»
وحدثني يزيد بن عمرو، قال: حَدَّثنا نصر بن خلف الضبي، قال: حدثنا علي بن عبد الله بن وَثَّاب المدنيُّ عن مُطَرِّف بن خويلد الهذلي، قال: سمع رسول الله ﷺ رجلًا وهو يقول:
فقال: ذاك أصْرَعُ لخدك، وأبعدُ لك من الله ورسوله.
وحدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا أبو زيد شجاع بن الوليد، قال: حدثنا أبو قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن سلمان قال: قال رسولُ الله ﷺ: «يا سلمان، لا تُبغضني فتفارق دينك.» قال: قُلت يا رسول الله، كيف أُبغضُك وبك هداني الله؟! قال: «لا تبغض العرب فتبغضني.»
وروى محمدُ بنُ بشْر العَبْدِيُّ قال: حَدَّثَنَا أبو عبد الرَّحمن عن حصن بن عمير، عن مخارق بن عبد الله بن جابر، عن طارق بن شهاب، عن عثمانَ بْنِ عفان، قال: قال رسول الله ﷺ: «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي، ولم تنله مودتي.»
وروى حميد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن المؤمل، عن عطاءٍ، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا اختلف الناسُ فالحقُّ في مُضَرَ.»
وروى أبو نعيم، عن الثوري، عن يزيدَ بن أبي زياد، عن عبدِ الله بن الحارث، عن المطلب بن أبي وداعة والمطلب بن ربيعة أن رَسُولَ الله ﷺ قال: «إنَّ الله خلق الخلق فجَعَلَني في خير خلقه، وجَعَلَهم فرقًا فجعلني في خيرهم فرقة، وخَلَقَ قبائلَ فجَعَلَني في خيرهم قبيلة، وجعلهم بيوتًا فجعلني في خيرهم بيتًا.»
ثم يتلو العرب في شرف الطرفين أهلُ خراسان أهلُ الدعوة وأنصار الدولة؛ فإنهم لم يزالوا في أكثرِ مُلْكِ العَجَم لقاحًا لا يُؤدون إلى أحد إتاوة ولا خراجًا. وكانت مُلُوك العَجَم قبل مُلُوكِ الطوائف تنزل بَلْخَ، ثم نزلوا بابل ثم نزل «أزدشير بَابَكَ» فارسَ، فصَارتْ دَارَ مُلْكِهِمْ وصَارَ بخراسان مُلُوكُ الهياطلة، وهم الذين قتلوا فيروزَ بْنَ يَزْدَجِرْدَ بْنِ بِهْرَام ملك فَارِسَ. وكان غَزَاهمْ فَكَادُوهُ في طريقه بمكيدة، حتى سلك سبيلًا معطشة مُهلكة، ثم خَرَجُوا إليه فأَسَرُوه وأكثر أصحابه، فسألهم أن يَمُنُّوا عليه وعلى من أُسِرَ معه وأعطاهم موثقًا من الله ألَّا يغزوهم، ولا يجوز حدودهم ونَصَبَ حجرًا بينه وبين بلدهم جعله الحدَّ الذي حلف عليه وأطلقوه. فلمَّا عاد إلى مملكته أخذتْه الأنفة والحمية بما أصابه، فعاد لغزوهم ناكثًا لأيمانه غادرًا بذمته، وحمل الحجر الذي كان نصب أمامه في مسيرِهِ بتَأوُّل أنه ما تَقَدَّمُ الحجر فإنه لم يجزه، فلما سار إليهم ناشَدُوه الله وأَذْكَرُوه ما جعل على نفسه من عهده وذمته، فأبى إلا لجاجًا ونكثًا فواقعوه فقتلوه وقتلوا حُمَاته وكُمَاته، واستباحوا عسكره، وأسروا ضعفته ولبثوا في أيديهم أسرى، ثم أعتقوهم وأطلقوهم وغبروا بعد ذلك زمانًا طويلًا، وقتلوا كسرى بن فيروز وهذا شيءٌ يخبر به عن فارس، فيما دَوَّنُوا في سِيَرِ ملوكهم من أخبارهم، ومَن أَقَرَّ بهذا على نفسه لعدوه وأباحه لخصمه، فما ظنك بما سُتِرَ ورِينَ من أَمْرِهِ.
وكان فيما حَكَوْا من الكلام الدَّائر بين ملك الهياطلة، وبين فيروز؛ كلامٌ أحْبَبْتُ أن أذكره في هذا الموضع، لأدُلَّ به على حكمة القوم وحزمهم في الأمور، وعلمهم بمكايد الحُرُوبِ، قالوا: لَمَّا التقى الفريقان، ثم تَصَافُّوا للقِتَال أرْسَل أَخْشِنْوَارُ ملك الهياطلة إلى فيروز أن يسأله أن يَبرز فيما بين الصفين ليكلمه فخرج إليه. فقال أخشنوار: قد ظننتُ أنه لم يَدْعُك إلى مقامك هذا إلا الأَنَف، مما أصابك.
ولَعَمْرِي لئن كُنَّا احتلنا لك بما رأيتَ لقد كنت التمست منا أعظم منه، وما ابتدأناك ببغي ولا ظُلْم، ولا أردنا إلا دَفْعَك عن أَنْفُسِنَا وحريمنا، ولقد كُنت جديرًا أن تكون من سوء مكافأتنا عليك، وعلى من معك. ونقضُ العهد والميثاق الذي أَكَّدْتَ على نفسك؛ أعظمُ أنفًا وأشدُّ امتعاضًا مِمَّا نالك منا؛ فإنا أطلقناكم وأنتم أُسارى، ومَننَّا عليكم وأنتم مشرفون على الهلكة وحَقَنَّا دماءكم وبنا على سَفْكِها قدرةٌ، وإنا لم نجبرك على ما شرطت لنا، بل كُنْتَ الرَّاغِبَ إلينا فيه والمريد لنا عليه.
فَفَكِّرْ في ذلك ومَثِّلْ بين هذين الأمرين، فانْظُر أيُّهمَا أشَدُّ عَارًا وأقبح سماعًا، أنْ طلب رجل أمرًا فلم يتح له، وسلك سبيلًا فلم يظفر فيها ببغية، واستمكن منه عدوه على حال جهد منه وضِيقِهِ ممن معه، فمَنَّ عليهم وأَطْلَقَهم على شرط شرطوه وَأَمْرٍ اصطلحوا عليه، فاصطبر لمكروه القضاء، واستحيا من الغدر والنَّكث، أم أن يقال: نَقَضَ العهد وختر بالميثاق؟
مع أني قد ظننتُ أنه يزيدك لجاجة ما تثق به من كثرة جنودك وما تراه من حُسْنِ عُدَّتهم، وما أجدني أشك في أنهم أو أكثَرَهم كارهون لِمَا كان من شخوصك بهم، عارِفُون بأنك قد حَمَلْتَهم على غير الحق، ودَعَوْتَهم إلى ما يُسْخِطُ اللهَ، فهم في حربنا غيرُ مستبصرين ونياتهم اليوم في مناصحتك مدخولةٌ، فانظر ما غناء من يُقاتل على هذه الحالة، وما عسى أن تبلغ نكايتُه في عَدُوِّه، إذا كان عارفًا أنه إن أُظْفِرَ فمع عار، وإن قُتِلَ فإلى النار.
فأنا أذكرك الله الذي جَعَلْتَه على نفسك كفيلًا، ونعمتي عليك وعلى من معك بعد يأسكم من الحياة وإشرافِكُمْ على الممَاتِ، وأدْعُو إلى مَا فيه حَظُّك، ورُشدك من الوفاء بالعهد والاقتداء بآبائك الذين مَضَوْا على ذلك في كُلِّ ما أحبوا أو كرهوا، فاحمدوا عواقبه وحَسُن عليهم أثره.
ومع ذلك إنك لستَ على ثِقَةٍ من الظفر بنا، والبلوغ لبُغيتك فينا، وإنما تَلْتَمس منا أمرًا نلتمس منك مثله، وتُبَادِئُ عدوًّا لعله يُمنح النصر عليك، فدُونك هَذِهِ النَّصيحة فبالله ما كان أحدٌ من أصحابك ببالغٍ لك أكثر منها، ولا زائدٍ لك عليها، ولا يحرمنَّك منفعتها مخرَجُها مني؛ فإنَّه لا يُزري بالمنافع عند ذوي الرأي أن تكون من الأعداء، كما لا يُحَبِّبُ المضار إليهم أن تكون على أيدي الأولياء، ونحن نستظهرُ بالله الذي اعتذرْنا إليه، ووثقنا بما جعلت لنا من عهده، إذا استظهرت بكثرة جنودك وازدهتْك عُدَّةُ أصحابِك، واعلَمْ أنه ليس يَدْعُوني إلى ما تسمع من مَقالتي ضعفٌ أُحِسُّه من نفسي ولا قلةٌ من جنود، ولكنِّي أحببتُ أن أزداد بك حُجَّة واستظهارًا وأزداد به للنصر. ا.ﻫ.