كتاب الأدب والمروءة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين … قال صالِحُ بن جَنَاحٍ: اعْلَمْ أن العَرَبَ قد تجعل للشيء الوَاحد أسماء، وتُسَمِّي بالشيء الواحد أشياء، فإذا سَنَحَ لك ذِكْرُ شيء فاذكرْه بأحسنِ أَسْمَائِهِ؛ فإنَّ ذلك من المرءوة، وإنما المرء بمروءته، فالمروءةُ اجتنابُ الرجل ما يَشِينُهُ، واجتناؤُه ما يَزِينُهُ، وأنه لا مُرُوءةَ لمن لا أدَبَ له، ولا أدب لِمَنْ لا عقل له، ولا عقل لِمَنْ ظنَّ أن في عقله ما يُغنيه ويكفيه عن غيره، وشَتَّان ما بين عقل وافر معه خمسون عقلًا، كُلُّها وافرٌ مثله وأوفرُ منه، ومن عَقْل وافر لا قادة معه، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال: إنَّ الأفئدَةَ مَزَارِعُ الألْسُنِ، فمنها ما يُنبت ما زُرع فيه من حُسْنٍ، ولا يُنبت ما سَمُجَ، ومنها ما يُنبت ما سَمُجَ ولا يُنبت ما حسن، ومنها ما يُنبت جميع ذلك، ومنها ما لا ينبت شيئًا، وإنَّ من المنطق لَمَا هو أشدُّ من الحَجَر، وأنفَذُ من الإبَرِ وأمَرُّ من الصبر، وأحرُّ من الأسِنَّةِ وأنْكَدُ من زُحَلَ، ولَرُبَّمَا احتقرتُ كثيرًا منه على حرارتِهِ ومرارتِهِ ونكده، مخافة ما هو أَحَرُّ منه، وأمَرُّ وأفْظَعُ وأنكد، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في ذي الوجهين: مَنْ أَظْهَرَ ما تُحِبُّ أو تَكْرَهُ؛ فإنما يُقَاسُ ما أضْمَرَ بما أَظْهَرَ؛ لأنك لا تقدر أن تعرف ما أَسَرَّ. وقال:
وقال في الصدود: أما بعدُ: فقد أَحْضَرْتَني من صَدِّكَ ما آيسني من وُدِّك، ولم يزل يجري في لحظك ما يَخُلُّنِي في رَفْضك، ويَدُلُّني على غِلِّ صَدْرِك، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في كَثْرَةِ المال وقِلَّتِهِ: لا تستكثرْ مالَ أحَدٍ ولا تَسْتَقِلَّهُ، حتى تعلم ما عيالُهُ؛ فإن من كثر مالُهُ وعياله فهو مُقِلٌّ، ومَن قَلَّ مالُه وعياله فهو مُكْثِرٌ.
وقال في ذكر الأحمق ودخوله فيما لا يعنيه: وأكثرهم دخولًا بما لا يدخل فيه، وأرضاهم بما لا يَكفيه، عدوُّه أعلَمُ بسِرِّهٍ من صَدِيقه، وصديقُه قدْ غُصَّ منهُ بِريقِهِ، ولا يثق بمن نَصَحَهُ، ولا يَتَّهِمُ من خَدَعَهُ، ولا يأمن إلا من يخونه، ولا يتحفظ إلا ممن يحفظه، ولا يُكْرِمُ إلا مَنْ يُهينه، أشْبَه شَيءٍ خُلُقًا باللَّئيم، إن أحسَنْتَ إليه لم يَشْكُرْ، وإن أسأتَ إليه لم يَشْعُر، لا ينفَعُكَ من وَجْهٍ إِلا ضَرَّكَ من وُجُوه: إنْ أقبَل عليك لم يسُرَّك، وإن أدْبَرَ عنكَ لم يضُرَّك، إن أفسَدَ شيئًا لم يُحسن أنْ يُصلحه، وإن أصلَحَ شيئًا أفسده، إن أحببتَهُ فَرَأى منكَ حَسَنًا لم يُحسن أن ينشُرَه، وهو مع ذلك بخطئه أشَدُّ إعجابًا من العاقل بصوابه، إنْ جَلَسَ إلى العُلَمَاء لم يَزْدَدْ إلا جَهْلًا، وإنْ جَلَسَ إلى الحكماء لم يَزْدَدْ إلا طَيْشًا، وإنما جَعَلَ نفسه المحدث لهم يُكَلِّفهم أنْ يَكُونُوا المنصتين له!
أعيا الناس إذا تكَلَّمَ، وأجْهَلُهم إذا تَعَلَّمَ، وأصحبهم لمن يَشِينُهُ، وأَرْفَضُهم لمن يزينه، وأشَدُّهم في موضِعِ اللِّين، وأَلْيَنُهمْ في مَوضِعِ الشِّدَّةِ، وأجبَنُهم في موضع الشجاعة، إن افتقر عَجِبَ من النَّاس كيف يستغنُونَ، وإن استغنى عَجِبَ من النَّاسِ كَيفَ يفتقرون، لا يفهم إن حَدَّثْته ولا يفقه إن أفهَمْتَهُ، ولا يَقْبَل إنْ وَعَظْتَهُ، ولا يَذَّكَّرُ إن ذَكَّرْته، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقَالَ في ذِكْرِ الهوَى: إنَّ من النَّاسِ مَنْ إذا هَوَى عَمِيَ، ومنهم إذا هَوَى أبْصَرَ مَرَّةً وعَمِيَ أخْرَى، ومنهم إذا هَوَى لم يَكَدْ يخفَى عَلَيْه شَيءٌ، وهو اللبيبُ العاقلُ الحليمُ الكاملُ، الذي إنْ أَعْجَبَه أمرٌ نَظَرَ إلى هَوَاهُ وعَقْله؛ فإن اتَّفَقَا اتَّبَعَهمَا، وإن اخْتَلَفَا اتَّبع عَقْلَه وترك هَوَاه، وكان أمرُه مُعْتَدِلًا يُشْبِه بعضُه بعضًا، وقليلٌ ما هم، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقالَ أيْضًا، في أنَاسٍ تَحْسُنُ وُجُوهُهم عِنْدَ حَاجَاتهم، وتغبَرُّ وُجُوههم عند غناهم؛ شعرًا:
وقال فِيمَنْ فَعَلَ أمْرًا لا يُحْسِنُ أنْ يَحْتَالَ لَهُ: اعْلَمْ أن مَنْ قَاتَلَ بِغَيْرِ عُدَّةٍ، أو خَاصَمَ بغير حُجَّة أو صارع بغير قوة؛ فَهُو الَّذي صَرَعَ نَفْسَه وخَصَمَ نفسه وقتل نفسه؛ فإنِ ابتُليتَ بقِتَالِ أحَدٍ أو مخَاصَمَتِهِ أو مُصَارَعَتِهِ، فأحْسِنِ الإعْدَادِ لَهُ، واعْرِفْ مع ذلك عدته وأبصرْ حجته، واخْبُرْ قُوَّتَه كما يخبر قوتك وحجتك وعُدَّتك؛ فإن رأيتَ تَقَدُّمًا وإلا كان التأخُّرُ قبل التقدُّم خيرًا من التندُّم بعد التقدم، وفي ذلك أقول شعرًا:
وإنَّ من النَّاسِ مَنْ يُرزق حُجَّةً أو عُدَّة أو قُوَّة، فَتكُونُ عُدَّتُه هي التي تقتله، وقوتُه التي تصرعه، وحُجته التي تخاصمه، وذلك أنه ربما أدل فقاتل قبل أن يعلم أهو أَعَدُّ أم الذي يقاتله، وكذلك في الذي يخاصِمه ويُصَارعُهُ، فإذا هُو قد قُتل أو صُرع أو خُصم، فلم يَنْفَعْه جَوْدَةُ عُدته ولا قُوَّةُ حُجَّته، حين أتَى الأمر من غير جهته، وفي ذلك أقول:
وقال في الذي يُعَاتِبُ النَّاسَ بغيرِ مَوَدَّتِهِم، ويُوجِبُ حَقَّ نفسه عليهم: لا تَدْعُ الناسَ إلى بِرِّكَ وإجلال أمركَ وتَعْظيمِ قدرك بالمعاتَبَة، ولكن ادعُهمْ إلى ذلك بما ما تستوجب التكرمةَ به؛ فإنما دَعَوْتَهم إلى إهانتك إمَّا بِكَلامٍ يجرَحُكَ وإما بفعَالٍ تَفْدَحُكَ وإنْ دَعَاهم إلى ذلك فَضْلُك أجابوا، إما بثناء يرفعك أو بجزاءٍ ينفعك.
وقال في معرفة الإخوان: إنك لن تعرف أخاك حق المعرفة، ولن تَخْبُرَه حق المخبرة، ولن تجربه حق التجربة، وإن كُنْتُمَا في دَارٍ وَاحِدَةٍ حتَّى تُسَافِرَ مَعَهُ، أو تعامله بالدينار والدرهم، أو تقع في شدة أو تحتاج إليه في مهمة، فإذا بَلَوْتَه في هذه الأشياء فرضيتَه فانظرْ؛ فإن كان أكبرَ منك فاتخذْه أبًا، وإن كان أصغرَ منك فاتخذْه ابنًا، وإن كان مثلك فاتخذه أخًا، وكن به أَوْثَقَ منك بنفسك في بعض المواطن.
وقال: كُنْ من الكريم على حذر إن أهنتَه، ومن اللئيم إن أكرمتَه، ومن العَاقل إن أحرجتَه، ومن الأحمق إن مازحتَه، ومن الفَاجِرِ إنْ عَاشَرْتَه، ولا تدلَّ من لا يحتمل إدلالك، ولا تُقْبِل على من لا يُحِبُّ إقبالك، وكن حذرًا كأنكَ غِرٌّ، وكن ذاكرًا كأنك ناسٍ، والزم الصمتَ إلى أن يلزمك التكلُّمُ؛ فما أكثر من يندم إذا نطق وأقل من يندم إذا لم ينطق. وإذا ابتُليت فعند ذلك تُعْرَفُ جودةُ منطقك، وقلةُ زَلَلِك، وسِعَةُ عفوك، وقلة حِيلَتِك، ومنفعةُ قُوَّتِك، وحُسْنُ تخلصك.
واعْلَمْ أن بعض القَوْلِ أغْمَضُ من بعض، وبعضه أَبْيَنُ من بعض، وبعضه أخْشن من بعض، وبعضُه ألينُ من بعض، وإن كان واحدًا فإنَّ الكلمة اللينة لَتُلَيِّنُ من القلوب ما هو أَخْشَنُ من الحديد، وإنَّ الكلمة الخشنة لتخشن من القلوب ما هو أَلْيَنُ من الحرير، وإن أعظم الناس بلاء وأَدْوَمَهمْ عناء وأَطْوَلَهمْ شقاء مَن ابتلي بلسان مُطْلَقٍ، وفؤاد مُطْبَقٍ؛ فهو لا يحسن أن ينطق، ولا يقدر أن يسكت.
واعلمْ أَنْ ليس يَحْسُنُ أن تُجيب مَن لا يسألك، ولا تسأل من لا يجيبك، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في الرِّفق بالدواب: إِنَّ رفق الرجل بدوابه وحُسن تعاهُده وقيامه عليها؛ عملٌ من أعمال البر، وسببٌ من أسباب الغنى، ووجهٌ من وجُوهِ المروءَةِ. وقال: التَّدْبِيرُ مع المال القليلِ خيرٌ من المال الكثير مع سوء تدبير، وإنما المنفقون ثلاثة: جوادٌ مبذر، وكريم مُقَدِّر، ولئيم مُقَتِّر، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في تصنيف الطَّعَام: إذا كُنت ممن يؤكل طعامُهُ، وتُحْضَرُ مَائِدَتُهُ، ويؤكل معه، فليكن الذي يتولى صنعة طعامك من أَلَبِّ الناس في عمله، وأَنْظَفِهِم في يديه، ولا تدع إعلامه إن أحسن، ولا إنذاره إن أساء؛ فإنَّ تعَتُّبك عليه خيرٌ من تَعَتُّبِ الناس عليك. واعلم أن لكل شيء غايةٌ، وأن غاية الاستنقاء التنظيف في الاستنجاء، والإكثار من الماء حتى يستوي اليدان والريح والمنظر؛ فإنَّه لا طِيبَ أطيبُ من الماء ولو أنه المِسْكُ وما أشبهه من الأشياء، وإنما يُسْتَدَلُّ على نظافة الرجل بنقاء أثوابه، وإنما يكُون القَذَرُ في الحمْقَى من الرِّجَال والنِّساء، وبه يُسْتَدَلُّ على بَلَادَتِهِم، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في صِفَةِ العَدُوِّ والصَّدِيقِ: احْرِصْ ألَّا يراك صديقك إلا أنْظَفَ ما تكون، ولا يراك عَدُوُّك إلا أحصن ما تكون؛ فأما الصديق؛ فإن كان الذي أعجبه منك خُلُقُك أو خَلْقُك، ولهما كان يُحِبُّك فكلما ازددت حُسْنًا كان حُبُّه لك أكثر، ورغبتُه فيك أوفر وأكثرك عنده وأكبر لك في صدره، وأدوم على عهدك، وأمَّا العدُوُّ فليس شيءٌ أعجب إليه من دمامتك وخساستك، فاحترس منه وأظْهِر الجميل فليس شيء أعجب إليه من التمكُّن منك، فانظرْ ألَّا يكون شيءٌ أعجب إليك من التحصُّن منه.
وقال في العقل والأدب: اعلم أن العَقْل أميرٌ، وأن الأدب وزيرٌ؛ فإنْ لم يكُن وزيرٌ ضَعُفَ الأميرُ، وإن لم يكن أميرٌ بَطَلَ الوزيرُ، وإنما مثلُ العقل والأدب كمثل الصَّيْقَل والسيف؛ فإنَّ الصيقل إذا أُعطي السيف أخذه فَصَقَلَه فَعَادَ جمالًا ومَالًا وعَضُدًا يُعْتَمَدُ عليه ويُلْتَجَأُ إليه، فالصيقل الأدبُ والسيف العقل، فإذا وجد الأدب عقلًا نَفَّقَه ووفقه وقوَّاه وسَدَّدَه كما يَصْنَعُ الصيقل بالسيف، وإذا لم يجد عقلًا لم يعمل شيئًا؛ لأنه لا يُصلح إلا ما وَجَدَ.
وإن من السيوف لَمَا يُصقل ويُسْقَى ويُخدم ثم يباع بأدنى الثمن، ومنها ما يُباع بِزِنَتِهِ دُرًّا وزَبَرْجَدًا، وذلك على نحو الحديد وجودته أو رداءته، وكذلك الرَّجُلان يتأدبان بأدبٍ واحد ثم يكون أحدهما أَنْفَذَ من الآخر أضعافًا مضاعفة، وإنما ذلك على قدر العقل وقوته في الأصل، وفي ذلك قلتُ شعرًا:
وقال في المراء: إذا اجتمع أهل نوع فتذاكروا على نوعِهِمْ ذلك، فلم يكن أصل كل واحد منهم أن يُنْفَعَ بما أُسمع وينتفع بما سَمع؛ فاعْلَم أن تذاكُرَهم ذلك من أول المراء يصدع العلم، ويوهن الود، ويُورِثُ الجمود، وينشئ الشَّحْنَاء، وينغل القلب، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في الحِكْمَةِ: أمَّا ما يُسمَعُ من كثيرٍ من الحكمة؛ فإنَّ أوَّله شيءٌ يخطر على الأفئدة إذا خطر، وهو أصغرُ من الخَرْدَلَة، وأدَقُّ من الشَّعْرَة، وأوهنُ من البعوضةِ، ثم تُحَرِّكُهُ الألسنةُ، وتنبذُه الأفئدةُ كما يُحَاكُ البردُ، وكما يُمَدُّ النَّهْرُ فيعود أكثرَ من الكثير، وأوثق من الحديد، وأثمن من الجوهر، وأحسن من الذهب، وأنفع من كليهما؛ لأنه يزيد في المنطق، ويُذَكِّي الذِّهْنَ، ويُعِينُ على الإبلاغ، ويَتَجَمَّل به القائل، ويتقلب فيه كيف يشاء، ويختار منه ما يشاء فينتفعُ به اللطيف، ويَنْبُلُ به السخيف، ويتزيد به الكثيف، ويتأبد به الضعيفُ، ويَزْدَادُ به الأيِّدُ قُوَّةً في منطقه وبلاغة في كتبه؛ فيكون في حفظه منفعة للخطباء في خطبهم، وللبلغاء في بلاغتهم وكتبهم، وللكرماء في بشاشتهم، وللشعراء في قصائدهم، فإذا كُنت ممن يؤلف حكمة، أو يضع رسالة، أو يَذْكُرُ في مُهِمَّةٍ فَلا تَكْمَهْ قَلْبَك، ولا تُكْرِهْ ذِهْنَك؛ فإنَّه إذا أُكْرِهَ كَلَّ ووقف ولكن إِنْ كنت في شيءٍ من ذلك فَاسْتَعِنْ بالتفرُّغ منه على التفرُّغ له، والتَّأخُّر عنه على التقدُّم فيه؛ فإن الذهن يَجِمُّ كما يَجِمُّ البئر ويصفو كما يصفو الماء.
وقال في الكلام وإخراجه: اعْلَمْ أن مثل الكلام كمثل الحجارة فمنها ما هو أَعَزُّ من الذهب والفضة، ومنها ما لا يُعطى في الصخرة العظيمة منه درهمٌ، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقَالَ في طَلاقَةِ الوَجه وحُسْنِ الخُلُقِ: كُنْ أَسْهَلَ ما تكُونُ وَجْهًا، وأَظْهَرَ ما تكُونُ بشرًا، وأقصر ما تكون أمدًا، وأَحْسَنَ مَا تكُونُ خُلُقًا، وأَلْيَنَ ما تَكُونُ كنفًا، وأوسَعَ ما تكون أخلاقًا فإنَّ الأيام والأشياء عَقِبٌ ودُوَلٌ؛ فإنْ أنْكَرْتَ منها شَيئًا يَومًا ما، كان ما أنكرت منها شيئًا خفيفًا على أهل الشماتة، وعلى أهل الصفاء، واحذرْ أن تُحزن من يُحِبُّك، وتُفْرِحَ من يَحْسِدُك فلم أَرَ في مُصَابِ الدَّهر مصيبةً أَوْحَشَ من تغيير النعمة، وإن أنت لم تُنْكِرْ منها شيئًا ودامتْ لك بما تُريدُ فما من الدنيا شيءٌ تناله بِدَعَةٍ ورفق إلا وهو أَهْنَا مما نِيلَ بتعب ونصب، فأمَّا من كُفِيَ وعُوفِيَ فَمَا يَصْنَعُ بالغَضَبِ والتَّضَايُق وإنهما هم العمر ونكدُ الدَّهْر، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في الكذب:
وقال فيه أيضًا:
وقال في الإخوان:
أما الرفقاء في السفر، والجلساء في الحضر، والخلطاء في النعم، والشركاء في العدم؛ فاحفظْ مُصَاحَبَتَهم وَوَاظِبْ على إخائهم وفي ذلك أقولُ شعرًا:
لا تبتدأن أَحَدًا بِصَغِيرٍ مما يَكْرَه ولا بِكَبيرِهِ ولا بِقَليلٍ مما يُسْخِطُ ولا بكثيرِهِ؛ فإنِ ابتدأك أحدٌ بشيء من ذلك فقدرتَ على الانتصار منه فعفوت أو انتصرتَ، فما أحسن جميع ذلك إلا أن العفو أكرمُ والانتصار أعزُّ، وكِلَاهما حظ، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في الجهل: إياك والجهل؛ فإنما تجهل على ثلاثة: رجل أنت أعزُّ منه فَلُؤْمٌ، وأما جهلك على من هو أعزُّ منك فحيفٌ، وأمَّا جهلك على من هو مثلك فهِرَاشٌ مثل هراش الكلبين ولن يفترقا إلا مفضوحين أو مجروحين. وليس هذا من فعال الحكماء والعلماء، الحليمُ أرْزَنُ والجهول أَنْقَصُ، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في رؤية الرجل وخبره: إنَّ من النَّاس مَنْ يعجبك حين تراه وتزداد عند الخُبْرَةِ إعْجَابًا به، ومنهم مَنْ تبغضه حين تراه وعند الخبر تكونُ له أكثر بغضًا، ومنهم من يعجبك مخبرُه ولا يعجبك منظرُهُ، ومنهم من يعجبك منظره ولا يعجبك مخبره، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال أيضًا في ذَلِكَ:
وقال أيضًا:
وقال في النهي عن القبيح: وإذا رأيتَ من أحَدٍ أمْرًا فنهيته عنه فلم يَحْمَدْك، ولم يَذْمُمْ نفسه على مكانه، أو يُحْدِثْ حَدَثًا تَعْلَم أنه قد انفتح بمقالتك؛ فإنَّ ذلك عيبٌ آخرُ قد بَدَا لك منه لعله أَقْبَحُ من الذي نهيتَه عنه، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في المؤاخاة: لا تُؤَاخِ أحدًا إلا على اختيارٍ منك له وارتضاءٍ منك به واتفاقٍ منه لك، فإذا اتفق أمرٌ كما كَذَلِكَ فاعْلَمْ أن كِلَاكُمَا يُحْسِنُ ويُسِيءُ ويُصِيبُ ويخطئُ ويحفظ ويضيع، فوَطِّنْ نفسك على الشُّكر إذا حَفظ، وعلى الصبر إذا أضاع، وعلى المكافأة إذا أَحْسَنَ، وعلى الاحتمال والمعاتَبة إذا أَساء؛ فإنَّ مُعَاتبة الصَّدِيقِ إذا أساء أحبُّ إلى الحليم من القطيعة في مُعَاشَرَةِ مَنْ تُؤاخيه، وفي ذلك أقول شعرًا:
واحرص أنْ تَعْرِفَ مَوْقِعَكَ من كل أحد حتَّى من أبيكَ وأُمِّك؛ فإن من السخافة أنْ تكون لأخيك فيما يُحِبُّ ويكُونَ لك فيما تكره، وما أقبح أن تكون له فيما يكره ويكون لك فيما تحب، واعْلَمْ أن من تنفعك صداقتُه ولا تضُرُّكَ عَدَاوَتُهُ، الكريمُ الذي إن أحسنتَ إليه كافأك، وإن أسأت إليه عاتبك، وأما من تضُرُّك عداوتُه ولا تنفعك صحبته، فهو الجاهل السفيه اللئيم، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في تقلب الدنيا شعرًا:
وقال في المداراة: إذا هَبَطْتَ بَلَدًا أَهْلُها على غَيْرِ مَا تَعْرِفُ، وأنتَ على غير ما يعرفون، فالزمْ كثيرًا من المداراة فَمَا أكثر مَنْ دارى ولَمْ يَسْلَمْ، فكيف من لم يكن منه مُدَارَاةٌ، وفي ذلك أقول شعرًا:
ولا تقاتلن أحدًا تجدُ من قِتَالِهِ بُدًّا؛ فإنما الحق لمن غلب ولا غالب إلا الله، وإن آخر الدواء الكيُّ فلا تجعلْه أولًا، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في الإعسار والإيسار:
وقال في الصِّفَة والتفضُّل: لا يَكُنْ مَنْ وَصَلَكَ أحَقَّ بصِلَتِكَ منك بِصِلَتِهِ، ولا مَنْ تَفَضَّل أوْلى بالتفضُّل منك عليه؛ فإنما أنت وهو كرجلين ابتدرا أكرومة فَقَصَر أحَدُهما وَبَلَغَ الآخَرُ؛ فإنما القاصر قصر على حظ نفسه، وأمَّا البالغ فبلغ بجميل أَمْرِهِ وعظيمِ قدرِهِ.
وقال في القَدَرِ: إذا كان الرَّجُل لبيبًا فاعلمْ أنه كاملٌ، ولكن لن يقدمه ذلك إلى ما كان يطلب، ولن يؤخره عما كان يُحَاذِرُ إلا بقَدَر يَلْحَقُ به ما طلب ويسبق به ما يحذر، وإنَّ من الناس من يؤتَى منطقًا وعقلًا ولا يؤتى مالًا، ومنهم مَن يؤتى مالًا ولا يؤتى غيره، فيحتاج مع ماله إلى عقلِ ذي العقل ومنطقه، ويحتاج ذو العقل إلى مال ذي المال ورِفْدِهِ ويَنْهَضُ هذا بهذا وهذا بهذا، فليس لأحدهما إذن غنًى عن الآخر، فَأُحْوِجَ الملكُ إلى السوقة وأُحْوِجَت السوقةُ إلى الملك.
وقال في التَّفَاضُلِ: لا تقُل فلانٌ أغْنَى منِّي، وأنَا أَعَزُّ منهُ؛ فإنَّه لو جمع العقل والشدة والشجاعة والمالُ وأشباه ذلك لقوم وبقي قوم لا شيء لهم لهلكوا، ولكن الله — عز وجل — قال: أَهمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهمْ مَعِيشَتَهمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ (الزخرف: ٣٢) فأوتي بعضهم عقلًا وبعضهم قوة، وبعضهم مالًا مع أشياء مما يكون فيه صلاحهم وبه معايشهم، ثم أُحْوِجَ بعضُهم إلى بعض فعاشوا، وإنَّما مَثَلُ الرَّجُلِ وَرِزْقِهِ ومَثَلُ عَقْلِهِ وأدَبِهِ ومُرُوءته وحُكمه، كمثل الرامي ورميته، فلا بُدَّ للرامي من سهم، ولا بد لسهمه من قوس، ولا بد لقوسه من وتر، ولا بد لجميع ذلك من قدر يبلغ به ما رشق ويصيب به ما يبلغ ويحوز به ما أصاب، وإلا فلا شيء فالرامي الرجل والرمية الرزق، ولا يجمع بينهما عقل ولا عز ولا شيء من ذلك إلا بقدر، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال: إنَّ حُسْنَ السَّمْتِ وطُولَ الصَّمْتِ ومَشْيَ القَصْدِ من أَخْلَاق الأتقياء، وإنَّ سوء السمت وترك الصمت ومشي الخيلاء من أخلاق الأشقياء، فإذا مشيت فوق الأرض فاذكرْ مَنْ تحتها، وكيف كانوا فوقها وكيف حلُّوا بطنها، وكيف كانوا أُمَمًا؟! واعْلَمْ أن ابنَ آدمَ أَعَزُّ من الأسد وأشدُّ من العُمُدِ ما لم تُصِبْه أدنى شوكة وأدنى مرض وأدنى مصيبة؛ فإذا أصابَه شَيءٌ من ذلك وجدْتَه أهون من الذرَّة وأَمْهَنَ من البعوضة؛ فلا يَغْرُرْك تجبرُه وتكبرُه وتفرعنُه واستطالتُه، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في الغني والقَنُوع: إن الغنى في القلب فَمَن غنيتْ نفسَه وقلبه غنيتْ يداه ومَن افتقر قلبُه لم ينفعْه غناه، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في الرأي والمشاورة: إذا استشير نفرٌ أنت أحدهم فكن آخر من يُشِيرُ فإنه أسلم لك من الصلف وأبعد لك من الخطأ، وأمكن لك من الفكر وأقرَبُ لك من الحزم، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في النهي عن مُجالسة أهل الأهواء والبدع ومحادثتهم: أمَّا هذه الأهواء فإني لم أَرَ أحدًا ازداد فيها بصيرةً إلا ازداد فيها عَمًى؛ لأن أمْرَ الله أَعَزُّ من أَنْ تلحقه العقول، ولم أَرَ اثنين تَكَلَّمَا فيها إلا رأيتُ لكُلِّ واحدٍ منهمَا حُجَّة لا يقدر صاحبه على دفعها إلا بالشُّبَه والمغالطة، وأمَّا بالنَّصِيحة فلا، ومَن غالط في هذا أو مثله فإنما يغالط نفسه، وعليها يخلط وإياها يخدع، أو أراد أن يخادع ربه والله أَعَزُّ من أن يُخْدَع.
لقد نبئت أن الله — تبارك وتعالى — أوحى إلى نبيه موسى — عليه السلام: لا تجادل أهل الأهواء فيوقعوا في قلبك شيئًا يوردُك به إلى النار، فهذا أمرٌ نهى عنه موسى — عليه السلام — وقد أُعطي التوراة فيها هُدَى الله، وقد كلم الله موسى تكليمًا فكيف بغيره من أهل الأهواء؟ ولم يزل الصالحون يتناهَون عن الهوى والمراء فيه والجدل به، ولم أَرَ قياسًا قط تم ولا كلامًا صَحَّ إلا وفيه كلام بعد كثير، فالسُّنة ألَّا يتكلم في شيء من الأهواء بالهوى وبغير الاتباع للكتب المنزلة، والسنن للرسل الصادقة، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في النميمة: إياك والنميمة؛ فإنها لا تترُكُ مَوَدَّةً إلا أفْسَدَتْها، ولا عداوة إلا جددتها، ولا جماعة إلا بددتها، ولا ضغينة إلا أوقدتها، ثم لا بد من عُرِف بها أو نسب إليها أن يتحفظ من مجالسته ولا يؤتى بناحيته، وأن يُزْهَدَ في مناقشته، وأن يرغب عن مواصلته، وفي ذلك أقول شعرًا:
وفي مثله أقول:
وقال: إذا قيل لَكَ أَيُّ شَيءٍ أَطْوَلُ؟ فقل: الكلامُ، وإذا قيل لك أي شيء أقصر، فقل: الكلامُ؛ لأن الكلمة الواحدة قد تكون جوابًا بالألْف كَلمَة، وقد يكون جوابها ألف كلمة وأكثر، ولن تدرك الكلام حتى تذره، ولن تذره حتى تحذره، وفي القول خطأٌ كثير وبعضُه صواب، وإن الصمت مَنْه لَأَصْوَبُ، فاتركْ منه ما لا تنتفع بأخذه، وخذ منه ما لا تقدرُ على تركه، واسجنْ لِسَانَكَ كما تَسْجِنُ عدوك واحذرْه كما تحذر غائلته.
وقال في تأديب النَّفس: إذا أبصرت بعض ما تَكْرَه من غَيْرِكَ فأسْرِعِ الرَّجْعَة منه قبل أن يبصره منك من يستريبه، واحمد الله الذي أحسن إليك وبَصَّرَكَ عيوب نفسك، ونَبَّهَك للرجوع من غَيِّك، وإذا أخبرك بعيبك صديقٌ قبل أن يخبرَك به عدوٌّ فأحسنْ شكرَه واعرف حقه؛ فإنَّ خبر العدو تعييبٌ وخبر الصديق تأديبٌ، وفي ذلك أقول شعرًا:
وقال في الحاسِدِينَ: اعلم أنك لن تلقى من الخير درجة، ولن تبلغ منه مرتبة ولن تنزل منه منزلًا؛ إلا وجدتَ فيه من يحسدك، وإنما الحاسد خصمٌ فلا تجعلْه حكمًا؛ فإنه إن حكم لم يحكُمْ إلا عليك، وإن قَصَدَ لم يَقْصد إلا إليك، وإن دفع لم يدفع إلا حَقَّك، وفي ذلك أقول شعرًا:
ثم أَدَّبَ صالحُ بن جَنَاح، بِفَضْلِ منشئِ الرُّوحِ ومُجْرِي الرياح الملك الوهاب الفتاح، وذلك في سَلْخِ شهر ذي القعدة سنة ١٠٨٦ﻫ — والحمدُ لله أولًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.