تحميد لابن المقفع
الحمدُ لله ذِي العَظَمَةِ القَاهِرَة والآلاء الظَّاهرة، الذي لا يُعجزه شيءٌ، ولا يمتنع منه ولا يُدفع قضاؤه ولا أمرُهُ، وإنما قوله إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، والحمد لله الذي خلق الخلق بعلمه، ودبر الأمور بحكمه، وأنفذ فيما اختار واصطفى منها عزمه بقُدرة منه عليها، وملكة منه لها، لا معقب لحكمه، ولا شريك له في شيء من الأمور، يخلق ما يشاء ويختار ما كان للناس الخيرة في شيء من أمورهم سبحان الله وتعالى عما يشركون.
والحمدُ للهِ الذي جَعَلَ صَفْوَ ما اختار من الأُمور دينه الذي ارتضى لنفسه، ولمن أراد كرامته من عباده، فقام به ملائكتُه المقربون يعظمون جلاله ويقدسون أسماءه، ويذكرون آلاءه لا يستحسرون عن عبادته ولا يستكبرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقام به من اختار من أنبيائه وخُلَفَائه وأوليائه في أرضه، يُطيعون أمرَه ويذُبُّون عن محارمه، ويُصَدِّقُون بوعده، ويوفون بعهده، ويأخذون بحقه، ويجاهدون عدوه. وكان لهم عندما وعدهم من تصديقه قولهم وإفلاجه حجتهم، وإعزازه دينهم، وإظهاره حقهم، وتمكينه لهم، وكان لعدوه وعدوهم عندما أوعدهم من خِزْيِهِ وإخْلاله بأسَهم، وانتقامه منهم، وغضبه عليهم، مضى على ذلك أمره، ونفذ فيه قضاؤه فيما مضى، وهو ممضيه ومنفذه على ذلك فيما بقي ليتم نوره. ولو كره الكافرون ليُحِقَّ الحق ويُبطل الباطل ولو كره المجرمون.
والحمد لله الذي لا يقضي في الأمور، ولا يدبرها غيرُه ابتدأها بعلمه وأمضاها بقدرته، وهو وليها ومنتهاها وولي الخيرة فيها، والإمضاء لما أحَبَّ أن يُمضِيَ منها، يخلُقُ ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، سبحان الله وتعالى عما يشركون، والحمد لله الفتاح العليم العزيز الحكيم ذي المن والطول والقُدرة والحول، الذي لا ممسك لما فتح لأوليائه من رحمته، ولا دافع لما أنزل بأعدائه من نقمته، ولا رَادَّ لأمْرِهِ في ذلك وقضائه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والحمد لله المثيب بحمده ومنه ابتداؤه والمنعم بشكره، وعليه جزاؤه، والمثني بالإيمان، وهو عطاؤه.
بارك الله لكم في الابنة المستفادة، وجعلها لكم زينًا، وأجرى لكم بها خيرًا فلا تكرهها؛ فإنهن الأمهاتُ والأخواتُ والعماتُ والخالاتُ، ومنهن الباقيات الصالحات، ورُب غلام ساء أهلَه بعد مسرتهم، ورب جارية فرَّحَتْ أهلها بعد مساءتهم.
أعظم الله على المصيبة أجرك، وأحسن على جليل الرُّزْءِ ثَوَابَك، وعَجَّل لك الخلف فيه، وذخر لك الثواب عليه.
إنما يستوجب على الله وعده من صبر لله بحقه، فلا تجمَعَنَّ إلى ما فُجِعْتَ به من ولدك الفجيعة بالأجر عليه والعِوض منه؛ فإنها أعظم المصيبتين عليك، وأنكى المرزيتين لك، أخلف الله عليك بخير، وذخر لك جزيل الثواب.
لا يَنْقُصُ الله عَدَدَك، ولا يَنْزِعُ عنك نعمته التي ألبسك، وأحسَنَ العوض لك، وجعل الخلف لك خيرًا مما رزأك به، وما أعطاك خيرًا مما قبض منك.
جدد الله لك من هبته ما يكون خلفًا لك بما رُزِئْتَه، وعِوَضًا من المصيبة به ورَزَقَك من الثواب عليه أضعاف ما رزأك به منها، فَمَا أقلَّ كثير الدنيا في قليل الآخرة مع فناء هذه، ودوام تلك.
أعظم الله أجرك في كل مصيبة، وأوزعك الشكر على كل نعمة، اعرف لله حقه، واعتصمْ بما أمر به من الصبر؛ تظفرْ بما وعد من عظيم الأجر.
أمَّا بَعْدُ: فإنَّ أمْرَ الآخرَة والدُّنيا بيَد الله هو يُدبرهما، ويقضي فيهما ما يَشَاءُ لا رَادَّ لقضائه ولا معقب لحكمه؛ فإنَّ الله خلق الخلق بقدرته، ثم كتب عليهم الموت بعد الحياة، لئلا يطمع أحدٌ من خلقه في خُلد الدنيا، ووقَّت لكل شيء ميقات أجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فليس أحدٌ من خلقه إلا وهو مستيقن بالموت، لا يرجو بأنْ يخلصه من ذلك أحدٌ، نسأل الله خير المنقلب، وبَلَغَنِي وفاة فلان فكانت وفاته من المصائب العظام التي يحتسب ثوابها من ربنا، الذي إليه منقلبنا ومعادنا وعليه ثوابنا، فعليك بتقوى الله والصَّبْرِ وحُسْنِ الظَّن بالله؛ فإنَّه جعل لأهل الصبر صلوات منه ورحمة، وجعلهم من المهتدين.
أما بعد: فقد أتاني كتابُك فيما أخبرتنا عنه من صَلاحكَ وصلاح ما قبلك، وفي الذي ذكرتَ من ذلك نعمة مجللة عظيمة، نحمَدُ عليها وليها المنعم المتفضل المحمود، ونسألُه أنْ يُلْهمَنَا وإياك من شُكْره وذكر ما به مزيدها وتَأْدِيَةُ حَقِّها، وسألت أن أكتُبَ إليك بخبَرِنَا ونحنُ علَى حال لو أطنبت في ذكرها، لم يكن في ذلك إحصاءٌ للنِّعمة، ولا اعتراف لكنه الحق، فنَرغَبُ إلى الذي تَزْدَادُ نِعَمُه عَلَيْنَا في كل يوم وليلة تظاهرًا، ألا يجعل شكرنا منقوصًا ولا مدخولًا، وأن يرزقنا مع كل نعمة كفاءها من المعرفة بفضله فيها، والعمل في الأداء إليه حقها، إنه ولي قدير.
أمَّا بعد: فإنَّ مما نمقَ الله بِهِ مَنَاقبك الكريمة المحمودة الغَانية عن القول والوصف، أنك مَوضعُ المؤنات عن إخوانك حَمَّالٌ عنهم أثقال الأمور، مما وضعت عنه المؤنَةَ ارتفاعُكَ عَنِ الأُمورِ التي يُطأطأ إليها الكلام على ألسنة الناس، إذا باحوه وبهرجوه، وضيعوا القول ونَسُوا القصد فيه، وأخذوا به في كل فن، وأصفوا بصفوته غير أهلها، فيما لا ينبغي لهم من التشبيه والتوقير والتفضيل، كان من خَبَري بعدك أني قدمتُ بلد كذا، فتهيأ لي بعض ما شخصت له، والمحمود على ذلك الله — عز وجل — وأنا على أن يأتيني خبرك محتاج، فأمَّا جملة خبري في فراقك، فقلبي مكة كل ما سواك حرام فيها.
أمَّا بعدُ: فقد أتاني كتابُ الأميرِ رَجْعَةَ كتابي إليه، فكان فيه تصديق الظَّنِّ، وتثبيت الرأي، ودرك البُغية والله محمود، فأمتع الله بالأمير وأمتعه بصالح ما آتاه، وزاده من الخيرات مستعمرًا له فيه، مستعملًا بطاعته التي بها يفوز الفائزون، والذي رزق الله من الأمير فهو عندي عظيم نفيس، وكل الذي قبلي عن مكافأته فمقصر، إلا أنه ليس في النية تقصيرٌ، ولا بُلُوغ لشَيءٍ من الأمور إلا بتوفيق الله — عز وجل — ومعونته، والسلام.
أمَّا بعد: فلقد أتاني كتابُك فيما أخبرتني عنه من صَلاحكَ وصَلاح ما قبلك، وفي الذي ذَكَرْتَ نعمة مجللة عظيمة، نحمدُ عليها الله المنعم بها المحمود، ونسأله أن يلهمنا وإياك من شُكْرِهِ وذكره ما به مزيدها وتأدية حقها، نحنُ من عافية الله وكفايته ودفاعه على حال، لو أطنبت في ذكرها لم يكن في ذلك إحصاء للنعمة ولا اعتراف، لكنه الحق فنرغب إلى الذي يزيد في نعمه علينا تظاهرًا ألا يجعل شكرنا منقوصًا ولا مدخولًا، وأن يرزقنا مع كل نعمة كفاء من المعرفة بفضله فيها، والعمل في أداء حقها.
كتبتُ إليك وأميرُ المؤمنين وما يأتيه من لينِ الطَّاعَة، واتِّسَاقِ الكَلِمَة، عَمَّت في الداني والقاصي من بُلدانه، وحواشي سلطانه على ما يحمد الله عليه؛ فإنَّ نعمة الله على أمير المؤمنين تجري على إذلالها، وتنقاد في أسهل سبيلها.
أمَّا بعدُ: فَمَا أعْجَزَ تعدَادي عَمَّا أتعَرَّف منكَ وأتعرفُه بِكَ دانيًا ونائيًا، وما أدري ما ابتدأتني به من معرُوفِكَ أرْهَنُ لشُكْري، أمْ مَا ثَنَيْتَ به من بِرِّك لبدئك بعنايتك على نأيك، أمْ مَا ألبَسْتَني جماله على لسانك بإطرائك وثنائك، أمْ مَا عَقدتَه لي عند غيرك بتلطفك وتأنِّيك، غير أني أعلمُ أنك لم تقصر في استحقاق شكر عليَّ، وأرجو ألا أكون مقصرًا في معرفة ذَلكَ منك، ومن لم يقصر عِلْمُهُ، ولم يُؤْت في شكره إلا من عِظَمِ المعرُوف عِنْدَه مع جُهْدِهِ، فقد دَخَلَ بالعِلْمِ والجهد في الشَّاكرين، غير أن الذي آنستني به من رِفْدِكَ وتوطيدك، قد زادني وحْشَةً إليك، وإنْ حَفِظَ مَنْ حفظني فيك، وإن لم يَكُ مُقَصِّرًا، وقد جَدَّدَ لي المعرفة بوثارة مكاني عندك، ولقد بَلَغْتَ أن أصلحت لي الأمور والرِّجال، وأصلحتني إلى صلاحي لنفسي، فليس كتابي هذا باستبطاء لأحد حتى يستبطئه، ولا شُكري حتى يكون البدء منك، ولكن روحتُ عن نفسي بذكرك وزينتها بشكرك، وزكيتها بالإقرار بفضلك.
إنَّ الناس لم يَعْدِموا أن يطلبوا الحوائج إلى الخواص من الإخوان، وأن يتواصلوا بالحقوق ويرغبوا إلى أهل المقامات ويتوسلوا إلى الأَكْفَاء، وأنتَ — بحمد الله ونعمته من أهل الخير، وممن أَعَانَ عليه وبذل لأهل ثقته المصافين، وإن بذل النفوس فيه وإعطاء الرَّغيب ليس منك ببكر ولا طريف، بل هو تليد أتلده أولكم لآخركم، وأورثه أكابركم أصَاغركم، ومن حاجتي كذا وأنت أحَقُّ من طلبت إليه واستعنته على حوادث الدهر، وأنزلت به أمري لقرب نسبك، وكريم حسبك، ونباهتك وعلو منزلتك، وجسيم طبائعك، وعوام أياديك إلى عشيرتك وغيرها، فليكن من رأيك ما حملتك من حاجتي على قدر قَسْمِ الله لك من فضله، وما عَوَّدَكَ من مننه، ووسع غيري من نعمائك وإحسانك.
أمَّا بعد: فإنَّ مَنْ قَضَى الحوائِجَ لإخْوَانِهِ، واسْتَوجَبَ بذلِكَ الشُّكر عليهم فلنَفْسِهِ عمل لا لهم، والمعروف إذا وُضع عند من لا يشكره، فهو زرع لا بُدَّ لزَارِعِهِ من حصاده أو لعقبه من بعده، وكتبتُ إليك ولحالنا التي نحن بها فيما نذكرك حاجة، أول ما فيها معروفٌ تَسْتَوجِبُ به الشكر علينا، وتدخر به الأيادي قبلنا.
أمَّا بعد: فإنَّ أهل الفضل في اللُّب، والوفَاءِ في الوُدِّ، والكَرَمِ في الخلُقِ، لهم من الثناء الحسن في الناس لسانُ صِدْقٍ يُشِيدُ بفضلهم، ويخبر عن صحة ودهم، وثقة مؤاخاتهم، فيتخير إليهم رغبة الإخوان، ويصطفي لهم سَلامَةَ صدُورهم، ويجتبي لهم ثمرة قلوبهم، فلا مُثْنِيَ أفضل تقريظًا، ولا مخبر أصدق أحدوثة منه، وقد لزمت من الوفاء والكرم فيما بينك وبين الناس طريقة محمودة نُسبتَ إلى مزيتها في الفضل، وجمل بها ثناؤك في الذكر، وشهد لك بها لسان الصدق، فعُرفتَ بمناقبها ووُسِمتَ بمحاسنها، فأسرع إليك الإخوان برغبتهم مُستبقين يبتدرون ودك، ويصلون حبلك ابتدار أهل التنافُس في حظ رغيب، نصبت لهم غايَةً يجري إليها الطالبون، ويفُوزُ بها السابقون، فمن أثْبتَ الله عندك بموضع الحرز والثقة، وملأ بِكَ يده من أخي وفاء ووصلة، واستنام منك إلى شَعْبٍ مأمون وعهد محفُوظ، وصَارَ مَغْمُورًا بفضلك عليه في الود يتعاطى من مُكَافأتك ما لا يستطيع، ويَطْلُب من أثَرِكَ في ذلك غايةً بُلوغُها شديد، فلو كُنْتَ لا تؤاخي من الإخوان إلا من كافأ بودك، وبَلَغَ من الغايات حدك؛ ما آخيت أحدًا ولصرت من الإخوان صفرًا، ولكن إخوانك يقرون لك بالفضل، وتقبل أنت ميسورهم من الود، ولا تُجشمهم كَلَفَ مكافأتك، ولا بلوغ فضلك فيما بينك وبينهم؛ فإنما مثلك في ذلك ومثلهم، كما قال الأول:
ولم أرِدْ بهذا الثَّناء عَلَيْكَ تَزكيتك، ليكون ذلك قربة عندك وآخية لي لديك، ولكن تحريت فيما وصفتُ من ذلك الحق والصدق وتنكبت الإثم والباطل؛ فإن القليل من الصدق البريء من الكذب، أفضلُ من كَثيرِ الصِّدْقِ المشُوبِ بالبَاطِلِ، ولَقد وصفت من مناقبك ومحاسن أمورك، وإني لأخاف الفتنة عليك، حين تَسْمَعُ بتزكية نفْسِكَ وذكري ما ذَكَرْتُ من فضلك؛ لأن المدح مَفْسَدَةٌ للقلب مبعثة للعجب، ثم رجوت لك المنعة والعصمة؛ لأني لم أذكر إلا حَقًّا، والحقُّ ينفي من اللبيب العجب وخُيلاء الكبر، ويحملُه على الاقتِصَادِ والتَّوَاضُع، وقد رأيتُ إذ كنت في الفَضْلِ والوفاء على ما وصفت منك أن آخذ بنصيبي من وُدِّك، وأصِلَ وَثِيقَةَ حَبْلِي بحبْلِكَ فيَجْرِي بيننا من الإخاء أواصر الأسباب التي بها يستحكم الود ويدوم العهد، وعلمتُ أن تَركي ذلك غبنٌ وإِضَاعَتي إيَّاه جَهْلٌ؛ لأن التَّارك للحظ داخلٌ في الغبن، والعائد عنِ الرُّشد مرجفٌ إلى الغي، فارغب من ودي فيما رغبت فيه من ودك؛ فإني لم أدع شيئًا أستتلي به منك الرغبة، وأجترُّ به منك المودة إلا وقد اقتدتُ إليك ذريعته، وأعملت نحوك مطيته لترى حرصي على مودتك، ورغبتي في مؤاخاتك، والسلام.
أمَّا بَعْدُ: فإنَّا لما رَأينا موضِعَ الإِخَاءِ، ممن يَحتَمْلُه في تأنيسِهِ من الوَحْشَة وتَقْريبه لذي البُعدة، ومُشاركته بين ذوي الأرحَامِ في القُربَة؛ لم نَرْضَ بمعرفة عينه دون معرفة نسبته، فنَسَبْنَا الإِخَاءَ فَوَجَدْنَاه في نسبته لا يستَحِقُّ اسمَ الإخَاءِ إلا بالوَفَاءِ، فَلَمَّا انتقلنا عنه إلى الوفاء فنسبناه انتسب لنا إلى الصبر، فوجدناه محتويًا على الكرم والنجدة والصدق والحياء والنَّجَابَة والزكانة، وسائر ما لا يأتي عليه العَدَدُ من المحامد، ثُمَّ انحدرنَا فيما أصعدنا فيه من هذا النسب، فعُدنا إلى الإخاء فوجدناه لا يقوم به إلا من هذه الخصال كلها أخلاقه.
ولما استوجب الإخاء مسالك المحمدة كلها، رأينا أنْ نتخير له المواضع في صَوَابِ التَّوزِيرِ وإِحْكَامِ التَّقْدِير، وعَلِمْنَا أن الاحتباس به أحسَنُ من النَّدَم بعدَ بَذْلِهِ، واستوجَبَ إذْ كان جماع المحامد أن نتخَيَّرَ له محاملَه التي كان يحمل عليها، فكان النَّاسُ فيما احتبسنا به عَنهم من الإخاء على صنفين: فصنف عذرونا بالتحبس للتخير، إذ كان التخيُّرُ من شَأنهم، وصنفٌ هم ذوو سُرعة إلى الإخاء وسرعة في الانتهاء، فَقَدَّمُوا اللائمة واستعجلوا بالمودة وتركوا بابَ التَّروية، واستَحَلُّوا عاجل المحبة ولَهَوْا عن آجل الثقة، فكانوا بذلك أهلَ لائمةٍ، ولم يجد المعذرون إلا الصبر على تلك، والاستعمال للرأي والاستعداد بالعُذر عند المحاجة.
وقد فهمت كتابك إليَّ بالمودة واستحثاثك إياي في الأخوة وما دنوت به من حرمة المحبة، فنازعت إليك نفسي بمثل الذي نازعت به إليَّ نفسك، فواثبتْني عادة الاستعمال للتروية في الخبرة، والتخيُّر للمَغَبَّة فجُلْتُ عن كتابِكَ جَوْلَةً غير نَافِرَةٍ، ثم رَاجَعْتُ مُقاربتك، فقلتُ ألقي إليَّ أسباب المودة قبل كشف الغطاء بالخبرة، فخشيت أن تعذر نفسك بالتقدم، وتحدث الزَّهادة للتعسف بالجهالة عند الخبرة، فجلت عن هذا جولة كالجولة الأولى، ثم عاودتُ إسعافك وطاعة التَّشوق ومعصية التخير، ثم قُلتُ: ما حال من جَعَلَ الظَّنَّ دُونَ اليقين والتَّقَدُّم قبل الوثيقة، فلمَّا كان الرأي لي خصمًا تنكبت الوقوع في خلافه، فلم أجدْ إلا الإدبار عن إقبالك سبيلًا، ولا مع ذلك في طاعة التشوُّق حجة، فتغَيَّبْتُ السبيل بين ذلك إلى إعطائك طرف حبل الإخاء في غير الخروج من سبيل التخير.
وكرهتُ أنْ تَسْتَعْبِدَني بالإخاء، قبل أن أعْرِفَكَ بحسْنِ الملكة، وأن تستظهر بي على الأعداء قبل أن أعرِفَكَ بعدل السِّيرة، وأن تستضيء بي في ظُلَم الجهل قبل أن أعرفك بعَقْد اللُّبِّ، وأن تستمكن بي في المطالب قبل أن أعرفك بقصد الهمة، فقدمت إليكَ الترحيب والعدة وأحسنت عنك المفاوضة والثقة، وتنظرت أن تثمر لي فأذوق جناك، فأعْرفك بالمذاقة في الطعم، إمَّا لافظًا وإما مُستبلغًا، فإن كان اللفظ لم أكن من الرَّأي في قلبه، وإن كان الاستبلاغ ذوقتك ما تَشَوَّقْتُ إليه، مما ادعيتَ مني به الخبرة، وأوَّل ما أنا مُعْتَبرٌ به منك المواظبة على استنجاح ما سألت أو السآمة له؛ فإن كانت المواظبة فأحد الشهود المعدلين، وإن كانت السآمة فأنت عن حمل ما تُعطي أضعف منك عن جميل ما تطلب، طالعني بكتبك فإنك قد حللت قبلي عقدًا من التحفُّظ، وعقدت عقدًا من التقرب، والسلام.