ومن الرسائل المفردات في الشطرنج
أما بعد: فإنَّ الله شَرَعَ دينه بإنهاج سُبُله، وإيضاح معالمه بإظهار فرائضه، وبَعَثَ رسله إلى خلقه دلالة لهم على رُبُوبيَّته، واحتجاجًا عليهم برسالاته، ومُقَدِّمًا إليهم بإنذاره ووعيده ليهلك مَنْ هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، ثم خَتَمَ بنبيه ﷺ وحيَهُ، وقَفَّى به رُسله وابتعثه لإحياء دينه الدارس، مرتضيًا له على حين انطمست له الأعلام مختفية، وتشتت السبل متفرقة، وعفت آثار الدين دراسة وسطع رهج الفتن، واعتلى قتام الظلم واستنهد الشرك وأسدف الكفر.
وظهر أولياء الشيطان لطموس الأعلام، ونطق زعيم الباطل بسكتة الحق، واستطرق الجور واستنكح الصدوف عن الحق، وَاقْمَطَرَّ سلهب الفتنة واستضرم لقاحها وطبقت الأرض ظلمة كفر وغيابة فساد — فصدع بالحق مأمورًا وبلَّغ الرسالة معصومًا، ونصح الإسلام وأهله دالًّا لهم على المراشد، وقائدًا لهم إلى الهداية ومنيرًا لهم أعلام الحق ضاحية، مرشدًا لهم إلى استفتاح باب الرحمة، وإعلان عروة النجاة، موضحًا لهم سُبُل الغواية، زاجرًا لهم عن طريق الضلالة، محذرًا لهم الهلكة موعزًا إليهم في التقدمة ضاربًا لهم الحدود على ما يتقون من الأمور ويخشون، وما إليه يُسارعون ويطلبون، صابرًا نفسه على الأذى والتكذيب، داعيًا لهم بالترغيب والترهيب، حريصًا عليهم مُتحنِّنًا على كافَّتِهِم، عزيزًا عليه عنتُهم رءوفًا بهم رحيمًا تقدمه شفقته عليهم، وعنايته برشدهم إلى تجريد الطلب إلى ربه فيما فيه بقاء النعمة عليهم وسلامة أديانهم، وتخفيف أواصر الأوزار عنهم، حتى قبَضَه الله إليه ﷺ ناصحًا متنصحًا أمينًا مأمونًا، قد بَلَّغَ الرسالة وأدى النَّصيحة، وقام بالحق وعدل عمود الدين، حتى اعتدل ميله وأذل الشرك وأهله، وأنجز الله له وعده، وأراه صدق أسبابه في إكماله للمسلمين دينه، واستقامة سُنته فيهم وظهور شرائعه عليهم، قد أبان لهم موبقات الأعمال، ومُفظعات الذنوب ومُهبطات الأوزار وظُلم الشُّبهات، وما يدعو إليه نقصان الأديان وتستهويهم به الغوايات، وأوضَحَ لهم أعلام الحق، ومنازل المراشد، وطرُق الهدى وأبواب النجاة، ومعالق العصمة غير مدخر لهم نصحًا، ولا مبتغ في إرشادهم غنمًا.
فكان مِمَّا قَدَّم إليهم في نهيه، وأعلَمَهم سُوءَ عاقِبَتِهِ وحَذَّرَهم إصره، وأوعز إليهم ناهيًا وواعظًا وزاجرًا الاعتكاف على هذه التماثيل من الشطرنج، والمواصلة عليها؛ لِما في ذلك من عظيم الإثم وموبق الوزر مع مشغلتها عن طلب المعاش، وإضرارها بالعقول ومنعها من حضور الصلوات في مواقيتها مع جميع المسلمين، وقد بلغ أمير المؤمنين أَنَّ ناسًا ممن قبلك من أهل الإسلام قد ألهجهم الشيطان بها، وجمعهم عليها وألف بينهم فيها، فهم مُعتكفون عليها من لدن صُبحهم إلى ممساهم، ملهية لهم عن الصلوات شاغلة لهم عَمَّا أُمِروا به من القيام بسنن دينهم، وافترض عليهم من شرائع أعمالهم مع مُداعبتهم فيها، وسوء لفظهم عليها، وأن ذلك من فعلهم ظاهرٌ في الأندية والمجالس، غير منكر ولا معيب ولا مستفظَع عند أهل الفقه وذوي الورع والأديان والأسنان منهم، فأكبرَ أمير المؤمنين ذلك وأعظمه، وكرهه واستكبره وعلم أن الشيطان عندما يئس منه من بلوغ إرادته في معاصي الله — عز وجل — بمصر المسلمين ومجمعهم صراحًا وجهارًا أقدم بهم على شبهة مهلكة، وزَيَّنَ لهم ورطة موبقة، وغَرَّهم بمكيدة حيله إرادة لاستهوائهم بالخدع واجتيالهم بالشُّبه، والمرَاصِدِ الخفيَّة المشكلة، وكُلُّ مقيم على معصية الله صغرت، أو كبرت مستحلًّا لها مشيدًا بها مظهرًا لارتكابه إياها، غير حذر من عقاب الله — عز وجل — عليها، ولا خائف مكروهًا فيها، ولا رعب من حلول سطوته عليها حتى تلحقه المنية فتختلجه، وهو مُصِرٌّ عليها غير تائب إلى الله منها، ولا مستغفر من ارتكابه إياها، فكم قد أقَامَ على موبقات الآثام، وكبائر الذنوب حتى مد به مخرم أيامه!
وقد أحبَّ أميرُ المؤمنين أنْ يتقدم إليهم فيما بلغه عنهم، وأن يُنذرهم ويوعز إليهم ويعلمهم ما في أعناقهم عليها، وما لهم في قبُول ذلك من الحظ، وعليهم في تركه من الوزر فأذن بذلك فيهم وأشده في أسواقهم، وجميع أنديتهم وأوعز إليهم فيه، وتقدم إلى عامل شرطتك في إنهاك العقوبة لمن رفع إليه من أهل الاعتكاف عليها، والإظهار للعب بها وإطالة حبسه في ضيق وضنك، وطرح اسمه من ديوان أمير المؤمنين وأفطمهم، عما نهجوا به من ذلك والتمس بشدتك عليهم فيها وإنهاكك بالعقوبة عليه ثواب الله وجزاءه، واتباع أمير المؤمنين ورأيه، ولا يجدنَّ أحدٌ عندك هوادة في التقصير في حق الله — عز وجل — والتعدي لأحكامه فتُحل بنفسك ما يسُوءُكَ عاقبة مغبته، وتتعرض به لغضب الله — عز وجل — ونكاله، واكتب إلى أمير المؤمنين ما يكون منك — إن شاء الله — والسلام.
الحمد لله الناصر لدينه وأوليائه وخلفائه، المظهر للحق، وأهله، والمذل لأعدائه وأهل البدعة والضلالة، الذي لم يجمع بين حق وباطل، وأهل طاعة ومعصية إلا جعل النُّصرة والفلج والعاقبة لأهل حقه وطاعته، وجعل الخزي والذلة والصغار على أهل الباطل والخلاف والمعصية — حمدًا يتقبله ويرضاه ويُوجب به لأمير المؤمنين، وأهل طاعته الزيادة التي وعد من شكره، والحمد لله على ما يتولى من إعزازِ أميرِ المؤمنين ونَصْرهِ وإفلاجِهِ، وإظهارِ حَقِّه على ما وقع بأعدائه وأهل معصيته والخلاف عليه من سطواته ونقماته وبأسه، فيما ولي أمير المؤمنين من مُوالاة من والاه وعداوة مَن بَغَى عليه وعاداه، لا يكله في شيء من الأمور إلى نفسه ولا إلى حوله وقوته ومكيدته؛ فإنه لا حول ولا قوة لأمير المؤمنين إلا به.
الحمد لله العلي مكانه، المنير برهانه، العزيز سلطانه، الثابتة كلماته، الشافية آياته، النافذ قضاؤه، الصادق وعده، الذي قدر على خلقه بملكه، وعز في سماواته بعظمته، ودبر الأمور بعِلْمِهِ، وقَدَّرَها بحكمه على ما يشاء من عزمه، مُبتدعًا لها بإنشائه إياها، وقُدرته عليها واستصغاره عظيمها، نافذًا إرادته فيها لا تجري إلا على تقديره، ولا تنتهي إلا إلى تأجيله، ولا تقع إلا على سبق من حتمه، كُلُّ ذلك بلطفه وقدرته وتصريف وحيه، لا معدل لها عنه، ولا سبيل لها غيره، ولا علم أحدٌ بخفاياها ومعادها إلا هو؛ فإنه يقول في كتابه الصادق: وَعِنْدَه مَفَاتِحُ الْغَيْبِ (الأنعام: ٥٩).
أما بعد: فالحمدُ لله الذي اصطفى الإسلام دينًا، رضي شرائعَه، وبَيَّنَ أحكامه، ونَوَّرَ هداه، ثم كنفه بالعز المؤيد، وأيده بالظفر القاهر، وآزره بالسعادة المنتجبة، وجَعَلَ من قَامَ به داعيًا إليه من جُنْدِهِ الغالبين وأنصاره المسلطين، كُلَّمَا قهر بهم مناوئًا أورثهم رباعهم المأهولة، وأموالهم المثرية ودارهم الفسيحة، ودولتهم المطولة أمرًا حتمًا على نفسه، ثم جعل مَنْ عاندهم وابتغى غير سبيلهم مُسالمًا، قد استهوته ذِلَّة الكفر بظُلمها، وحيرة الجهالة بِحِوارها وتيه الشقاء بمغاويه، وكُلَّما ازدادوا لدعوة الحق إباء ازداد الحق إليهم ازدلاقًا، وعليهم عُكوفًا وفيهم إقامة إلى أن يحل بهم عز الغلبة ونجاة المتجاوز، داعين فيما شوقهم إليه، محافظين على ما ندبهم له، قد بذلوا في طاعة الله دماءهم، وقبلوا المعروض عليهم في مبايعة ربهم لهم بأنفسهم الجنة، محمودٌ صبرُهم، مسهل بهم عزمهم إلى خير الدنيا والآخرة.
والحمد لله الذي أكرم محمدًا ﷺ بما حفظ له من أمور أمته، أن اختار لمواريث نبوته ما أصار إلى أمير المؤمنين من تطويقه، ما حمل بحسن نهوضٍ بِهِ وشَجٍّ عليه، ومنافسة فيه أن فعل وفعل.
والحمد لله الذي تَمَّمَ وعده لرسوله وخليفته في أمة نبيه، مسددًا فيما اعتزم عليه، والحمد لله المعز لدينه المتولي نصر أمة نبيه، المتخلي عمن عاداهم وناوأهم حمدًا يزيد به من رضي شكره، وحمدًا يعلو حمد الحامدين من أوليائه، الذين تكاملتْ عليهم نِعَمُه فلا تُوصف، وجلت أياديه فلا تحصى، الذي حَمَّلَنَا ما لا قوة بنا على شكره إلا بعونه، وبالله يستعين أمير المؤمنين على ذلك، وإليه يرغب إنه على كل شيء قدير.
ولعبد الحميد أيضًا: أما بعد: فالحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه، وارتضاه دينًا لملائكته وأهلِ طَاعَتِهِ من عِبَادِهِ، وجعله رَحمة وكرامة ونجاة وسعادة لمن هدي به من خلقه وأكرمهم وفضلهم، وجعلهم بما أنعم عليهم منه أولياءه المقربين، وحزبه الغالبين وجنده المنصورين، وتوكل لهم بالظهور والفلج، وقضى لهم بالعُلُوِّ والتمكين، وجعل مَنْ خالفه وعَزَبَ عنه وابتغى سبيل غيره، أعداءه الأقلين، وأولياء الشيطان الأخسرين، وأهل الضلالة الأسفلين، مع ما عليهم في دنياهم من الذل والصغار، فأعجل لهم فيها من الخذلان والانتقام، إلى ما أعَدَّ لهم في آخرتهم من الخزي والهوان المقيم، والعذاب الأليم، إنه عزيزٌ ذو انتقام.
أما بعد: فإن مما أتعرف من مواهب الله نعمةٌ خُصِّصَتْ بمزيتها، وأصفيتْ بخصيصتها كانت أسرًا لي من هبة الله لي ولدًا سَمَّيْتُه فُلَانًا، وأمَّلْتُ ببقائه بعدي حياة وذكرى، وحُسن خِلافة في حرمتي، وإشراكه إياي في دعائه شافعًا لي إلى ربه، عند خلواته في صَلاته وحَجِّه وكل موطن من مواطن طاعته، فإذا نظرت إلى شخصه تحرك به وجدي وظهر به سروري وتعطفت عليه مني آنسة الولد، وولت عني به وحشة الوحدة، فأنا به جذل في مغيبي ومشهدي، أحاول مس جسده بيدي في الظلم، وتارة أعانقه وأرشفه ليس يعدله عندي عظيمات الفوائد ولا منفسات الرغائب، سرني به واهبُه لي على حين حاجتي، فشدَّ به أزري، وحَمَلني من شُكْرِه فيه ما قد آدنى بثقل حمل النِّعَمِ السَّالفة إليَّ به، المقرونة سراؤها في العَجَب بما رأت ما يُدركني به من رِقَّة الشفقة عليه مخافة مجاذبة المنايا إياه، ووجلًا من عواصف الأيام عليه.
فأسألُ الله الذي امتنَّ علينا بحسْنِ صُنْعِهِ في الأرْحَام، تأديبه بالزكاء، وحَرْسَه بالعافية أنْ يرزقنا شُكْر ما حملناه فيه وفي غيره، وأنْ يجعل ما يهب لنا من سلامته، والمدة في عُمْرِه مَوْصُولًا بالزِّيادة، مقرونًا بالعافية، مَحُوطًا من المكروه؛ فإنَّه المنانُ بالمواهب والواهبُ للمُنَى لا شَريكَ له، حملني على الكتاب إليك لعلم ما سُررتُ به علمي بحالك فيه، وشِرْكَتك إياي في كل نعمة أَسْدَاها إليَّ ولي النعم وأهل الشكر، أولى بالمزيد من الله — جل ذكره — والسلام عليك.
فإن أمير المؤمنين كتب إليك، وهو في نعمة الله عليه وبلائه عنده في ولده، وأهل لحمته والخاصِّ من أموره والعَلَمِ، والجنُودِ والقَوَاصِي والثُّغور والدَّهْمَاء من المسلمين، عَلَى ما لم يزل ولي النعم يتولاه من أمير المؤمنين، حافظًا له فيه ومكرمًا له بالحياطة، لِمَا ألهمه الله فيه من أمر رعيته، وعلى أعظم وأحسن وأكمل ما كان يحوطُه فيه ويذُبُّ له عنه، والله محمودٌ مَشْكُور إليه فيه مرغوبٌ، أحبَّ أميرُ المؤمنين؛ لعلمه بسرورك به أن يكتب إليك بذلك، لتحمد الله عليه وتشكره به؛ فإن الشكر من الله بأحسن المواضع وأعظم المنازل، فازددْ منه تزدد به، وحافظ عليه وتحفَّظْ به وارغب فيه؛ يهد إليك مزيد الخير ونفائس المواهب وبَقَاءَ النِّعم، فاقرأْ على من قبلك كتاب أمير المؤمنين إليك ليُسَرَّ به جندك ورعيتك، ومن حملَه الله المنعم بأمير المؤمنين، ليحمدُوا ربهم على ما رَزَق الله عبادَه من سَلَامَة أمير المؤمنين في بدنه، ورأفته بهم واعتنائه بأمُورهم؛ فإنَّ زيادة الله تعلو شكر الشاكرين، والسلام.
إن الله بنعمته علي لما رزقني المنزلة من أمير المؤمنين جعل معها شُكْرَها مقرونًا بها، فهي تتنمى بالزيادة، والشكر مصاحب لها، فليست تدخُلُني وحْشَةٌ من أبناء حاجتي، وأنا أعلم أنه لو وصل إلى أمير المؤمنين علمُ حالي أغناني عن استزادته، ولكني تكنَّفتني مؤنٌ استنفضتْ ما في يديَّ، وكنتُ للخَلَف من الله منتظرًا؛ فإني إنما أتقلب في نعمه، وأتمرغ في فوائده وأعتصم بسالف معروفه كان عندي.
فإنَّ أولى ما اعتزم عليه ذوو الإخاء، وتوصل إليه أهلُ المودات ما دعا أسبابَه صِدْقُ التَّقوى، وبُنِيَتْ دَعَائِمُه على أسَاسِ البِرِّ، ثم أنهد إلينا حزين التواصل، وشيده مستعذب العشرة فَادَّعَم قويًّا وصَفَّى مُرَنَّقًا، وبخاصة الحقة منعطفة وسكنت به القلوب أنيسة، وسمت من مُوَاصَلَته الهمم مُسْتَعْلية عن كل زائغٍ مُعْتَافٍ، ومخوفٍ عَارِضٍ يحتَرِمُ مُسْكَةَ الإخاء، ويختَارُ مربوب المِقَةِ ضنًّا بما استعذبوا من محمود وثائقه، وازديادًا فيما تمطقوا به من حلاوة جناه، فإذا استحكم لهم مدخور الصفاء بثبات أواخيه، وظُهُور أعلامِهِ ومحصُول مخبره وثقة مَوَادِّه، كان سُرُورُهم باعتلاقه، وابتهاجُهم بوجدانه وإنما هم صلته، وبذلهم رعايته، وحياطتهم محمودة، بحيث نالوا من معرفته حظوته، واستولوا عليه من مزية كرمِهِ، وتَعَرَّفُوا من ذخيرة عائِدَتِهِ ومَأْمُونِ حفاظه، وكَشَفَ لهم عن نفسه مُظهرًا أعلامه مبديًا دفينته، طارحًا قِنَاعَ سِرِّه، معلنًا مكنون ضميره في نأي الدار وجدان المجتمع، بإظهار ما استتر من المحاسن، وبث في الحقب من المكارم، قيامًا لهم بالنصرة، وحياطًا للمودة، وترغيبًا في العشرة، فكان أكهف ملجأ، وأحرز حِصْنٍ، وأحصف جنة، وأعون ظهير، وأبقى ذخيرةٍ، وأعظم فائدة، وأشرف كنز، وأفخر صنيعة، وآنق منظر، وأينع زهرة أكثر الأشياء ريعًا، وأنماها وصلًا، وأمدها سببًا، وأقواها أيدًا، وأحلاها ذوقًا، وأدْعَمَها ثباتًا، وأرساها ركنًا، لا يدخُلُ مُسْتَحِقَّها سآمةُ مَلال، ولا كلال مهنة، ولا تثبيط وَنْيَة، ولا ضَعْفُ خَوْرٍ لنُزُول بائقة، أو طُرُوق طَارِقَةٍ من عَوَارض الأقدار وحوادث الزمان، بل مواسيًا في أزمتها، متورطًا غمرات قحمها متدرعًا هائل بوائقها، مستلحمًا نواظر مقاطعها، حتى تصير به الأقدارُ إلى تناهيها، ويبلغ به القضاءُ مقْدَارَه غير مَنَّان النَّصْرَة، ولا برم التَّعَب، يرى تَعَبَه غُنْمًا ونصبه دعة، وكلفه فائدة، وعملَهُ مُقَصِّرًا، وسعيه مفرطًا، واجتهاده مُضيعًا، عدل الولد في بره، والوالد في شفقته، والأخُ في نصرته، والجار في حفظه، والذخر في مُلكه، فأين المعدل عن مثله، أو كيف الإصابةُ لشبهه، أو أنى عوضٌ من فقده — جمعنا الله وإياك على طاعته وألفنا بمحابه، وجعل أخوتنا في ذاته.
قد حددت لك أواخي الإخاء مُتشعبًا، ووصفتُه لك مُخلصًا، وانتهيتُ بك إلى غاية أهل العقل منه، وما تَوَاصَلَ أهل الرأي عليه، ودَعَا إليه الإخاءُ من نفسه، مُنْتَطقًا به ضامنًا له، ما فرَّط في ذلك تقصير من أهله، وداخله تضييعٌ من حَمَلَتِهِ، أو حَاطَه إحكام وكنفه حفاظ من رعاته.
وافاني كتابُك بما سألت من ذلك وعقلي محصورٌ، ورأيي منقسمٌ وذهني فيما يتأهب به الأمير … والله من خرز الترك، واختلافِ رُسُله إلى جبال اللان والطبران وما والاهما، بنوافذ أمرِه ومَخَارج رأيه، فأنا مصيخ السمع للفظه، عَقِلُ العقل عن سوى أمره، مُحتضر الذهن في تدبيرهم، ذهل القلب عن تقنين القول، وتشعيب الكلام في تصنيف طَبَقَات الرِّجال ومن أينَ دَخَلَ عليهم نقصُ الإخاء؟! وكيف خانهم مونق الصفاء؟! وقد صَرَّحْتُ لك عن رأي ذوي الصفاء، وكشفتُ لك خباء الإخاء، وجمعت لك إلف مودة أهل الحجى، فتَلَقَّى ما وصفت لك بقلب فهم عقول ذي ميزة يقظان، وذهن جامع حافظ ذي ثقافة راعٍ — أحضَرَكَ الله عصمة التوفيق وسَدَّدَك الله لإصابة الرشد، ومكن لك صدق العزيمة، والسلام.
إن الله تعالى أمتع أمير المؤمنين من أنيسته وقرينته متاعًا مَدَّه إلى أجل مُسَمًّى، فلما تمت له مواهب الله وعاريته قبض إليه العارية، ثم أعطى أمير المؤمنين من الشكر عند بقائها والصبر عند ذهابها أنْفَسَ منها في المنقلب، وأرجحَ في الميزان وأسْنَى في العوض — فالحمد لله، وإنا إليه راجعون.
حقُّ مُوصِلِ كتابي إليك كَحَقِّه علي إذ جعلك موضعًا لأمله، ورآني أهلًا لحاجته، وقد أنجزتُ حاجته فصدق أمله.
حتى اعتراني حنادس جهالة ومهاوي سبل ضلالة، ذُلُلًا لِسِبَاقِهِ وسَلَمًا في قِيَادِهِ إلى نُزُل من حميم وتصلية جحيم، سوى ما أنتجت الحفيظة في نفسه من عوائد الحسَكِ، وقدحت الفتنة في قَلْبِه من نار الغضب مضادة لله تعالى بالمناصبة، ومبارزة لأمير المؤمنين بالمحاربة، ومجاهرة للمسلمين بالمخالفة إلى أنْ أَصْبَحَ بفَلاةٍ قَفْرٍ، ونيَّة صُفر بعيدة المناط، يقطع دونها النياط، وكذلك الله يفعل بالظالمين، ويستدرجهم من حيث لا يعلمون.
أما بعد: فإن الله تعالى جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور، فمن سَاعَدَهُ الحظُّ فيها سكن إليها، ومَن عَضَّتْه بنابها ذمها ساخطًا عليها وشكاها مُستزيدًا لها، وقد كانت أذاقتْنا أفاويق استحليناها، ثم جمحتْ بنا نافرة ورمحتنا مولية؛ فَمِلْحٌ عذبها وخشن لينها، فأبعدتْنا عن الأوطان وفرقتْنا عن الإخوان، فالدَّارُ نازحةٌ والطير بارحة.
وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بُعدًا وإليكم وَجْدًا؛ فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها يكنْ آخر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظُفْرٌ جارح من أظفار من يليكم، نرجع إليكم بِذُلِّ الإسار، والذل شر جار، نسأل الله الذي يُعِزُّ من يشاءُ ويُذِلُّ من يشاء: أن يهب لنا، ولكُم ألفة جامعة في دار آمنة تجمع سلامة الأبدان والأديان؛ فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين.
هذه الرسائل الأربع منقولة عن شرح رسالة ابن زيدون.
وله من رسالة كتب بها عن آخر خُلفَاءِ بني أُمية، وهو مَرْوانُ الجعدي لفرق العرب حين فاض العَجَمُ من خُرَاسَانَ بشعار السَّواد، قائمين بالدولة العباسية.
فلا تمكنوا ناصية الدولة العربية من يد الفئة العجمية، واثبتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة ونصحو من هذه السَّكرة، فسينضَبُّ السيل وتُمْحَى آية الليل — والله مع الصابرين والعاقبة للمتقين.