رسالة عبد الحميد إلى الكُتَّاب
أمَّا بعدُ: حَفِظَكُمُ الله يا أهل صِنَاعة الكِتَابة، وحاطكم ووفقكم وأرشَدَكُم، فإن الله — عز وجل — جَعَل الناس بعد الأنبياء والمرسلين — صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين — ومن بعد الملائكة المكرمين؛ أصنافًا، وإن كانوا في الحقيقة سواء، وصَرَفَهم في صُنُوف الصِّنَاعات، وضُروبِ المحاولات إلى أسباب معاشهم، وأبواب أرزاقهم فجعلكم — معشر الكتاب — في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة، بِكُم تنتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها، وبنصائحكم يُصلح الله للخلق سلطانهم ويعمر بلدانهم، لا يستغني الملك عنكم، ولا يُوجد كاف إلا منكم، فموقعكُم من الملوك مَوقِعُ أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصَارِهِمُ التي بها يبصرون، وألسنتُهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون، فأمتعكم الله بما خَصَّكم من فضل صناعتكم، ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم.
وليس أحَدٌ من أهل الصناعات كُلِّها أحوجُ إلى اجتماع خلال الخير المحمودة، وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم — أيها الكُتَّاب — إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم؛ فإن الكاتب يحتاج من نفسه، ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مُهِمَّات أمُورِهِ، أنْ يكُون حليمًا في مَوضِع الحلم، فهيمًا في موضع الحكم، مقْدامًا في موضع الإقدام، محجامًا في موضع الإحجام مؤثرًا للعفاف والعدل والإنصاف، كتومًا للأسرار، وفيًّا عند الشدائد، عالمًا بما يأتي من النوازل، يضع الأمور مواضعها، والطوارق في أماكنها، قد نَظَرَ في كل فن من فنون العلم فأحكمه، وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار من الحسن، واحتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة.
وقد علمتم أن سائس البهيمة، إذا كان بصيرًا بسياستها التمس معرفة أخلاقها؛ فإن كانت جموحًا لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبًا اتقاها من بين أيديها، وإن خاف منها شرودًا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونًا قمع برفق هواها في طُرُقها؛ فإن استمرت عَطَفها يسيرًا فيَسْلُس له قيَادُها، وفي هذا الوَصف من السياسة دلائلُ لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم، والكاتب، بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته، ومعاملته لمن يحاوره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته؛ أولى بالرفق لصاحبه ومُدَارَاته، وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جوابًا، ولا تعرف صوابًا ولا تفهم خطابًا، إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها.
ألا فارفقوا — رحمكم الله — في النظر، واعملوا فيه ما أمكنكم من الروية والفكر، تأمنوا — بإذن الله — ممن صحبتموه النبوةَ والاستثقالَ والجفوةَ، ويصير منكم إلى الموافقة وتصيرون منه إلى المؤاخاة والشفقة — إن شاء الله تعالى.
ولا يجاوزنَّ الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه، ومركبه ومطعمه، ومشربه وبنائه وخدمه، وغير ذلك من فُنُون أمره قدر حقه؛ فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خَدَمة، لا تحملون في خدمتكم على التقصير، وحَفَظة لا تُحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير، واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرتُه لكم وقصصته عليكم، واحذروا مَتَالف السرف وسوء عاقبة الترف؛ فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرِّقاب، ويفضحان أهلهما ولا سيما الكُتَّاب وأرباب الآداب، وللأمُور أشباهٌ وبعضها دليلٌ على بعض، فاستدلوا على مؤتنف أعمالكُمْ بما سبقتْ إليه تجربتكم، ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأصدقها حُجَّة وأحمدها عاقبة، واعلموا أن للتدبير آفة مُتْلِفَة، وهو الوصفُ الشاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورويته، فليقصد الرَّجل منكم في مجلسه قصْدَ الكافي من مَنْطِقِه، وليُوجز في ابتدائه وجوابه، وليأخذ بمجامع حُجَجِهِ؛ فإنَّ ذلك مصلحة لفعله، ومدفعةٌ للشَّاغل عن إكثاره، وليضرع إلى الله في صِلَةِ تَوْفِيقِهِ، وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وأدبه؛ فإنَّه إن ظن منكم ظانٌّ، أو قال قائلٌ: إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته، إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره؛ فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله — عز وجل — إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف، وذلك على من تأمله غير خاف، ولا يقولُ أحدٌ منكم: إنَّه أبصَرُ بالأمور وأحمل لعبء ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله، وحُسْن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده، وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته وعتاده، ويهيئ لكل وجه هيئته وعادته، فتنافسوا يا معشر الكُتَّاب في صنوف الآداب، وتَفَقَّهُوا في الدين وابدءوا بعلم كتاب الله — عز وجل — والفرائض ثم العربية؛ فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أَجيدوا الخط؛ فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرِفُوا غريبها ومَعَانيَها، وأيَّامَ العرب والعَجَم وأحاديثها وسيرها؛ فإن ذلك مُعِينٌ لكم على ما تَسْمُو إليه هممكم، ولا تضيعوا النظر في الحساب؛ فإنه قوام كُتَّاب الخراج.
وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سَنَيِّها، ودَنِيِّها وسفساف الأمور ومحاقرها؛ فإنها مذلة للرقاب مفسدةٌ للكُتَّاب، ونَزِّهُوا صناعتكم عن الدناءة، واربئوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أصل الجهالات، وإياكم والكبر والسَّخَفَ والعَظَمَة؛ فإنها عَدَاوَةٌ مُجتلبة من غير إِحْنَة وتحابوا في الله — عز وجل — في صناعتكم، وتواصلوا عليها بالذي هو أليقُ لأهلِ الفَضْل والعَدْل والنُّبل من سلفكم.
وإن نبا الزَّمَانُ برجُلٍ منكُم فاعطفوا عليه، وواسوه حتى يرجع إليه حاله، ويثوب إليه أمرُه وإن أقعَدَ أحدًا منكم الكبرُ عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظِّمُوه وشاوِرُوه، واستظهروا بفَضْلِ تجربَتِهِ وقديمِ مَعْرِفَته، وليكُنِ الرَّجُلُ منكم على من اصطنعه، واستظهرَ به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه؛ فإنْ عرضت في الشغل محمدةٌ، فلا يصرفها إلا إلى صاحبه، وإن عَرَضَتْ مذمة فليحملها هو من دونه، وليَحْذَر السَّقْطَةَ والزلة والملل عند تغيُّر الحال؛ فإنَّ العيب إليكم معشر الكتاب أسرعُ منه إلى القُرَّاء وهو لكم أفسدُ منه لها، فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه، فواجبٌ عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمانِ سِرِّه وتَدْبِيرِ أَمْرِه ما هو جزاءٌ لحقه ويصدق، ذلك تبعًا له عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه، فاستشعروا ذلك — وفقكم الله — من أنفُسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمؤاساة والإحسان، والسراء والضراء فنعمت التسمية هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة، وإذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله، وعياله أمرٌ فليراقب الله — عز وجل — وليؤثرْ طاعته، وليكن على الضعيف رفيقًا وللمظلوم منصفًا؛ فإن الخلق عيالُ الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله.
ثم ليكنْ بالعدل حَاكمًا، وللأشراف مُكرمًا، وللفيء مُوَفرًا وللبلاد عامرًا وللرعية متألِّفًا، وعن أذاهم مُتخَلِّفًا، وليكُن في مجلسِهِ مُتواضعًا حَليمًا، وفي سِجِلَّات خراجه واستقصاء حقوقه رفيقًا، وإذا صاحب أحدُكم رجلًا فليَخْتَبر خَلائقَهُ، فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقُه التدبير من مُرافقةٍ في صناعته ومصاحبة في خدمته، فإنَّ أعقل الرجلين عند ذوي الألباب مَن رمى بالعجب وراء ظهره، ورأى أن صاحبه أعقلُ منه وأجمل في طريقته، وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله — جل ثناؤه — من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثر على أخيه، أو نظيره وصاحبه وعشيره.
وحمدًا لله واجبٌ على الجميع، وذلك بالتواضُع لعظمته، والتذلُّل لعزته، والتحدُّث بنعمته، وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل: مَن تلزمه النصيحة يلزمه العمل، وهو جوهرُ هذا الكتاب، وغُرَّةُ كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله — عز وجل — فلذلك جعلته آخره وتممته به، تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكَتَبَة، بما يتولى به مَنْ سَبَقَ علمه بإسعاده وإرشاده؛ فإن ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.