بناء الواقع
تحظى القوة الهائلة للصورة الفوتوغرافية دومًا بمساندة لفظية كبيرة، لكنْ لا يدور كثيرًا نقاشٌ عامٌّ حول القدرات والأخطار الضخمة للصحافة البصرية؛ فتؤكد الضجةُ التي حدثت حول صور «مقاتلين غير شرعيين» منتمين إلى طالبان قُبِض عليهم (أو أنهم كانوا «أسرى حرب») … كم هو ضروريٌّ توضيح السياقِ والمعنى المحيطَيْن بالصور. (جاكوبسون، ٢٠٠٢، ص٤)
كنتُ أشعر دومًا في السيتي صن بأن الكثير من المحررين ينظرون إلى الأشياء على أنها إما صواب وإما خطأ، وحاولوا جعلي أفكِّر مثلهم على هذا النحو، وكنتُ أقاوِم هذا دومًا، بقولي لهم في الأساس إن هذا لا يعني شيئًا لي في إطار ثقافتي [الأمريكية البيضاء]. فإذا كنتَ نشأتَ فتًى أسودَ في ديترويت، وأصبحتَ ترى العالَمَ بعينين معيَّنَتَيْن، فإن أسلوبَ نظرِ سيتي صن للأمور سيبدو مثل الحقيقة. بل إن الصن لديها شعار يقول: «نقول الحقيقة في وجه القوة.» لكنني، كلما فكَّرْتُ في الأمر، زاد إدراكي بأنني لا أعرف ما هي الحقيقة. نظرتُ إليها بقدرٍ أكبر على أنها وجهة نظر السود، أو وجهة النظر المفتقدة غالبًا من الحوار العام. (إسيك، ١٩٩١)
يشكِّك إسيك في المفهوم المطلَق للحقيقة، ويشير بدلًا من ذلك إلى إسهام القيم التاريخية والاجتماعية/الثقافية في «الحقيقة/المعرفة» في مجتمع معين؛ فطبيعة الوجود الإنساني ذاتها داخلَ واقعٍ مبنيٍّ على نحوٍ اجتماعي معين تفرض أفكارًا ومفاهيم؛ فتحدِّد فعليًّا طريقةَ تنظيم العالم وإدراكه.
تسهم وسائل الإعلام الإخبارية في واقع أي مجتمع بقدر ما تعكس هذا الواقع. يفترض الباحثون (سنو، ١٩٨٣، وتوكمن، ١٩٧٨) أن إنتاجَ وفهمَ الأخبار يُبْنَيَان داخل الأُطُر التي تجعل هذه الأخبار ذات معنًى، ويُقال إن هذه الأُطُر خاصة بكل ثقافة؛ فما يكون له معنًى لصحيفة ذي نيويورك تايمز وقرائها، قد لا يكون كذلك لصحيفة جلف نيوز في الإمارات العربية المتحدة وقرَّائها. لا يعني هذا بالضرورة وجود جمهور سلبي يتقبَّل دون نقدِ أيِّ شيء تقدِّمه وسائلُ الإعلام الإخبارية، بل إن الطريقة التي تصوغ بها وسائل الإعلام الإخبارية «منتجاتها الإخبارية» لا تسهم فقط في البناء الاجتماعي للواقع، ولكنها تتأثَّر أيضًا بما يدرك مستهلكو الأخبار داخلَ هذا «الواقع» أنه مهم؛ لهذا السبب، تُجرِي وسائلُ الإعلام الإخبارية مرارًا استبياناتٍ للقراء/المشاهدين، متطلِّعةً إلى تطوير استراتيجياتٍ لصياغة المنتج الإخباري حتى تجعله جذَّابًا للمستهلكين.
مع ذلك، في الوقت نفسه، يُبنَى «واقع» هؤلاء المستهلكين، على الأقل جزئيًّا، على أساس الطريقة التي صاغت بها وسائلُ الإعلام الإخبارية المعلومات. «يعمل المراسلون داخل شبكة، هي أداة تنظيمية استراتيجية من أجل الاستفادة من المصادر الإخبارية على أفضل نحوٍ ممكن» (فان دييك، ١٩٨٨، ص٨). في الولايات المتحدة، تستخدم هذه «الشبكة» استراتيجيات مثل: تصنيف الأحداث الإخبارية، وتحديد الأهمية الإخبارية، والالتزام بمفهوم «الموضوعية». بالإضافة إلى ذلك، تسمح شبكة الاستراتيجيات هذه للصحفيين، ومنهم الصحفيون المصوِّرون بأن «يركِّزوا» على أجزاء صغيرة من «صورةٍ» أكبر كثيرًا (أم تراها تجبرهم على ذلك؟)، بينما يضيِّق المحررون والمصممون بؤرةَ التركيز بقدرٍ أكبر عن طريق تحرير الكلمات، وانتقاء (أو استبعاد) الصور وعمليات التصميم/التخطيط.
بالإضافة إلى ذلك، يطبِّق معظم الإصدارات الإخبارية السائدة في الولايات المتحدة نظامَ تسلسُلٍ هرميٍّ في صنع القرار؛ فيحدِّد كبارُ المحررين الطريقةَ التي تستطيع بها الإصداراتُ جذْبَ القراء «المناسبين» على نحوٍ أفضل. وفي المقابل، يتأثَّر المحررون بأيديولوجياتهم، وطبقاتهم الاجتماعية، وربما بالعمر والعِرْق وحتى النوع (كاوفمان، ١٩٩١).
الأنظمة والأشخاص الموجودون داخل هذه الأنظمة مسئولون بالكامل عن تشكيل الواقع في الصور الفوتوغرافية، أكثر من الموضوعات أنفسها؛ على سبيل المثال: إذا كان محررٌ ما مهتمًّا بموضوعٍ معين، فسيروِّج له، وإذا كان مديرَ تحرير، فإنه سيستطيع الترويجَ للموضوع بقدرٍ أكبر. (بنزاكين، ١٩٩١)
تعاني وجهاتُ نظر السيدات أو الأقليات، أو واقع كلٍّ منهما، في هذا الشكل الإداري الهرمي؛ نظرًا لقلة التنوُّع بين كبار المحررين. «عندما تنظر إلى الوظائف العليا، تجد أن هؤلاء الذين يتخذون القرارات الفعليةَ في مجال الصحافة رجالٌ لا نساء، ومعظمهم من البيض، وليسوا من السود أو ذوي الأصول اللاتينية» (تشابنيك (رئيس وكالة بلاك ستار للصور، ١٩٦٤–١٩٩١)، ١٩٩١). يمكننا أن نضيف أيضًا أن معظم كبار المحررين يتمتعون بمكانةِ أصحاب الدخل الأوسط الأعلى أو الدخل المرتفع، وأن الكثيرين منهم تعلَّموا في مدارس وجامعات نخبوية.
في النهاية تصبح الأُطُر التي استخدمَتْها وسائلُ الإعلام الإخبارية في «الإخبار» عن «الواقع» «مسلَّمًا بها» من كلٍّ من المتخصصين في مجال الإعلام، وقرَّاء/مُشاهِدِي وسائل الإعلام. وتؤثِّر «البنية» المُستخدمة في صياغة الأخبار في «محتوى» الأخبار؛ ومن ثَمَّ فهي تسهم في بناء اجتماعي للواقع.
يقدِّم لنا عِلْمُ الرموز (السيميوطيقا) — بوصفه دراسةَ الرموز (الدَّوالِّ)، ومعانيها، وطريقة ارتباطها بالمفاهيم (المدلولات) التي تشير إليها — طريقةً جديدةً لتحليل طريقة إنتاج الصور الإخبارية وفهمها. من هذا المنظور، تكون العلاقة بين الرمز والمفهوم تعسفيةً ومكتسبةً؛ ومن ثَمَّ تكون خاصةً بكل مجتمع.
أحرِّر واضعةً في ذهني المعاييرَ الجمالية، ولكني أحاول أيضًا أن تكون لديَّ رسالةٌ، خاصةً في إطار معنى القصة؛ على سبيل المثال: مع ديفيد ديوك [القائد السابق للكو كلوكس كلان، والمرشَّح الرئاسي السابق]، سأحاول البحثَ عن تعبيرٍ أو شيءٍ يكشف خلفيته، أو إذا كان ثمة مؤيدٌ في الخلفية يمتلك صليبًا معقوفًا، وسأحاول إدخالَ هذا في القصة إذا كان صغيرًا، لمجرد تقديم معلومات؛ حتى نعرف مَن هو بمجرد النظر إلى الصورة. (بنزاكين، ١٩٩١)
في هذا المثال، نجد عنصرًا بصريًّا، وهو الصليب المعقوف، يؤدِّي دورَ الرمز داخل الصورة الفوتوغرافية (ويُشار إليه أيضًا بمصطلح «العلامة» في علم الرموز). من المفترض أن المفهوم هو النازية، وربما أبعد من هذا؛ العنصرية. النقطة المهمة هنا أن العلاقة بين الرمز، الصليب المعقوف، وبين مفهومَي النازية والعنصرية؛ هي علاقة «تعسُّفية» تمامًا. تعتمد العلاقة بالكامل على الارتباط المكتسَب بين الرمز والمفهوم، ويجب أن يكون الارتباط هو نفسه لدى كلٍّ من المصوِّر/المحرِّر والمُشاهِد؛ فمثلًا: إذا عرضنا الصورةَ نفسها على شخصٍ يعيش في بعض أجزاء من قارة آسيا، فلن تكون الصورةُ فقط بلا معنًى؛ لأنه لا يعرف مَن هو ديفيد ديوك، ولكنها قد تتَّخِذ معنًى مختلفًا تمامًا في الواقع، لكون الصليب المعقوف رمزًا مقدَّسًا في الهندوسية؛ فالصليب المعقوف ليس هو ما يحتوي على المعنى، ولكن علاقته المكتسبة بالنازية/العنصرية، أو بوصفه رمزًا مقدسًا.
أخيرًا، وربما الأهم من هذا كله «حقيقة أن الناس بوجهٍ عامٍّ لا يدركون، عن وعي، القواعدَ والرموزَ، ولا يمكنهم الإفصاح عنها، على الرغم من استجابتهم لها» (بيرجر، ١٩٨٢، ص٢٢).
يؤكِّد بيرجر ولوكمان (١٩٦٦) أن «المعرفة» و«الواقع» نتاج المجتمع، لكن الأكثر من هذا أن إنتاجهما لا يكون أبدًا أمرًا واقعًا، وإنما يكون عملية مستمرة. «المعنى» ليس شيئًا يمكن تحديده بدقة؛ فهو أشبه بالضوء الذي «يومض باستمرارٍ». «تشبه قراءةُ نصٍّ ما (ومن ذلك النصوص المرئية، مثل الصور) تَتَبُّعَ عملية الوميض المستمر هذه أكثر ممَّا تشبه عدَّ خرزِ القلادة» (إيجلتون، ١٩٨٣، ص١٢٨). واللغةُ (ومن ذلك اللغة البصرية) هي آلية زمنية؛ ومن ثَمَّ، توجد علاقة معقدة بين الرموز الموجودة في الماضي والحاضر والمستقبل. «كلُّ علامة (كلمة أو صورة … إلخ) في سلسلة المعنى تُشطَب أو تُسْتَشَف باستخدام كل العلامات الأخرى … وهكذا لا تكون أي علامة على الإطلاق «نقية» أو «كاملة» المعنى» (إيجلتون، ١٩٨٣، ص١٢٨). بالإضافة إلى ذلك، نظرًا لإمكانية إعادة إنتاج العلامة طوال الوقت، لا يكون المعنى متطابقًا أبدًا. تُنتَج العلاماتُ دومًا وفقًا للسياق، ولا توجد سياقات متماثِلة أبدًا؛ ومن ثَمَّ فإن المعاني التي تنشأ عن العلامة نفسها لا تكون متشابهةً تمامًا على الإطلاق.
كنا نُعِدُّ فقرةً عن ماريلو ويتني في سباق كنتاكي ديربي للخيل، وحينما كان المدير الفني ينظم اﻟ … صفحة، جاء إليَّ وقال: «يجب أن تنظري إلى هذه الصورة وتقدِّميها إلى الصفحة الأولى.» نظرتُ إلى الصورة وجُنَّ جنوني. كانت تظهر فيها [ويتني] بشعرها الأصفر الأشيب القصير المنسدل وبرداءٍ وقورٍ مع خادمتها السوداء، تستعرض فستانَيْن منفوشَي الأكمام على ذراعها، سترتدي أحدهما في حفل ديربي، وخلفها توجد صورة لها على الحائط وهي شابة بارعة الجمال. كانت [الصورة] مذهلة للغاية، وتقول الكثير عن أسلوب الحياة الذي لا يزال موجودًا في ريف مدينة بلو جراس؛ لذلك، قدَّمْتُ الصورة إلى مسئولي الصفحة الأولى، واختاروا نشرها في الصفحة الأولى، وخرجت محررة قسم «المعيشة»، وهي امرأة بيضاء، وقالت: «أظن أن هذا بَشِع، سيظن الناس أننا نؤيِّد أسلوبَ حياةِ فترةِ ما قبل الحرب الأهلية إذا وضعنا هذه الصورةَ في الصفحة الأولى»، ولكننا رأينا أنها تعرض شيئًا لا يزال موجودًا …
كان المصوِّر (وهو رجل أمريكي من أصل أفريقي) خارجَ البلدة، ولم يكن من الممكن إشراكه في المناقشة؛ لذلك نقلنا الصورةَ إلى الداخل. في النهاية، وضعنا في الخارج صورةَ لويتني وهي تجلس في فناء منزلها مع سائس أسود، مُمسِكةً بلجام حصانها، وهي صورة أعتقد أنها لم تكن بمثل جاذبية الصورة الأولى، كانت لها الرسالة نفسها، لكنها أكثر غموضًا فحسب.
عندما عاد المصور، أخبرته قليلًا عن الجدل، دون أن أخبره بمَنْ أيَّدَ أيًّا من الجانبين، وسألته عمَّا دفعه لالتقاط هذه الصورة. أخبرني عن يومه هناك بوصفه ضيفًا على ماريلو ويتني، وبينما كان يتناول الغداء ويشاهد كلَّ الخدم السُّود يؤدُّون عملهم، سمعها تقول: «لا أعرف حقًّا كيف سأستعِدُّ لهذا الحفل؛ فأمامي عملٌ كثير، ويجب إعداد كل هذا الطعام.» ثم أخذَتْه إلى المطبخ، وكانت فيه ست نساء سوداوات يؤدين الطبخ كله، وقال إنه لم يكن ثمة سبيلٌ لتصوير هذا، حتى جاءت هذه المرأة السوداء لتعرض عليها هذين الفستانَيْن. (لي، ١٩٩١)
يُظهِر تحليلُ هذه الصورة والجدل الذي دار قبل نشرها صعوبات استخدامِ قواعد صارمة وسريعة في تفسير المعاني الموجودة داخل الصور. بدايةً، نستطيع الإشارة إلى الطبيعة الوقتية للواقع؛ فكما يظهر من النقاش السابق للنشر، كان البعض يعتقد أن الجمهور سيقرأ هذه الصورة على أنها إنكار لسيادة البيض المستمرة في مجتمعات جنوبية معينة؛ بينما شعر آخَرون أن الجمهور سيفسِّر الصورة على أنها تأييد لأسلوب الحياة الجنوبي القديم، ولهذا السبب لم تُستخدَم في الصفحة الأمامية. لو كانت هذه الصورة نفسها التُقِطت منذ ٥٠ سنة، فمن غير المؤكد أن نقاشًا مثل هذا كان سيحدث. وربما كانت الصورة ستظهر، أو لن تظهر، في الصفحة الأمامية بسبب اعتبارات أخرى، والأرجح أن الحساسية تجاه اعتبارات الأمريكيين من أصل أفريقي لم تكن لتشكِّل جزءًا من العملية التشاوُرية.
يؤثِّر سياقُ صحيفة ذي نيويورك تايمز نفسه أيضًا في الواقع الذي بَنَتْه في النهاية صورة ويتني؛ فلو أن هذه الصورة نفسها ظهرَتْ في صحيفةٍ تروِّج لتميُّز البيض، لَتغيَّرَ المعنى بلا شك.
اشترَكَ أطراف النقاش، المؤيدون لنشر الصورة في الصفحة الأمامية والمعارضون، في نقاشٍ كان الرمز فيه هو إمساك سيدة سوداء الفساتين، وكان المفهوم هو العبودية؛ ومن ثَمَّ فإن الرسالة هي استمرارُ نظام سيادة البيض وعبودية السود.
مع ذلك، من الممكن استنباط معانٍ أخرى من هذه الصورة؛ على سبيل المثال: ربما كان المصوِّر الأمريكي من أصل أفريقي الذي التقَطَ هذه الصورة يحاول توصيلَ استمرارِ نظام القمع الذي يحصل فيه الأقوياء على الفضل على عمل الآخرين، أو ربما كان يحاوِلُ إظهارَ اعتماد هذه السيدة الجنوبية البيضاء على الأمريكيين من أصل أفريقي.
تركِّز النيويورك تايمز، مثل معظم الصحف، كثيرًا على محتويات صفحتها الأمامية. في عام ١٩٩٢، كان محرر الأخبار، بيل بوردرز، هو الشخص المسئول عن التجميع اليومي لصفحة التايمز الأمامية، وقد قال: «أهتمُّ بالصفحة الأمامية أكثرَ من أي شيءٍ آخَر … فالواضحُ أنها هي واجهة الصحيفة» (بوردرز، ١٩٩٢). بالإضافة إلى بوردرز، لعب محررو الصور في الأقسام المختلفة دورًا مهمًّا، مع محرري الأقسام، بتحديد أي الصور تُقدَّم لتُنشَر في الصفحة الأمامية.
رُفِعت هذه الاقتراحاتُ إلى محرِّر الصور وإلى كبار محرري الكلمات عبر مناقشات ودية، وعلى نحوٍ رسمي عبر قائمةٍ بالأخبار والصور التي أعَدَّها كلُّ قسم، سُمِّيت «قائمة الظهيرة».
بعدما حصل كبار المحررين على فرصةٍ لمراجعة قائمة الظهيرة، التقوا محررَ الأخبار في الساعة ٤٥ : ١٢ من أجل مناقشة خيارات الصفحة الأمامية في اليوم التالي، مع تركيزٍ خاص على التصوير. «كان جزءٌ من فكرة اجتماع الساعة ٤٥ : ١٢ هو توقُّع ما نحتاج إليه للصفحة الأمامية قبل وصولنا إلى نهاية اليوم» (بوردرز، ١٩٩٢).
جُمِع المزيد من المعلومات عن الأخبار والصور في اجتماع «التحويل» في الساعة الثالثة؛ ففي أثناء هذا الاجتماع حوَّلَ مسئولو التخطيط في فترة النهار كلَّ شيء إلى المسئولين عن الإنتاج في فترة الليل.
استمرَّ محررُ الصور في تخصيصِ وقتٍ للصفحة الأمامية طوالَ فترةِ ما بعد الظهيرة، مراكمًا الصورَ حتى ركَّبها في النهاية على لوح مغناطيسي من أجل عرضها في اجتماع الصفحة الأولى في الساعة ٤٥ : ٤. حضر هذا الاجتماعَ كبارُ محرري الكلمات، ومحرر الرسومات، ومحرر الصور، ورأس هذا الاجتماعَ رئيسُ التحرير التنفيذي ماكس فرانكل. اختارَت اللجنةُ الأخبارَ والصورَ أثناء هذا الاجتماع، لكن كان كلُّ محتوى الصفحة الأمامية متوقِّفًا على موافَقة رئيس التحرير التنفيذي.
بعد ذلك رتَّبَ محرر الأخبار الصفحةَ الأمامية، وأُتِيحت كلُّ الأخبار والصور التي لم تُستخدَم في الصفحة الأمامية للأقسام الإخبارية الفردية الأخرى.
عادةً، تزخر الصفحةُ الأمامية في صحيفة ذي نيويورك تايمز بالأخبار الوطنية والعالمية على حساب الأخبار المحلية وأخبار العاصمة. وعلى الرغم من سيادة الأخبار الوطنية والعالمية، فإن أخبار صفحة التايمز الأمامية في عام ١٩٩٢ كانت كتابتها تقتصر تقريبًا على كُتَّاب الصحيفة، أو كان يكتبها الكُتَّاب «خصوصًا لصحيفة ذي نيويورك تايمز». ولا يمكننا أن نقول الأمرَ نفسَه عن صور الصفحة الأمامية.
نادرًا ما أرسلَت التايمز مصورين يعملون لديها في مهام خارج البلاد. ترفض التايمز فعل هذا لأسباب عدة؛ منها: ضغطُ العمل الزائد الذي سيقع على باقي أعضاء فريق التصوير في الصحيفة الصغير نسبيًّا، والنفقاتُ المطلوبة (لا سيما أنَّ الصحيفة تدفع بالفعل إلى وكالات الأنباء مقابل الصور التي ربما تكرِّر ما يلتقطه مصور الصحيفة)، وازدراءُ كثيرٍ من الكُتَّاب في الصحيفة العملَ مباشَرةً مع المصورين (لي، ١٩٩١).
كتب الخبرَ الرئيسي المعنون ﺑ «بِيض جنوب أفريقيا يُقِرُّون خطوةَ دي كليرك للتفاوُض مع السُّود على نظام جديد» في عدد ١٩ مارس ١٩٩٢، كريستوفر إس رين «خصوصًا لصحيفة ذي نيويورك تايمز». وجاءت الصورتان المصاحبتان للخبر من وكالات الأنباء (واحدة من وكالة فرانس برس، وواحدة من رويترز). استأجرَتْ صحيفةُ التايمز أيضًا مصوِّرًا مستقلًّا في مدينة كيب تاون، لكن جميع المحررين قرَّروا أن صور وكالات الأنباء كانت أفضل.
قرَّرنا في اجتماع الصفحة الأولى … أن هذا الخبر [إقرار سياسة دي كليرك المناهضة للفصل العنصري] يستحقُّ صورتين في الصفحة الأمامية. وكان الخبر يحتاج إلى صورتين لأن إحداهما كانت صورة للمستفيدين السُّود من التصويت، لكن الأخرى كانت للرجل الذي خطَّطَ للأمر؛ لذلك يبرِّر هذا استخدامَ كلتيهما. (بوردرز، ١٩٩٢)
يقول بوردرز إنه على الرغم من وجود العديد من الاختيارات في الصور القادمة من جنوب أفريقيا، فإن صورة الاحتفال كانت بوضوحٍ هي الأفضل. ومع ذلك، كانت ثمة ثلاث صور مؤثِّرة لدي كليرك لنختار منها، وقد اختار صورةَ دي كليرك التي نشرتها التايمز رئيسُ التحرير التنفيذي ماكس فرانكل، وعقَّبَ قائلًا: «لم تكن في الحقيقة أفضلَ صورة أعجبَتْني، لكن الصورة التي اخترتها كان يصعب قصها، فسار الأمر على هذا النحو» (بوردرز، ١٩٩٢).
في وصفه للمعايير المستخدمة في اختيار إحدى الصور، لا يحدِّد بوردرز فقط فهمه الفروق بين أدوات التوصيل النصية والبصرية، لكنه يكشف أيضًا عن الطريقة التي تلعب بها الرؤى الثقافية دورًا في صنع القرار في وسائل الإعلام الإخبارية.
لدى بوسل [محرِّر الصور] معاييرُ فنيةٌ [لتفضيل صورة على غيرها]، أما أنا فليس لديَّ هذه المعاييرُ الفنية، أو على الأقل، بوسل سيخبرك أنها ليسَتْ موجودةً لديَّ، لكني أعتقد أنها توجد لديَّ. إلا أن «صورة الاحتفال» هذه رائعةٌ؛ فهي تعبِّر عن كل شيء؛ فهي تُظهِر أناسًا سُودًا مبتهجين، ولافتةً تقول: «صوِّتوا للجميع» وهذا ما حدث.
والآن أين يمكن لبوسل أن يستخدم الجماليات معيارًا له، أفترض أولًا أن الصورة لا بد أن تكون رائعة، وثانيًا لا بد لها أن تسرد قصة؛ ولهذا أردنا وضع دي كليرك في الصفحة الأمامية أيضًا؛ لأن هذا لم يكن مجرد شيء فعله هؤلاء الناس. الحقيقة أنهم لم يفعلوه، وإنما فُعِل لهم، والشخص الذي فعله هو [دي كليرك]. يُنسَب هذا الإنجاز بأكمله في جنوب أفريقيا إليه — فهو نتاج عمل رجل واحد — وكان الأمر سيبدو غريبًا للغاية لو لم نضع صورة دي كليرك على الصفحة الأمامية. (بوردرز، ١٩٩٢)
نُشِرت صورتا استفتاءِ جنوب أفريقيا في الصفحة الأمامية لعدد ١٩ مارس ١٩٩٢ كلتاهما في النصف العلوي من الصفحة؛ إذ وُضِعت صورة التظاهرة فوق صورة دي كليرك مباشَرةً، وكانت أكبر من صورته بقدر قليل.
كُتِب عنوان على أربعة أعمدة «بِيضُ جنوب أفريقيا يُقِرُّون خطوةَ دي كليرك للتفاوُض مع السُّود على نظامٍ جديدٍ» مباشَرةً فوق صورة التظاهر التي طُبِعت على ثلاثة أعمدة، وكذلك فوق العنوان الفرعي للخبر الذي كُتب على مساحة عمود واحد «نتيجة التصويت ٢ مقابل ١: إقبال كبير «أُغلِق ملف» الفصل العنصري، على حد قول الزعيم المبتهج».
عبَّرَتْ صورةُ التظاهرة تمامًا عن سياق الأحداث من خلال لافتة «التصويت للجميع» واقتصارها على المتظاهرين غير البِيض. وتعطي الوجوهُ المبتسمة المُشاهِد على الفور شعورًا بالمزاج العام، ويشير العدد الكبير من الناس في إطار الصورة إلى حجم التظاهرة.
في الوقت نفسه تعطي صورة «الجماهير» هذه انطباعًا بالهُوِيَّة الجماعية بدلًا من الهُوِيَّة الفردية. كما يوحي ارتفاع الكاميرا بانقياد الجماعة لسلطةٍ أكبر.
تتعارض هذه السمات بوضوحٍ مع سمات صورة دي كليرك. يوجد أفراد آخَرون يقفون خلف دي كليرك، لكن استخدام المصور عدسةً أطول وما نتَجَ عن هذا من تضييق عُمْق المجال يُظهِرانهم إلى حدٍّ ما أقلَّ وضوحًا؛ فيبرز دي كليرك في المجموعة. بالإضافة إلى ذلك، فإن زاوية الكاميرا موجهة إلى الأعلى قليلًا، مما يعطي دي كليرك مظهرَ السلطة، ويدعم هذا زيُّه الرسمي ومجموعة الميكروفونات الموجودة أمامه.
يمكن تفسير المجال المحدود لزوايا الكاميرا في صورة دي كليرك بتحكُّم الحكومة في وصول وسائل الإعلام، كما يسهل تصوير المجموعات الكبيرة بقدرٍ أكبر من زاوية كاميرا أكثر ارتفاعًا. بالمثل، من الواضح أن دي كليرك يرتدي زيًّا رسميًّا من أجل المناسبة؛ أما المتظاهرون فلا. ومع ذلك، يتخذ المصورون الذين يعملون في الميدان قراراتٍ بشأن نوع العدسة، وعمق المجال، ولحظة التعرض، والتأطير … إلخ. يدرك المصورون المفاهيمَ التي ينبغي عليهم توصيلها بصريًّا (روزينبلوم، ١٩٧٩)، وأنواع الصور التي يحتمل أن يختارها محرِّرون مثل بوردرز وفرانكل.
تُمثَّل المفاهيم بقدرٍ أكبر بالكلمات التي تصاحب الصورَ، والأسلوبُ الأكثر شيوعًا لاقتران الكلمات بالصور يكون عبر التعليقات عليها. «نحن (ذي نيويورك تايمز) نربط بين الصورة والخبر من خلال التعليقات، دومًا» (لي، ١٩٩١).
في صحيفة ذي نيويورك تايمز، يكتب كُتَّاب التعليقات هذه التعليقات، ويعمل هذا على تحسين الجودة العامة لهذه التعليقات من منظور فني، ولكنه، في الوقت نفسه على الأرجح، يغيِّر الواقعَ كما عاشه المصور. ويقدِّم التعليق الذي صاحَبَ صورةَ التظاهرة مثالًا جيدًا لذلك.
يقول التعليق الأصلي الذي أُرسِل عبر وكالة الأنباء «مؤيدو المؤتمر الوطني الأفريقي يحتفلون في ١٨ مارس بتمرير الاستفتاء الذي اقتصر على البيض. سيستلزم التفويض مشارَكةَ حكومة جنوب أفريقيا السلطة مع الأغلبية السوداء». أما التعليق الذي طبعته صحيفة ذي نيويورك تايمز فكان يقول: «السُّود في جنوب أفريقيا يحتفلون بموافقة الناخبين البِيض على التفاوُض لإنهاء حكم البيض.»
تغيَّرَ المعنى المتضمَّن في التعليق الأصلي بطرق عدة؛ أولًا: من خلال الفشل في تعريف المتظاهرين بأنهم من مؤيدي المؤتمر الوطني الأفريقي، ألغَتْ صحيفة ذي نيويورك تايمز تاريخًا من النشاط السياسي الذي خاضَتْه الأغلبية السوداء، وبدلًا من ذلك، أكَّدت رأْيَ بوردرز بأن هؤلاء هم المستفيدون من عملٍ حقَّقَه شخصٌ آخَر (دي كليرك والناخبون البيض).
ثانيًا: يقول التعليق الأصلي إن «التفويض «سيستلزم» [التشديد من عندي] مشاركةَ حكومة جنوب أفريقيا السلطة». تمكِّن هذه العبارة الأغلبية السوداء، ولا توحي بأن لدى الحكومة خيارًا، أو بأنها ستشارك السلطة برضًى؛ وإنما تقول صراحةً إن حكومةَ البِيضِ ستكون مُطالَبةً بمشاركة السلطة.
أما تعليق ذي تايمز فيقول: «السُّود في جنوب أفريقيا يحتفلون بموافقة الناخبين البِيض على التفاوض لإنهاء حكم البِيض.» يسلب هذا التعليقُ القوةَ من الأغلبية السوداء، فهو يشير إلى أن المتظاهرين السُّود تُرِكوا ليحتفلوا بقرارٍ اتخذه الناخبون البِيض المستنيرون؛ ومن ثَمَّ فإن السُّودَ ضعافٌ يعتمدون على موافقة البيض.
أخيرًا: يقول تعليق وكالة الأنباء: «سيستلزم القرار مشارَكةَ حكومة جنوب أفريقيا السلطةَ مع الأغلبية السوداء.» ولا يعترف تعليق التايمز أبدًا بوضع الأغلبية للسُّود في جنوب أفريقيا؛ ومن أجل فعل ذلك توجَّبَ عليها تشويه المفهوم الذي تقدِّمه، وهو الاحتفال بالإنجازات العظيمة لدي كليرك والناخبين البِيض. فعند التذكير بموقف الأغلبية السوداء، قد يتساءل الجمهور في الولايات المتحدة عن سبب استبعاد السُّود من العملية الديمقراطية لهذه الفترة الطويلة بدلًا من الثناء على الجهود الوليدة للأقلية البيضاء لمشاركة السلطة.
على سبيل المثال: كانت الرموز التي اختارها بوردرز، بموافقة فرانكل وبناءً على مُدخَلاتٍ من كبار المحررين الآخرين، للصفحة الأمامية تمثِّل واقعًا؛ واقعًا ربما يشبه الواقع الذي يعيشه كثير من قراء التايمز. وفي النهاية، تتفاخر التايمز وتقول: «يبدأ عددٌ قياسي من القراء أصحاب الثراء والنفوذ والتعليم الجيد يومَه كلَّ صباح بقراءة ذي نيويورك تايمز» (شركة نيويورك تايمز، ١٩٩٢، ص١٠).
يشير تعريف قارئ بأنه من أصحاب الثراء والنفوذ والتعليم، ضمنيًّا وصراحةً، إلى سمات معينة في خبرته الاجتماعية والثقافية والتاريخية والسياسية … إلخ. وكما يرى بارت، فخبرةُ القارئ هي التي تعطي معنًى للرمز، وفي هذه الحالة، تعطي الصور والتعليقات معنًى؛ فقد حُوِّل صراعٌ عِرْقي وسياسي إلى تأكيدٍ لسخاء البيض تجاه الأعراق الأخرى وانتصار الديمقراطية. في الوقت نفسه، حُقِّق الاحتفاظ بالسلطة والاستقرار في صور دي كليرك. وكما أشارت سوزان سونتاج في كتابها «الشعور بألم الآخرين»: «لا تحدِّد نوايا المصور معنى الصورة التي ستصبح لها وظيفتها الخاصة، التي تتشكَّل بناءً على أهواء المجتمعات المتنوعة التي تستخدمها وولاءاتها» (سونتاج، ٢٠٠٣، ص٣٩).
هوامش
وهو يشرح الأمر على النحو التالي: العلامة الأولى هي أيضًا دالَّة خرافية؛ ومن ثَمَّ يكون لها معنًى وشكلٌ. يكون لها معنًى بوصفها العلامة الأولى. «يكون المعنى مكتملًا «سلفًا»، ويفترض هذا وجودَ نوعٍ من المعرفة، وماضيًا، وذاكِرة، وترتيبًا مقارنًا للحقائق، وأفكارًا، وقرارات» (بارت، ١٩٧٢، ص١١٧). على سبيل المثال: في صورة الاحتفال، العلامة الأولى وحدة مكتملة ومنطقية؛ فهي صورة لاحتفال مؤيدي المؤتمر الوطني الأفريقي بتمرير استفتاء حقوق التصويت. أفراد هذه المجموعة يبتسمون ويحملون لافتة كُتب عليها «التصويت للجميع»، والإطار مليء بالمتظاهرين. بعبارة أخرى، يوجد معنًى مكتمِلٌ لهذه الصورة، وهو معنًى يمكن إدراكه على الفور، وربما نظرًا لكونها صورة وجود هذا المعنى من الأساس.
عندما تصبح علامة المرحلة الأولى هذه فيما بعدُ دالَّة خرافية، تتغيَّر من كونها ذات معنًى إلى كونها ذات شكل، و«عندما تصبح شكلًا، يتخلى المعنى عن ظرفيَّته، ويفرغ نفسه، ويصير مفقرًا، ويتبخر التاريخ، ولا يبقى إلا الحَرْف» (بارت، ١٩٧٢، ص١١٧).
نعود إلى صورة الاحتفال، بوصفها علامة في المرحلة الأولى، نرى تاريخًا ومشهدًا مكتملًا. يحتفل «المستفيدون» بنتائج الاستفتاء الجنوب أفريقي، وتقدِّم الصورة «دليلًا» على نجاح هذا النظام.
وبوصفها دالَّة خرافية، يُقصِي الشكلُ هذه المعاني. إلا أن المعنى، على حد قول بارت، يُفقَر فحسب، لكنه لا يُطمَس. والواقع أن دورها الجديد بوصفها شكلًا يرتكز دومًا على معناها. «إن لعبة الغميضة المستمرة هذه بين المعنى والشكل هي ما يميِّز الخرافة» (بارت، ١٩٧٢، ص١١٨).
يتمثل الجزء الثاني من العملية في المدلول الخرافي. يقول بارت إن هذا «يكون على الفور تاريخيًّا ومتعمَّدًا؛ فهو الحافز الذي يؤدي إلى التعبير عن الخرافة» (بارت، ١٩٧٢، ص١١٨). وفي صورة الاحتفال، ربما تكون الخرافة مدفوعة بالنموذج الغربي للديمقراطية الذي يؤكِّده الاستفتاءُ من أجل إعطاء السُّود في جنوب أفريقيا الحقَّ في التصويت.
يُكسِب المدلول الخرافي أيضًا العمليةَ تاريخًا جديدًا ومتسعًا؛ فهو سيشمل أيَّ تشكيلة من العوامل التاريخية/الثقافية/الاجتماعية المؤثرة التي يأتي بها إليه أيُّ قارئ أو مُشاهِد. في صورة الاحتفال، على سبيل المثال، ربما يُدخِل مشاهدٌ خبرتَه الشخصية بصفته ناخبًا؛ أو بصفته مواطنًا حصل على تعليم رسمي عرف من خلاله الصراعَ من أجل تحقيق الاستقلال؛ أو بصفته مواطنًا مثقفًا دفعته ثقافته إلى قراءة صحيفة ذي نيويورك تايمز؛ أو بوصفه مستهلكًا للأخبار، يقرأ عن غياب الديمقراطية في دول أخرى؛ أو بوصفه مُشاهِدًا دائمًا للصور الإخبارية تَعلَّمَ من خلالها وضْعَ الصور مع الكلمات من أجل صنع رسالة موحدة، أو بالطبع أية «معرفة بالواقع» أخرى قد يأتي بها أثناءَ مشاهدة هذه الصورة.
بسبب هذا التنوُّع الكبير في «المعرفة» يقول بارت: «يجب [على المرء] التأكيد بقوةٍ على هذا الطابع المفتوح للمفهوم [المدلول الخرافي]؛ فجوهره ليس مجردًا أو نقيًّا على الإطلاق، وإنما هو تكثيفٌ عديمُ الشكل، غير مستقر وضبابي، ترجع وحدته وترابطه في المقام الأول إلى وظيفته [دالَّة خرافية]» (بارت، ١٩٧٢، ص١١٩). هذا مهم بالطبع؛ إذ يعطي الدالَّةَ الخرافية قدرتَها على تكوين أو «تشكيل» التاريخ المتضمَّن داخلَ المدلول الخرافي، بينما يحقن المدلولُ الخرافي معنًى جديدًا، من أجل تعويض إفقار المعنى، داخل الدالَّة الخرافية.
يسهب بارت بقدرٍ أكبر في شرح علاقة الدالَّة الخرافية/المدلول الخرافي بوصفها متباينة كميًّا؛ فقد يوجد كثير من الدوالِّ لكل مدلولٍ مفرد؛ على سبيل المثال: يمكن لصورة الاحتفال أن تكون دالَّةً، لكن يمكن أن تصبح أيضًا صورةُ غلافِ إحدى المجلات الإخبارية دالَّةً على المدلول نفسه. بالمثل قد تكون قصةٌ إخبارية متلفزة أو قصةٌ مشابهة في صحيفة واشنطن بوست هي الدالَّةَ الخرافية لمدلول الخرافة هذا نفسه. «هذا التكرار للمفهوم [المدلول] عبر أشكال مختلفة مفيدٌ للغاية لدارس الخرافات؛ إذ يسمح له بفكِّ شفرة الخرافة؛ فتكرارُ نوعٍ ما من السلوك هو ما يكشف عن القصد منه» (بارت، ١٩٧٢، ص١٢٠).
كما أشرنا سابقًا، فإن العلاقة الرمزية ثلاثيةُ الأبعاد؛ والعنصرُ الثالث، العلامة، هو اتحاد العاملين الأوَّلَيْن. يقول بارت إن هذه العلامة الخرافية، أو الدلالة، هي الخرافة بعينها. بأي طريقة، إذن، تصبح دالة الخرافة ومدلولها مرتبطَيْن ليُشكِّلا الخرافةَ؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا العودة إلى سمة لعبة الغميضة بين المعنى والشكل. «نعلم الآن أن الخرافة نوعٌ من الكلام يحدِّده القصدُ منه … بأكثر ممَّا يحدِّده معناه الحرفي … وأنه على الرغم من هذا، فإن القصد منه يُجمَّد ويُنقَّى ويُخلَّد نوعًا ما … بهذا المعنى الحرفي» (بارت، ١٩٧٢، ص١٢٤). يخلق هذا اللبس المتأصِّل في الخرافة ما بين الشكل والمعنى نتيجتين للعلامة الخرافية: الأولى، إفقار معنى الدالة الخرافية، فقط ليتجدَّد بفعل المدلول الخرافي، وهكذا يتغيَّر المعنى. لكن بسبب استمرار وجود شكل الدالة الخرافية، من أجل بناء معنى المدلول الخرافي، يبدو التحوُّل طبيعيًّا في العلامة الخرافية.
نضرب مثالًا لهذا: نعود مرةً أخرى إلى صورة الاحتفال. يرتبط المعنى الذي يقدِّمه المدلول الخرافي، وهو النموذج الغربي للديمقراطية المبني على العوامل التاريخية/الثقافية/الاجتماعية المؤثرة في المشاهد، بشكل الدالة الخرافية، المتمثِّلة في صورة هؤلاء الذين يحتفلون بنتائج الاستفتاء. تغيَّرَ المعنى من الاستفتاء المحدد من أجل السماح للجنوب أفريقيين بالحق في التصويت، إلى إعادة تأكيد النموذج الغربي للديمقراطية. وفي الوقت نفسه، يحدث هذا التغيير دون أن يلاحظه أحدٌ؛ فهو طبيعي تمامًا. يظهر النموذج الغربي للديمقراطية واضحًا في الصورة.
ترتبط النتيجة الثانية للانتقال من العلاقة الرمزية الأساسية إلى مرحلة الخرافة ارتباطًا أصيلًا بالنتيجة الأولى. يقول بارت إنه في الجزء الأول من علم الرموز تكون العلاقة بين الدالة والمدلول تعسُّفيةً دومًا، لكنها لا تكون أبدًا كذلك في المرحلة الثانية أو مرحلة الخرافة؛ إذ يوجد دومًا مستوًى من التحفيز داخلَ المدلول الخرافي يحفِّز على الدالة الخرافية، ودرجة من التشابه بين الدالة الخرافية والمدلول الخرافي. ويقدِّم بارت هذه الحالة المبالغ فيها من أجل إظهار أهمية التحفيز في الخرافة: تُبعثَر أشياء عدة بعشوائية في جميع أرجاء غرفةٍ ما، ولا يمكن تخمين أي نظام من عشوائيتها. عندئذٍ يوضِّح بارت أن الافتقار إلى النظام في حد ذاته يصبح الشكل، جاعلًا «العبث» هو الخرافة. تذكِّرُنا هذه النقطةُ بتأكيد بيرجر ولوكمان (١٩٦٦) أن البشر لديهم حاجةٌ فطرية لخَلْق بنيةٍ، لبناء الواقع؛ حاجةٌ لتفهُّم العالم.
في النهاية، تكمن أهمية صنع الخرافة داخل أسلوب تلقِّي الخرافات. يحدث هذا بثلاث طرائق، على حد قول بارت (١٩٧٢): الأولى، بالتركيز على الدالة الخرافية بوصفها خلوًا من المعنى؛ حتى يملأ معنى المدلول الخرافي الشكل «دون غموض»؛ على سبيل المثال: «تعبِّر» صورةُ الاحتفال عن نجاح الديمقراطية أو «ترمز» إليه. يقول بارت إن هذا ما يفعله الصحفيون؛ فهم يبدءون بمفهوم، أو مدلول، ويبحثون عن شكل يمكن فيه ترميز هذا المفهوم أو المدلول.
والطريقة الثانية لتلقِّي الخرافة هي التركيز على الدالة الخرافية بوصفها مليئة بالمعنى. من هذا المنظور يمكن أن نرى داخلَ صورة الاحتفال أن معنى الدالة الخرافية — وهو صورة لجنوب أفريقيين يحتفلون بنتائج الاستفتاء — قد أُفقِر، وحلَّ محله معنى المدلول الخرافي ﻟ «النموذج الغربي للديمقراطية». على هذا النحو يتلقَّى دارسُ الخرافات الخرافةَ.
الطريقة الأخيرة، وربما تكون هي الأهم على الإطلاق، لتلقِّي الخرافة هي بالتركيز على الدالة الخرافية بصفتها تتكوَّن من معنًى وشكل؛ ومن ثَمَّ، فإن صورة الجنوب أفريقيين وهم يحتفلون بالفعل «تصبح» هي المفهوم الغربي للديمقراطية. هكذا يتلقَّى القارئ أو المشاهد الخرافة. ومع ذلك، يتساءل بارت، بطريقة بلاغية عن كيفية حدوث هذا، بما أنه [في هذه الحالة] إذا لم يرَ المُشاهِد العلاقة بين الصورة وبين النموذج الغربي للديمقراطية، فلن يكون هناك سبب للنشر، وإذا رأى المشاهد هذه العلاقةَ بالفعل، فلا وجودَ لخرافةٍ، وإنما مجرد «فرضية سياسية». يتصدَّى بارت للإجابة عن سؤاله بأن «الخرافة تُحوِّل التاريخ إلى طبيعة» (بارت، ١٩٧٢، ص١٢٩)؛ حتى لا يُنظَر إلى الأسطورة على أنها علاقة رمزية، وتُرى على أنها حقيقة؛ فالعلاقة بين الدالة الخرافية والمدلول الخرافي طبيعية. «علَّمنا علم الرموز أن مهمةَ الخرافة هي إعطاءُ القصد التاريخي تبريرًا طبيعيًّا، وجعْل الظرفي يبدو خالدًا … فما يقدِّمه العالَم للخرافة هو واقع تاريخي، يتحدَّد … بطريقةِ إنتاج البشر أو استخدامهم له؛ وما تقدِّمه الأسطورة في المقابل هو صورة «طبيعية» لهذا الواقع» (بارت، ١٩٧٢، ص١٤٢).
مع ذلك، يوجد «تذبذُب» في كيفية إدراك العلاقة بين الدالة والمدلول والعلامة؛ فربما يرى مستهلك أخبار صورة الاحتفال (الدالة الخرافية) على أنها تمثِّل المعنى والشكل (النموذج الغربي للديمقراطية). مع ذلك، عند التأمل أكثر في وقتٍ آخَر، قد يرى مستهلكُ الأخبار نفسه — الذي ربما يكون مُدرِكًا، ولو هامشيًّا، لأسلوب إنتاج الأخبار — هذه الصورةَ على أنها رمزٌ للنموذج الغربي للديمقراطية.
بالمثل، لا يكون صحفي أمريكا الشمالية مجرد عضو في ثقافة غرفة الأخبار، ولكنه أيضًا عضو في ثقافة أمريكا الشمالية؛ فقد يدرك في معظم الأوقات الدالةَ الخرافية على أنها رمز [رؤية الصحفي]، لكنه في أحيان أخرى قد يدرك الدالةَ الخرافية من خلال علاقتها بالمدلول الخرافي بوصفها واقعًا (علامة خرافية).