العلاقات: المصوِّر والأشخاص موضوع الصور
اسمي روب فينش، وأعمل مصورًا في صحيفة ذي بيكون نيوز في مدينة أورورا في ولاية إلينوي. كنتُ محظوظًا هذا العام أن ربحتُ جائزة أفضل مصور في العام لعام ١٩٩٩ برعاية جامعة ميزوري … أريد فقط أن أقول: «شكرًا لكم؛ شكرًا لكل الأشخاص موضوع صوري؛ لأنه لولا مشاركتهم لحظات حياتهم معي لَمَا كان أيٌّ من هذا ممكنًا.» (فينش، ٢٠٠٠)
بعد انتهائي مباشَرةً من دراستي العليا، دُعِيت إلى المشاركة في مشروع «المشردون في أمريكا» بصفة متدرِّب. قضيتُ شهرًا وأنا أعيش وألتقط صورًا في ملجأ للمشرَّدين، وفي شوارع مدينة آشفيل في ولاية كارولاينا الشمالية. كان العديد من المشردين يتجمعون كلَّ يوم على المقاعد في متنزه في وسط المدينة، وفي موقف الحافلات. كانت المنطقة جزيرةً محاطةً بشوارع ذات اتجاه واحد وإشارات مرور. في أحد الأيام شاهدتُ سيارة صغيرة تسير حول المتنزه مرارًا وتكرارًا، وكلما توقَّفَت السيارةُ في إشارة المرور كانت عدسة طويلة تظهر من نافذة السائق، وعندما تتحوَّل الإشارة إلى اللون الأخضر كانت العدسة تختفي، وتتكرر الأحداث. أزعجني الأمر؛ شعرتُ كما لو أن هذا الشخص يسرق، وتساءلتُ عمَّا إذا كان يمكن لهذه الصور أن تُظهِر أيَّ ارتباط عاطفي مع الشخص.
يعلم كلُّ صحفي لا يتَّسِم بالغباء الشديد ولا بالغرور الشديد على نحوٍ يمنعه من ملاحَظةِ ما يحدث من حوله؛ أن ما يفعله يصعب الدفاع عنه أخلاقيًّا؛ فهو نوعٌ من المحتالين الذين يستغلُّون غرورَ الناس أو جهلهم أو وحدتهم، ويكسبون ثقتَهم ويخدعونهم دون شعورٍ بالندم، تمامًا مثل الأرملة الساذجة التي تستيقظ في أحد الأيام لتجد أن الشاب الجذَّاب قد اختفى وكذلك كل مدخراتها؛ ومن ثَمَّ يتعلَّم الشخص القانع بعمل مكتوب غير أدبي — عند ظهور المقال أو الكتاب — درسَه القاسي. يبرِّر الصحفيون خيانتَهم بطرق عدة وفقًا لحالتهم المزاجية؛ بالكلام الأفخم حول حرية التعبير و«حق الجمهور في المعرفة»، والكلام الأقل موهبةً عن الفن، والكلام المناسب عن كسب الرزق.
إن الكارثة التي يواجِهُها الشخص موضوع الصورة لا تتعلَّق ببساطةٍ بأن وجهات نظره جاءت مطابقة تمامًا، أو أنْ قد أُسِيء تمثيلها، وإنما ما يؤلمه حقًّا ويزعجه ويدفعه أحيانًا إلى أقصى درجات الحقد، هو الخداع الذي مُورِس عليه. فعند قراءة المقال أو الكتاب المعنيِّ [أو مشاهدة الصورة]، يكون عليه مواجَهة حقيقة أن الصحفي — الذي بدا ودودًا للغاية ومتعاطِفًا، وحريصًا على فهمه بالكامل، ومتوافِقًا على نحوٍ مذهلٍ مع رؤيته للأشياء — لم تكن لديه أدنى نية قطُّ للتعاوُن معه في إعداد قصته، وإنما كان يعتزم طوالَ الوقت كتابةَ قصةٍ [أو صنع صورة] من عنده. (مالكوم، ١٩٩٠، ص٣)
تقدِّم المؤسسات المهنية، مثل الجمعية الوطنية لمصوري الصحافة والصحف الفردية، إرشاداتٍ أخلاقيةً لتساعد في ضمان معاملة الأشخاص موضوع الصور بإنصاف؛ على سبيل المثال: تقول إرشادات صحيفة أوستن أمريكان-ستيتسمان: «على العاملين في صحفية ستيتسمان أو مَن يمثِّلونها ألَّا يضلِّلوا الأشخاص موضوع صورِهم من أجل الحصول على إذنٍ منهم بتصويرهم. ويجب ألا يخرقوا القانون من أجل الحصول على صور، أو يَعِدوا الأشخاص موضوع الصور بالوصول إلى صورهم دون إذنٍ مسبق أو اتفاقٍ مع رؤسائهم.»
ذُكِرت بوضوحٍ التحذيراتُ من تضليل الأشخاص موضوع الصور «من أجل الحصول على إذنٍ منهم بتصويرهم» والتحذيرات من انتهاك القانون، أما التحذير بأن العاملين بالصحيفة «يجب ألَّا … يَعِدوا الأشخاص موضوع الصور بالوصول إلى صورهم دون الحصول مسبقًا على إذنٍ أو اتفاقٍ من رؤسائهم»، فهو أكثر تعقيدًا بقليلٍ، بسبب اشتماله على ثلاثة مفاهيم منفصلة: الأول، أن المصوِّرين يجب ألَّا يضلِّلوا الأشخاص موضوع الصور ليفكروا بأنهم سيستطيعون رؤية الصور قبل نشرها؛ فالسماح لجميع الموضوعات بإلقاء نظرةٍ مسبقةٍ على صورهم هو أمر غير عملي من حيث الوقت والجهد. ثانيًا، أن الصحيفة تحتفظ بتحكُّمها في الصور؛ ومن ثَمَّ تحكُّمها في النحو الذي تظهر بها الأشخاص أو يُصورون به. والتخلِّي عن هذا التحكم، وجعله بأيدي الأشخاص موضوع الصور قد ينتج عنه تحويل الصحيفة إلى مجرد وسيط للعلاقات العامة. أخيرًا، يُسمَح للأشخاص موضوع الصور ضمنيًّا بالوصول إلى صورهم في ظل وجود «إذن أو اتفاق مسبق مع الرؤساء»؛ يعطي هذا قدرًا من المرونة للمصورين ولمحرريهم وللصحيفة في المواقف الحساسة.
قضيتُ صيف عام ١٩٩٧ في العمل محررَ صورٍ زائرًا في قسم «الحياة والفنون» في صحيفة أوستن أمريكان-ستيتسمان. سمح لي مدير قسم التصوير، زاك رايال، باتخاذ جميع القرارات المتعلقة بالعمل الفوتوغرافي في القسم. كانت هناك قصةٌ واحدةٌ حسَّاسة على وجه الخصوص؛ كانت عن فتاة مراهقة كانت تعاني من مشكلة في ظهرها، اضطرتها إلى ارتداء دعامة يوميًّا. وافَقَ والداها على نشر القصة وصور ابنتهما، لكن المصوِّرة التي كُلِّفت بالمهمة كانت تخشى على مشاعر الفتاة؛ فكانت تشعر بأن هذه المراهقة ستنزعج من فكرة نشر صورتها (بدعامة الظهر) في الصحيفة. سألتني المصوِّرة إنْ كان بإمكانها عرض الصور على الفتاة قبل نشرها، فوافقتُ على إمكانية عرض الصور على الأسرة قبل نشرها، وأن تقرِّر عندها إذا كانت تريد نشر الصور أم لا. في النهاية وافقَت المراهِقةُ ووالداها على الصور، واختارَت المصوِّرة إحدى الصور لتُنشَر مع القصة.
إن سياستنا التي يتبعها المصورون لدينا هي أنهم إذا وجدوا أنفسهم في موقفٍ لا تكون فيه المهمة حقيقية [أن يختلق الشخص موضوع الصورة الموقفَ للمصور]، فإننا نريد من مصورينا أن يطرحوا أسئلة بطريقة دبلوماسية، ويعرفوا متى ستحدث مواقف حقيقة، ويلتقطوا بعض الصور الشخصية … نطلب أن يتصلوا [المصورون] بمسئول التكليف بالمهام، ليقولوا لنا: «هذا ليس حقيقيًّا. الأشخاص المعنيون يفتعلون هذا الموقف من أجل الكاميرا. وقد التقطتُ بعض الصور الشخصية.» حينئذٍ، سيذهب مسئول التكليف بالمهام إلى الكاتب أو المحرر، ويقول: «هذا لم ينفع، إذا كنت تريد نشر القصة غدًا، فسيلزم أن تكون صورة شخصية.» أو أنه قد لا توجد صورة أحيانًا. وفي بعض الأحيان، يكون المصور قد عاد ويدرك لاحقًا: «يا إلهي، إن هذا [أيًّا ما كان النشاط الذي صُوِّر] مُصطنعًا من أجلي [الكاميرا].» وفي هذه الحالة نُزيل الصور، وقد فعلنا هذا بالفعل. (باناجوبولوس، ٢٠٠٤)
على الرغم من أن المصداقية تتطلَّب أن يمتنع المصورون الإخباريون عن تلفيق الصور، فإن الكثير من الصحف يتسبَّب في مشكلةٍ كبيرةٍ للمصورين؛ إذ لا تسمح الصحف لهم بوقتٍ كافٍ لتكوين علاقة مع الشخص موضوع الصورة أو ترك الأشياء تتكشف طبيعيًّا. تقول ورشة عمل التصوير في ميزوري — وهي إحدى أقدم ورش عمل الصحافة المصورة وأكثرها احترامًا في الولايات المتحدة — في تصريحٍ لها على الإنترنت: «يعتمد نجاح المصورين على تكوين علاقاتٍ تتَّسِم بالثقة والراحة مع الأشخاص موضوع الصور. ربما يستغرق الأمر بضعة أيام وساعات عديدة في اليوم حتى ينسى الشخص وجود المصور ويمارس حياته» (جامعة ميزوري، ٢٠٠٦). لا تتطلَّب كل القصص «بضعة أيام»، ولكن يعلم كل مصور أنه يحتاج إلى وقت حتى يستطيع تكوين علاقة جيدة والتقاط صورة «واقعية» لها خصائص سردية وجمالية قوية.
صوَّرَ بنتلي العديدَ من حملات نيو هامشير التمهيدية السابقة لصالح مجلة تايم؛ لذلك فهو معتاد على نظامها؛ ومع ذلك، حثَّ محرِّرُ الصور في مجلة تايم، ريتشارد بوث، بنتلي على العثور على أسلوب جديد لتغطية حملة نيو هامشير هذه في عام ١٩٩٢. تمثَّلَ أسلوبُ بنتلي الجديد في الاسترشاد بما كان يحدث في الماضي، عندما كان المصورون أحيانًا يحصلون على إذنٍ بالوصول إلى الرئيس عن قُرْبٍ. وتساءَلَ عما إذا كان بإمكانه الوصول هكذا إلى أيٍّ من المرشَّحين في عام ١٩٩٢، وعلى الرغم من أنه لم يكن هناك حينئذٍ مرشحون مفضَّلون بوضوحٍ، فإن بنتلي شعر بأن كلينتون «يبدو عليه» أنه أحد المرشحين للفوز.
كنا [بنتلي ومايرز] على متن الطائرة المتجهة من نيو هامشير إلى نيو جيرسي، وكنا نجلس في مؤخرة الطائرة، وأخبرتها بالفكرة بالكامل. في وقتٍ لاحق من هذا اليوم، عدنا معًا بالطائرة إلى نيو هامشير، وواصلنا المناقشة. قالت: «سأرتِّب لك عشاءً مع كلينتون.»
مرَّتْ بضعة أيام ثم ذهبتُ مع كلينتون، وجورج ستيفانوبولوس وبول بيجالا وبروس ليندسي [مساعدي حملته]، لتناول الطعام في مطعم ذي كروك بوت، أو ذي ستوك بوت، وكان أمامي نحو نصف ساعة لأتحدث مع كلينتون عن الفكرة. أعجبَتْه الفكرة، وكان ذاهبًا إلى مسقط رأسه في أركانساس لمدة يومين، وقال إن عليه أن يناقشها مع هيلاري. أخبرتُه أن أصعب جزء هو أنَّ علينا أنْ نصبح على الفور أقدم صديقين وأعزَّهما، على الرغم من أننا لم نتعارف في الواقع، ويجب أن يثق أحدنا بالآخر. ثم توجَّهَ إلى منزله، وفي نهاية العشاء، جذبني جورج [ستيفانوبولوس]، وقال لي: «سيكون كل شيء على ما يرام.»
بعد يومين عاد كلينتون؛ تقدَّمت للحصول على تصريحِ دخولٍ للمشاركة في التغطية [الصحفية] المشتركة، وحصلتُ على تصريحِ دخولٍ بصفتي أحد العاملين [في حملة كلينتون]. كنتُ أعلم أني ما زلتُ جزءًا من التغطية الصحفية، ولكنه كان من الجيد أن أسمع أنهم يشعرون بالاطمئنان إليَّ، وهذا كان كل ما أهتم به في الواقع … بحلول اليوم الثالث أصبحت جزءًا من الحملة. أتذكَّر أن جورج وبول قالا لي عقب لقائي معهم في نيو هامشير على متن الطائرة: «بي إف، لا تستطيع أبدًا العودة؛ أنت الآن واحدٌ منا.» (بنتلي، ١٩٩٣)
يجعلنا وصف بنتلي لهذه «الصفقة» نطرح سؤالين على الأقل: كيف أمكنه الانتقال من كونه عضوًا في التغطية الصحفية إلى أن يصبح أحد العاملين مع كلينتون، ولماذا يسمح كلينتون لمصوِّر بالعمل ضمن حملته؟ ربما نجد ترابطًا بين الإجابات عن هذين السؤالين.
وعَدَ بنتلي في إطار حجته التي طرحها على حملة كلينتون بأن صحيفة التايم لن تستخدم أيَّ معلومات يحصل عليها في أثناء عمله في هذا المشروع. وبعد رؤية المجموعة الأولى من الصور، اقتنع بويث بأن مشروع بنتلي للعمل مع كلينتون كان انتصارًا فوتوغرافيًّا لصحيفة التايم (نشرت التايم نسخًا محررة من صور بنتلي في ثلاثة أعداد منفصلة أثناء السباق الرئاسي في عام ١٩٩٢). يقول بنتلي أيضًا إن بويث كان «منزعجًا لأنه لم يتمكَّن من استخدامها [الصور] في ذلك الأسبوع بصفتها مادة إخبارية؛ نظرًا بالطبع إلى حصولي على كل الصور الحصرية؛ كنتُ أعمل على موضوع [جنيفر] فلاورز، في مسودة العدد، وصُدِم [بويث] بما يحدث في الواقع» (بنتلي، ١٩٩٣).
في وسط خليط الأحداث والأفكار والمهرجانات التي تُشكِّل السباق الرئاسي، تتنافس حملتان متوازيتان على جذب انتباه الناخبين؛ الأولى هي الحملة الصريحة التي تتعامل مع القضايا، بينما تتعامل الأخرى، المساوية لها في الأهمية، مع الصور والرموز … وباستخدام مزيج معقد من وسائل الإعلام … قدَّمَ المرشحون [في حملة عام ١٩٩٢] أنفسَهم وعائلاتهم سعيًا منهم لإقناع الناخبين بشخصياتهم، وبكونهم أشخاصًا عاديين. (هاجن، ١٩٩٢)
ساعدت صور بنتلي في تقديم كلينتون وأسرته إلى الجمهور الأمريكي بطريقة تجعله يقول: «إنهم يشبهوننا كثيرًا.» وفي المقابل سمح كلينتون لبنتلي بالتصوير الحصري وراء الكواليس. في هذه الحالة، استفاد الشخص موضوع الصورة والمصور كلاهما من العلاقة.
مع هذا، تكون العلاقات بين المصورين والأشخاص موضوع الصور في المعتاد أقل لطفًا وأكثر توترًا. وتقدِّم حالةُ المصور الجنوب أفريقي، كيفين كارتر، مثالًا متطرفًا لكيفية تصادم الطموح الشخصي أحيانًا مع المزيد من الغرائز الإنسانية لصنع نهاية تراجيدية.
يتعرَّض الصحفيون دومًا للنقد بسبب طريقة عملهم مع الناس الذين يعانون أو ينتابهم الحزن بسبب مأساة شخصية. يبدو هذا النقد حادًّا على وجه الخصوص في أوقات الحروب؛ حيث تواجه العائلات موت أحبائها، ويتهافت الصحفيون على سرد قصصهم. ومع ذلك، توجد أمثلة عديدة لصحفيين يقدمون المواساة للثكالى. يقول جاي برايس، المراسل العسكري لصحيفة ذي نيوز آند أوبزرفر، في مدينة رالي في كارولينا الشمالية: «تريد العائلات في أغلب الأحيان التحدث، وينبغي أن ترى هذا شيئًا إيجابيًّا، لا أن تكون انتهازيًّا. كان ابنهم (أو بنتهم) بطلًا (أو بطلة)، وهم لا يريدون أن يكونوا مجرد رقم، تمامًا مثلما لا نريد نحن هذا» (سكانلان، ٢٠٠٦).
كان جيم [شيلر] قد أعَدَّ قصة عن ضريحين. كانا ضريحي اثنين من المارينز؛ هما: سام هولدر وكايل بيرنز اللذين قُتلا في الاشتباك نفسه في الفلوجة، وكان الشخص الذي صنع الضريحين في مقبرة فورت من المارينز أيضًا، وكتب جيم القصة من وجهة نظره [صانع الضريحين]؛ كيف عرف هذين الجنديين اللذين يصنع لهما ضريحيهما. واتضح أن الرائد بيك أعَدَّ إخطارًا لإحدى عائلتَي الجنديين؛ لذلك كان يرى الأشياء نفسها المذكورة في قصة جيم، وهنا بدأ [الرائد بيك] يفتح قلبه ويتحدث. (هيسلر، ٢٠٠٦)
قرَّر بيك مساعدة شيلر في فكرته الجديدة بتعقُّب جندي مارينز قُتل في العراق، من لحظة وصول جثمانه إلى أرض الوطن وحتى لحظة دفنه. وبعد فترة قصيرة من الحوار الذي دار بين بيك وشيلر، انضم هيسلر إليهما.
يقول هيسلر إنه عقب هذا مباشَرةً قُتِل جندي آخر في الفلوجة، لكن أسرته لم تكن مهتمة بالحديث إلى شيلر، أو بالسماح لهيسلر بالتصوير إلا من بعيد. إلا أن ما حدث بالفعل أن شيلر وهيسلر بدآ في توطيد علاقتهما ببيك، وفهما القصة على نحوٍ أفضل. وفي الوقت نفسه، توصَّلَ شيلر وهيسلر إلى اتفاقٍ فيما بينهما على أن القصة لن تنتهي حتى يشعر كلٌّ منهما بالرضا عن الكلمات المكتوبة والصور.
بينما لم يتمكن الصحفيان من الانتهاء من قصتهما المتعمقة على الفور، كانت صحيفة روكي ماونتن نيوز ما زالت تتوقع منهما إرسال قصص يومية عن أعضاء الخدمة المحلية الذين يُقتَلون في العراق، وسمح لهم هذا بالمزيد من الوقت لمواصلة مناقشاتهم مع بيك.
في هذا الوقت، كان الرائد بيك في صفنا إلى حدٍّ ما؛ أعني أن الحصول على فرصة التواصل شيء، واستمرارية هذه الفرصة شيء آخر. من الواضح أن هذه القصة كانت مهمة للرائد بيك، لكن معرفة إنْ كان سيسمح لنا بسرد القصة كاملة أم لا، فهذه قضية أخرى؛ ففي كل مرة نعمل على شيء معه يحدث نقاش حول إمكانية الوصول، وعما نريد أن نفعله، وعما «ستكون عليه القصة». كانت تصعب الإجابة عن هذا السؤال؛ فقد كانت القصة لا تزال في بداياتها في هذه المرحلة، وكان الأمر حقًّا هو أن نأخذ في التعرُّف عليه، ويأخذ في التعرُّف علينا.
أعتقد أنك تفعل هذا مع أي مشروع طويل المدى؛ يجب أن يحدث تعارف متبادل. أخبرَنا فيما بعدُ أنه كان يريد فقط أن يتمكن من أداء وظيفته، ولم يكن يريد أن يقلق بشأننا، وما إذا كنا بصدد الوقوف في المكان الخطأ، خاصةً أنا، بسبب الكاميرات، أو الوقوف بالقرب جدًّا من أحد الأشخاص. كما كان يبالغ في حماية العائلات؛ إذ كان يريد الاطمئنان على أننا نعلم أسلوب التعامل في الداخل والخارج؛ حتى إذا حدث شيء ما نعرف كيف نتعامل معه. (هيسلر، ٢٠٠٦)
كانت الصورة التي التقطها على ممر الطائرات واحدة من ٨٠ صورة عرضها هيسلر على مجموعة من المحررين أثناء أحد اجتماعات متابعة تقدُّم العمل. طوال عرض الصور، كان شيلر يقرأ قائمة بأقوال مقتبسة من الموضوعات. يقول هيسلر عن هذا الاجتماع: «قال رئيسُ تحريرِ صحيفتنا وناشرُها، جون تِمبل، إن هذا كان الاجتماعَ الإخباري الوحيد على الإطلاق الذي حضره وبكى فيه جميع الحاضرين» (هيسلر، ٢٠٠٦).
كانت المهمة الوحيدة التي يؤديها بيك ولم يسمح للصحفيين بالوصول إليها هي الإخطارات. ومع ذلك، عقِبَ توصيل الإخطار، كان بيك يخبر الأسرة عن شيلر وهيسلر، وعن القصة التي يعملان عليها. وكان شيلر أو هيسلر، أو كلاهما، يتصل بالأسرة، ويتفق معهم على الترتيبات التي يرتاحون إليها أيًّا ما كانت. كانت إحدى القصص المؤثرة للغاية قصة كاثرين كاثي التي تلقَّتْ وهي حامل إخطارًا بأن زوجها جيم قُتل في العراق.
يقول هيسلر إنه عندما ذهب مع شيلر إلى رينو من أجل لقاء كاثي، توجَّهَا إلى منزلها، وتحدَّثَا إليها حتى منتصف الليل تقريبًا. وفي أثناء الحوار، أخرجت جميع الصور الموجودة لديها عن زوجها معها، وقالت لهما فيما بعد: «قد يبدو هذا غريبًا، ولكنكما أسعدتما ليلتي.» يواصل هيسلر حديثه: «لا يعتبر جيم [شيلر] مراسلًا رائعًا فقط، ولكنه إنسان رائع ومستمع رائع أيضًا؛ فهو يعلم مدى أهمية الحصول على كل هذه المعلومات على نحو صحيح؛ فهذه القصص تكون لها أهمية بالغة للأُسَر؛ فهي نعي ذويهم، ولكنها تذكارية أيضًا» (هيسلر، ٢٠٠٦).
في الليلة نفسها، شرح هيسلر وشيلر لكاثي أنهما يريدان متابعتها طوال العملية حتى يُدفَن زوجها. وافقت على عرضهما، وسمحت لهما بسماحة صدر في اليوم التالي بالركوب معها في سيارة الليموزين التي ستأخذها إلى المطار من أجل استلام جثمان زوجها. في النهاية، سمحت لهما بالوجود في كل جزء من العملية. يقول هيسلر: «أعتقد أننا كوَّنَّا علاقةً طيبة معها، وكانت تريد منا أن نكون إلى جوارها. هذا شيء اكتشفتُه في أثناء العملية، وهو أمر اتفق معي فيه الرائد بيك؛ وهو أننا لكي نُعِدَّ هذه القصةَ بالطريقة الصحيحة، ونُعِدَّها بطريقة غير سطحية، علينا أن نكون قريبين» (هيسلر، ٢٠٠٦).
قالت إننا أخذنا الوقت الكافي لإعداد القصة على نحو صحيح. «لقد تركاني أتحدَّث عن زوجي. لا أستطيع التفكير في شخصين آخرين يستحقان هذه الجائزة أكثر منهما.» كان لهذا معنًى كبير عندي. يُسْعِدك أن تعلم أن الأشخاص موضوع الصور أحَبُّوها وشعروا بالسعادة منها، لكنك تسعد أكثر عندما تراهم سعداء بفوزها بالكثير من الجوائز، وبحصولك على الشهرة بسببها. وكنت أجد صعوبةً في هذا، ولم أكن أعلم حتى كيف أتعامل مع الأمر معهم. توجد بينك وبينهم علاقة طيبة، لكن هذه العلاقة مختلفة تمامًا؛ فسماعي لشعورها تجاه الجائزة قد أزال عبئًا كبيرًا عن ظهري. (هيسلر، ٢٠٠٦)
سأقرؤه عليك، لكني لا أعتقد أنني سأستطيع إكماله. إذا دخلتَ على صفحتنا على الإنترنت، يوجد خطاب ألقاه [بيك] في غرفة أخبارنا [وقفة قصيرة] في الواقع سأقرؤه عليك. شرح بيك سبب أهمية قصص مثل «تحية الوداع»، فقال: «إنها تحتوي على عنصر الكمال؛ فهي تشبه، إلى حدٍّ ما، النغمةَ الرائعة أو الصوت الرائع الذي تسمعه على بُعْد ثلاث أقدام، ويجعلك تقشعر. يمسُّ هذا روحَك المضطربة، ويذكِّرك بإنسانيتك، ومَنْ أنت فردًا، ومَنْ أنت شعبًا، ومَنْ أنت أُمَّة.»
كان ثمة شيء آخَر فعله من أجلنا؛ فقد كنا نعقد اجتماعات طارئة، شأننا شأن الكثير من الصحف؛ فيعمل شخصٌ ما على أحد المشروعات أو يذهب في رحلةِ عملٍ، ثم يعود ويقدِّم عرضًا للمراسلين والمحررين الآخرين؛ حتى يستطيعوا معرفة المزيد عن هذا المشروع. ولذلك كنت أتحدَّث أنا وجيم [شيلر] عن هذا المشروع مع نحو ٥٠ شخصًا من غرفة الأخبار، ودخل علينا الرائد بيك، تقريبًا في منتصف العرض التقديمي. وقلنا في أنفسنا: «ما الذي يفعله هنا؟» كان يرتدي زيه الرسمي، وقال: «لا أريد أن آخذ كثيرًا من وقتكم، ولكني أريد تقديم عرض تقديمي.» كان لديه عَلَم محفوظ داخل إطار، كان إطارَ والده في الواقع. كان والده من المارينز، وعندما تُوفِّي كان [بيك] هو الذي أشرف على حرس الشرف في جنازته؛ لذا فإن هذا العلم الذي أعطاه لنا كان لوالده في الأصل. كان قد حُفِر على الزجاج الموجود على الإطار عبارة «تحية الوداع، ١١ نوفمبر ٢٠٠٥». يوضِّح هذا ما كان يعنيه هذا الموضوع له. (هيسلر، ٢٠٠٦)
«يوجد هذا المشهد في القصة للرائد بيك وهو يُعلِّم المارينز طريقة طي العلم من أجل صديقهم في اليوم السابق للدفن، ويقول لهم: «إن هذه آخر مرة سيُطوَى فيها هذا العلم؛ لذا يجب أن نطويه على نحوٍ مثالي؛ فهذا من أجل جيم [كاثي].» قال تِمبل بعد هذا: «يجب علينا التعامل مع هذا المشروع بالقدر نفسه من التقدير؛ فيجب أن نقدِّر ما مرَّ به كلٌّ من تود [هيسلر] وجيم [شيلر] في هذه التجربة، وهذا هو أسلوب التعامل الأمثل مع هذا المشروع».» (هيسلر، ٢٠٠٦)
أخيرًا، لم تنتهِ علاقات شيلر وهيسلر مع الأشخاص موضوع الصور عندما علما بأنهما حصلا على قصتهما؛ فقد استمرا في الاهتمام ببيك وبكاثي وغيرهما، وبما سيشعرون به عندما سيعلمون بفوز شيلر وهيسلر بجوائز بوليتزر.
تؤثِّر الصحف في العلاقات التي تتكوَّن بين الصحفيين المصورين وبين الأشخاص موضوع الصور من خلال السماح للمصورين بالحصول على الوقت لبناء هذه العلاقات أو حرمانهم منه؛ فعندما بدأ هيسلر وشيلر مشروعهما، لم تكن صحيفة روكي ماونتن نيوز تعلم ما الذي ستحصل عليه من قصة «تحية الوداع». ومع ذلك أظهرت ثقتها بهذين الصحفيين، وأعطتهما الوقت اللازم لتكوين علاقات جادة مع الأشخاص موضوع الصور، وكانت مكافأة الصحيفة على ذلك حصولها على عدد من الجوائز، منها جائزتا بوليتزر، ولكن الأهم من هذا هو نشرها قصة مهمة ولا تحظى بتغطية إعلامية كافية، بأسلوبٍ متعاطِفٍ وحسَّاس.
في النهاية، يعود للصحفيين في الميدان قرارُ العمل مع الأشخاص موضوع الصور بإنصاف وأمانة وتعاطف؛ فيجب أن تدور القصص دومًا حول الأشخاص، لا حول المصورين.
هوامش
أما الصورة المعقَّدة فتحتوي على معلومات أكثر (وربما المزيد من عوامل التشتيت)، من خلال زيادة عمق المجال واتساع نطاق تكوين الصورة. ويمكن أن تقدِّم الصورة المعقدة طبقات من المعلومات، وسياقًا أكبر، لكن من الأصعب صنعها بنجاح.
يقول ناشتوي، الذي يصور الحرب وآثارها، عن علاقاته بالأشخاص موضوع الصور: «في الحرب، تُعلَّق القواعد الطبيعية للسلوك المتحضر؛ فمن غير الوارد فيما يُسمَّى بالحياة الطبيعية أن يدخل أحدٌ إلى منزلٍ فيه أسرة حزينة على وفاة أحد أحبائها ويمضي وقتًا طويلًا في تصويرهم؛ فهذا ببساطة لن يحدث. لم يكن بالإمكان صنع هذه الصور لو لم يَقْبَلني الناس الذين أُصوِّرهم. فببساطة، يستحيل تصوير لحظات مثل هذه دون موافقة الذين أصورهم، أو دون واقع ترحيبهم بي، أو تقبُّلهم لوجودي، أو رغبتهم في وجودي؛ فهم يدركون أن هذا الغريب الذي جاء إليهم ومعه كاميرا ليُظهِر للعالم ما يحدث لهم، يمنحهم صوتًا في العالم الخارجي لم يكونوا ليحصلوا عليه لولاه» (ناشتوي، ٢٠٠١).