تموز في الأعالي

المشهد الأول

حين نزلت نجمةٌ من السماء
figure
ها قد نزلتُ من عليائي وتحوَّلتُ من نجمةٍ إلى ملاكٍ ثم رميْتُ أجنحتي ونزلتُ في أحضانكِ فهل هناك وفاءٌ أكثر من هذا.

(على يمين المسرح تظهر سبع درجاتٍ واسعة تُستعمَل للنزول عادة وعلى يساره تظهر سبع درجات واسعة تُستعمَل للصعود، وفي وسط المسرح تظهر زقورتان متشابهتان أحدهما بوضع عادي والأخرى مقلوبة على رأسها تمثلان الصعود للأعلى والهبوط للأسفل، ويظهر تحت الزقورة الرجل وهو يُمسك عصاه فجرًا ويتأمل نجمة السماء.)

الرجل :
منذ سنين يا نجمة السماء
وأنا أتأملك،
ولكنك صامتةٌ لا تأبهين بي
متى تنتبهين لي يومًا؟
كم تاهت شِياهي وأنا أقضي الوقت معك!
كم نمتُ على عصاي وأنا أناديكِ،
ولكنكِ صامتةٌ كجدار.
هو الجنون بعينه أن يعشق راعٍ مثلي نجمةً بعيدةً.
ماذا سيجني سوى الجنون؟
(يجمع الرجل أغراضه في جبٍّ ويحمل عصاه … ويبدو كما لو أنه سيغادر المكان.)
أنا الموهوم المحموم الذي لا علاج لي.
تركْتُ نساء البلاد كلها وعشقتُ نجمةً،
غنَّيْتُ لها الأغاني،
وعَزَفْتُ لها بهذا الناي،
وهي مثل صخرةٍ مُعلَّقةٍ في السماء.
حتى الشياه لم أعد أحبها
حتى مهنة الرعي …
كل شيءٍ يجب أن يتبدل في حياتي، وعليَّ أن أترك هذه الأوهام.

(تدخل امرأة جميلة من الاتجاه الآخر الذي هو فيه خارجًا من المكان وتُناديه.)

المرأة : مهلًا … مهلًا، نسيتَ صُرَّتك
الرجل (يتوقف ويلتفت لها) : ماذا؟ من أنتِ؟
المرأة (ترمي له الصرَّة) :
عابرة سبيل،
كنت أقضِي الوقت هناك قريبة منك بالرقص والغناء وسمعتُ نايكَ.
الرجل : هل تحبين أن أعزف لكِ المزيد؟
المرأة : ليتك فعلت.

(يقوم الرجل بإخراج نايِه وتلميعه ويبدأ بعزفٍ شجيٍّ تهيم المرأة به، ثم يتوقف العزف وتبدأ المرأة بالتهيؤ للذهاب.)

الرجل : هل ستبقين وقتًا أطول هنا؟
المرأة : لا … يجب أن أعود لبيتي.
الرجل : ولكننا في أول المساء ويمكنك العودة ليلًا، سأُسمعك المزيد من الأغاني والناي.
المرأة : لا بُدَّ من العودة الآن، أيةُ كذبة أقولها لأمي حين أبقى؟
الرجل :
سأُلقنكِ الأكاذيب … قولي لها إن صديقتك التي كانت تمرح معك رقصت وغنَّت،
وجاءت بعدها الأخرى ثم أخرى وتمسَّكوا بك حتى أنهم أجبروك على الغناء أيضًا.
المرأة : عذرٌ مضحكٌ … أمي ذكية ولا تقتنع به.
الرجل : حسنًا … قولي لها إن الذئاب حاصرتْكِ وانتظرْتِ حتى تنصرف.
المرأة : لا … سأقول لها إني كنتُ معكَ.
الرجل : قد تقتُلني.
المرأة : لا هي تبحث لي عن عريسٍ وحين تعلمُ أنك تريدُ أن تكون عريسي ستفرح.
الرجل : لكني لست عريسك!
المرأة : نعم لن تكون عريسي مع الأسف.
الرجل : لماذا؟
المرأة : لأنَّ الفلاح تقدَّم لخطبتي وعرضَ لأمي الكثير من هداياه.
الرجل : ماذا عرضَ؟
المرأة : الكتَّان الذي سيُمَشِّطُه ويغزله ويجدلهُ وينسجهُ ويصبغهُ ويُلبسهُ لي.
الرجل : ما قيمة ثوب الكتَّان إذا ما قارنته بما سأُقدمه لكِ من صوفٍ! أنا الراعي سيدتي، سأُقدم لك الكثير.
المرأة : الفلاح قدَّم لي طحينه الأبيض والأسمر وعصير الشعير والنبيذ الخبز والعدس.
الرجل : وأنا سأُقدِّم لك النعاج البيضاء والسوداء واللبن والقشطة والجبنَ والزبد.
المرأة : وماذا بعد؟
الرجل : وقلبي والناي والأغاني والرقص …
المرأة : حسنًا سأَقبل بك عريسًا لو تقدَّمت لي وستَقبَل بك أمي.

(يُمسكها من يدها ويأخذها خلف الزقورة … ويظهران في حالة حب وتظهر لوحة من الرقص لها علاقة بالحب والزواج، ويظهران في اللوحة كعريسين ويحتفلان مع الراقصين بهذه المناسبة ويُراعَى أن تكون اللوحة الراقصة تعبيرية وتحمل الطابع القديم لوادي الرافدين، ثم تظهر المرأة من خلف الزقورة لوحدها.)

المرأة (مبتهجةً) :
النوم … كم هو حلوٌ ويدي في يده،
قلبي يتَّحد بقلبه،
سوفَ يفتح لي بيتي،
سوف يفتح لي بابي،
وسيُزيِّنهُ بالزهور،
يضع يدَه على قبضة بابي،
ويُدخل مفتاحه في ثقب الباب.
هو مثل الراعي وأغطائي غنمات له.
هو مثل الفلَّاح وبستاني يسقيه.
الرجل :
نهرٌ لا أعماق له غورك،
وسنابل تُشبِه غابة حرير،
السرير لا يسعنا رغم أنه كبير؛
لأن الفرحة لا تسعنا.
المرأة :
بقدر أيامي البيضاء ضحكت في حضنكِ.
بقدر أيامي السوداء حزنت لفراقكِ.
ضع الخبز والماء في راحتي.
يدور دمي.
الرجل : أيها الحمَام … قد عرفتَ لغتي فتحدَّثتَ بها وقد عرفتُ لغتكَ فتحدثتُ بها … وقد عرفتها فغنينا معًا.

(يدخل الرجل الشرير في شكل متسول يستجدي من الرجل والمرأة.)

الشرير : أدام الله سعادتكما وأعطاكما من رزقه، قليلٌ من الطعام واللباس لمسكين مثلي يزيد بركته لكما.
المرأة : أعطه الطعام وملابسكَ القديمة.
الرجل : سأفعل (يدخلُ ليجلب الطعام والملابس، فيكون الشرير وحده مع المرأة).
الشرير : سيدتي … أتوسل إليكِ أن تعتني بمولاي فهو يحبك ولا تسمعي ما يقوله الناس عنه.
المرأة (تنتبه له) : وماذا يقول الناس عنه؟
الشرير : كلا … يا سيدتي أنا لا أُصدق مما يقولون شيئًا … كلها أكاذيب.
المرأة : أخبرني ماذا يقولون وسأزيد العطاء لك.
الشرير : يقولون إنه زير نساء … صياد النساء الماهر، وأنك آخر مَنْ وَقَعَ في شِباكه … ولن تكوني الأخيرة بطبيعة الحال.
المرأة : وماذا بعد؟
الشرير (يضحك) :
يُسمُّونه … يُسمُّونه «مُلتَهم النساء»،
ويقولون إن مقام نسبكِ أرفع بكثير من مقام نسبه، فهو رغم جماله لا يعدو أن يكون راعيًا بينما أنت في مقام الملوك.
المرأة : أها …

(يدخل الرجل ويُعطيه الطعام والملابس فيخرج الشرير.)

الرجل : ما دام هناك ظلمٌ فهناك فقرٌ.
المرأة :
لا عدالة على وجه الأرض طالما اشتهت النفوس ما ليس لها.
الرجل : هذا صحيح.
المرأة : هل ستَمَل مني ذات يوم؟
الرجل : لا ملل ولا ضجر بل ولعٌ يُرافق الشوق فيرقى. أنتِ فوق هذه الأوصاف فلمَ تذهبُ بك الظنون.
المرأة : أطمحُ بحياتك كلها لي وليس بالأيام التي عشناها فقط … لقد أدمنت طريقة حبك … فيض الروح عندك … عمق أحاسيسك … كلُّ هذا جديد عليَّ … ولكنك يجب أن تحذر مني.
الرجل :
لأني أحببتك كما لم أُحب امرأة من قبل.
أعترفُ أمامك أني لم أجد، في كل من عرفتهن، نبضة حبٍّ واحدةً تُشبه نبضاتك.
المرأة :
تعال انظر … لقد استيقظت المدينة كلُّها،
وها هي الشموع مضاءة
في كل نافذة كانت هناك امرأة تنظر لنا.
الوجوه الجميلة للنساء العاشقات
تُنيرها النيران الصغيرة.
تراجعت الظلمة أمام هذا النور.
الرجل :
غناء طوال الليل،
وحنين ينتشر في كل اتجاه.
هل تسمعين أنين العاشقات؟
المرأة :
ظلام دامس،
لم يشرق نجم هناك.
النساء تطارد شفاهها من الغناء لك والهيام بك.
هلال رقيق يُغطي خجلهنَّ.
لقد أُغلِقت نافذتي، ولولا ذلك لاندفعن كلهن إلى هنا.
الرجل :
لا ذنب لي في ذلك.
في جنون الحب لا يعود يعرف الإنسان ما لون يديه.
المرأة : أريدك أن تكفَّ عن مغازلة النساء والعزف لهنَّ. سقط بعض التفاح ولا نريده أن يسقط كله.
الرجل : كان الجميع يبحث بعناية سبب هذا الاضطراب ألم تَجدي غيري مَن يتحمل عبء النار؟!
المرأة : أنت مَن يغوي النساء.
الرجل :
يا ابنة المقام العالي
شرفٌ لي ولمقام أهلي أن أقترن بكِ.
المرأة :
لماذا تتحدث عن المقامات؟
دعنا لا نبالي بمثل هذه الأمور؛
فمقامي معروفٌ ومقامكَ أيضًا.
الرجل :
ماذا تقصدين؟
أمي بمقام أمكِ وأبي بمقامِ أبيكِ.
المرأة : لا … هل نسيت مَن أكون؟ ومِن أين جئت؟
الرجل : لا أعرف
المرأة :
ستعرف ذات يوم.
وكما أنا من السماء ستعود أنت إلى أسفل الأرض.
لا بُدَّ من مواجهة مصيرك.
أعطيتني حبًّا بشريًّا لا أعرفه،
حلوًا وجميلًا ومدهشًا لكنه ليس حُب الآلهة،
وأعطيتكَ حبًّا لا تعرفه.
الرجل : كلٌّ منا أعطى حبًّا له طَعمٌ خاص.
المرأة :
ها قد نزلت من عليائي وتحوَّلت من نجمةٍ إلى ملاكٍ ثم رميت أجنحتي ونزلت في أحضانك،
فهل هناك وفاءٌ أكثر من هذا؟
الرجل : وقد ملئتِ قلبي بالحُب وأحسنتِ إقامتكِ معي.
المرأة :
لقد زيَّنت لكَ شهواتك أن ترى امرأة مثلي كبقية النساء.
تعال أدلك على الخراب الذي أنت طاعنٌ فيه.
تركضُ وراء الزائل وتُهملُ الأبدي فيكَ.
لا تَلْمَحُ سوى يديك وعينيك وقدميك ولا تنظر إلى أعماقك وأغوارك التي هي
خلاصة الكون كله … أنت مقيدٌ بسجنكَ وأنا طليقة بفضائي.
الحبُ عندك غرائز متفجِّرة لكنه عندي حقول تتفتح بالعطر وضوء ينطلق
إلى البعيد البعيد.
الرجل : صرتُ بوصلتكِ في الحياة.
المرأة : وصرت دليلك في الحروب وحاملة سلاحك في المعارك
الرجل : وجعلتكِ ملاكي الحارس.
المرأة :
أجلستك على العرش الأكبر ووضعت على رأسك تاجًا.
طرقتُ بابك أكثر من مرةٍ فلم تجيبيني.
ما زلتُ لك … فما الذي حصل مذ التقينا؟
مذ دبَّ الملل إلى نفسك
لقد انتهى كل شيء
ها أنتَ قرب قدمي مثل العبد.
أرى التماع عيونِكَ أشدَّ من التماع الآفاق ولذا لن أفتح كفي لعاصفتك ولن أفتح
أشرعتي لهبوبكَ.
الرجل : أعليتُ مكانتكِ وصليتُ لكِ.
المرأة : نزلتُ لوحدي إلى الأسفل وحزن الجميع عليَّ إلَّا أنت.
الرجل : لا أتصور أن مِثلك يموت في الأسفل.
المرأة :
بل فرحتَ في غيابي ورقصتَ وغنيت،
ولا بُدَّ أن تدفع الثمن.
الرجل :
نعم … سأدفع ثمن جهلي بالمرأة وبتقلباتها.
أعطيتكِ الحُبَّ وتعطيني الهلاك.
هذا ما أدركته الآن.
ولا بُدَّ أن أرحل عنكِ وعن هذه الدنيا.
لا بُدَّ أن أتعلم من الظلام أسرار العالم المضيء.
وداعًا.

(يُعتم المسرح ويختفي الرجل.)

المشهد الثاني

عُدَّة الساحر
figure
بالكلمة ستصارع هذا الظلام كله … فهي النور الأبدي.

(الرجل مثخنٌ بالجراح ومقيدٌ بالأغلال في أسفل السلالم النازلة، جوٌّ من الإضاءة الحقيقة والأنين ثم ترنيمة تنطلق بهدوء وتخرج على لسان مغنٍّ يُسجِّل صوته على شريط.)

صوت المغني :
الليل طال وطالت المدَّة،
والظلم نال الشوكَ والوردة،
والناسُ عدُّوا النجم،
عدُّوا الرمل.
لم تنفع العدَّة.
طالت ليالي الخوف.
طالت ليالي القهر والشدة.
الرجل :
سلِّموني لأيدي الأبدية،
للمصير المُعتم.
قتلتني امرأةٌ لكي تُرضي نزوتها.
دخل الألم في الشتاء،
وانتشرت الأشواك فيه.
الجروح التي حملتها معي إلى الأسفل كانت في الروح أكثر مما في الجسد،
وها أنا في المصير الأعمى.

(تدخل المرأة بهيئة امرأة الظلام.)

المرأة :
بل أنتَ في ضيافتي،
من أتى بك في هذه الليلة الموحِشة التي تتوارى فيها أكثر الكائنات حبًّا للخطر … وفي هذا الليل الذي لا يعرفُ فيه الأب ابنه ولا الأخ أخاه … وإلى ماذا تسعى؟ لم أستطع النوم بسببك.
الرجل : من الخير أن ترجعي إلى سريريكِ وتنامي … الليلة موحشة يا سيدتي وعالم الأعماق نائم.
المرأة : ربما الوحشة والبرد!
الرجل : اذهبي واجلبي المفتاح وافتحي لي هذا الباب.
المرأة : سأفتح لكِ باب الموت ولكن لا بُدَّ لك من مراعاة شرائع هذا العالم … لا بُدَّ من أخذ قلبكَ … وإلَّا يصعب عليك الخروج.
الرجل : وكيف يمكنني أن أعيش بلا قلب؟
المرأة : ستبقى هنا إذن معي
الرجل : أنت الوجهُ المُعتم لها … سيدةُ الظلام وعالم الموت.
المرأة :
خُذ تدثَّر بالرداء الملكي وخُذ الصولجان والتاج، ستزداد معرفتكَ هنا أكثر مما تتصور.
(ترمي له الرداء والصولجان والتاج.)
عرِفتَ الحياة في الأرض ظاهرها المُحلَّى المسطح،
ولكنكَ هنا ستعرفها باطنها وستسبر غورها
الرجل : لكني أسيرُ الجسد هنا.
المرأة :
وطليق الروح.
سأعلمك السحرَ وأعلمك فنونَ الأعماق.
الرجل (يلبس الرداء والصولجان والتاج) : أريد شيئًا أصارعُ به شياطين الظلام.
المرأة : بالكلمة ستُصارع هذا الظلام كلَّه … فهي النور الأبدي.
الرجل : وأين هي الكلمة؟
المرأة (تشير إلى الرأس) : هنا.
الرجل : وكيف سأخرجها؟
المرأة (تشير إلى القلب) :
بهذا
أَعلِن ما في قلبكَ على لسانك،
واكتشف الكون،
واصرع الشياطين بها واصرعهم بسلاحكَ.
الشرير (يدخل) : لقد قادتك قدَماك إلى حتفِك هنا وستكون نهايتك على يدي.

(يُعتم المسرح ويظهر ما يشير إلى معركة كبيرة بين الرجل وبين الشرير، ويُضاء المسرح وينطفئ بشكلٍ سريع وتُصوَّر معركته بطريقة إخراجية ويستطيع الرجل هزيمة الشرير … والمرأة تُراقِب ما يحصل عن قرب ثم يختفي الرجل فجأة وتفيقُ المرأة قلا تجدهُ، وتبحثُ عنه حولها دون جدوى.)

المرأة :
أنت مَنْجَم القوة والمعرفة ورُقيةٌ لعين الثعبان.
كلُّ العالم مليءٌ بالشرور وأنت تتوقَّد بروحكَ.
لا تَخَفْ،
ولا تضع يدكَ في يدي ولا تتردد،
لا أريد لك أن تبقى هنا
ما دمت قد تلقيت الدرسَ جيدًا
اذهب في البرية وانشر تعاليمكَ إلى العالم.
سأُعيدكَ إلى الأرض،
وسأُلقي في فمكَ الكلمةَ الشافيةَ.
الرجل :
لماذا أسمعُ صوتَ النارِ فيك
ولماذا يهطلُ مطرٌ في أعماقي
المرأة :
آن أوان عودتك
تسلَّحتَ بالكلمة والقدرة
ورفعتَ الخوفَ من قلبك
تسلق الماء الذي في سِيقان النبات واخرج من الأرض العذراء … لتبدأ رحلة هداية الناس.

(يدخل الرجل في السُّلم المرتفع ونجده على إحدى درجات الزقورة الوسطى.)

المشهد الثالث

زمن الخلاص
figure
عن طريق الكلمة والمعرفة بأن تعرفَ روحُهُ أصلها الإلهي، وعن طريق هذا السيف لمعالجة الأشرار.

(الرجل وهو عند قاعدة الزقورة يُلمِّع سيفَه.)

الرجل :
لا بُدَّ من سلاحٍ حقيقيٍّ لقطع دابر الشرِّ عن هذا العالم، الكلمة أولًا والسيف معها للأشرار، حين نمتُ هناك في تلك المعابد الخفية للروح تحت الأرض ظهرت كواكب جديدة وينابيعُ ساخنة تأملت في الروح كيف تصاعدت أغنيتها وأخرجتني إلى هذا العراء لم أعد أخشى من سجون الأعماق، لقد خبرتُ تجربتها وتهجَّستُ كنوزها وظلامها.
كادت العناكب تأكل كلامي،
وكادت تُقطِّع جسدي.
المرأة (تدخل عليه بصفة عشتار بزينتها) : لن تموت وأنا معك.
الرجل (ينظر لها دون مبالاة) : لم تكوني معي عندما كنتُ هناك.
المرأة : بل كنتُ، لكنك لم تنتبه.
الرجل : ما عاد يهمني في هذا العالم سوى خلاص الإنسان.
المرأة : وكيف ستخلِّصهُ؟
الرجل : عن طريق الكلمة والمعرفة بأن تعرفَ روحهُ أصلها الإلهي، وعن طريق هذا السيف لمعالجة الأشرار.
المرأة : أنت مغلقٌ أكثر مما يجب.
الرجل : ليس هناك أوضح مني.
المرأة : استعملتُ الكثير من المفاتيح معكَ ولم أفلح، ثم تذكرتُ أنَّ لكَ حرسًا فرقعتهُ.
الرجل : لم تدقَّ أجراسي.
المرأة : بل دُقَّت، لكنكَ، تكابر في ذلك.
الرجل : لقد أسدلتُ ستارًا على كل ما يجعلني أنظرُ إلى فردوسٍ كاذبٍ.
المرأة : وضعتُ أمدوحتي فوقَ إكليل زهوركَ ولم أجد معناك.
الرجل : لم يعد معناي فيَّ … أصبح من أجل الآخرين.
المرأة :
أمدحُ هواءَكَ الذي يدفعني للمتاهةِ
أمدحُ نسيانكَ
أمدحُ بستانكَ المهجور لأنه جمعني بك
الرجل :
الضبابُ يخرجُ من كلامكِ
ولا بُدَّ من اشتعال مصابيح أعماقي الآن
المرأة : لماذا أصبحت تهرب مني؟
الرجل : لم يعد لي متَّسعٌ من الوقت لكِ … أنا في فردوس جديد.
المرأة : لكنك تحتاجُ رفقتي
الرجل : لا أحتاجها … بل هي تسببُ تعبًا وإرهاقًا لي وتشغلني عن هدفي الكبير
المرأة : وما هو هدفكَ الكبير؟
الرجل : الآخرون …
المرأة : لكنك كنتَ تقول (الآخرون هم الجحيم).
الرجل : كنتُ واهمًا أنانيًّا مشغولًا بذاتي، إنما وجودنا هو من أجل الآخرين، ليس هناكَ أعظم من أن يشعر المرء أن هناك مَن يقف إلى جانبه، جئنا إلى الأرض لكي نسند بعضنا أمام هذا الوجود الأصم.
المرأة : وأنا … ألستُ من الآخرين؟
الرجل : لقد عرفتكِ عن كثب … أنتِ تُلهيني عن نضجي وغايتي.
المرأة : بل أرفعكَ إلى مقام كبير … تعال وتلذذ بمفاتني وارتفع عن خمولك الجسدي، انفضْ ما فيكَ من غبار وتعال.
الرجل : لم يعد هناكَ غبارٌ عليَّ.
المرأة : لكنكَ لي شئتَ أم أبيت.
الرجل : هل أُذكركِ بعشَّاقكِ الذين أسقطتهم في الفخاخ ولم يتخلصوا منها؟ هل أذكِّركِ بالذينَ مسختهم إلى طيور وأفاعٍ وخيولٍ وما زالوا يجوبون ظلام مسخك؟ ابتعدي عني، لا أملك وقتًا لكِ بعد أن سقطت أقنعتكِ.
المرأة : سترى كيف ستدفع ثمن رفضكَ لي، لن يمرَّ وقتٌ طويل حتى يعلقكَ جنود الملكِ على الخشبة بتهمة إعلان نفسك ملكًا على مملكة الإنسان.
الرجل : سأكون حينها قد تحررت من دنياكِ هذه
المرأة : لا فرق … رفضكَ لي ورفضكَ لأن تكون عبدًا في مملكة الملك.
الرجل : لستُ عبدًا لأحد ولا ملكًا على أحد.
المرأة : لكنكَ جدَّفت طويلًا وفاحت رائحتك بين الناس، كلُّهم مُرتابون بك، وقد وشوا بكَ عند الملك لكني دافعتُ عنكَ، أما الآن فسأرفع عنك حمايتي وأخبره بحقيقتكَ.
الرجل : شرفٌ لي أن أكون ضد الظلم وقويًّا أمام إغوائكِ
المرأة :
أحترقُ عندما أكون مخطئةً وعندما أكون فاديةً، أنا على صفيح الجمر مرةً، وأخرى
على الثلج. كم هربتُ من قيودي لكني ما زلتُ مصفَّدة.
الشرير (يدخل) : قُم معي ولا تلبث مكانك … ستصعد معي إلى جبل وستُعلق هناك.
الرجل : أنت تلاحقني أينما ذهبت.
الشرير : نعم … أنا ضدكَ الآخر أتسلق عليكَ من ظِلكَ الأسود إلى هامتك … لقد آن أوان الحساب.
الرجل : سأكون هناك
الشرير : هربت منَّا زمنًا باعتكافكَ في المغاور ولكنك تعود لنا على طبق جاهز. هيَّا.

(يخرجان.)

المشهد الرابع

ورد الروح
figure
لا تحدثيني عن شوكٍ زائل بل تحدثي معي عن وردٍ أزلي.

(يصعد الرجل إلى أعلى الزقورة بصعوبة حتى يصل إلى قمتها فيقف على هذه القمة حيث ينتصبُ عمودٌ من أجل صَلبه، يقف أمام العمود ويتحدث.)

الرجل :
هنا وصلت الروح … أمام هذه الخشبة التي سترحل بها مثل سفينةٍ إلى أصلها.
سأترك لكم هذا الجسد الفاني، عذِّبوه كما تشاءون، ذات يوم، دخلت روحي
بسيطةً عمياء في هذا الجسد وسكنت في سجنه، لكنها ازدادت معرفةً بأصلها السماوي كلما مضى الزمن وها هو الأوان قد آن لكي تعود إلى مهدها خصبةً مكتنزةً عارفة.
المرأة (في أسفل الزقورة وهي بهيئة تُشبه مريم العذراء) : لكنكَ يا ولدي لم تقم طويلًا بيننا، لقد كنت كنزنا، وها أنت تصعد لكي تحمل عنا الآلام التي سببها الأشرار.
الرجل :
لا تحدثيني عن شوكٍ زائل بل تحدثي معي عن وردٍ أزلي؛
فكم أحببت جبينك النقي،
وكم تطلعت إلى كلام ثغركِ الباسم،
وأنا أحيا بك كربيعٍ،
وأنت تحيين بي كبذرةٍ.
الينابيع يا أمي تملأ الأرض،
ولكن الأشرار يشربون من الماءِ الآسن.
أتطلع إلى السماء فأجدها تشرقُ كلما فعلنا خيرًا على الأرض.
المرأة :
هو ذا صوتكَ الذي يدوِّي في أركان الأرض، بدأت من هنا من الأرض المحصورة
بين نهرين وبَنيتَ
خصبكَ وحبكَ وجعلته في تلك المدن البعيدة الغائرة منذ أريدو وحتى بغداد المعذَّبة
بكل هذا العنف والشرِّ.
الرجل :
كانت رحلةً قاسيةً يا أمي، ولكن شوطها يجب أن يكتمل. ها أنا ذا على وشك القفز إلى
الفردوس حيث أنتظركم هناك. ولكن أرجوكِ يا أماه أرجوك أن لا تنتظروا صعودكم
إلى الأعالي، أقيموا فردوسكم على الأرض … أقيموا في البلاد واكتبوا الخلاص الجديد
للبشرية.
الأم : ليتنا فعلنا … لقد ضاعت البلاد في رمال الخوف والجهل والعنف وهام أهلها ولا خلاص لنا.
الرجل : بل ما أقربهُ لكم، إنه بين أيديكم يَرِفُّ مثل الطيور
الشرير (من أسفل الزقورة) : كفى هذيانًا، لقد أوهمت الناسَ بأكاذيبكَ هذه ولا بُدَّ أن تموت.
المرأة (للشرير) :
ما أنت إلَّا دجَّال هذا الزمان
الجمال كلمةٌ صعبةٌ لا يفهمها مثلك،
ونحنُ الآن في حضرة هذا الجمال الأبدي
أي وحشٍ يسكن روحك حتى يمنعكَ من رؤيته.
أومضت عيناك بالقسوة وزفرت أنفاسك بالظلام
أنت لا تستطيع حَمْل قيثارٍ بين يديكَ.
الشرير :
أترك لكِ ولولدكِ حمل القيثار، وأحمل سيفي هذا
وأصعد إليه لكي أقرر مصيره،
وأُنفِّذ به حكم العدالة.

(يصعد الشرير وسط صخب أصوات الجماهير التي تنادي بالموت للرجل.)

الرجل :
رعشات الحياة التي تُمسكُ بكياني تدفعني للبوح،
ولا بُدَّ من القول: إن ما يجري هو
صراعٌ أزلي بين الخير والشرِّ، والجمال والقبح ومثلما
أشعر ببرودة العرق على
جسدي فإني أشعر بانتصار الخير والجمال، فليكن
الصبرُ سبيلًا.
الشرير (وهو يصعد) : لم تبقَ أمامك إلَّا دقائق معدودة لكي تغادر هذه الدنيا.
الرجل :
كيف تظن أني رهين دنياكَ هذه.
روحكَ معتمةٌ لا تعرفُ سواها.
ولو كانت فيكَ بصيرةٌ لعرفت معنى وجودك.
الشرير : لا حاجة لي بهذا المعنى، فما يعنيني هو إطاعة مولاي الملك وإزالة الأشرار من الوجود.
المرأة : الدنيا كلها تعرف شرَّك وجرائمك.
الشرير : هل تودين الموت معه؟
المرأة : ليتني نلتُ الموت مع ولدي.
الشرير : فليكن ذلك الآن (ينزل درجات الزقورة ويُمسكها ويصعد بها).
الرجل :
مَن هذا الذي وضعني في ثوب الحياة الفانية؟
مَن الذي جعلني مع الأشرار؟
الخطايا المريرة كادت تنهك روحي،
لكن نقطة النور التي في داخلي أنقذتني.
سنرتفع بوجه الأخطاء، وسنعلن عصر الحرية.

(يصل الشرير ويضع المرأة في جهة من العمود الخشبة ويضع الرجل في الجهة الأخرى، وقبل أن يعلن موتهما، يُخرِج الرجل كيسًا من الورود ويبدأ بنثر الورد على الناس وكذلك تنثر المرأة الورد وتفوح رائحة الورد في المكان … فيسقط الشرير عند أقدامهما خاشعًا ويبدأ صوت الملائكة بالترانيم ويرتفع وهما ينثران الورد.)

(ختام)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥