التقاعد
استراحة
انتزعت ليزلي بايلي — زوجة براين منذ ثمانية وعشرين عامًا — منه وعدًا بالابتعاد عن المنزل لمدة أسبوع أو اثنين لينالا قسطًا من الراحة التامة قبل محاولة تقبل فكرة التقاعد. وذهبا إلى فندق صغير في وادي نابا.
نجحت ليزلي لمدة يومين ونصف في إبعاده عن الحديث عن مستقبله، ولكنه تغلب عليها في النهاية. وحدث ذلك عندما كانا يتناولان طبق الحلو في مطعمهما الإيطالي المفضل.
كان براين فظًّا. وقال: «أنا آسف يا ليزلي، ولكنني لا أستطيع الانتظار أكثر من ذلك.»
ارتبكت ليزلي. وقالت: «انتظار ماذا؟»
«الحديث عن العمل. عن ماذا سأفعل بعد ذلك.»
ضحكت ليزلي. وقالت: «أوه. ظننت للحظة أنك ستبدأ بمغازلتي هنا.»
فأجاب براين بوجه خالٍ من أي تعبير. وقال: «حسنًا، قد يكون ذلك أفضل. هل تريدين أن نذهب إلى السيارة؟»
ضحكت مرة أخرى. وقالت: «ربما فيما بعد. أما الآن فلنتحدث عن العمل.»
سكت براين برهة. ثم قال: «أنا آسف. من المفترض أن تكون هذه رحلة دون …»
فقاطعته قائلة: «لا بأس. أعرف أنك تجاهد نفسك منذ أن جئنا إلى هنا، وقد بذلت ما في وسعك. قل ما في نفسك.»
وطوال الساعتين التاليتين — حتى جاء مساعد النادل ليطردهما بأدب من المطعم الخالي من الزبائن — ظل الزوجان يتحدثان عن حالة براين النفسية، والخيارات المتاحة أمامه. كان براين قد بدأ يصاب بالاضطراب. وتساءل عما إذا كانت حياته العملية مضيعة للوقت أم لا. ربما كان يجب عليه أن يتقدم للعمل في شركة أخرى.
وبعد فترة أصبح من الواضح أنه هو وليزلي غير متفقين. ففي بعض الأوقات كانت المناقشة تتحول إلى حوار عاطفي، ومعظم الوقت كانت ليزلي هي من يتكلم عن العواطف.
«انظر، إنني لم أشتكِ كثيرًا خلال الخمس عشرة سنة الماضية. لقد كنت تتأخر كثيرًا في المساء، وتسافر كثيرًا في رحلات عمل، وكنت تجري اجتماعات عبر الهاتف من المنزل. لكن لا تسئ فهمي. فقد كنت أبًا عظيمًا. ولكن فاتك حضور الكثير من الحفلات والمباريات.»
على ما يبدو، استفز هذا التعليق براين الذي رد بطريقة هادئة ولكن تملؤها خيبة الأمل. فقال: «لا أعتقد أن هذا عدل. لقد بذلت قصارى جهدي لكي أحضر الكثير من هذه المناسبات أكثر من أي أبٍ آخر. ولا أعتقد أنني يجب أن أجلس هنا شاعرًا بالذنب من أجل …»
توقف براين عن الحديث عندما رأى أن زوجته على وشك البكاء.
«ماذا حدث؟»
سكتت لحظة لكي تتمالك نفسها. وقالت: «معك حق. يجب ألا تشعر بتأنيب ضمير في هذا الصدد. لقد كنت تجد عادةً طريقة لكي تكون موجودًا من أجل الأطفال.»
شعر براين للحظة بشيء من الراحة. حتى فرغت من حديثها.
ثم قالت: «في واقع الأمر، لقد كنت أنا التي لم تكن موجودًا من أجلها.» وبعد ذلك بدأت دموعها تتدفق.
فأحس براين بالذنب. وذلك لأنه يعرف أنها محقة، ولأنها لم تشتكِ قط قبل ذلك. وتساءل في نفسه: منذ متى وهي تحس بهذا الشعور؟
وفي هذه اللحظة أخذ على نفسه عهدًا بأن يصبح زوجًا أفضل، وأن يكون موجودًا من أجل زوجته. وبعد ثمانية وعشرين عامًا من العمل كانت ليزلي تستحق ذلك بالتأكيد.
هذا بالإضافة إلى أن براين لم تعد لديه أعذار حقيقية الآن. فبعد بيع الشركة وحصوله على أسهمه أصبح آل بايلي فجأة يملكون مالًا يزيد عن حاجتهم. وبانتهاء مصاريف التعليم أو العلاج، أصبح بإمكانهم العيش في مستوًى مريح دون أن يضطر براين للعمل مرة أخرى.
أما ليزلي فلم تكن في حاجة لأن تعمل. فبعد عشرين عامًا من العمل متطوعة نشطة ومجدَّة في المدرسة والكنيسة، والعمل بدوام كامل مساعدة تدريس خلال السبع سنوات الماضية، كانت مستعدة تمامًا للتغيير. ما دام هذا التغيير يشمل زوجها.
كانت ابنتهما في العام الأخير لها في الجامعة، وكان ولداهما يعملان في سان دييجو وسياتل، ومن ثم أصبح آل بايلي أحرارًا في عشهم بلا قيود أو حدود.
قال براين ممسكًا بيديها عبر المائدة: «حسنًا، نستطيع خلال العام التالي أن نقوم بما نريد. ولكن التحدي هنا هو فقط معرفة ما نريد.»
عملية عصف ذهني
ذهب براين وليزلي في الأيام القليلة التالية في نزهات طويلة بالسيارة عبر حقول الكرم وهما يتبادلان الأفكار عن موضوع التقاعد.
ومع أنهما حاولا ألا يرفضا شيئًا في الحال، فقد استبعدا فكرة شراء قارب أو سيارة للتخييم أو طائرة مزدوجة الأجنحة. فرغم أنهما كانا يستمتعان بقضاء الوقت خارج المنزل، كانا يعرفان أنهما ليسا من النوع المغامر، ذلك النوع من البشر الذي يعيش حياة الترحال.
فاقترحت ليزلي في النهاية أن يجدا منزلًا لطيفًا صغيرًا على الجبل في منطقة بحيرة تاهو حيث يستطيعان التمتع بالتزلج على الجليد في الشتاء، وقضاء بقية العام في ركوب القوارب ولعب الجولف وهما النشاطان اللذان كانا يستمتعان بهما قبل أن يرزقا بأطفال. لم يتطلب الأمر من ليزلي التحدث كثيرًا ليقتنع براين. فقد كان يتوق طوال الخمس سنوات السابقة إلى العودة لممارسة التزلج من جديد، وبلا شك كانت فكرة صيد الأسماك ولعب الجولف بعد انتهاء موسم التزلج تروقه.
ارتسمت على وجهه ابتسامة وقال: «هيا نقم بذلك. فمن ذا الذي سيرضى بذلك السباق المحموم حول مسائل تافهة؟»
وفي القريب العاجل كان سيدرك براين أن الإجابة الصحيحة لهذا السؤال هي «أنا».
انهماك
في الأسابيع القليلة التالية كان الزوجان المفعمان بالطاقة يتنقلان ذهابًا وإيابًا في الجبال يبحثان عن منازل معروضة للبيع، وفي النهاية استقرا على منزل متواضع لكنه عصري على الطرف الجنوبي لبحيرة تاهو، على بُعد بضعة أميال داخل نيفادا. وبعد أسبوعين — أي بعد مرور أكثر من شهر على «الحوار الذي جرى في نابا» — كما أطلقا عليه بعد ذلك، انتقلا إلى هذا المنزل الجديد وبدءا في تأثيثه وتزيينه.
كان براين متحمسًا أكثر مما كان يتوقع، وكان يستمتع بإخبار أولاده وأصدقائه عن منزله الصغير الجديد، ومشهد المنحدرات في منتجع هيفينلي سكي، ومنظر الطرف الجنوبي للبحيرة. وقد بدأ حتى يتحدث عنه بشكل ترويجي.
«وفقًا للوقت من العام الذي تقرر فيه زيارتنا، قد نكون نتزلج على المنحدرات، أو في بداية بطولة في لعب الجولف، أو نصطاد في بحيرة تاهو التي تبعد عن المنزل اثنتي عشرة دقيقة سيرًا على الأقدام.»
وعند هبوب أول عاصفة ثلجية على المنطقة في نوفمبر، بدأ براين وليزلي بحماس أول موسم حافل بالتزلج. لكنه سيكون قصيرًا ومؤلمًا.
إصابة
كان براين يتمتع في سن الثالثة والخمسين بصحة أفضل من الشخص العادي في مثل سنه، ولم يكن ذلك بالأمر الغريب؛ إذ كان يدير — لأكثر من خمسة عشر عامًا — شركة تعمل في مجال الأجهزة الرياضية. ومع هذا فلم يكن قضاء أي مقدار من الوقت على الدراجة الثابتة أو البساط المتحرك، استعدادًا كافيًا للجهد المفاجئ والعنيف في ممارسة التزلج.
وبعد ثلاثة أيام متتابعة على منحدرات الجبال، أصبح براين مهيأ ليسقط سقطة كبرى. فعلى الرغم من أنه كان يستعيد بسرعة لياقته وثقته بنفسه كمتزلج، فقد كان مرهقًا ومتألمًا أكثر مما كان عليه من سنين مضت.
وبينما كان متوجهًا إلى أسفل المنحدر في جولته الأخيرة في اليوم الرابع، فوجئ بخلو الجبل تقريبًا من المتزلجين. فقرر أن يستمتع لبعض الوقت. فأقدم على ترك التزلج فوق الأخاديد التي ذاب فيها الثلج على المنحدر الرئيسي المتوجه نحو النُّزل، وآثر بدلًا من ذلك التزلج على المنحدر المتعرج المتجمد بطريقة خادعة الذي يُستخدم في السباقات المحلية للتزلج.
وعندما أصبح في منتصف التل، شعر براين بألم في ساقيه، ووجد نفسه يكافح للمحافظة على توازنه عند الدوران حول الأعلام. وعندما تأمل الوضع، أدرك أنه كان يجب عليه أن يخرج عن الطريق ويتجه ببطء نحو أسفل الجبل. لكنه كان يعلم أن النُّزل يقع أسفل الجبل مباشرة، وأنه على الأقل قد يشاهده بعض الناس الذين يحتسون الشكولاتة الساخنة ويرون تلك اللحظة الأوليمبية الخاصة، فقرر الاستمرار في هذه المغامرة.
وعندما اقترب من العلم قبل الأخير، انزلقت الزلاجة اليمنى من تحت قدمه وبدأ تفاعل متسلسل من اختلال التوازن، تبعته محاولات لاستعادة الاتزان، تبعها سقوط حاد جدًّا. وقبل أن يعرف ماذا يحدث، سرعان ما وجد براين نفسه ينزلق إلى أسفل الجبل ورأسه لأسفل، على زلاجة واحدة، ودون عصوَي تزلج، ونظارته الواقية ملتوية رأسيًّا على وجهه.
والأهم من ذلك أن ركبته كانت تشتعل من الألم.
ضجر واكتئاب
عندما انتهى الأطباء من معالجته، ترك براين المستشفى العام على عكازين، وفي بادئ الأمر شعر بالارتياح عندما أكدوا له أنه كان محظوظًا لعدم إصابته بإصابة خطيرة قد تتطلب إجراء عملية جراحية. لكن عندما أخبروه أنه سيرقد لعدة أسابيع، وأن موسم التزلج قد انتهى بالنسبة إليه، بدأ يساوره الضيق.
لم يكن ما يضايق براين هو أنه سيفتقد التزلج — مع أنه سيفتقده بالتأكيد — أو أنه لن يجد ما يقوم بعمله. فقد كانت فكرة الراحة البدنية تروقه، وكانت لديه كمية كبيرة من الكتب التي كان ينوي منذ عدة سنوات قراءتها. لكن أكثر ما كان يخيفه هو وقت الفراغ؛ لأنه كان يعلم أن ذلك سيغريه بالتفكير مرة أخرى في العمل.
وفي أول أسبوعين بذل أقصى جهده لكي يُسلي نفسه ويشعر بالرضا.
كان وجود ليزلي الحسنة الوحيدة في كل ذلك. فقد استطاع الزوجان أن يقضيا مزيدًا من الوقت في الحديث، ومشاهدة الأفلام، وقضاء مزيد من الوقت معًا أكثر مما كانا عليه منذ ولادة أول طفل لهما.
ولكن في النهاية، وجد براين نفسه يعاني حالة متوسطة من الاكتئاب. وعزا ذلك أول الأمر إلى نقص النشاط البدني. ومع أنه لم يكن ممن يمارسون ألعاب القوى، فقد تعود براين على ممارسة بعض التمرينات بانتظام، وللمرة الأولى في حياته لم يكن قادرًا على ممارسة أي تمرينات على الإطلاق لفترة طويلة.
ثم جاء دور الطقس. فقد كان هذا الوقت واحدًا من أكثر مواسم سقوط الثلج المبكرة كثافة خلال الخمسين عامًا الأخيرة، مما أبقى الرئيس التنفيذي قعيد المنزل. وفي إحدى المرات ولمدة خمسة أيام متواصلة لم يتمكن من قضاء أكثر من خمس عشرة دقيقة متواصلة في الخارج.
ولكن توصل براين في النهاية إلى استنتاج مثير للسخرية، وهو أن مشكلته الكبرى كانت حاجته إلى المشكلات. فقد كان يتوق إلى أحد التحديات الخاصة بالعمل ليعمل على حلها.
بالطبع كان يعرف أن ليزلي لن تتحمل بأي حال عودة مفاجئة إلى منطقة خليج سان فرانسيسكو وإلى عالم المؤسسات في أمريكا، وكان محقًّا. ولم يستطع مجرد التلميح إلى هذه الفكرة. لكن كان عليه أن يجد شيئًا واقعيًّا ليفعله؛ لأنه إن لم يفعل ذلك، فسيصاب بالجنون من طول مكوثه بالمنزل كالسجناء. ومع أن مسكنه لم يكن يشبه السجن بحالٍ من الأحوال، فقد كان يحلو له أن يقول لزوجته: «السجن سجن حتى لو كان به تليفزيون متصل بالقمر الصناعي ونافذة تطل على بحيرة تاهو.»
إجازة
وفي أول يوم له دون عكازين، تحسن الطقس على نحو غير متوقع؛ لذلك انتهز براين وليزلي الفرصة وذهبا في نزهة طويلة بالسيارة. وعندما كانا في النصف الثاني من الطريق الفرعي حول البحيرة، قرر الزوجان أن يشتريا شيئًا للعشاء في طريق العودة إلى المنزل، وكالمعتاد كانت ليزلي هي من فاز بتقرير ما سيطلبانه. واختارت الطعام الإيطالي، وهو قرار سرعان ما ندمت عليه.
فقد قررا أن يذهبا إلى مطعم «جين وجو»، وهو مطعم بسيط يقدم الوجبات الإيطالية، ويبعد بضعة شوارع عن الطريق السريع بالقرب من منزلهما. اتصلت ليزلي وطلبت الطعام حتى يكون جاهزًا عندما يصلان.
وفي واقع الأمر لم يكن براين وليزلي قد ذهبا إلى هذا المطعم من قبل، رغم أنهما طلبا منه توصيل البيتزا أو المكرونة إلى منزلهما بضع مرات أثناء الفترة التي كان يتعافى فيها براين مؤخرًا. وكان يبدو أن المطعم يفتح في فترتَي العصر والمساء فقط.
كان المبنى نفسه مغطى بالجص الأبيض، وله سقف مغطى بالقرميد الأحمر على الطراز الإسباني. وكان يزينه من الخارج رسوم الكروم والأعلام الإيطالية، مما يعطيه شكلًا قديمًا، إن لم يكن باليًا. لكن الطعام كان جيدًا جدًّا، وكان براين وليزلي دائمًا يفضلان المطاعم البسيطة التي تقدم كميات وفيرة من الأطعمة، على المطاعم الكبيرة الفاخرة التي تخرج منها وأنت جائع.
وبعد أن أوقفا سيارتهما الإكسبلورر طراز ٩٣ في ساحة الانتظار، لاحظا نافذة خدمة سيارات في جانب المبنى، وهو شيء لم يره أيٌّ منهما من قبل في المطاعم الإيطالية. ولكنهما قررا أن يجرباه.
وبعد أن انتظرا هنيهة أمام النافذة، اتضح لبراين عدم وجود أحد لخدمتهما. ولاحظ عندما تطلع عبر هذه النافذة إلى داخل المطعم عدم وجود أي شخص بالداخل. واتفق براين وليزلي على أن الوقت ما زال مبكرًا على زحام تناول العشاء، وأن المكان ربما يكتظ بالناس في وقت لاحق من المساء عندما يأتي المتزلجون الجائعون في طريق عودتهم إلى منازلهم بعد يوم كامل من التزلج على المنحدرات.
«يذكرني ذلك بعملي الأول في إجازة الصيف خلال دراستي الثانوية.» كانت نبرة صوت براين تكشف عن حنين وأسى على حد سواء.
«مطعم مستر هامبرجر؟»
لكن براين صحح خطأها. فقال: «تقصدين كابتن هامبرجر.»
«لقد كان مكانًا سيئًا.»
«نعم، ولكن العمل هناك كان تجربة ناجحة إلى حد كبير.»
«ألم تتعرض للسرقة مرة؟»
«بل مرتين. ولهذا تركت العمل وعملت في وردية ليلية في مصنع لشرائح البطاطس. قد يبدو ذلك سيئًا في ظاهره، لكن واقعه كان أسوأ.»
ضحكت ليزلي على هذه المزحة المألوفة.
واصل براين كلامه. فقال: «كان ذلك صيفًا طويلًا وباعثًا على التعاسة.»
«ولكن الأمور صارت إلى الأفضل.»
عبس وجه براين بينما كانت زوجته توضح ما تقول.
«إذ كان ذلك سببًا في أن تحصل على وظيفة نادل في مطعم كاروز، وهي أفضل وظيفة حصلت عليها في حياتك؛ لأنك قابلتني هناك.»
فكر بريان للحظة. ثم قال: «لا، أنا متأكد من أن كابتن هامبرجر كان أفضل.»
وعندما لكزته ليزلي في ذراعه، قطع خيط ذكرياتهما شخص ما جاء أخيرًا إلى النافذة.
تفاجأ براين عندما رأى أنه ليس صبيًّا وإنما رجل في منتصف الأربعينيات من عمره. وكان يلبس في إصبعه خاتم زواج، ويحمل وشمًا على ذراعه، ويرتدي قميصًا مطبوعًا عليه صورة لرجلين أصلعين يبتسمان، فاستنتج براين أنهما جين وجو. وكان مطبوعًا على القميص باللونين الأخضر والأحمر الآتي: «بيتزا ومكرونة. هنا وهناك وفي كل مكان.»
اندهش براين وتساءل في نفسه: ماذا يفعل رجل متزوج في منتصف العمر في مكان كهذا؟ لم يستطع منع نفسه من التعجب.
ثم سأله الرجل بنبرة جافة: «هل يمكنني مساعدتكما؟»
«نعم، لقد طلبنا طعامًا. باسم ليزلي.»
ودون أن ينطق الرجل بكلمة واحدة، تراجع إلى داخل المبنى ثم عاد بعد بضع لحظات ومعه كيس وعلبة بيتزا صغيرة. وقال: «تكلفة ذلك ١٥ دولارًا و٨٠ سنتًا.»
وبعد أن حصلا على الطعام من خلال النافذة، أعطى براين الرجل ورقة من فئة العشرين دولار، وقال: «يمكنك الاحتفاظ بالباقي.»
قال الرجل: «شكرًا.» وبدا الرد معبرًا — نوعًا ما — عن الامتنان.
وبعد أربع دقائق كان الزوجان المتقاعدان قد وصلا إلى منزلهما الصغير وبدآ في إخراج الطعام من الحقائب عندما أطلقت ليزلي صيحة تذمر.
«اللعنة، لقد نسوا طبق السلطة الخاص بي مرة أخرى.»
أخذ براين نفسًا. ثم قال: «سأذهب وأحضره.»
«أوه، لا عليك. إنه ليس بالأمر المهم.» لكن قولها لم يكن مقنعًا.
«لا، فهذه المرة الثانية التي يفعلون فيها ذلك. سيستغرق الأمر عشر دقائق.»
الدخول إلى المطعم
عندما وصل براين إلى المطعم، قرر أن يترك السيارة ويتجه إلى الداخل.
كان المكان خاليًا، باستثناء طاولة واحدة في ركن المطعم كان يجلس عليها اثنان من الزبائن يتناولان طعام العشاء مبكرًا. توجَّه براين إلى طاولة طلب الطعام، وانتظر مجيء أي شخص ليساعده، لكن لم يظهر أحد.
وبعد أن أجرى مسحًا سريعًا للمكان خلف الطاولة اتضح أن مطعم جين وجو مكانٌ بالٍ ومهجور أيضًا. لا بد أن عمر آلة تسجيل المدفوعات النقدية خمسة وعشرون عامًا. وكانت السجادة بالية في المناطق التي تطؤها الأقدام ومهترئة عند الأطراف. وكانت هناك لافتة مكتوبة بخط اليد وملصقة على الطاولة تقول: «مطلوب عمال في الوظائف الآتية: طباخ، وسائق توصيل طلبات، ومدير للعمل خلال عطلة نهاية الأسبوع». لكن براين لاحظ أن الكلمة الأخيرة بها خطأ هجائي وقد ابتسم لذلك.
أدرك براين أن المطعم الذي كان يومًا ما مطعمًا صغيرًا نابضًا بالحياة، أصبح الآن يناضل من أجل البقاء، وربما لم ينقذه إلا موقعه المناسب بجانب الطريق السريع.
وفي النهاية ظهر موظف من أصول لاتينية صغير السن. وقال: «هل يمكنني مساعدتك؟» وحيا براين بنبرة أكثر حماسًا من الشخص الذي قابله في نافذة خدمة السيارات.
«نعم. لقد حصلت لتوِّي على بعض الطعام من نافذة خدمة السيارات، ويبدو أننا لم نحصل على أحد أطباق السلطة.»
وبعد أن هز رأسه معتذرًا دون أن يقول شيئًا لبراين، استدار ونادى قائلًا: «كارل!»
وبعد لحظات ظهر الشخص الذي كان في نافذة خدمة السيارات. ثم قال الموظف الذي من أصول لاتينية: «لم يحصل هذا الرجل على أحد أطباق السلطة التي طلبها.»
ودون أن ينطق بأي كلمة، اختفى كارل للحظات ثم عاد قائلًا: «هل كان هذا الطلب باسم شارون؟»
ولكن براين أوضح الأمر بصبر قائلًا: «لا لقد كان باسم ليزلي. وكنا هنا منذ خمس عشرة دقيقة فقط.»
هنا تمتم الموظف بشيء غير مسموع، ويبدو أنه يشبه: «سأتأكد ثم أعود حالًا»، ثم اختفى.
وفي تلك اللحظة انفتح الباب الأمامي والتفت براين ليجد رجلًا متقدمًا في السن يبدو شكله إلى حد ما مألوفًا.
عندما عاد رجل نافذة خدمة السيارات، كان وجهه عابسًا. وقال: «لا أجد أي طلب باسم ليزلي. هل أنت متأكد …»
وقبل أن يتمكن من تكملة حديثه، قاطعه براين عابثًا، ولكن مع تلميح بسيط ساخر إلى نفاد صبره. وقال: «نعم متأكد. هل تظن أنني عدت إلى هنا مرة أخرى لمجرد أن أحتال عليك في بعض السلطة؟ إن تلك هي المرة الثانية التي يحدث فيها ذلك.»
وعندئذٍ قاطع الرجل الواقف خلف براين الحوار. وقال: «دعني أتولَّ الأمر بدلًا منك يا سيدي.»
ارتبك براين والتفت ليرى من يتحدث إليه، وقبل أن يقول شيئًا، واصل الرجل حديثه قائلًا: «أنا مالك هذا المكان.»
ثم استدار للموظف. وقال له: «كارل، اذهب واصنع طبق سلطة كبيرًا آخر. وأحضر كوبونًا لبيتزا مجانية.»
وعندما مد الرجل يده للمصافحة، كان يشرح لبراين ما يحدث: «متأسفون لما حدث. لدينا نقص في الأيدي العاملة في الوقت الحالي.»
قدَّر براين عمر الرجل بنحو خمسة وستين عامًا، على الرغم من صعوبة تقدير ذلك، إذ كانت بشرته الداكنة خشنة ومجعدة كما لو كان قد أمضى وقتًا طويلًا في الشمس. وهنا اكتشف براين لماذا كان شكل هذا الرجل يبدو مألوفًا. فقد كان نسخة أكبر في السن من أحد الرجلين اللذين كانا مطبوعين على القميص.
ثم سأل براين بلطف: «لا بد أنك إما جين أو جو؟»
فأومأ الرجل برأسه. وقال: «أنا جو.»
ولسببٍ ما كان على براين طرح السؤال التالي: «وأين جين؟»
«إنه في مكان ما في فلوريدا، على ما أعتقد. فقد خرج من الشراكة منذ تسع عشرة سنة، لكنني قررت ألا أغير الاسم. إذن لقد حدثت هذه المشكلة معك من قبل، أليس كذلك؟»
عندئذٍ تردد براين، فلم يرغب في أن يسبب مشكلة لأي شخص أو ينتقد عمل هذا الرجل. فقال: «بلى، ربما مرة واحدة. ولكن ربما كان الخطأ من جانبنا.»
فقال جو وهو يهز رأسه: «لا. عادةً يكون الخطأ من جانبنا.»
شعر براين بالأسى تجاه الرجل الكبير. وقرر أن يُجري حوارًا خفيفًا: «منذ متى وأنت تمتلك هذا المكان يا جو؟»
«في فبراير أكون قد أتممت اثنين وثلاثين عامًا. لقد كان المطعم فاخرًا في السبعينيات.» وبدا على الرجل الإحراج من الحالة التي أصبح عليها مطعمه. فقال: «ولكن بعد شيوع نوادي القمار وغيرها، اضطررنا إلى إجراء بعض التغييرات. فلم نعد نقدم وجبات غداء. وأصبحنا نقدم وجبات عشاء فقط. ونحن نخدم في الوقت الحالي مجموعة من الزبائن الأكثر تحررًا. المتزلجين والمسافرين وراكبي الدراجات، كما تعرف.»
أومأ براين برأسه.
وفي هذه اللحظة ظهر كارل من خلف الطاولة.
«تفضل. وأعتذر عن ذلك.» وهذه المرة كانت هناك لمحة بسيطة من الاهتمام يمكن ملاحظتها بالكاد في صوته، أرجعها براين إلى وجود رئيسه في العمل.
ثم قال براين لكارل وجو: «أشكركما. أنا متأكد من أنني سأراكما مرة أخرى.»
ابتسم الرجل العجوز. وقال: «آمل ذلك. وسوف نقوم بتجهيز طلبك بطريقة صحيحة في المرة القادمة.»
وصافح براين الرجل مرة أخرى وقال: «لا عليك.» ثم غادر.
وخلال رحلة العودة القصيرة إلى المنزل، لم يستطع براين التوقف عن التفكير في المطعم، وماذا سيكون شعوره إذا حل محل جو أو كارل أو أي عامل آخر ممن يعملون هناك وتبدو عليهم اللامبالاة.
قال في نفسه: تُرى ما الذي يدفع هؤلاء للخروج من بيوتهم كل صباح؟
الجرعة الأولى
في وقت لاحق من تلك الليلة خرج براين لشراء بعض البقالة. والآن بعد أن تخلص من عكازيه، أصبح يرحب بالقيام بأي رحلة بسيطة.
وعندما غادر المتجر، وقعت عيناه على الصفحة الأولى لصحيفة «ذا وول ستريت جورنال» على حامل الصحف. وبعد مطالعة العناوين الرئيسية، قرر مترددًا أن يشتري نسخة ليأخذها إلى المنزل، مدركًا تمامًا أنه يلعب بالنار، فقد كان متأكدًا من أن ليزلي لن تكون سعيدة لاستسلامه لما تطلق عليه «إدمان العمل».
قبل أن يأخذ براين الجريدة إلى آلة تسجيل المدفوعات النقدية، وجد نفسه دون أن يدري في ممر المجلات، يشتري نسخًا من مجلات «بيزنس ويك» و«فورتشن» و«فاست كامباني»، مما زاد من مجموعة المطبوعات الممنوعة لديه.
وعندما أوقف براين سيارته بجوار منزله وضع المجلات والصحيفة بعناية في أسفل حقيبة البقالة حتى لا تراها ليزلي. وبعد أن خلدت إلى النوم، أخرج براين ما أخفاه وذهب إلى مقعده المفضل، متلهفًا لإشباع نهمه لأخبار عالم الأعمال.
وبعد أقل من نصف ساعة مع صحيفة «ذا وول ستريت جورنال»، كان براين مستعدًّا لأن يضعها جانبًا ويخلد إلى النوم، فقد شعر بالإحباط لأنه لم يجنِ من تدبيره متعة أكبر. وعندئذٍ رأى مقالًا صغيرًا في الصفحة الثالثة في قسم السوق. كان عنوانه: «شركة فليكس برو التابعة لنايكي بصدد خفض العمالة وتقليل الإنتاج.»
قرأ براين تفاصيل الخبر الذي تناول قرار شركة نايكي بتسريح أكثر من خمسين فردًا من العاملين بالشركة التي اشترتها، ووقف إنتاج حوالي نصف المنتجات التي تصنعها. وفي نهاية المقال ذكرت الصحيفة أن «الشائعات تقول إن منافسي فليكس برو في طريقهم لاتخاذ خطوات مشابهة.» ومع أن المقال لم يذكر شركة جيه إم جيه بالاسم، فقد عرف براين أن شركته السابقة واحدة من هؤلاء المنافسين.
ولمَّا كان يعرف أنه لن يستطيع النوم، وأنه قد انتهك جوهر الاتفاق الذي أبرمه مع زوجته، ذهب براين إلى جهاز الكمبيوتر. ونحى جانبًا شعوره بالذنب، وفتح الموقع الجديد لشركته السابقة على الإنترنت، وهناك عرف أن قسمَي المبيعات والتسويق يجري نقلهما من مانتيكا إلى مقر الشركة الأم الرئيسي خارج شيكاغو.
استشاط براين غضبًا.
وأرسل رسالة بالبريد الإلكتروني لريك يشرح فيها أن هذه القرارات تنتهك جوهر الاتفاق الذي عقده مع شركة الأجهزة الطبية. وأرسل رسالتين أخريين لعضوَي فريقه التنفيذي السابق، يخبرهما فيها بمدى انزعاجه لنقل مكان عملهما.
في تلك اللحظة كان الأدرينالين يتدفق في دمه، فأخذ يقلب صفحات المجلات التي أتى بها بعنف، وهو يقرأ بنهم أي شيء له علاقة بعالم الأعمال. ومع أن تقاعده لم يمر عليه سوى ثمانية أسابيع فقط، فقد شعر أنها سنوات.
ثم غلبه النوم في النهاية وهو على مقعده في الرابعة صباحًا، وكانت مجلاته مبعثرة بجواره على الأرض. وعندما استيقظت ليزلي بعد بضع ساعات، رأته في ذلك الوضع، وكأنه سكير تناثرت حوله الزجاجات الفارغة.
ثم دق جرس الهاتف، وبدأ براين يستيقظ. وقبل أن يعي ما يحدث، كانت ليزلي تعطيه سماعة الهاتف.
«إنه ريك سيمبسون.» لم تكن ليزلي بحاجة إلى قول المزيد. فقد كانت تعبيرات وجهها تُظهر لبراين تمامًا ما تشعر به.
وأدمن ثانيةً …
كان اتصال ريك الهاتفي ردًّا على رسالة براين الإلكترونية التي أرسلها في وقت متأخر من الليل.
«مرحبًا يا صديقي. كيف حال التقاعد معك؟»
لم يرغب براين أن يدخل في تفاصيل. فردَّ قائلًا: «بخير، شكرًا. أعتقد أنك قد تلقيت رسالتي.» لم يكن ذلك سؤالًا.
«نعم تلقيتها. ماذا كنت تفعل في الثانية والربع صباحًا؟»
«ريك، ماذا يحدث هناك بالله عليك؟ أليس من المفترض ألا ينقلوا الموظفين خارج مانتيكا؟ هذا جزء من الاتفاق.»
«حسنًا، ربما ليس هذا صحيحًا. فقد قالوا إنهم لن يغلقوا المصنع هناك، وليست لديهم نية في نقل الموظفين. لكن هذا أمر طبيعي عند شراء الشركات. وأنت تعرف ذلك.»
«نعم، ولكنني أخبرت الموظفين أنه لا داعي للقلق على وظائفهم.»
كان ريك يظن أن مشاعر براين سببها صراعه مع حالة انتقاله للتقاعد، وليس فقط الأحداث التي تمر بها شركة جيه إم جيه. لذا قرر أن يكون لطيفًا.
«اسمع يا براين. إن جميع المتضررين سيحصلون على تعويضات مجزية. كان هذا جزءًا من الاتفاق الذي بذلت مجهودًا رائعًا في التفاوض عليه. وبالمقارنة بما تفعله نايكي في شركة فليكس برو، يعتبر هذا الأمر هينًا.»
ظل براين صامتًا لحظة.
استمر ريك في الحديث. وأضاف: «أعرف كم كنت مرتبطًا بهذا المكان، لكنك حصلت على صفقة عادلة لشركة جيه إم جيه، وحان الوقت يا صديقي لكي تصرف عن ذهنك هذا الأمر.»
رد براين: «ربما.» وأخذ نفسًا عميقًا محاولًا أن يُقنع نفسه أن ريك على حق. لكنه لم يستطع. لذا قال: «إنهم يُلقون سنوات من الثقة والولاء في القمامة. إنهم لا يدركون أن هذا هو ما دفعوا ثمنه في تلك الصفقة. لقد أخبرتك من البداية أن علينا أن نجد مشتريًا يفهمنا. ربما استطعنا أن نحصل على عرض أفضل.»
ما كان ينبغي أن يقول ريك شيئًا، ولكنه — كعادته — ما كان ليدع فرصة للجدال، خاصةً عندما توضع مهاراته المهنية موضع الشك: «لا لقد اشتروا مصنعًا وعلامة تجارية وبعض براءات الاختراع وقائمة عملاء. ولم تزل لديهم تلك الأشياء. وصدقني. لم تكن لتحصل من غيرهم على أكثر مما حصلت عليه منهم؛ لأن تلك الأمور العاطفية لا تؤثر في السعر.»
هنا انهمك براين تمامًا في الحوار بل قال غاضبًا: «إنك لا تفهم ما أقصد، أليس كذلك؟ إن الثقافة التي أرسينا قواعدها قد أسهمت في نجاحنا أكثر من أي شيء. براءات الاختراع؟ المنتجات؟ العلامة التجارية؟ ما كل ذلك إلا نتاجًا مباشرًا لجهد مجموعة من الناس أحبوا عملهم.»
فأجاب ريك معارضًا بنبرة بدأ يشوبها الغرور: «لا. لقد أحب هؤلاء الناس عملهم لأنهم كانوا يكسبون من ورائه. وكانوا يكسبون بسبب جودة منتجاتكم التي كانت تُعرض في السوق المناسب في الوقت المناسب. أما المسائل الأخرى فليست إلا ادعاء للحكمة بأثر رجعي.»
للحظة فكر براين في أن يغلق الخط في وجه ريك، ولحسن الحظ كانت الصفارة التي جاءت على الخط سببًا لينهي المكالمة بطريقة أكثر تحضرًا. فقال: «إنه جرس الخط الثاني. لا بد أن أنهي المكالمة.»
وقبل أن يقول ريك «وأنا أيضًا»، كان براين قد فتح الخط الثاني على المكالمة القادمة.
كان المتحدث هو روب، رئيس قسم التسويق السابق في عهده. كان يتصل ليشكره على الرسالة، وليؤكد له أنه لا يشعر بالاستياء بسبب التغيير المبكر عن المتوقع في وظيفته.
«لقد عرفنا جميعًا أن ذلك سيحدث عاجلًا أو آجلًا. وترك كثير من الموظفين المكان بالفعل، وحصل معظمهم على عروض عمل أخرى، كما حدث معي. وبعد الحصول على مكافأة نهاية الخدمة التي تفاوضتَ من أجل أن نحصل عليها، فإنني راضٍ تمامًا عن كل شيء. وعلى أي حال ليست الأمور هنا كما كانت عليه.»
شعر براين بالراحة والحسرة معًا. وقال: «ماذا عن العاملين في المصنع؟»
«سيظل قسم التصنيع كما هو؛ لذلك سيكونون بخير. لكن الوضع لن يكون ممتعًا بالنسبة إليهم كما كان بالطبع. وقد يترك البعض المكان بسبب عدم الرضا عن التغييرات. ولكن وظائفهم آمنة نسبيًّا. بل إن هناك شائعات عن التوسع.»
بعد انتهاء المكالمة، تناول براين طعام الإفطار مع ليزلي، واعترف لها بالتفاصيل المخزية لما فعله في الليلة السابقة. فأقنعته أن يعاود الاتصال بريك مرة أخرى ويصلح ما فسد بينهما.
كان ريك كعادته مرحًا ولم يتأثر بما حدث، ولكنه كان فظًّا بعض الشيء.
وبعد أن تقبل اعتذار براين، قدَّم اقتراحًا. فقال: «أتعرف، ربما يمكنك أن تصبح مستشارًا أو ما إلى ذلك هناك.»
ارتبك براين. وسأل: «لماذا تقول ذلك؟»
«لا أعرف. ربما يمكنك استغلال اهتمامك برفع الروح المعنوية للآخرين استغلالًا جيدًا. أعتقد أنك قد تستمتع بشيء كهذا. فأنت لا تهتم بالأرقام إلا قليلًا. وتهتم بالأشخاص كثيرًا.»
ومع أنه كان يعلم أن ريك يحاول أن يكون لطيفًا، فقد شعر براين بالإحباط مرة أخرى. فأخذ نفسًا. وقال: «ريك، هل تعتقد أنني كنت مستمتعًا وأنا أدير شركة جيه إم جيه؟»
حاول ريك أن يتراجع عن موقفه: «نعم، بالتأكيد، إن ما أعتقده فقط هو أن عاطفتك تجاه مرءوسيك ربما تظهر قيمتها في مجال آخر من الأعمال. هذا كل ما في الأمر.»
أجبر براين نفسه على أن يكون هادئًا. وتكلم ببطء. فقال: «حسنًا ريك. سأشرح لك الأمر مرة أخرى. إن اهتمامي بالناس هو السبب وراء حبي لمنصب الرئيس التنفيذي. هذا ما جعلني رئيسًا تنفيذيًّا جيدًا.»
ولمدة خمس ثوانٍ، ساد المكالمة صمت ثقيل.
تكلم ريك في النهاية، ولكن بطريقة بدا عليها عدم الاقتناع. وقال: «ربما تكون على حق يا براين. وربما أكون مخطئًا. من يدري؟ فبعد عامين من الآن قد نتذكر الماضي ونجد أن شركة جيه إم جيه قد انهارت بسبب أن الموظفين لم يعودوا يشعرون بالرضا عن أنفسهم وعن وظائفهم.»
ابتسم براين عندما سأل السؤال الآتي: «لكنك لا تعتقد ذلك، أليس كذلك؟»
ضحك ريك بخجل. وقال: «لا أعتقد ذلك. ولكنني قد أكون أحمق فعلًا في بعض الأحيان.»
ضحك براين واعتذر مرة أخرى عن هجومه اللاذع، وشكر صديقه اللدود على الوقت الذي أضاعه في تحمل إحباط رئيس تنفيذي عجوز متقاعد.
وعندما انتهت المكالمة ساور براين شعور غريب وأصر أن يثبت لزميله السابق أنه كان مخطئًا. لم يستطع أن يتخيل كيف سينجح في ذلك، ولم يكن يعلم ما تُخبئه له الأشهر القليلة القادمة.
وازداد الأمر سوءًا
في اليوم التالي وعد براين زوجته أنه سوف يجدد التزامه بشروط التقاعد، لمدة عام على الأقل. ثم ذهب إلى الطبيب.
لم تكن ساقه قد تعافت على النحو الذي يرجوه، وكان على براين أن يتجنب ممارسة أي تمرينات رياضية لستة أسابيع أخرى. وبالتأكيد كان غير مسموح له بالتزلج أو السير لمسافات طويلة أو حتى ركوب الدراجة الثابتة. كان عليه ألا يمارس أي تمرينات رياضية سوى المشي، إلا أنه كان سعيدًا لتخلصه من عكازيه.
وبالإضافة إلى ما يعانيه من إحباط، بدأ براين في الشعور بما يشبه نوبات الجنون.
بعد ذلك حدث الأمر بالفعل. فذات يوم عندما كانت ليزلي تقوم بالتسوق، أخذ براين الهاتف وأجرى اتصالًا سيغير مجرى حياته، وحياة عائلته، على نحو لم يكن يتصوره أي منهم.
الاتصال بجو
رد على الهاتف صوت شبابي لم يعرفه براين. وقال: «مطعم جين وجو.»
«هل جو موجود؟»
«لا، لم أره اليوم. أعتقد أنه لا يأتي أيام الاثنين كثيرًا. ولكن تستطيع الاتصال به غدًا.»
«مهلًا. هل هناك رقم أستطيع أن أتصل به عليه؟»
«بالتأكيد. أمهلني لحظة واحدة. ها هو.» ثم أعطى براين الرقم. وقال: «هل هناك أي خدمة يمكنني القيام بها يا رجل؟ هل ترغب في بعض الطعام؟»
اندهش براين من النبرة المبتهجة والأسلوب غير المتكلف بعض الشيء، وقال: «لا شكرًا. هل أنت جديد في هذا المكان؟»
«نعم إنه أول يوم لي. كيف عرفت؟»
«أنا فقط لا أتذكرك، هذا كل ما في الأمر. على أي حال، شكرًا على المعلومة.»
ثم اتصل براين برقم جو وترك رسالة.
وفي وقت متأخر من ذلك المساء بينما كان ليزلي وبراين يشاهدان فيلم «الحياة حلوة» (إت إيز أ وندرفول لايف) للمرة الخامسة والعشرين خلال فترة زواجهما التي استمرت ثمانية وعشرين عامًا، دق جرس الهاتف. ولأن ليزلي أخف في حركتها من زوجها المصاب، ردت هي على الهاتف.
«نعم، من المتحدث؟ بالتأكيد.»
بنظرة متحيرة على وجهها، قالت: «شخص ما يدعى جو كولومبانو يريد التحدث إليك ردًّا على مكالمتك الهاتفية له؟»
حاول براين أن يبدو غير مكترث، وكأنه غير مهتم بجو كولومبانو أو باتصاله. فردَّ عليها دون أي انفعال واضح: «حسنًا.»
ثم سألته: «من جو كولومبانو هذا؟»
لم يرغب براين في أن يكذب عليها، ولكنه لم يكن مستعدًّا أن يخبرها بالموضوع بأكمله. فردَّ قائلًا: «إنه رجل عجوز لطيف قابلته في المطعم الإيطالي. أعتقد أنني أستطيع مساعدته في مشكلة يواجهها.» ثم أخذ منها سماعة الهاتف وتوجه إلى إحدى غرف النوم.
فابتسمت وكأنها تقول له: «حسنًا هذا لطف منك»، ثم سألته قائلة: «هل تريد أن أوقف الفيلم حتى تعود؟»
«لا، لن يستغرق الأمر مني أكثر من دقيقة، وأعتقد أنني أتذكر ما حدث.»
فابتسمت مرة أخرى وعادت لمشاهدة الفيلم.
المقابلة
وفي الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، ارتدى براين بنطلونًا من قماش الكاكي وسترة أنيقة وقاد سيارته متجهًا إلى مطعم جين وجو. لم يكن في ساحة الانتظار سوى سيارة واحدة فقط؛ شاحنة تويوتا قديمة مزودة بكابينة لرحلات التخييم في الخلف، وعلى مصدها الخلفي ملصق يقول: «حافظوا على بحيرة تاهو نقية.»
عندما مر براين بالباب الرئيسي، رأى جو جالسًا على طاولة، يراجع بعض الفواتير، ويحتسي القهوة.
«معذرة؟»
التفت الرجل كبير السن واندهش من الضيف. فقال: «مرحبًا بك. أنت الشخص الذي لم يحصل على طبق السلطة، أليس كذلك؟»
فأومأ براين برأسه.
«ماذا أستطيع أن أقدم لك؟ للأسف لن نفتح قبل …»
هنا، قاطع براين محدثه ذا الملامح المجعدة بلطف. وقال: «أنا براين بايلي. لقد تحدثت إليك على الهاتف ليلة أمس.»
نظر جو إليه متحيرًا. وقال: «أكان هذا أنت؟»
«نعم.»
«أعتقد أنني كنت أنتظر شيئًا أو شخصًا مختلفًا.»
جمع جو الأوراق من منتصف الطاولة، ثم توقف لحظة ليستجمع ذهنه. وقال: «تفضل بالجلوس يا براين.»
أخرج براين سيرته الذاتية من حافظة معه وسلمها لجو، الذي بدأ يضحك بعد أن قرأها لبضع ثوانٍ وعلى وجهه علامات الحيرة.
«ما هذا، أهو نوع من المزاح؟ ما الذي أستطيع أن أقدمه لك يا سيد بايلي؟»
«هذه ليست مزحة يا جو. إنني هنا لكي أتقدم لوظيفة المدير المسئول في عطلة نهاية الأسبوع.»
تطلع جو إلى بيانات براين ثانية. وقال: «أهذا كله صحيح؟»
أومأ براين بالإيجاب، وبدت عليه الجدية.
«حسنًا. أعتقد أنه يجب عليَّ أن أطرح هذا السؤال. لماذا تتقدم لطلب وظيفة هنا؟»
وقبل أن يرد براين على السؤال، استطرد جو، وكأنه اكتشف شيئًا ما.
«هل خرجت من السجن لتوِّك أو ما شابه ذلك؟ أو من مصحة نفسية؟»
ابتسم براين وهز رأسه قائلًا: «لا يا سيدي. أنا فقط أتعافى من حادثة تزلج وأحاول التمتع بفترة التقاعد.»
«وكيف تتناسب وظيفة مدير مسئول في عطلة نهاية الأسبوع في مطعم جين وجو مع رئيس تنفيذي متقاعد؟» نطق جو هذه الكلمات كما لو كان غير مكترث بها، أو أنه لم يتعود على استخدامها مرات كثيرة من قبل. ولكن براين رجح أن السبب الحقيقي هو السبب الثاني.
«حسنًا، أظنها لا تتناسب. ولكنه أمر أود أن أقوم به.»
صمت جو هنيهة ليدير الأمر في ذهنه، وظل يحدق في السيرة الذاتية، ثم بدأ يهز رأسه. وقال: «لا، أنا متأسف. لا بد أن هذا مجرد مزحة.» ثم أعطى السيرة الذاتية لبراين عبر الطاولة.
لم يأخذها براين؛ لذلك استطرد جو، وهو مستاء نوعًا ما، لكن بطريقة ودودة. فقال: «هل تتوقع مني أن أصدق أن رئيسًا تنفيذيًّا مهمًّا مثلك يقبل أن يعمل هنا مقابل تسعة دولارات في الساعة؟ إنني لستُ غبيًّا يا سيدي!»
«بل أتوقع منك أكثر من ذلك، ولا أتخيل أن تخذلني. لا بد أنني أفضل مَن تقدَّم لهذه الوظيفة حتى الآن.»
فردَّ جو بثبات: «هذا ليس صحيحًا. فأنت المتقدم الوحيد حتى الآن. وما زلت أرفض أن تعمل لدي.»
«ولِمَ؟»
«أولًا: لأنني لا أصدقك. وثانيًا: حتى لو كنت جادًّا، فإنك ستستقيل خلال أربع وعشرين ساعة، أو ثمانٍ وأربعين على الأكثر.»
هنا بدأ براين يستمتع بهذه المقابلة العجيبة. وقال: «ماذا عليَّ أن أفعل كي أقنعك بأنني جاد في طلبي؟»
فكر جو في ذلك. وقال: «لا أعرف.» ثم نظر حوله في المطعم الهادئ وكأن الإجابة ستظهر له فجأة. ثم قال: «أخبرني أنت.»
ابتسم براين عابثًا. وقال: «حسنًا، ماذا لو عملتُ لمدة أسبوع دون أجر؟ وإذا داومتُ على العمل هنا بعد ذلك، فعليك أن تدفع ما تدين لي به عن الأسبوع الأول. وإذا لم أستمر يمكنك الاحتفاظ به.»
بعد بضع ثوان من التفكير، هز جو رأسه. ثم نظر إلى بيانات السيرة الذاتية وقال: «ماذا بك يا براين؟ لا يبدو هذا منطقيًّا على الإطلاق.»
حينها، أصبح براين أكثر جدية. وقال: «أنت محق يا جو. لا يبدو هذا منطقيًّا. ولكن عندي أسبابي. أحتاج إلى شيء ما أعمله. إن لم يكن هنا، فسأذهب إلى مكان آخر يبحث عمن يريد العمل. أراهن على أن هناك من سيرحب بشدة بعملي معه.»
ثم استطرد براين عندما شعر أن جو قد تفهَّم موقفه.
«وإذا لم أحسن القيام بعملي، فلك أن تفصلني. ولكن إذا أتقنت العمل، فإنني أتوقع أن تكافئني.»
ظل الاثنان لمدة عشرين دقيقة بين شد وجذب، فكان براين تارةً يمازح جو ويقول إنه قد يرفع دعوى على مطعم جين وجو بسبب التمييز الذي لاقاه رجل بركبة معتلَّة. أما جو فقد اتهم براين بكل الدوافع الخفية الممكنة، بدءًا من كونه عميلًا سريًّا لحساب هيئة الغذاء والدواء، ووصولًا إلى كونه مقدمًا لبرنامج الكاميرا الخفية التليفزيوني.
في آخر الأمر أنهك براين الرجل العجوز، مع أن ذلك لم يكن سهلًا، لكنه حصل في المقابل على شيء لم يكن يتوقعه.
وبعد أن ذللت جميع العقبات، أخذ جو نفسًا عميقًا، وبدت عليه الجدية الكاملة وهو يقول: «حسنًا، لم أتعود أن أخاطر بتعيين شخص لم ينهِ دراسته الجامعية.»
ضحك براين عندما مد رئيسه الجديد يده إليه وهو يقول: «لكنني أعتقد أنني سأخالف هذه القاعدة. مرحبًا بك في مطعم جين وجو، يمكنك البدء من مساء الخميس.»
صافح براين الرجل كما لو كان جو قد منحه أول وظيفة له، وغادر المكان وهو يشعر بأغرب إحساس بالانتصار شعر به في حياته. ولكن تلاشت كل مشاعر النشوة عندما فكر فيما سيقوله لزوجته.
اختبار سلامة العقل
كانت ليزلي تتحدث في الهاتف عندما عاد براين إلى المنزل. وبمجرد أن رأت زوجها، أنهت المكالمة قائلة: «نعم، لقد حضر لتوِّه. سأبلغه تحياتك. مع السلامة يا عزيزتي. أحبك.»
أنهت ليزلي المكالمة وحيَّت زوجها بحرارة. وقالت: «لقد كانت لين على الهاتف، ولديها أخبار عظيمة.»
«ألم ترغب في الحديث معي؟»
«كان عليها أن تذهب للمحاضرة. وقالت إنها ستتصل بك في المساء. على أي حال لقد أجرت مقابلة أخرى في هيلتون اليوم، وسار كل شيء على ما يرام، وتعتقد أنها ستحصل على عرض ما.»
«هذا رائع.» ومع أن براين عادة يسعد كثيرًا لسماع هذه الأخبار، فإن حواره الوشيك مع زوجته كان يخنق بعض هذه السعادة.
«تخيل ما هي الأماكن التي قد تختار بينها؟» لم تعطه ليزلي الفرصة لكي يخمن. وقالت: «بورتلاند وسان أنطونيو»، وسكتت هنيهة ثم قالت: «وساوث ليك تاهو!»
«أتمزحين؟!»
«لا. ألن يكون ذلك رائعًا؟»
أراد براين بشدة أن يؤجل الحوار الذي كان يخطط له بينه وبين ليزلي، ولكنه فضل أن يستغل حالة ليزلي المزاجية.
«سيكون ذلك رائعًا.»
كانت ليزلي تعرف زوجها جيدًا، وأحست أنه ليس سعيدًا كما توقعت. فقالت: «ماذا بك؟»
«لا شيء. كل ما في الأمر أن لديَّ أيضًا بعض الأخبار.»
بدت ليزلي متلهفة لسماعها.
«لقد كنت في مطعم جين وجو، المطعم الإيطالي.»
فأومأت ليزلي برأسها.
نظر براين إلى الأرض وهو يقول: «سأبدأ في مساعدتهم هناك.»
لم تشعر ليزلي بالإثارة أو الإحباط. وقالت: «هذا عظيم. ولكن ما العمل الذي سوف تؤديه هناك بالتحديد؟ التسويق أو ما شابه ذلك؟»
«لا. ليس بالضبط. سوف أقوم ببعض الأعمال الإدارية من أجل جو.»
«ماذا تقصد؟» لم تكن ليزلي قد فهمت الأمر بوضوح. فسألت: «أعمال استشارية؟»
«لا، سأقوم بإدارة المطعم ثلاثة أيام في الأسبوع.»
لن ينسى براين قط النظرة التي ارتسمت على وجه زوجته. فقد تحولت ملامحها في أقل من ثانية من اهتمام إلى حيرة ثم إلى صدمة خفيفة.
في البداية عقدت الدهشة لسان ليزلي. وفي النهاية بدأت كلامها بالسؤال المتوقع: «هل أنت جاد؟» كانت ترى أنه جاد، ولكن كان عليها أن تسأل بأي حال من الأحوال.
هز براين رأسه، مثل طفل في الثانية عشرة من عمره يعترف بهروبه من المدرسة.
ثم قالت له بصوت تمتزج فيه نبرات الجزع والإشفاق: «لماذا؟ ما الذي دفعك إلى ذلك؟ ماذا تفعل يا عزيزي؟»
«ليزلي، إن الأمر معقد.»
«أتعتقد إذن أنني لا أقدر على فهمه؟»
«لا، الأمر هو أنني لست متأكدًا أنني أستطيع تفسيره لك.»
«هل سئمتني؟ يجب أن تعلم أن هذا يحزنني حقًّا.»
كان التعبير على وجه براين تملؤه الدهشة. فقال: «لا، لا. ليس الأمر كذلك بالمرة، إنني أحب أن أقضي الوقت معك. كل ما في الأمر أنني بحاجة إلى ممارسة عمل ما. إدارة شيء ما. هل تعرفين منذ متى لم أواجه أي مشكلات حقيقية لكي أحلها في حياتي؟ لا أستطيع أن أتخلص من هذه الطبيعة.»
«ومن ثم ستصبح موظفًا في مطعم للوجبات السريعة؟»
«لا، ليس بالمعنى الحرفي.»
فارتبكت ليزلي.
«الواقع أنني شريك في هذا المكان.»
ففغرت فاها دهشة.
الدفاع
«ماذا؟ لماذا …؟» ولم تكمل سؤالها.
ضحك براين، ضحكة يخالطها التوتر والشعور بالذنب. وقال: «لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي أقنعته بها أن يقبل تعييني. لكنني مجرد شريك بنسبة صغيرة، ولم يكلفني ذلك غير اثني عشر ألف دولار فقط، وإذا قمت بعمل جيد، أعتقد أن ذلك قد يصبح ثلاثة عشر أو أربعة عشر.»
لم تبتسم ليزلي لهذه المزحة. وقالت: «ما زلت لا أفهم. لماذا لا تقوم بعمل خيري؟ أو تتطوع في كنيسة؟ أو حتى تنتقل إلى أفريقيا وتصبح مبشرًا؟ لماذا هذا المطعم؟»
«أعرف أن هذا يبدو غريبًا …»
فقاطعته قائلة: «لا، إنه لا يبدو غريبًا. إنه غريب بالفعل.»
نظر براين إلى الأرض للحظة، وانتظرت ليزلي أن يرد عليها. وعندما نظر إلى أعلى مرة أخرى، كان بإمكانها أن ترى أنها آلمته نوعًا ما. ثم أنصتت له عندما تحدَّث.
قال: «أعرف أن هذا ليس أمرًا منطقيًّا الآن يا ليز. ولقد فكرت بالفعل في العمل التطوعي في الكنيسة، أو في بدء مشروع خيري.»
ومرة أخرى عادت ليزلي للحوار، وكأنها تتوسل إليه: «أترى، كل هذا رائع. فلمَ لا تفعل هذا؟»
أصبح براين الآن أكثر انفعالًا. وقال: «لأن هذا ليس عملي. فأنا لست ممن يملئون المظاريف أو يوزعون الكعك كنوع من الإحسان. أنا مدير يا ليز. وأعتقد أن هذه موهبتي. أعرف أن هذا يبدو سخيفًا، ولكنني أعتقد أنه حقيقي. بعض الناس موهوبون في الرسم أو العزف على البيانو أو كتابة الشعر أو لعب البيسبول، لكنني أجيد الإدارة.»
فكرت ليزلي فيما يقوله زوجها، وتركته يستكمل حديثه.
«وأعتقد حقًّا أن أفضل طريقة أساعد بها الآخرين هي إدارتهم. إنني لا أبني عقارات أو أزرع الذرة أو أشق القنوات. ولكنني أساعد الناس في وظائفهم.»
كانت ليزلي تعرف أن زوجها صادق، وأن فيما يقوله شيئًا من المنطق، ولكن دهشتها لم تكن قد تبددت بعد. فقالت: «ولكن لماذا هذا المطعم الإيطالي السخيف؟ لماذا لم تختر عملًا منتظمًا؟»
«لأنه قريب من هنا، والعمل فيه ثلاث ليالٍ في الأسبوع. ولن نعود إلى منطقة الخليج أو ما إلى ذلك. ولن تشعري حتى بغيابي.»
أدرك براين أن ليزلي بدأت تقتنع، ومن ثم أفصح عما في صدره.
«ليزلي، إنني في الواقع أريد أن أعرف ما إذا كنت أستطيع جعل ذلك المطعم الإيطالي الصغير يزدهر وينجح. لقد رأيت العاملين في هذا المطعم يمشون هناك وكأنهم في غيبوبة، وأتذكر أنني عندما تسلمت العمل في شركة جيه إم جيه رأيت أشياء مثل ذلك هناك. وإذا استطعت أن أمنح هؤلاء الناس هدفًا يتطلعون إليه في وظائفهم، سيكون هذا رائعًا.»
توقفت ليزلي عن الكلام وأخذت تدير الأمر في ذهنها. ثم قالت: «هل لذلك علاقة بذلك الأحمق المدعو ريك؟»
ضحك براين، الذي لم يتعود من زوجته أن تكون فظة بهذه الصورة الطفولية. وقال: «سأكون كاذبًا إذا قلتُ لا. ولكن الأمر أكبر من ذلك. فأنا أحاول أن أثبت لنفسي أن شركة جيه إم جيه لم تكن ضربة حظ، وأن الوقت والجهد اللذين بذلتهما مع العاملين هناك، كان لهما أثر كبير فيما حققناه من نجاح.»
كانت ليزلي على وشك أن تستسلم، ولكنها قررت أن تقوم بمحاولة أخرى للتعقل: «ولكن هذا مطعم بيتزا.»
«بالضبط. ألا يستحق العاملون هناك وظيفة مقبولة كأي شخص آخر؟»
أخذت ليزلي بضع ثوان لكي تفكر في وجهة نظر زوجها. ثم هزت رأسها، وغزت وجهها بسمة لم تستطع إخفاءها. وقالت: «براين بايلي، إنك رجل غريب جدًّا.»
لم يستطع براين إلا أن يوافقها الرأي.