بين الأدب والصحافة
تساءل مستر برسي هوايت في إحدى محاضراته الأخيرة بالجامعة المصرية: هل الأدب والصحافة واحد؟ وما لبث أن أجاب نفسه قائلًا: «كلا ليسا واحدًا. قد تلامس الصحافة الراقية، في بعض موضوعاتها، المعاني الأدبية العالية فتُوسم بوسمها وتؤثر تأثيرها، لكن الصحافة، بوجه الإجمال، تختلف عن الأدب من حيث الغرض والمرمى والتأثير.»
بينما كان الأستاذ يبسط رأيه كنت أضاحك نفسي قائلة: قد يكون هذا رأيكم أيها الغربيون، لكن الأمر عندنا على غير ما تذكرون؛ عندنا إذا كتب المرء مقالات قليلة في الزراعة مثلًا، حاز دفعة واحدة جميع الألقاب الكتابية المدوَّنة في القاموس فأصبح: كاتبًا مجيدًا، أديبًا أريبًا، مفكرًا مبتكرًا، شاعرًا فذًّا، خطيبًا مفوَّهًا، سياسيًّا محنكًا، عالمًا علَّامة وبحرًا فهَّامة. وإذا أردت معرفة ألقابه الأخرى فعليك «بنجعة الرائد» لليازجي (صفحة ٢ الباب السادس من الجزء الثاني).
الأدب فن التعبير عن العواطف والميول والتأثيرات نثرًا ونظمًا، فالشعر فرع من الأدب. والشرط الجوهري للكاتب الأدبي هو أن يكون ذا إحساس قوي يتأثر بجميع الحوادث، فإذا نقص هذا الشرط تلاشى الكاتب الأدبي.
وكيف يؤثِّر مَن لا يكون متأثرًا! ألا إن الذكاء يتعب، والعلم يعذب، والحرية الفكرية تقلق النفس. ولئن عرفت كيف تضرب على أبواب القلوب سمعت الجواب دومًا، تجاوبك الدموع؛ دموع التعزية في الغالب، ودموع الألم أبدًا.
أما الصحافة ففي نشر الأخبار السياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية، فهي إذن مختلفة عن الأدب كل الاختلاف. إذا احتاج الأديب إلى شعور قوي فلا حاجة للصحافي إلى ذلك، وما عليه سوى نقل الأنباء التلغرافية ونشر الحوادث المحلية، فإذا فعل أجاد وكان عند ربه وعند الناس مرضيًّا.
على أن خدمات الصحافة جليلات ولا غنى لأمة متمدنة عنها. ولصحافتنا العربية مزية خاصة في هذا العصر بكونها لسان حال الأدباء والعلماء والمفكرين والمتشرعين. كتب العلم والأدب قليلة عندنا؛ لأن علماءنا وأدباءنا قليلون. وقد ندُر بينهم مَن استطاع تأليف كتاب والإجادة التي هي شرط الإفادة. أما معظم الكتب المتداولة بين أيدينا فمنقول عن اللغات الأجنبية، وإذا كان لنا منها فائدة فهي، على كل حال، لم تُكتب لنا ولم تلاحظ أحوالنا ووراثتنا وأخلاقنا في تأليفها. ولا يستطيع الإتيان بذلك إلَّا كاتب منَّا؛ لأن الكاتب الأجنبي لا يفهم طبيعتنا الشرقية تمامًا مهما عاش بيننا، وهو ذو طبيعة متباينة؛ فلا بد من المقابلة بينه وبيننا في كل أمر. وهو لا ينظر إلينا إلا بعين الغرب للشرق؛ أي بعين الاستفهام الدائم، بعين الاستغراب والاستحسان اللذين يتجاذبانه أمام كل حركة من حركاتنا.
ويجيد كتَّابنا في بعض المقالات المنشورة في الصحف السيارة. يجيدون في تشخيص الداء وفي الإرشاد إلى الدواء، فنرى أحيانًا بين التلغرافات والحوادث المحلية سطورًا أدبية ملؤها الشعور الصادق والاختبار والمعرفة. وهذا فضل يضيفه الصحافيون إلى أفضالهم الكثيرة، فإن لم يكن الشعور ضروريًّا للقيام بواجباتهم، فهم يعرفون كيف يستعملونه ومتى يظهرونه.
أصبح الصحافيون زمرةً قويةً تخشاها الأرض ومَن عليها، فهم ينتقدون القوانين، ويحاجُّون الحكومات، ويسنون أوامرهم للبشر، ويبسطون آراءهم لأولي الحل والعقد حتى إذا شعروا بأن الفكرة التي يبدونها بعيدة عن ذهن القارئ عمدوا إلى أسماء التحبب فدعوهُ تارة «القارئ اللبيب» وطورًا «القارئ الكريم» وحينًا «القارئ العزيز» إلى غير ذلك من النعوت الطيبة التي ترضي الجميع، فيقتنع القارئ بأنه لبيب وكريم وعزيز، فعلى كل لبيب كريم عزيز أن يفكر أن ما جاء في المقال هو الحقيقة بعينها.
أكتب هذا وأنا أعضُّ على سبابتي ضاحكة. لا تغضبوا يا سادتي الصحافيُّون. كلنا معترف بالخير المتدفق من أقلامكم على مَن يقرأ ومَن لا يقرأ جميعًا؟ وأشهد باحترام أن وجودكم بيننا عنوان ارتقائنا، أليس كذلك؟ غير أني أريد أن أنصفكم فأقول: لئن كان كل منكم القدرة المجسمة، فإن هناك شخصًا أقدر منكم لو اتحدتم جميعًا. لا تظنون أن الله هو مَن أعني، بل هو بطل قلم الرقابة … هو الرقيب.