وصف غرفة في مكتبة
أستخرج هذه الصفحة من فصولٍ لم تُنشر بعدُ، كتبتها تحت عنوان «مذكرات الجامعة المصرية» لسنة ١٩١٦. والغرفة التي وصفتها تابعة لمكتبة الجامعة، وهي اليوم مركز سكرتارية المكتبة. أما يوم كتبتُ فيها فكانت خالية يجتمع فيها الطالبات إذا جئن قبل ابتداء الدرس الذي يقصدن حضورهُ. ومنهنَّ الفرنساوية والإنجليزية والروسية واليونانية والإيطالية والبلجيكية والسورية. ولم تخلُ تلك الاجتماعات إلَّا من الفتاة المصرية، وهي الحقيقة بحضور الدروس أكثر من غيرها؛ لأنَّ الجامعة جامعتها أكثر منها جامعة الأجانب.
كنا نجتمع هناك كمؤتمر دولي الْتَأم لعقد الهدنة وتقرير شروط الصلح، أو كمؤتمر نسائي غرضه المطالبة بحقوقه والمجاهرة بمطالبه. لكنَّ الأحاديث الدائرة بيننا لم تكن لتدل على ذلك، بل كانت مقتصرة على أخبار «الكونسرتات» والسينماتوغرافات والأزياء وأشكال البرانيط الحديثة. ويتخلل هذه الثرثرة النسائية المحضة ضحك «يدبُّ دبيبهُ» في كل موضوع تجاذبت أطرافه فتاتان، فكيف به إذا صار ضجة فتيات كثيرات؟
من عجائب الحديث النسائي أن السيدات إما يصغين جميعًا ولا تتكلم منهن واحدة، وهذا نادر، وإما يتكلمن جميعًا في آن واحد ولا تصغي منهنَّ واحدة. وكانت الحال الثانية حالنا في اجتماعاتنا نظلُّ عليها حتى يعرض لنا ذكر موضوع الدرس، فيهدأ ضجيجنا بغتة ونصغي جميعًا إلى المتكلمة فينا، ولا نحجم عن بثِّ الآراء والمناقشة أحيانًا، ونبقى «عاقلات» حتى يمر في الحديث خيال نكتة صغيرة فنعودُ إلى الثرثرة والضحك المتقطع المتواصل.
اجتماعات لطيفة كاجتماعات الفتيات في كل زمان ومكان، ولكننا لم نكن لنهتم «بسرِّ» الغرفة التي تجمعنا جدرانها، ولم أتنبه لذلك «السرِّ» إلا يوم وجدتني هناك وحدي ناظرة إلى ما نُشر على الجدران من رسوم أعاظم الكتَّاب والمفكرين.
•••
يُقال إن في العالم نحو ثلاثمائة جامعة. ولئن كانت الجامعة المصرية أحدث هذه الجامعات سنًّا وأقلهنَّ فائدة مادية (لأنه ليس لألقابها حروف شتى يحررها الطلبة وراء أسمائهم)، فهي مع ذلك آخذة مكانها بينهنَّ، ولها ميزة خاصة بكونها جامعة أهلية.
على أنها ليست الجامعة الأولى في الشرق الأدنى.
إن الأزهر الشريف أقدم جامعات الشرق والغرب؛ لأنه تأسس في القرن العاشر، في حين أن أقدم جامعات أوروبا — وهما جامعتا بولونيا وباريس — لم توجد قبل القرن الثاني عشر.
يجلل الأزهر وقار القِدَم، غير أن بابه مقفلٌ في وجه غير المسلمين، وتعاليمه دينية لغوية في الغالب، فهو في نظر كثيرين حلم عميق للمرء أن يذكره ويحدِّث عنه، ولكن لمسه ليس بالأمر الميسور.
أما الجامعة المصرية فمفتوحة للجميع ولا تقلل من فضلها حداثة سنها؛ إنَّ كلَّ صغير محبوب لأنه يطلبُ العطف، كل صغير مستودع آمال كبيرات لأن له قابلية النمو والتكاثر.
قال ألفرد ده موسيه (وهو الشاعر الذي أُعطي قوة التعبير عن أعمق العواطف بألطف الألفاظ): «كأسي صغيرة لكني أشرب من كأسي.» وعلى هذا القياس للمصريين أن يقولوا: «جامعتنا صغيرة لكننا نتعلم في جامعتنا.»
•••
ليست الجامعة منهل علم لطلبتها فحسبُ، بل هي مهبط وحيٍ لي حين أبلغها قبل ابتداء الدرس الذي أبتغي حضوره بدقائق أقضيها منتظرة متأملة.
فكم من فكر إنسانيٍّ ما يحيط بي من آثار الحياة! وكم من تَأَمُّلٍ الْتَقَطَ موضوعَه نظري بين وريقات شجرة خضراء تتمايلُ أمام النافذة! وكم من حلم لمحت خطوطهُ مرسومة في جوِّ قاعة الدرس وألوانهُ متخللة خيوط الأشعة المطلة علينا! أفكار وتأملات وأحلام رفرفت عليَّ حينًا وغنَّت في نفسي كالأطيار، ثم فتحت جناحها الذهبي ساعة جاء الدرس ينبهني، فتحت جناحها وانطلقت تعدو إلى آفاق قصيَّة أجهلها وأحبها؛ لأن لي فيها أطيارًا خيالية.
أنا الآن في غرفة صغيرة تابعة لمكتبة الجامعة، وليس في هذه الغرفة من الكتب إلا ثلاثة أجهل اسمها ولغتها؛ لأنها خفيت تحت كتاب رابع من تأليف مارمونتل، وهذا أديب فرنسوي لم يتفوق في موضوع من الموضوعات الكثيرة التي عالجها، بل اكتفى بالإجادة فيها جميعًا إجادة معتدلة، تاركًا البراعة والتفوق لأستاذيهما الكبيرين: فولتير وروسو. روسو الذي حاول تكوين مجتمع جديد بقلمه القادر البليغ وملأ العالم ندبًا ورثاء. وفولتير الذي كافح القيود الدهرية برأس قلمه الرشيق النافذ كالسهم إلى أعماق الأفكار، وبابتسامته الخالدة التي يرى فيها أتباعُهُ فجرَ الحرية المنبثق من ليل العبودية الأليل.
إن للأمكنة أرواحًا، وفي هذه الغرفة الصغيرة روح تناجيني وسرٌّ أطمع في اجتلاء غوامضه. كلُّ ما يحيطُ بنا في الحياة سرٌّ ولغزٌ، لكنَّ حواسنا المثقلة بأحمال المادة تحجبُ عنا الأنوار، فلا نرى للأشياء وجودًا ولا ندركُ لها حقيقة إلا بقدر ما تتفقُ معانيها مع أطماعنا وشواغلنا.
كلما رأيتني وحدي في هذه الغرفة شعرتُ بأن في جوِّها روحًا. أهي مجموع أرواح النوابغ الحاضرين هنا برسومهم وبخيالات الأفكار المطلة من أحداقهم؟
نهضتُ أمشي في الغرفة، أمشي وأفكر. وراء الطاولة التي أكتبُ عليها صورةُ سفينةٍ ركبت من البحر جوادًا حرونًا وسارت تقطع الأمواج الكبار بقوةٍ وثبات. وتحت السفينة إطار حوى ورقة ممزقة وفيها بعض السطور الهيروغليفية.
الكتابة الهيروغليفية قرب الباخرة! إنَّ جوارَ هذين الرسمين لرمزيٌّ: السفينة فينيقيا، والخط الهيروغليفي مصر.
فينيقيا ومصر
المدنيتان القديمتان اللتان بزغت منهما مدنيَّاتنا الحديثة وانحدرت من ذراريهما تواريخ ذرارينا، تُرى هل وقفنا على جميع ما فيها من الأسرار، وعرفنا كل ما كان عندهما من علم وفن ومقدرة وسلطان؟ أم نحن في ذلك مدَّعون دعوانا في سائر أقسام المعرفة؟
قبل أن يكتشف كولومبس القارة الأمريكية بقرون طويلات كانت سفن الفينيقيين تضربُ في البحر طولًا وعرضًا وقد عيَّن التاريخ خطوط رحلاتها، ولكن أيُّ شيء أجهل من العلم إن لم يكن التاريخ؟ ومَن يدرينا ما إذا كانت اليد التي شادت الأهرام وأقامت الهياكل المتراكمة اليوم بقاياها على رمال النيل، هي غير اليد التي أوجدت هياكل، تُرى الآن أنقاضها في أواسط أمريكا، ونحتت ما عثر عليه لورد دوفرن من مسلات مصرية ونقوش شرقية في كولومبيا البريطانية؟
والتليفون الذي أراه في زاوية الغرفة على مقربة من الكرة الأرضية أهو اختراع هذا العصر فحسبُ؟ ألم تكن من نوعه الآلة التي يُقال إنها كانت مستعملة عند كهنة إيزيس وأوزوريس لمخاطبة كهنة الهياكل الأخرى من أقصى البلاد إلى أقصاها خلال الاحتفالات السنوية الكبرى والاجتماعات الدينية؟ ولماذا لا يقوى العلم الحديث على استخراج الأرجوان من الأصداف كما كان يفعل الفينيقيون؟ لماذا لا يُخرج لنا ألوانًا ثابتة لا تنفض نضارتها كألوان هياكل الأقصر؟
أكان أجدادنا جاهلين أم نحن لهم ظالمون؟ أم كل الفَرْق في أن العلم كان عندهم محصورًا ضمن الأقلية المنتخبة وقد أصبح في زماننا «حصة من جدَّ اعتزامًا»؟
•••
ولكن لنتابعن سيرنا في الغرفة:
في منتصف الجدار إلى اليمين صورة هوغو في شيخوخته ويده تحمل جبهته المثقلة بالأفكار العظيمة، كأنما هو في جلوسه يناجي الأجيال قائلًا: ها أنا ذا! أنا هوغو الذي أنالته الحياة مجدًا وثروة وحبًّا. أنا ذاك الذي شاخ في المنفى فكان سعيدًا في الشقاء. أنا ذاك الذي بحث عن نوابغ الماضي ودوَّن أسماءهم تاركًا بعدها مكانًا واسعًا لاسم جديد. والاسم الذي أعني إنما هو اسم الرجل الجالس هنا حاملًا على يده جبهته المثقلة بالأفكار العظيمة: فيكتور هوغو.
وإلى شمال هوغو أرى الفيلسوف الرياضي ديكارت الذي قال فولتير في وصفه إنه جعل العميان يبصرون؛ إذ بيَّن للقرن السابع عشر أغلاط القرون الخاليات، وجعل شعار هذه الجملة: «لِتبلغ الحقيقة يجب أن تنسى مرة في حياتك جميع الآراء والاعتقادات التي شببتَ عليها، ثم تقيم أسسًا جديدة لآراء واعتقادات شخصية.»
إلى شمال ديكارت أرى بوسويه أسقف «موو». تُرى بأي شيء يُسِرُّ ديكارت إلى بوسويه في ساعات الوحدة، وبماذا يجيب الأسقف الكاثوليكي؟ ليت لي من سبيل إلى التجرد من جسدي حينًا؛ لأسمع محاوراتهما ولو مرة واحدة؛ ولأعلم كيف يتناقش العلم والدين في عالم الأرواح.
على يمين هوغو موليير الشاعر الفذُّ الذي ملأ رواياته، وراء لهجة الاستخفاف والظرف والتنكيت، انتقادات اجتماعية وعلمية ودينية، وعلَّم أهل زمانه الضحك من أنفسهم غير متذمرين.
وعلى يمين موليير وجهٌ نحيف جذاب، مَن هذا؟ لو نسي مصوِّرك كتابة اسمك تحت رسمك، لو دُرِسَتْ آثار فكرك وعلمك وانتقادك وطمسَ الزمان كل ما أبَّده قلمك، لو أكلت النار وجهك غير مبقية إلا على شفتيك لعرفتك يا فولتير! يا لفمك من فم هائل في كلامه، هائل في بسمته، هائل في سكوته حتى في سكوت الصور!
تحت هوغو إطار ذو رسمين يمثل أحدهما راسين والآخر بوالو. ولو أنصفت الجامعة لوضعت راسين فوق هوغو وأقصت النظَّام بوالو عن الشاعرين. لكني أفهم أن صورة هوغو عندها أكبر من صورة راسين. كذلك تسير مواكب الحياة! فكثيرًا ما يقطن الأكبر تحت الكبير ويقف الأحسن دون الحسن، ولكلٍّ أن يرضى بما قُسم لهُ؛ لأن الزمان شاء ومشيئته لا تتغير!
من زاوية فولتير إلى الباب تمتدُّ مكتبة صغيرة خالية مما وُجدت له، تتجلى فوقها صورة امرأة عظيمة: مدام ده سفينيه، كم تسرني رؤية هذه المرأة قرب هؤلاء الرجال! كأن وجودها هنا عنوان اهتمام الجامعة بالفتيان والفتيات على السواء، كأن صورتها على هذا الجدار صوت يستحث الفكر النسائي قائلًا: إلى الأمام!
على الجدار المقابل لجدار فولتير صورة فنيلون «أسقف كمبري» مؤلف كتاب «تليماك» المفعم بالانتقاد الدقيق الخفي لحكومة لويس الرابع عشر وللملك العظيم نفسه، وإلى جانبه معاصره الشهير كورنيل واضع الروايات البديعات اللائي ما برحن ميدانًا، فيه الحب والواجب يتنازعان.
وعند الباب هيكل عظام بشري إلا أنه صُنع من خشب الجوز أو من خشب آخر دُهن بهذا اللون. كل ما هنا يساعد ما في جوارهِ لجعل هذه الغرفة كبيرة في صغرها، عظيمة في سذاجتها.
صدق القائل إن للغرف أرواحًا …
أحب روح هذه الغرفة الممزوجة من أرواحٍ شتى.
وهل من مخبر بما رأتهُ هذه الجدران قبل أن تكون للجامعة من أتراحٍ وأحزان، وبما شهدته من تقلبات الحدثان!
لعلها سمعت تنهداتٍ لم يلنْ لها قلبٌ، أو رأت قلبًا وحيدًا لم يشاركهُ في ابتهاجه مشارك!
لعلها رأت دموعًا سخينة لم تمسحها اليد الرحيمة!
فولتير! هوغو!
لو تكلَّمت الجدران لكانت أتمَّ منكما بلاغةً وأعمق تأثيرًا!