في محكمة الجنايات
زرتُ اليوم مكانًا لعلَّه أرعب الأمكنة بعد مسارح الجرائم الخفية ومواضع تنفيذ الإعدام؛ أعني القاعة الكبرى في محكمة الجنايات؛ حيث يصدرُ العدل البشريُ أشد أحكامه على مَن يكون في عرفه مجرمًا. ذهبتُ إلى تلك القاعة حيث تنعقدُ المحكمة العسكرية لمحاكمة المتهمين بأنهم من أعضاء «جمعية الانتقام» المتآمرة على خلع السلطان، وقتل الوزراء، وقلب الحكومة، والتحريض على الثورة في البلاد. ما أرهب هذه الكلمات التي تصوِّر للمخيلة مشاهد الظلم والفتك والدماء والدمار! ومن مميزات الحركة النسائية الجديدة أن المصريات امتزجن بالحياة العامة فصرن يظهرن في كل اجتماع قومي، حتى في أحرج المواقف وأوجعها للقلوب الوطنية. كذلك حضرَ بعضهن جلسات المحكمة بالتتابع.
دخلتُ الدهليز الواسع بين الجنود المنتصبين يمنة ويسرة، وخلالهم يختلط المحامون بأصحاب القضايا ويناقشونهم بأصوات خافتة على رغمٍ منهم، فتلقَّاني جنديٌّ حاجبٌ قدَّمتُ لهُ تذكرة الدخول فأوصلني إلى آخر. وسار بي هذا إلى ثالث وأنا أعدُّ الأزرار الذهبية المنضدة على كتف كلٍّ منهم، وأتظاهر بعدم الاكتراث لأسكت دقات قلبي. وما كان حتى رأيت ضابطًا ينحني أمامي وهو يفتح بابًا لم أسمع لهُ ما يشبه الصوت، فوجدتني بغتةً في قاعة متوسطة الاتساع قد تبلغ مساحتها العشرين مترًا طولًا على عشرة أمتار عرضًا. وبدلًا من أن أخطو وراء الجندي الذي سار ليدلَّني على مكاني، ظللت واقفة وأنا في إجفالي أتفرَّسُ في الوجوه المستوية في صدر القاعة وقد اشرأبَّت نحوي جميعًا. غير أن الذي تكفَّل بإيصالي عاد إليَّ ثم مشى يهديني حتى أجلسني على المقعد الرابع، وعلى مقربة مني «قفص» المتهمين.
أجميع الحضور يحدِّقون فيَّ أم أنا في هلوعي أظنهم فاعلين؟ رفعتُ بصري أتبين الأمر في سيماء القضاة أولًا فإذا بهم يرقبونني وقد أدركوا في سرِّهم مقدار جزعي واضطرابي. وهل من نظرٍ ينفذ إلى أعماق النفس ويعرِّيها من أستارها كنظر القاضي؟ ربما كان هناك شخص واحد يفوقه براعة، وهو الكاهن الكاثوليكي الذي يكسبهُ تعاطي الاعتراف واستماع شكايات الناس، حنكة ودراية ومعرفة بأسرار النفوس لا يماثله فيها من العلمانيين غير من شفَّت بصيرته بأنوار الإلهام.
لم أجرأ على النظر إلى المتهمين، وشعرتُ بأن أسلم النظرات عاقبة وأضمنها براءة هي نظرة أصعدُ بها إلى سقف المكان مستوضحة هندسته وزخرفته.
زخرف محكمة الجنايات؟ ما هذا المجون؟
نعم، هناك زخرفٌ وتنميق، وهو عبارة عن خطٍّ عريض نُقش بالنقوش الحجرية البيضاء ودار حول سقف القاعة في أعالي جدرانها الكنسية الجرداء. وقطعتْ خطوطٌ أخرى من نوعهِ السقف ثلاثًا وأنالته شكلًا مرضيًّا. ثم هبطت عيناي إلى الحوائط، وفي أحدها القائم شمالًا شبابيك كبيرة واسعة رُفعت الأستار الكتانية إلى أوجها فتدفق خلالها نورُ النهار الداخل من الحديقة الفاصلة بين هذه القاعة وبين الشارع؛ حيث يسير الناس أحرارًا غير مقيَّدين. ولما فرغتُ من تفحُّص الحائط والنوافذ والستائر، واستنزفتُ عليها كلَّ ما جال في دماغي من ملاحظة ومناقشة وتعليق، مشى بصري قليلًا قليلًا إلى صدر الغرفة؛ حيث استوت هيئة القضاء لتحكم بقسطاس العدل.
أين ذهب اضطرابي حتى واجهتُ نظر القضاة بهدوء هذه المرة، وبي شعور يشبه الراحة والطمأنينة؟ فعدَّلتُ جلوسي واستعدادي العقلي لأضع الأشياء في مواضعها.
هيئة المحكمة تتألف من قضاة عسكريين أربعة يلحق بهم المترجم، ويرأسهم قائد تبدو مرتبته في الأشرطة الحمراء المذهبة على كتفيه وكمَّيه، وفي صفي الأشرطة الملونة الصغيرة الممتدَّين على صدرهِ واحدًا فوق الآخر؛ ليدلَّا على ما عنده من مختلف الميداليات والأوسمة. ويتوسط الهيئة «نائب الأحكام»، وهو قاضٍ في المحاكم المختلطة وأحد كبار رجال القانون الإنجليزي، وهو وحده بين القضاة يلبس الشعر العاري الأبيض والرداء الأسود. وإلى اليمين كرسي المدعي العمومي، أو مدَّعي الملك، كما يسمونه في هذه القضية، وهو كنائب الأحكام يلبس الشعر الأبيض والرداء الأسود. وأمام المحكمة مكان المحامين، فموقف الشهود، تتناسق متتابعة وراءه مقاعد القاعة التي أجلس أنا في صفها الرابع، وإلى يميني قفص المتهمين الذي تنتهي حدوده من الجهة الأخرى قرب هيئة المحكمة.
أيُّ المواقف أغرب من موقف المتهم إزاء القاضي؟ وأي كرهٍ قسري بين هذين الاثنين: بين شخصٍ ضعيف أعزل تحت رحمة الآخر، وبين هذا الآخر الذي وُجد ليفسر الحركات والمعاني ويتصرف كيفما شاء في مصلحة المتهم وراحته وحياته. أيُّ عداء وأي اختلاف أعظم من هذا؟ مع ذلك فالاثنان خاضعان معًا لجميع نواميس الطبيعة وأهوائها، فلو تساقط الثلج الآن لانتفضا معًا، ولو زلزلت الأرض زلزالها وفغرت فاها لالتهمتهما معًا. ولو انتشر مكروب خبيث لتناولهما معًا ولتألم كلٌّ على حدةٍ بمثل ما يتألم الآخر، بل ها هم جميعًا كلَّت أدمِغتهم وأغمضوا عيونهم وفي كل منهم احتياج يظهر حتى في تصلُّب جلوسه، احتياج إلى أن يتثاءَب ويتمطَّى كما يفعل الأسد، أو كما تفعل هرَّتي البيضاء عندما تأبى ملاعبة مَن لا يعجبها، وعندما تخرج كلمة هزلية من فم المحامي أو القاضي أو الشاهد تلمع عيونهم جميعًا ويشتركون في الضحك. ولئن بعث القضاة إلى المتهمين بنظرة نافذة مستفسرة باردة كالسلاح الأبيض، حينًا بعد حين، فلواحظ هؤلاء تخال باسمة في الغالب.
حسن بزتهم يشير إلى درجتهم الاجتماعية، وفي عيونهم ترقص أنوار الحياة، وعلى شفاههم يبسم رونق النضارة، وفي ذقون بعضهم تلك الطبعة الجاذبة التي يحسبها أهل الفراسة علامة الحب الشديد ورمزًا إلى أن في صاحبها احتياجًا للشعور بأن لهُ مَن يعزُّهُ ويحنو عليه. وإن حرمة شقي شقاء لا يدركه غير أمثاله، فكيف يحتمل هؤلاء حياة السجن وراء الأبواب المقفلة وفي عناء الأشغال الشاقة؟ وكيف يحتملون القيود والأغلال وكل ما هيأه المجتمع من نظام ولباس ويحوِّل يأس الجاني إلى سخرية ظاهرة؟ وأي التوسلات ستنطلق من هذه الأفئدة، وأي الدموع ستلهب هذه المحاجر؟
تلاشى فجأة ما يحيط بي، واتسع القفص، وأُضيفت إليه جميع الأقفاص في جميع محاكم العالم وقد حُشر فيها الألوف والملايين، ورأيت في عيون الجناة صور جناياتهم، وفي عيون الأبرياء صور براءَتهم، وفي جميع العيون أشباح الخوف والفزع. ثم انهدمت جدران القاعة وارتدَّت حدودها إلى ما وراء جميع المحاكم في الماضي والحاضر والمستقبل. وصار القضاة الخمسة ألوفًا وملايين، ونظراتهم النافذة المستفسرة الباردة كالسلاح الأبيض تتجه نحو العيون المذعورة. وسمعت الأحكام على العبيد وعلى الملوك، على المظلومين وعلى الظالمين، وتراءت لي السجون بغمومها والأشغال الشاقة بذلِّها، وآلات التعذيب بهولها، وبدت أمامي وجوه الجرائم والفظائع والشرور فتقطعت أوصال إحساسي. وفي هذه الغرفة التي كانت تبسمُ منذ هنيهة سمعتُ صلصلة السلاسل وقعقعة القيود، ولمحتُ أحكام الإعدام على لابسي البذلات القرمزية السائرين نحو المشانق عراة الأقدام …
ما هذه الضوضاء التي تخرج بي من هذا الكابوس الفكري؟ أكلُّ هذه جلبة الحبال في الأعناق؟ كلَّا، بل حانت ساعة الانصراف، ورُفعت الجلسة، وانفرط عقد المجتمعين وها هم يخرجون إلى الدهليز الوسيع المؤدي إلى الشارع. وهناك عند العمود الضخم المنتصب أمام المحكمة رفع أحد المتهمين نظره إلى إفريز العمود الأعلى ثم أداره سريعًا إلى الأرض وأرسل زفرةً محرقة، فنظرتُ إلى الإفريز الأعلى وإذا بطائرين قد وقفا جنبًا إلى جنبٍ ينشدان أنشودة الحياة والحب والحرية.