«سعادة» ملك اليونان
نقلت برقيات اليوم خبر عودة الملك قسطنطين والأسرة المالكة إلى بلاد اليونان، فقالت إنه قُوبل بحماسةٍ شديدة وروت عنهُ هذه الكلمة: «إني سعيد بالعودة إلى وطني.»
طبعيٌّ أن يُسر المرء بالعودة إلى بلادٍ أُقصي عنها وهو يحبها، طبعيٌّ أن يرتاح لاستنشاق هوائها، لا سيما ولهُ فيها عرش كسائر العروش انتصبت قوائمه على قوة الاستمرار والتسليم بلا مناقشة. ليس تلاميذ المدرسة اليونانية الذين أسمعهم يهتفون لقسطنطين عند الانصراف هم وحدهم أطفالًا يؤيدون مَن يجهلون وينادون بما لا يفقهون. الجمهور طفل بوجهٍ عام. موجة ترفعه وموجة تدفعه. انفعال يطير به إلى قمم الجبال وانفعال يهوي به إلى أعماق الهاوية. يؤلِّه الساعة من سيذلُّ بعد ستين دقيقة وسيُمجَّد غدًا ما قدَّسهُ أعوامًا ودهورًا. وهو في كلِّ ذلكم هائج مائج، مسيَّر غير مخيَّر يتدافع بلا تروٍّ أو تعقل.
ومن الغرائب أن الأشياء تقوى بالتضاعف إلا ذكاء الجمهور، فلو اختير خمسة أشخاص أو عشرون شخصًا من أرقى الناس وجُمعوا للمناقشة والبتِّ في أحد الموضوعات، وأُفرد لمثل ذلك شخص واحد متوقد الجنان ماضي العزيمة، فلربما جاء الفردُ بما قصرت دونه الجماعة؛ لأن مستوى الذكاء يهبط في الجمهور ويختلط، بينا هو في الفرد يسمو ويتناهى. وهو حدث سيكولوجيٌّ معروف لدى علماء النفس. ولعلَّ المقابلة بين قاموس الأكاديمية الفرنساوية الذي يشتغل فيه عشرات «الخالدين» منذ عشرات الأعوام، وبين قاموس لاروس الكبير الذي أنهاه فردٌ واحد دون مساعدة أحد، لعلَّ هذه المقابلة مصداق يقبله كثيرون.
على أن كلمة الملك تستوقف الذهن وتنبه الهواجس عند ذويها. يقول إنه «سعيد بالعودة.» ولكنَّ سبب هذه العودة راجع إلى موت ولدهِ؛ إذ لو بقي الملك إسكندر على قيد الحياة ما تقيَّض لأبيه أن يغادر سويسرا في هذه الآونة. وإذا كان «سعيدًا» بالنتيجة فكيف لا يكون سعيدًا بما أدَّى إليها؛ أي بوفاة ولدهِ؟
والذي ساقته الهواجس إلى هذه النقطة لا يحجم عن أن يخطو خطوةً أثيمة أخرى، فيقول: إذا سعد الملك بتلك الوفاة بعد وقوعها، فأي مانعٍ منعهُ عن أن يسعد قبلئذٍ بتخيُّل احتمال وقوعها؟ تُرى ألم يمر في مخيلته خيال الموت وولدهُ على فراش المرض؟ ومَن يدري؟ ألم يتحرك في قرارة نفسهِ شيء يشبه الخوف أو … التمني؟
لا، لا أريد استطراد التحليل، وسواء أكان هذا الوهم ممكنًا أو مستحيلًا في قلب والدٍ أو والدة، فإن النفس البشرية تبقى دومًا هي هي في ارتباك انفعالاتها واشتباك نزعاتها. ولئن كانت العواطف الأبوية قوية في الغالب فلكم ضُحِّي من ولدٍ لغاية شخصية، أو لأجل قريب، بل لأجل غريب إذا أحسن ذلك الغريب لمس الموضع الحساس من حُب الذات، أو علَّل طمعًا من أطماع النفس أو منَّاها بإحدى رغائبها …
لمحة مرعبة في قلب الإنسان، فلنحولنَّ النظر إلى ما هو أقل ادلهمامًا!