حكاية السيدة التي لها حكاية
لكلٍّ من الناس حكاية أوَّلية يتناقلها الأقارب والأباعد بلهجاتهم المتعددة ويفهمونها بعقلياتهم المختلفة، وينسجون حولها حكايات كثيرات. يسردُ الواحد «الحكاية» الأولية عن ذبيحته في تلك الساعة ثم يزيد قائلًا، وله معي أنا أيضًا «فصل»، وله مع زميلي «عبارة»، وله مع الآخر «طابق» … إلخ. ويجود بهذا الطابق والفصل والعبارة شارحًا متبسطًا منمنمًا مزخرفًا. ويصغي الآخرون متعجبين متأففين، ويتعوَّذون باللَّه العليِّ العظيم، وينكِّتون ويتهكمون كأنهم لم يأتوا هم ولم يأتِ بشرٌ قبلهم شيئًا شبيهًا لما يسمعون. وبدهيٌّ أنهم في تطبيق الأحكام على سواهم لا يراعون قانونًا مرنًا يستعملونهُ في الحكم على نفوسهم، والقاعدة الذهبية القائلة بحبِّ القريب ومعاملة الآخرين بمثل ما يودُّ المرءُ أن يُعامَل، لا تزال قاعدة ذهبية … فحسبُ.
لا يراعي الناسُ في حكمهم على الآخرين ما يجيزونهُ لأنفسهم، وإنما يحكمون وفقًا لنصوصٍ صلبة جُمعت في الجدول الأخلاقي الذي يتسلحون به أمام بعضهم بعضًا، فإذا ما طُرِحت العيوب في سوق المزايدة، هي مزايدة لا تقبل المناقصة مطلقًا، عمد المتحدثون الذين صار كلٌّ منهم في ذلك الموقف بارًّا صفيًّا وقديسًا مفضالًا، عمدوا إلى ذلك الجدول الصارم كوجه الجلَّاد. وكما أن جدول الحساب الذي وضعهُ فيثاغورث اليوناني هو جدول ضرب كذلك كان الجدول الأخلاقي لمساوئ العباد والحكم عليها، جدول ضربٍ تعالت أرقامهُ الشريفة عن كل طرحٍ شائن!
•••
كثيرًا ما كنتُ ألتقي بالسيدة غ. ب في أماكن مختلفة؛ في الكنيسة، والحفلات الموسيقية (كونسرت)، والمخازن الكبرى، وكان يندر أن أسير في شوارع حيِّ الإسماعيلية كشارع قصر النيل، وعماد الدين، والمغربي، والمدابغ، وسليمان باشا، دون أن أراها مارةً كأنها تقطن هذه الجهات أو قريبًا منها، فإذا كنتُ مع صاحبةٍ أو رفيقة لُفظت بيننا تلك الكلمة التي يتبادلها النساءُ، والرجال أيضًا مع احترامي لسادتنا الأجلاء، لدى مرور سيدة ذات ميزة ما، تلك الكلمة هي «انظري! انظر!» ولتلك السيدة غير ميزة، فهي معروفة بجمال الصوت وقد سمعتُها في حفلتين اثنتين. وهي أنيقة الهندام تتزيا بأحدث الأزياء، بل هي من السابقات إلى ترويج الأزياء الحديثة في القاهرة، ويقولون إنها حسناء.
كنتُ أشاهدها عن بعدٍ فيستلفتني إليها ذلك الشيء الخاص في كل إنسان وليس هو الهندام، ولا ملامح الوجه، ولا الحركة، ولا السكوت ولكنهُ شيء مبهم يختلف باختلاف الأشخاص. ويزعم بعض أهل الفراسة أن مقرَّه بين العينين، ويدَّعي غيرهم أنهُ في إنسان العين، أو حول الفم، أو في خطوط الشفاه، أو في ارتكاز الذقن. وأنا لا أعلم سوى أنه موجود وأنه المكوِّن الأكبر لما نسميه «معنى» الشخص. وهو عند بعضهم قويٌّ، شديد التأثير، يلتصق بنفس الرائي فلا يعود ينسى ذلك «المعنى» ولا ينسى حامله.
بعد كلمة «انظر! انظري!» لا بد من «حكاية» عن موضوع النظر. وهكذا سمعتُ عن تلك السيدة حكايات جَمَّة جعلتني كثيرة التفكير فيها أسائل «معناها» الباقي في نفسي: ماذا عليَّ أن أصدق من كلِّ ما قيل ويُقال؟ ويزيد اهتمامي بها بتراكم الحكايات عنها، كأني ذلك الرجل الذي تعرَّف إلى أحد المشاهير وقال: «سمعتهم يذُمونك فشاقني التعرف بهولك.»
عيناها كانتا أعلق الأشياء بحافظتي، هما عينان متغيرتان تظهران مرةً عيني امرأة وجيعة صابرة، وحينًا تفكران معرضتين عن جميع مظاهر الحياة، ويومًا تُكِنَّان نظرةً لا قرار لها، وتخترقان الأشياء إلى فضاءٍ يحيطُ بها، كأنهما ترقبان في الهواء إشارات يدٍ غير منظورة. وطورًا تبدوان كعيني الشخص الاجتماعي الذي يتمتع بأفراح عادية ويكتفي بها غير متخيَّل وجود ما يفضلها. ثم تتألقان سعيدتين كأن الحياة أشبعتهما مسرات لطيفة هادئة وحقَّقت منهما بعيد الأماني. إلا أني كنتُ أُحبهما عندما تذبلان وينطفئ نورهما كأن صاحبتهما شاخت في أسبوعين خمسين عامًا. ثم ألتقي بها مرةً أخرى فأحسبها في ثوبها الوردي، وبرنيطتها المرفرفة على وجهها، طفلة تنتظر من الوجود جميع صنوف الهناء.
•••
أقامت يومًا نخبة غواةٍ حفلة موسيقية في قاعة الأعياد الكبرى بفندق شبرد. وقد أشرف على تنظيمها أستاذان شهيران هما السيدة ك. أقدر معلمة بين الأجنبيات المتعاطيات تدريس فن الغناء، ولها في منزلها اجتماعات حافلة بأجمل أصوات القاهرة من نساءٍ ورجال درسوا عليها والتفوا حولها. والسنيور ف. الذي يقطن هذه المدينة منذ أعوام وقد كثر تلاميذهُ وتلميذاته من مختلف الجاليات، وتزايد عدد أصدقائه والمعجبين به الذين يرون معجزاته على البيانو متجددةً كل يوم، مدهشةً كل مرة.
في تلك الحفلة غنَّت السيدة التي لها حكاية إلَّا أني لم أجد مَن يحدثني عنها، ربما لأن أكثر الحضور من أهل الغواة، فكلما عزف عازف أو أنشدت منشدة زفَّ الجمعُ التهاني إلى ذويه وذويها؛ ليضمنوا بذلك تهاني تُزَفُّ إليهم عندما يغني أولادهم ويعزفون. تلك المرأة لم يكن لها أهل، ومع ذلك فقد أحدث إنشادها تأثيرًا كبيرًا وأثار تصفيقًا حادًّا لم تكن تقابلهُ هي بغير السكون. وقد أطلَّ من عينيها لهيبٌ قاتم عميق وارتدت ملامحها هيئة آمرة تبعدها عن الشباب والشيخوخة معًا، وتجعلها شبيهة بالتماثيل التي لا تتغير شاراتها وتظلُّ في أوضاعها ثابتة على الدوام.
فكرت فيها طويلًا ذلك المساء، وألَّفْتُ من كلِّ ما سمعتُ عنها رواية كئيبة فقلت لنفسي: «يا للخسارة! لماذا تتجاهل هذه المرأة ذاتها؟ لماذا لا تنسى أنها حسناء فترتفع إلى القمة التي أراها أهلًا لبلوغها؟»
وفي الغد جاء السنيور ف. ليعطيني درسي الموسيقي ولكن بدلًا من أن يأتي في الساعة الحادية عشرة، وهي الوقت المعين، جاء قبل الظهر بعشر دقائق. دخل يفرك يديه وعيناهُ تلمعان وراءَ زجاجتي نظارته، فتذمرت وقلت: «إنك لا تبالي بوقتي يا أستاذ، لقد أتلفت صباحي، بل نهاري كله!» فضحك ضحكة ابتدأت في قرارٍ معتدل وانتهت فيما يشبهُ زقزقة الطيور وقال: «أنا لست أستاذ رياضيات لأُلْزَم بالمجيءِ في الوقت المعين.» وفرك يديه من جديد ليستشهد بالمثل الفرنسوي القائل: «بعض التشويش ضروري لتجميل الفنِّ.» قلت: «ولكن وقتي …» فقاطع قائلًا: «الدرس، الدرس.» وسمع الجيران مدة ساعة طويلة تلك الضوضاء الخاصة التي يحدِثها التمرين والمراجعة في حضرة المعلم.
ولما انقضت الساعة بإجهاد وسلام طلبت حقِّي. والسنيور ف. يعزف لتلاميذه القطعة التي يطلبونها إذا كان راضيًا عنهم. وحقي الذي طلبته يومئذٍ قطعة موسيقى روسية كان قد عزفها في حفلة اليوم السابق.
•••
فجلس إلى البيانو وقبل أن يبدأ تكلمنا عن «الكونسرت»، وتبادلنا الآراء في أصوات المنشدين والمنشدات حتى وصلنا إلى ذات الحكاية، فسألته: «أهي من تلاميذك؟»
أجاب: «كلَّا ولكنها من تلميذات السيدة ك. وقد اجتَمعتُ بها عندها غير مرة.»
قلت: «أسمعهم يلقِّبونها تارة بالمدام وطورًا بالمدموزيل، أمتزوجة هي أم عزباء؟»
فتنهد وقال: «يا لها من امرأة مسكينة!»
فقلت: «وهل من ظروف حياتها ما يحرِّك الشفقة إلى هذه الدرجة؟»
فقال: «ومَن ذا الذي لا يشفق على امرأة جمعت بين الحسن والذكاء والصلاح وهيَّأتها الطبيعة لتسعد وتُسعِد فلم يكن نصيبها إلا الشقاء؟»
قلت: «أي شقاء تعني؟»
قال: «كيف؟ ألا تعرفين حكايتها؟»
قلت: «أعرف عنها نتفًا مبعثرة. ومن ذا الذي يستطيع أن يرسم لحياة امرئٍ صورة جلية من كلام الناس؟»
فتنهد مرة أخرى، وجرَت أنامله بسرعة على السلم الموسيقي كأنه يسرح شيئًا من أسفه أو يبحث عن أسلوب جديد لحكاية قديمة. ثم غشت نظرة سحابة وقال: «كان والد هذه الفتاة قاضيًا في المحاكم المختلطة وهو على جانب كبير من العلم والذكاء، فعلَّم ابنته وثقَّفها أحسن تثقيف. ولما جاء وقت الزواج جرى لها ما يجري لفتيات كثيرات؛ أي إن والديها انتقيا لها خطيبًا أجنبيًّا مثلها، رأيا فيه ما يُملق مطالبهما الاجتماعية. وكان على الخاطب مسحة من الجمال فلم تعارض. ورضيت كما ترضى الكثيرات من أخواتها ليفرحن بالأثواب، والأساور والحرية المنتظرة، فتزوجت في عرس فخم دُعي إليه أعيان الجاليات الأوروبية. ولم يكنْ حتى استولى الزوج على البائنة المتفق عليها.»
وقف الأستاذ عن الكلام، وقد بدت على وجهه سيماء الخجل والرحمة والاحتقار جميعًا. ثم قال بعد سكوت قصير: «كم أشقت المرأة من رجلٍ، وكم مزَّقت من شمل، وكم كسرت من قلب! ولكن مسكينة هي عندما لا تكون شريرة! مهما علت في عين نفسها، ومهما تحررت من قيودها، ومهما بالغت المناديات بحقوقها في رفعها إلى مستوى الرجل فإن حياتها، كلَّ حياتها، تظلُّ في قبضة هذا الرجل الذي تزعم أنها مثيلتهُ، وما هي في الواقع سوى ما يريد هو أن تكون، فإذا كان حرًّا نبيلًا جعلها حرَّةً نبيلة، وإن كان ذليلا حقيرًا حقَّرها وأذلها، فهي ألعوبته، وهي عبدته، وهي الشيء الذي يتصرف به في سائر الأحوال. وبعض ذوي الضمائر من الرجال تروعهم هذه السلطة على المرأة، وهذه القدرة التي تهزأ بتقلُّب السياسة والاجتماع؛ لأنها أقوى من الاجتماع والسياسة وأمكن باستنادها على الطبيعة نفسها، فيحجمون عن الزواج خوفًا من نفوسهم.»
ضايقتني هذه التعليقات على أهميتها؛ لأني كنتُ أرغب في استماع البقية، فقلت: «ثم ماذا جرى؟»
قال: «جرى أن ذلك المتحذلق كان مقترنًا سرًّا بامرأة أخرى، وكان يحتاج إلى نقود فكان الزواج أسهل وسيلة للفوز بحاجته. وبعد ثلاثة أسابيع اختفى.»
– «وكيف اختفى؟»
– «خرج من منزله ولم يعد، فجُنَّت زوجتهُ في الأيام الأولى؛ إذ ظنت أنه قُتل. ومرَّت الأسابيع فشاع خبر سفره مع زوجته الأولى، فأرسلوا يبحثون عنه في بلده بإيطاليا، وهنا غص السنيور ف. بِريقهِ؛ لأنه إيطالي، ولكن ذهبت أتعاب البوليس سدًى، ولم يجدوا له أثرًا لا في إيطاليا ولا في غيرها من بلاد الغرب. ولم يطل حتى تُوفي والد هذه المرأة التي غُدِرَت في شبابها، وفي حبها، وفي مالها، وفي مركزها، فأمست وحيدة فقيرة، والكنيسة لا تحلُّ زواجها؛ لأن الرجل لم يكن مرتبطًا مع زوجته الأولى بزواج كنسي، بل كان زواجه اتفاقيًّا فقط. القانون يعاقب على هذا، ولكن كيف يصل القانون إلى مَن ضاع في المجهول؟ ولو كسرت الكنيسة زواج المرأة لظلَّ الناس في ريبة من أمرها؛ لأن المظلوم أكثر تعرضًا للشبهات والتخمين من الظالم، لا سيما إذا كان المظلوم امرأة والظالم رجلًا؛ لذلك ترين الناس يؤوِّلون كل حركة تأتيها؛ لأنها حَلَت على ألسنتهم وصارت لأفواههم مضغة سائغة. ولو قضت أيامها بالصوم والصلاة والتقشف لما أنصفوها. ومهما نقدتهم الثمن غاليًا فلا يبيعونها ذلك الاعتبار الوهمي الذي يتزلَّفون به لدى أهل الجاه والثروة والسلطان، أو لدى مَن أتقن «البلف» عليهم، فأي غاية لهذه المرأة من الحياة؟ لا هي طليقة تتصرف بأيامها، ولا هي مقيَّدة تجد في تحطيم قيودها تعزية وسلوى. هذه حياة بتراء أشقاها الرجل كما بتر وأشقى مثلها وقبلها كثيرات …»
قلت: «ولكن كيف لم تشعر هي خلال الخطبة أنه يخادعها؟»
قال: «لا أدري كيف لم تفهم هي، ولم يلمح أهلها شيئًا من ذلك.»
قلت: «لعلَّه تزوجها مخلصًا إلا أنه ظلَّ يفكر في تلك التي ربما كانت على جمال عظيم.»
قال: «يقول الذين يعرفونها إنها عجوز شمطاء، ويتعجبون كيف يرضى بها هذا المتوقد المتأنق جارية.» ثم أطرق قليلًا وقال: «ولكن ليس للشباب والجمال دخل في هذه المسائل. الجمال يُبحث عنه في الصالون، والمسرح، والاجتماع، والشارع، والمرأة المليحة تجذب النظر عادةً أكثر ممن كانت أقل ملاحة. على أن تأثيرها لا يتعدى ذلك، والتاريخ شاهد على قولي. وأقرب شواهد التاريخ نجدها في وليِّ عهد النمسا الذي نشبتْ الحرب إثر مقتله، وهو الذي أعرض عن جميع الأرشيدوقات النمساويات الباهرات الجمال، وعن جميع الأميرات في الدول المالكة، وتنازل عن العرش والتاج غير مرة ليتزوَّج بمن هي أقل النساء ظرفًا وحسنًا. وهي الكونتس دي شوتك وصيفة إحدى قريباته، التي صارت بعد زواجها الدوقة دي هوهنبرج، وقد قُتلت معهُ في مفْجعة سراجيفو.»
•••
رأيت البارحة، في حديقة بضواحي القاهرة، السيدة ذات الحكاية. فهمت الآن لماذا يتغير معنى عينيها، ولئن لم أدرك بعدُ تمامًا ماذا تعني كلمة «حياة بتراء»؛ فإني أدرك أن الحياة تهيئ لبعضهم ظروفًا لم يحلموا بها، ولو حلموا لتلافوها مشيًا على الأشواك والجمرات. وعلمتُ أن في ذلك القوام المعتدل، وفي ذلك الهيكل الذي يمثل القوة والأنفة قلبًا، قد يكون جرحه الحبُّ الصادق يومًا إلا أنه اليوم يعذبهُ سرطان تتمدَّد منه الأصول في جميع نواحيه، ذلك السرطان العريق الذي لا يُقتلع؛ احتقار الحياة وعدم الثقة بالناس.