الأفكار القديمة ومراسل الآنسة مي
مكاتب حضرة الآنسة مي الذي نشرت الأخبار شيئًا من كلامه نقلًا عن المحروسة. لا نعرف منه سوى أنه «مسرور من وجود مثل الدكتور شميل في الشرق؛ لأن هذا الرجل لازم لهدم الأفكار القديمة التي يتقبلها الناس بلا بحث ولا جدال … إلخ»، فنهنئ حضرة الدكتور بهذه الحظوة، ولكنا نأخذ على حضرة الكاتب خوضه في مثل هذا الموضوع الخطير بكلام خيالي شعري هو من الإبهام بحيث لا يفيد إلا التضليل وامتهان النفس بأشرف عاطفة فيها.
تدل القرائن على أن حضرة الكاتب يريد «بالأفكار القديمة» العقائد الدينية كالإيمان بإله كامل سرمدي … إلخ، مثلًا مما تخضع له العقول على سموِّه وعجزها عن فهم كنهه، فمثل هذه الأفكار — على قدميتها — ثابت على أقوى الأسس والبراهين التي طالما احتك بها المتفلسفون وصقلتها الأجيال فلم تزدها إلا إرهاقًا.
وإنا — وايم الحق — لنستغرب من الكاتب امتعاضه من تلك «الأفكار» ورميه ذويها بالجهل والتعاسة، وافتتانه بالآراء الحديثة وادعاءه لها أرجحية الثبوت والوضوح. ونحن نرى العلماء يتنازعون فيها ولا يزالون ينقضون اليوم ما بنوا أمس، على حين نراهم هم أنفسهم يزدادون كل يوم تمسكًا بتلك الأفكار التي يدعوها حضرة الكاتب قديمة، ويجاهرون مفاخرين بتمسكهم بها كنيوتون وأراجو وباستور وأمبير وغيرهم كثيرون ممن يُحسبون أئمة في العلوم.
وإنا لندهش من أن مراسل الآنسة مي يحرم نفسه الآن لذة التمتع بمشاهدة ما تتجلى به الأفكار الحديثة من مظاهر الرقي وتهذيب الطباع وتلطيف الهمجية القديمة باستعمال الغازات السامة وطرق القرصنة وأساليب صب البلاء على الأبرياء والضعفاء، فضلًا عما أفادت الألمان — وهم أخص مروجيها ودعاتها — من القدرة التي سمت بهم إلى قتل الأسرى والفتك بالأحداث والشيوخ والنساء.
فأحرى بالكاتب الغيور أن يذهب إلى ميادين القتال هناك ويساعد الألمان في هدم معاهد تلك الأفكار القديمة ومعاقل تلك المعتقدات الدينية التي أثقلها صدى الأجيال كريمس وشقيقاتها. ولا يخفى أن المجال هناك رحب لغيرته، فهذه «الأفكار القديمة» تتجلى الآن بأبهى مظاهرها في فرنسا في الخنادق والمعابد والمعاهد والمعسكرات؛ حيث تُقام الشعائر الدينية ويجهر الجميع بالصلاة. ولم يفُت أصدقاء الكاتب في مصر الوقوف على شيء من مظاهر هذه الأفكار في وفاة ومشهد الجندي لروى ومن كلام الكولونيل موكور الذي أبَّنه بألطف كلام وسكب على جراح ذويه بلسم التعزية بذكر وفاته المسيحية متزودًا الأسرار المقدسة.
ويحسن في هذا الصدد أن نذكر ما نُقل عن العلَّامة الإفرنسي الشهير إميل أماجات الذي خسرته العلوم ونعتته فرنسا إلى العالم حديثًا، وهو أحد أعضاء الجمعية العلمية في باريس والجمعية الملكية في لندن، له المباحث الخطيرة والاكتشافات النافعة في كثير من فروع العلوم الطبيعية، فهذا الفقيد لما اشتدت عليه وطأة المرض استدعى الكاهن وقال له: «طلبتك لتؤهلني للحضور أمام الله. أموت مؤمنًا بكل ما تعتقد به الكنيسة الكاثوليكية … قد كان لي ديني راية، يعلم الله أني ما دنستها بما يشين لأجل مجد أو مقام.»
أفلا يخجل حضرة الكاتب من امتهانه الأفكار القديمة والعقائد الدينية ورميه بالجهل الناس الذين يقبلونها بلا بحث ولا جدال. وهو يرى أمثال إميل أماجات متمسكين بها منتمين بكل افتخار إلى الكنيسة التي تعلِّمها؟