الوجود المتعدد الأكوان
كثيرًا ما تكرَّرت فكرةُ «الشبيه» (أيْ وجود نسختين من نفس الشخص) في أعمال الخيال العلمي؛ على سبيل المثال: عرض المسلسلُ التليفزيوني الشهير «ستار تريك» عدةَ أنواعٍ من قصصِ الشبيهِ تنطوي على أعطال «الناقل»، وهو آلة الانتقالِ الآنيِّ للمركبة الفضائية المستخدمة بطبيعة الحال في الرحلات الفضائية القصيرة المدى. ولما كان الانتقالُ الآنيُّ لشيءٍ يُشبه من حيث المفهوم عملَ نسخةٍ منه في موقعٍ مختلف، فإنَّ بإمكان المرء تخيُّلَ سُبُلٍ عدة يمكن أن تحيد فيها تلك العمليةُ عن مسارها السليم، وينتهي بها الأمرُ إلى صُنْعِ نسختين من كلِّ راكب؛ الأصل والصورة.
تتبايَنُ القصصُ حول مدى تشابُه الأشباه بالأشخاص الأصليين؛ فلو تشاركوا في كافةِ سماتهم تمامًا، لَلَزم عليهم أن يكونوا في نفس الموضع بالضبط، وأن يكونوا أشباهًا مماثلين لهم كذلك. ولكنْ ماذا يعني ذلك؟ تؤدِّي محاولةُ جعْلِ الذرات يتطابق بعضها مع بعضٍ بأن تشغل الحيِّزَ نفسه، إلى إشكاليةٍ فيزيائية؛ فمثلًا: تكون النوى المتطابقة عرضةً للاندماج وتشكيلِ ذراتِ عناصرَ كيميائيةٍ أثقلَ. ولو تطابَقَ جسدان بشريان متشابهان ولو على نحوٍ تقريبي، لَانفَجَرَا؛ وذلك ببساطةٍ لأن الماء إذا تضاعفَتْ كثافتُه عن مستواها الطبيعي، فسينتج ضغطٌ يماثِلُ ضغْطَ مئاتِ آلاف الأغلفة الجوية. يستطيع المرءُ تجنُّبَ مثل تلك المشكلات في الأدب القصصي الخيالي بواسطة تخيُّلِ قوانينَ فيزيائيةٍ مختلفة، ولكن — حتى في هذه الحالة — لو ظلَّ الأشباهُ يتطابقون مع الأصول طوالَ القصة، لَمَا باتَتِ القصةُ تدور حقًّا حول الأشباه؛ لا بدَّ أن يختلفَا إنْ عاجلًا أو آجلًا: أحيانًا ما يكونَان «الوجهين» الطيبَ والشريرَ لنفس الشخص، وأحيانًا ما يبدآن بعقلياتٍ متطابقة، ثم يأخذان في الاختلاف إثرَ مرورهما بتجارب مختلفة.
في بعض الأحيان، لا «يُنسَخ» الشبيهُ من الأصل، بل يوجد من البداية في «كونٍ موازٍ»؛ فيوجد في بعض القصص «صدْعٌ» بين الأكوان يسمح للمرء بأن يتواصَلَ مع شبيهه أو حتى بأن يشدَّ إليه الرحالَ ليقابله، وفي قصصٍ أخرى، تظلُّ الأكوانُ غيرَ متصِلٍ بعضُها ببعض، وحينئذٍ تدور حبكةُ القصة (أو بالأحرى القصتين) حول الكيفية التي تؤثِّر بها الاختلافاتُ فيما بينهما على الأحداث. خُذْ على سبيل المثال فيلمَ «الأبواب المنزلقة» الذي يسرد بالتبادُل تنويعتين لقصة حبٍّ واحدةٍ تُصوِّران مسارَ حياةِ نسختين من نفس الحبيبين في كونين لا يختلف أحدهما عن الآخَر في بادئ القصة إلا في تفصيلةٍ صغيرة. في نوعٍ أدبيٍّ مشابِه — يُعرَف باسم «التاريخ البديل» — لا توجد حاجةٌ إلى رواية إحدى القصتين روايةً مُسهبةً؛ لأنها تكون جزءًا من تاريخنا ويُفترَض أن الجمهور مُلِمٌّ بها، ومن أمثلة هذا النوع روايةُ روبرت هاريس «أرض الأجداد»، التي تدور حول كوْنٍ انتصرَتْ فيه ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، ورواية روبرت سيلفربرج «روما السرمدية» التي تدور حول كوْنٍ لم تَنْهَرْ فيه الإمبراطوريةُ الرومانية.
في فئةٍ أخرى من القصص، يتسبَّب عطلُ الناقل في نفْيِ الركاب عن دون قصدٍ إلى «منطقة أشباح»؛ حيث تكون لهم القدرةُ على رؤيةِ وسماعِ مَن هُمْ في العالم العادي (وكذلك رؤية وسماع بعضهم بعضًا) وأولئك لا يشعرون بهم؛ ومن ثَمَّ يمرون بتجربةٍ مضنيةٍ من صياحٍ وإيماءاتٍ بلا جدوى إلى أقرانهم على المركبة الفضائية الغافلين عنهم تمامًا، والذين يمرون من خلالهم دون درايةٍ بوجودهم.
وفي قصصٍ أخرى، لا يُبعَث إلى منطقة الأشباح إلا ﺑ «نُسَخٍ» من الركاب ودون علمهم؛ قد تنتهي قصةٌ كهذه باكتشاف المنفيين أنهم قادرون — بالرغم من كل شيء — على إلحاقِ بعض التأثير بالعالم العادي؛ وهم يستخدمون حينئذٍ ذلك التأثيرَ في تنبيهِ مَن حولهم بوجودهم؛ ومن ثَمَّ يُنقَذون بواسطة عكسِ العملية التي أدَّتْ إلى نفيهم. وعلى حسب العلم التخيُّلي في القصة، قد يبدأ المنفيون حياةً جديدةً باعتبارهم أشخاصًا مستقلين، أو قد يندمجون مع أصولهم. ينتهك الخيار الثاني قانونَ حفْظِ الكتلة وغيره من القوانين الفيزيائية، ولكنْ — مجدَّدًا — هكذا الخيال الأدبي.
على أن ثَمَّةَ فئةً معينةً من محبِّي الخيال العلمي المتحذلقين بعضَ الشيء — وأنا منهم — يُفضِّلون أن ينطويَ الخيالُ العلميُّ على بعض المنطقِ، بأنْ يتكوَّنَ من تفسيراتٍ جيدةٍ على نحوٍ معقول. شتَّان بين تخيُّلِ عوالمَ لها قوانينُ فيزيائيةٌ مختلفة عن عالمنا، وتخيُّلِ عوالمَ غيرِ معقولةٍ حتى بقوانينها. لنأخذْ هذا المثال: نريد أن نفهم كيف يمكن للمنفيين أن يرَوْا العالمَ العادي ويسمعوه لكن لا يستطيعون أن يلمسوه. لقد تمَّ التعبيرُ عن موقفنا هذا على نحوٍ لطيفٍ في إحدى حلقات المسلسل التليفزيوني «عائلة سيمبسون»؛ حيث يحاور المعجبون نجمَهم المحبوبَ بطلَ سلسلة المغامرات الخيالية كالآتي:
ولأنَّ هذه الواقعة محض محاكاةٍ ساخرة، لا تدور شكوى المعجَب حول القصة ذاتها، بل حول وجود «خطأ تتابُع»؛ وهو استخدام جوادين في وقتين مختلفين ليقومَا بدورِ جوادٍ خياليٍّ واحد. ومع هذا، توجد قصص معيبة في ذاتها؛ لنتخيَّلْ مثلًا قصةً تدور حول رحلةِ بحثٍ بغرضِ استكشافِ ما إذا كانت الجيادُ المجنَّحة حقيقيةً أم لا، تمتطي فيها الشخصيات جيادًا مجنَّحة. لا يمكن لقصةٍ كهذه — بالرغم من تماسُكها منطقيًّا — أن تكون تفسيرًا جيدًا حتى بإعمال قوانينها الخاصة. قد يُزَجُّ بها في سياقٍ يُكسِبها بعضَ المعقولية؛ كأنْ تكون مثلًا جزءًا من قصةٍ رمزيةٍ تمثِّل كيف يخفق الإنسانُ في فهم معنًى ما يوجد أمامَ عينَيْه في أغلب الأحيان، لكن في هذه الحالة يظلُّ أيُّ تميُّزٍ تتحلَّى به القصةُ متوقِّفًا على الكيفية التي يكون بها سلوكُ الشخصيات الذي يبدو بلا معنًى «قابلًا للتفسير»، بحسب قوانين تلك القصة الرمزية. قارِنْ هذا بالتفسير «هذا من فعل الساحر». ولما كان من الممكن أن يُفترض بالساحر إيهامنا بوقوعِ أيِّ أحداثٍ في أي قصة، فهذا إذنْ تفسير سيئ، وهو ما أثار سخط المعجب.
في بعض القصص لا تكون الحبكةُ ذاتَ أهمية؛ فالقصة في الواقع تدور حول شيءٍ آخَر، لكن تستند الحبكةُ الجيدة دائمًا — ضمنًا أو جهرًا — إلى التفسيرات الجيدة لكيفية وأسباب وقوع أحداثها، بِناءً على افتراضاتها الخيالية؛ وفي هذه الحالة — وحتى لو كانت هذه الافتراضات عن السَّحَرة — لا تدور القصةُ حول الأشياء الخارقة في واقع الأمر، وإنما حول قوانينَ فيزيائيةٍ ومجتمعاتٍ خيالية، بالإضافة إلى مشكلاتٍ واقعيةٍ وأفكارٍ حقيقية. تتشابه فقط سائرُ حبكات قصص الخيال العلمي الجيدة مع التفسير العلمي بهذه الطريقة، بل يتشابه معه — بالمعنى الأشمل — كلُّ فنٍّ جيد، وذلك كما سأشرح في الفصل الرابع عشر.
لنتأمَّلْ إذنْ — في ضوء هذا — الأشباهَ الخياليين في منطقة الأشباح؛ ما الذي يمكِّنهم من «رؤية» العالم العادي؟ ما دام أنهم مطابقون لنُسخهم الأصلية من حيث التكوين، فلا بد أن عيونهم تقوم بعملها بواسطة امتصاص الضوء واستشعار التغيُّرات الكيميائية الناتجة عن ذلك، كما تفعل العيونُ الحقيقية، لكنْ لو كانوا يمتصون بعضَ الضوء القادم من العالم العادي، لَكان من الضروري أن يُلقوا بظلالهم على البقاع التي كان من شأن الضوء أن يصل إليها ما لم يُمتصَّ. إذا كان في استطاعة المنفيين رؤيةُ بعضهم بعضًا، فبأيِّ ضوءٍ يرَوْن؟ هل هو ضوءُ منطقةِ الأشباح نفسها؟ لو كان كذلك، فمن أين يأتي؟
ومن ناحيةٍ أخرى، لو كان في استطاعة المنفيين الرؤية «دون» امتصاص الضوء، فلا بد أنهم يختلفون في تكوينهم — على المستوى المجهري — عن أصولهم، وفي هذه الحالة لا يبقى أمامَنا تفسيرٌ لسبب تشابُههم الخارجي مع أصولهم؛ فلن تُجديَ فكرةُ «النَّسْخ العرضي» نفعًا؛ إذ من أين للناقل المعرفة اللازمة لصُنع أشياء تبدو كالبشر وتسلك سلوكَهم، بينما تجري وظائفُهم الداخلية على نحوٍ مختلف؟ لَكأنَّ هذه حالةُ تولُّدٍ تلقائيٍّ.
وبالمثل، هل يوجد هواء في منطقة الأشباح؟ إذا كان المنفيون يتنفَّسون هواءً، فلا يمكن أن يتنفَّسوا هواءَ المركبة الفضائية، وإلا لَسمعهم مَن في المركبة يتحدَّثون أو حتى يتنفَّسون. لكن لا يمكن أيضًا أن يكون الهواءُ الذي يتنفَّسونه نسخةً من كميةِ الهواء البسيطة التي كانت معهم في الناقل؛ لأنهم يتحرَّكون بحُريةٍ في أرجاء المركبة؛ إذنْ يوجد من هواء منطقة الأشباح ما يشغل المركبة بأكملها. ولكن ما الذي يحجبه عن الانتشار في الفضاء؟
يبدو أن كلَّ ما يحدث تقريبًا في القصة لا يتعارَضُ مع قوانين الفيزياء الحقيقية فحسب (وهو شأن الأدب الخيالي كله)، بل يُثير مشكلاتٍ في قلب التفسير التخيُّلي نفسه؛ فإذا كان بمقدرة الأشباه أن يسيروا من خلال البشر، فلماذا لا يقعون من خلال الأرض؟ في العالم الواقعي، يحمي انحناءٌ طفيفٌ في الأرض مَن عليها من السقوط، لكن لو انحنَتِ الأرضُ في القصة، لَاهتَزَّتْ مع خطواتهم مُصدِرةً موجاتٍ صوتيةً قد تصل إلى أسماع الناس في العالم العادي؛ لا بد إذنْ من وجود أرضيةٍ منفصلةٍ وحوائطَ منفصلة، بل وهيكلِ مركبةٍ كاملٍ منفصلٍ في منطقة الأشباح، حتى الفضاء خارج هذا الهيكل لا يمكن أن يكون عاديًّا؛ فلو كانت العودةُ إلى الفضاء العادي ممكنةً بواسطة الخروج من المركبة، لَسلَكَ المنفيون هذا الطريقَ للعودة. أما لو كان التفسير أنَّ ثَمَّةَ فضاءَ منطقةِ أشباحٍ بالكامل — أيْ فضاء كونٍ موازٍ — فكيف يؤدِّي مجرد عطلٍ في الناقل إلى «كل ذلك»؟
ينبغي ألَّا تفاجئنا صعوبةُ ابتكارِ قصص الخيال العلمي الجيدة؛ فهي في الواقع صورةٌ من صور العلم الحقيقي، والمعرفة العلمية الحقَّة يصعب جدًّا التغيير فيها؛ وعليه فإن أغلب القصص التي أشرتُ إليها — إنْ لم تكن كلها — غيرُ معقولةٍ في الصورة التي صِيغت بها. لكني أريد أن أستطرد بقصةٍ ألَّفْتُها وسأعمل على أن تتَّسِمَ (بمرور الوقت) بالمعقولية.
يواجه مؤلفُ الخيال العلمي الحقيقي دافعَيْن متضاربَيْن: أولهما أن يَدَع القارئَ ينخرط في القصة — شأنه في ذلك شأن كل قوالب الأدب — وأسهلُ وسيلةٍ لتحقيق ذلك هي تناوُلُ موضوعاتٍ مألوفةٍ بالفعل، غير أن هذا الدافع بشريُّ التمركُزِ؛ فهو مثلًا يدفع بالمؤلف إلى تخيُّلِ سُبُلٍ للالتفاف حول الحد الأقصى لسرعة الانتقال والاتصال الذي تنصُّ عليه قوانين الفيزياء (أيْ سرعة الضوء). لكن عندما يفعل المؤلفون ذلك، يُحيلون «المسافة» إلى الدور الذي تقوم به في القصص التي تدور في كوكبنا الأم؛ فتقوم المجموعاتُ النجمية بالدور الذي كانت تقوم به الجزرُ النائيةُ أو الغربُ الأمريكيُّ في القصص الأدبية في الماضي. وبنفس الكيفية يواجه المؤلِّفُ إغراءً إزاءَ قصصِ الأكوان الموازية؛ إذ يرغب في جعْلِ الاتصال والسفر بينها ممكنَيْن، ولكن حينئذٍ تكون القصةُ في حقيقة الأمر حول كونٍ واحدٍ؛ فما دام اختراقُ العوائقِ القائمةِ بين الكونين أصبح أمرًا يسيرًا، تُمسي تلك العوائقُ إذنْ شكلًا جديدًا من المحيطات الفاصلة بين القارات. إن القصة التي تنجرف نحو هذا الدافعِ البشريِّ التمركُز ليسَتْ بخيالٍ علميٍّ حقيقي، وإنما أدب عادي متنكِّر.
وعلى النقيض يأتي الدافعُ الثاني، وهو استكشاف أقوى نسخةٍ ممكنةٍ من فرضية خيالٍ علمي، وأغرب آثارها الممكنة؛ ممَّا يدفع بالمؤلف في اتجاهٍ مناهِضٍ لمركزية البشر. قد يزيد الانصياعُ لذلك الدافع من صعوبةِ انخراطِ المتلقِّي في القصة والتفاعُل معها، لكنه في الوقت نفسه يتيح مجالًا أرحب للتأمُّلات العلمية، ولَسوف ألجأ إلى سلسلةٍ متتابعةٍ من تلك التأمُّلات في القصة التي سأسردها هنا، وستكون جميعها بعيدةً عن المألوف والمعتاد، باعتبارها وسيلةً لتفسير العالم وفقًا لنظرية الكمِّ.
إن نظريةَ الكمِّ هي أعمقُ ما توصَّلَ العلمُ إليه من تفسيرٍ، وهي تتعارض مع الكثير من الافتراضات الشائعة، والافتراضات العلمية، بما فيها ما لم يتوقَّع أحدٌ أن يضعها حتى أتَتْ نظريةُ الكمِّ وعارضتها معه. ومع كل ذلك فهذه المنطقة التي تبدو غريبةً هي الواقع الذي ننتمي إليه نحن، وكذلك ينتمي إليه كلُّ ما تدركه حواسُّنا، ولا واقعَ غيره؛ وبهذا ربما أخسر بنَسْجِي القصةَ في تلك المنطقة مكوناتِ الدراما التقليدية، ولكنْ أجني في المقابل فُرَصًا لتفسير أمرٍ أغرب من أيِّ خيالٍ أدبيٍّ، مع أنه أنقى وأبسطُ حقيقةٍ نعلمها عن العالم المادي.
لعلَّ من الأفضل أنْ أحذِّرَ القارئَ من أن التأويلَ الذي سأقدِّمه — المعروف تحت اسم «تأويل الأكوان العديدة» لنظرية الكمِّ (وهو اسمٌ غير ملائم؛ إذ إنه ينطوي على أكثر من مجرد تعددٍ للأكوان) — لا يزال حتى لحظةِ كتابةِ هذه السطور رأيَ أقليةٍ من علماء الفيزياء فحسب. سأتحرى في الفصل التالي أسبابَ عدمِ شعبيةِ هذا التفسير، بالرغم من أن كثيرًا من الظواهر التي تمَّت دراستُها باستفاضةٍ ليس لها أيُّ تفسيرٍ معروفٍ غيره، أما الآن فَلْنكتفِ بالقول إن فكرة قيام العلم بدور التفسير في حد ذاتها — بالمعنى الذي أؤيِّده في هذا الكتاب (وهو تأويلُ ما هو موجود فعلًا من حولنا) — ما زالت رأيَ الأقليةِ حتى بين علماء الفيزياء النظرية.
لأبدأ إذن بما هو على الأرجح أبسطُ «كونٍ موازٍ» يمكن تأمُّله: «منطقة أشباح» موجودة من الأزل (منذ أن حدث انفجارُها العظيم). ظلَّتِ المنطقةُ شبيهًا مطابقًا للكون بأكمله؛ ذرةً بذرة، وحدثًا بحدث، حتى بداية قصتنا.
تَنتج كلُّ عيوب قصص منطقة الأشباح التي ذكرتُها آنفًا من نقطةِ تبايُنٍ مفادها أن الأشياء في العالم العادي تؤثِّر على منطقة الأشباح، بينما العكسُ غير صحيح. دَعْني إذنْ أستبعد تلك العيوبَ بأن أتخيَّلَ — لبرهةٍ — أنه لا يوجد اتصالٌ بين الكونين على الإطلاق، ولما كنَّا بصددِ الالتزام بالفيزياء الحقيقية، فدَعْني أستعِدِ الحدَّ الأقصى لسرعة الاتصال — سرعة الضوء — وَلْنجعل قوانينَ الفيزياء عموميةً ومتَّسِقةً (أيْ إنها لا تُفرِّق بين كونٍ وآخَر). وهي قوانين جبرية كذلك؛ فلا تحدث أمور عشوائية؛ ولهذا السبب ظلَّ الكونان متماثلَيْن حتى الآن. كيف يمكن — إذنْ — أنْ يختلفَا؟ هذا هو السؤال المحوري في نظرية الوجود المتعدِّد الأكوان، الذي سأجيب عنه فيما يلي.
يمكن أن ننظر إلى خصائص عالمي التخيُّلي كلها على أنها شروط تُنظِّم تدفُّقَ المعرفة؛ فلا يمكن للمرء أن يبعث برسالةٍ إلى الكون الآخَر، ولا أن يُغيِّر أيَّ شيءٍ في كونه الخاص بسرعةٍ تفوق سرعةَ وصولِ الضوء إلى ذلك الشيء، ولا يملك المرءُ جلْبَ معرفةٍ جديدةٍ من خارج العالم، حتى إن كانَتْ معرفةً عشوائية؛ لأن كلَّ شيء يجري تحكُمُه قوانينُ الفيزياء التي استُخلِصت ممَّا سبق أن حدث من قبلُ؛ ومع ذلك، يستطيع المرءُ بالطبع أن يجلب «معرفةً» جديدة إلى العالم. تتكوَّن المعرفةُ من تفسيراتٍ، ولا تمنع أيٌّ من تلك الشروطِ ابتكارَ التفسيرات الجديدة، وينطبق كلُّ ذلك على العالم الحقيقي أيضًا.
لنتخيَّلْ مؤقتًا أن الكونين متوازيان بالمعنى الحرفي للكلمة، وَلْننحِّ البُعْدَ الثالث جانبًا ونتخيَّل كونًا وكأنه ثنائيُّ الأبعاد، كتليفزيونٍ مسطحٍ على نحوٍ لا متناهٍ، ثم نضع تليفزيونًا مشابِهًا آخَر في وضعٍ موازٍ للأول بحيث يعرض نفسَ الصور بالضبط (التي ترمز للأشياء الموجودة في الكونين). والآن تجاهَل الموادَّ التي صُنِع منها الجهازان، فلا يوجد سوى الصور؛ هذا للتأكيد على أن الكون ليس وعاءً يحتوي على أشياءَ مادية، بل «إنه هو نفسه» تلك الأشياء. في الفيزياء الحقيقية، حتى الفضاء نفسه شيءٌ ماديٌّ قادرٌ على تشويهِ المادة والتأثيرِ عليها والتأثُّرِ بها.
لدينا الآن إذنْ كونان متوازيان تمامًا ومتطابقان، يحتوي كلٌّ منهما على نسخةٍ من مركبتنا الفضائية، وطاقمها، وناقلها، ومن الفضاء برمته. من المضلِّل أن نُطلِق الآن على أحد الكونين اسم «الكون العادي»، فيما نُسمِّي الآخَر «منطقة الأشباح»؛ نظرًا لتطابُقِهما التام؛ لذا سأدعوهما فقط «الكونين»، كما سأدعوهما معًا (وهو ما يشمل مجمل الواقع المادي في القصة حتى الآن) بالوجود المتعدِّد الأكوان. وبالمثل، من المضلِّل أن نتحدَّثَ عن «أصل» و«شبيه»؛ ببساطةٍ كلٌّ منهما الآن «نسخة» من الشيء.
لو توقَّفَت تأملاتُ خيالنا العلمي عند هذا الحد، لَظَلَّ الكونان متطابقَيْن إلى الأبد. هذا ممكن منطقيًّا، ولكنه يعيب قصتنا بصفتها عملًا أدبيًّا، وكذلك بصفتها تأمُّلًا علميًّا لنفس السبب؛ فصحيح أن هذه قصة تدور حول كونَيْن، ولكنها تحكي «تاريخًا» واحدًا؛ بمعنى أنه لا يوجد سوى سيناريو واحدٍ لما يجري فعلًا في كلا الكونين؛ وعليه فهي — بصفتها عملًا أدبيًّا — قصةُ كونٍ واحدٍ متنكِّرة بغير هدف. أما بصفتها تأمُّلًا علميًّا، فهي تصف عالمًا لن يكون قابلًا للتفسير من قِبَل سكَّانه، وكيف لهم أن يجادلوا بأن تاريخهم يحدث في كونين وليس في ثلاثةٍ أو ثلاثين؟ لِمَ ليس في اثنين اليومَ وثلاثين غدًا؟ ولمَّا كان لعالمهم تاريخٌ واحد، فإن كلَّ تفسيراتهم الجيدة عن الطبيعة ستدور حول ذلك التاريخ. لعل ذلك التاريخ الوحيد هو ما كانوا يقصدون بقولهم «العالم» أو «الكون»، وهم لا يَعُونَ شيئًا عن ثنائية واقعهم الضمنية، وما كانوا ليعقلوها تفسيرًا ولو وُجِد بدل الكونين ثلاثة أو ثلاثون، على أنهم يقعون في هذه الحالة في خطأٍ حقيقي.
ملحوظة بشأن التفسير: مع أن القصة حتى الآن تبدو تفسيرًا سيئًا من وجهة نظر السكان، فإنها ليست كذلك بالضرورة فيما نرى نحن. يساعدنا تخيُّلُ عوالمَ غيرِ قابلةٍ للتفسير على فهم طبيعة القابلية للتفسير، ولقد سبق أن تخيَّلتُ بالفعل بعضَ العوالم غير القابلة للتفسير في فصولٍ سابقةٍ من أجل هذا الهدف بالذات، وسوف أتخيَّلُ المزيدَ منها في هذا الفصل. لكن في النهاية أرغب في أن أحكيَ عن عالمٍ قابلٍ للتفسير، وسيكون هذا عالمنا.
ملحوظة بشأن المصطلحات: «العالم» هو الواقع المادي بأكمله. في الفيزياء الكلاسيكية (قبل فيزياء الكمِّ)، كان من المعتقد أن العالم يتكوَّن من كونٍ واحد؛ مكانٍ متكامِلٍ ثلاثيِّ الأبعاد على مرِّ الزمن، بالإضافة إلى كل محتوياته. أما وفقًا لنظرية الكمِّ، فالعالمُ — كما سأشرح — أكبرُ بكثيرٍ وأكثرُ تعقيدًا؛ إنه «وجود متعدِّد الأكوان» يشمل الكثيرَ من مثل تلك الأكوان (بالإضافة إلى أشياءَ أخرى). و«التاريخ» هو سلسلةٌ من الأحداث حدثَتْ للأشياء، وربما لنظائرها المطابقة؛ إذنْ فالعالم في قصتي حتى الآن عبارة عن وجودٍ متعدِّد الأكوان يتكوَّن من كونين، لكنَّ له تاريخًا واحدًا.
لا بدَّ إذنْ ألَّا يظلَّ كونانا متطابقَيْن، لا بدَّ لواقعةٍ مثل عطْلٍ في الناقل أن تُحدِثَ بينهما اختلافًا، بَيْدَ أن ذلك — كما قلتُ — قد يبدو وكأنه قد استُبعد بفعل القيود المنظمة لتدفُّق المعلومات. تتَّسِم قوانينُ الفيزياء في الوجود المتعدِّد الأكوان الخيالي هذا بالجبرية والاتساق؛ إذنْ ماذا بِيَدِ الناقل أن يفعل ممَّا من شأنه أن يُحدِث اختلافًا بين الكونين؟ قد يبدو أنه مهما فعلَتْ أيُّ نسخةٍ من نسختَيْه في كونٍ، فإن شبيهتها ستصنع حتمًا نفس الفعل في الكون الآخَر؛ فلا يَسَعُ الكونَيْن إلا أن يبقَيَا متشابهَيْن.
من المفاجئ أن ذلك غير صحيح؛ فليس من مخالفة الاتساق في شيءٍ أن يختلف كيانان متطابقان وواقعان تحت سطوةِ قوانين جبرية ومتَّسقة، لكن ينبغي لحدوث ذلك أن يكونا في البداية أكثرَ من مجرد صورتين دقيقتين إحداهما من الأخرى؛ إذ ينبغي أن يماثِلَ كلٌّ منهما الآخَر، وهو ما أعني به أن يكونا متشابهَيْن في كل شيء، باستثناء أنهما شيئان لا شيءٌ واحد. سيتكرَّر ظهورُ مفهوم التماثل في قصتي مرارًا، وهو مصطلح استعرْتُه من المصطلحات القانونية؛ حيث يشير إلى الرؤية القانونية التي تعامِل كياناتٍ بعينها باعتبارها كياناتٍ متطابقةً لأغراضٍ مثل تسديد الديون؛ الأوراق النقدية من فئة الدولار على سبيل المثال هي أشياء متماثِلة في نظر القانون، وهو ما معناه أنَّ اقتراضَ دولارٍ لا يتطلَّب من الشخص ردَّ نفسِ الورقة النقدية التي اقترَضَها، ما لم يُتفَّقْ على غير ذلك. إن براميل البترول (من نفس الدرجة) أشياءُ متماثلةٌ أيضًا. الجياد ليسَتْ موجوداتٍ متماثلةً؛ فاستعارة جوادٍ خاصٍّ بشخصٍ ما يعني أنَّ على المستعير ردَّ نفسِ الجواد؛ فلا يجوز تغييرُه ولا حتى بتوءمه. لكنْ لا يقوم التماثُلُ الفيزيائي الذي أشير إليه هنا على «رؤية» أو «اعتبار»، بل تعني التطابُقَ التامَّ، وهذه خاصيةٌ مختلفة تمامًا، وهي مناقضة للبديهة كذلك. وصل الأمر بلايبنتس في قانونه «هوية الأشياء المتماثلة» إلى حدِّ استبعادِ وجودها من حيث المبدأ، لكنه كان مخطئًا. حتى بطرح فيزياء الوجود المتعدِّد الأكوان جانبًا، نحن نعلم اليومَ أن الفوتونات يمكن أن تكون متماثِلة؛ كما هي الحال في أنواع الليزر المختلفة، بل الذرات أيضًا تحت ظروفٍ معينة، وذلك كما في أجهزةٍ تُدعَى «الليزر الذري»؛ إذ تقوم الأخيرة بإطلاق فيوضٍ من ذراتٍ متماثِلةٍ شديدةِ البرودة. تابِعِ القراءةَ لتعرف كيف يحدث ذلك دون التسبُّبِ في وقوع تحوُّلٍ أو انفجاراتٍ أو ما شابه.
لن تجد مفهومَ التماثُلِ مُناقَشًا أو حتى مذكورًا في الكثير من المراجع أو الأوراق البحثية المتعلِّقة بنظرية الكمِّ، ولا حتى بين الأقلية البسيطة التي تؤيِّد تأويلَ الأكوان العديدة؛ ومع هذا، فهو موجود في كل مكان، لا تخفيه سوى قشرةٍ سطحيةٍ من المفاهيم، وأعتقد أنَّ توضيحه للناس سيساعد على الشرح الدقيق للظواهر الكمية. سيتضح لاحقًا كيف أن التماثُلَ سمةٌ أغرب حتى ممَّا خمَّن لايبنتس؛ أغرب كثيرًا من الأكوان العديدة على سبيل المثال، التي هي في النهاية من الناحية البديهية مجرد نُسَخٍ متكرِّرةٍ بعضها من بعض. فهذه السمة تسمح بوجود أنواعٍ جديدةٍ تمامًا من «الحركة» و«تدفُّق المعلومات»؛ أنواعٍ تختلف عن أي شيءٍ جالَ بالخيال قبل فيزياء الكمِّ؛ ومن ثَمَّ تجيز بنيةً للعالم المادي مختلفةً اختلافًا جذريًّا.
يتصادف أيضًا أن تكون الأموال — في بعض المواقف — ليسَتْ متماثلةً قانونيًّا فحسب، وإنما ماديًّا أيضًا؛ وهي بمنزلة نموذجٍ جيدٍ لفهم مفهوم التماثُل لكونها شيئًا مألوفًا ومتداولًا. هاك مثالًا: إذا كان حسابُك المصرفي (الإلكتروني) يحتوي على دولارٍ واحد، ثم أضاف البنكُ إليه دولارًا آخَر على سبيل مكافأةِ ولاءِ العميل، ثم سَحَب دولارًا للرسوم، فلا يهمُّ حينئذٍ أي الدولارين سحبه البنكُ للرسوم: الدولار الموجود منذ البداية، أم الدولار الذي أضافه إلى الحساب، أم جزء من كلَيْهما. ليس هذا لمجرد أننا «لا نستطيع أن نعرف» إن كان نفس الدولار المضاف هو المسحوب، أو أننا قرَّرْنا ألَّا نبالي؛ بل لأن فيزياء الموقف تَحُول دون وجودِ ما يُوصَف بسحب الدولار الأصلي أو سحب الدولار المضاف لاحقًا.
تندرج الدولاراتُ الموجودة بحسابات البنوك تحت ما يمكن تسميتُه بالكيانات «الشكلية»؛ فهي حالة أو تصوير للأشياء، وهو ما يختلف عادةً عن تصوُّرنا للأشياء المادية ذات الوجود المادي المستقل. يكمن حسابك المصرفي في صورة «حالة» جهاز تخزين معلوماتٍ معيَّن، تملك أنت هذه الحالة بشكلٍ ما (من غير الجائز قانونيًّا أن يُغيِّر أحدهم أيَّ شيءٍ فيها دون موافقتك)، لكنك لا تملك الجهازَ نفسه ولا أيَّ جزءٍ منه؛ يكون الدولار في هذا السياق إذنْ كيانًا مجردًا. إنه بالفعل جانب من المعرفة المجردة. عندما تتجسَّد المعرفةُ في هيئةٍ ماديةٍ في بيئةٍ ملائمةٍ — كما أوضحتُ في الفصل الرابع — تُمكِّن لنفسها الاستمرارَ على هذه الحال؛ ومن ثَمَّ عندما يبلى دولارٌ وتتخلَّص منه دارُ سكِّ العملة، يُجبِرها الدولارُ المجرد على تحويله لصورةٍ إلكترونية، أو لصورة نسخةٍ ورقيةٍ جديدة. إنه ناسخٌ مجردٌ مع أنه — على غير عادة الناسخات — لا يُمكِّن لنفسه أنْ يتكاثر، بل أنْ يُنسَخ في دفاتر الحسابات ووحدات الذاكرة الاحتياطية في أجهزة الكمبيوتر.
ومن أمثلة الكيانات الشكلية المتماثِلة الأخرى في الفيزياء الكلاسيكية كمياتُ الطاقة؛ فلو قُدتَ دراجتَكَ بتبديل الدواستين حتى استجمعتَ طاقةً حركيةً تُقدَّر بعشرة كيلوجول، ثم كبحتها حتى فقدتَ نصفَ هذه الطاقة على هيئةِ حرارة، يكون القولُ بأن الطاقة التي فقدتَها هي أول خمسة كيلوجول اكتسبتَها أو ثاني خمسة أو بعض من كلتيهما؛ قولًا غيرَ ذي معنًى؛ ما يهم هو أنَّ نصْفَ الطاقةِ التي كانت موجودةً قد فُقِدت وتبدَّدَتْ. اتضح أن الجسيمات الأولية — في ضوء نظرية الكمِّ — كياناتٌ شكليةٌ هي أيضًا. يبدو الفراغ لإدراكنا خاويًا بمقاييس الحياة العادية وحتى بالمقاييس الذرية، مع أنه — في واقع الأمر — ليس بخواءٍ؛ بل هو كيان غني البنية يُعرَف باسم «الحقل الكمِّي». الجسيمات الأولية هي بمنزلة صورٍ شكليةٍ من هذا الكيان ذات مستوياتٍ أعلى من الطاقة: «استثارات للفراغ»؛ فمثلًا: الفوتونات الموجودة في إشعاع الليزر هي صور شكلية للفراغ الكامن في «تجويفه»، عندما توجد اثنتان أو أكثر من هذه الاستثارات في التجويف، وتتطابق خصائصُها (كالطاقة، والدوران)، فلا يهمُّ أيها سبقَتْ للوجود فيه، وأيها سترحل عنه أولًا؛ بل المهم هو خصائص أي واحدةٍ منها، والعدد الموجود منها.
يمكن أن يؤدِّيَ حدوثُ عطلٍ في الناقل في قصتنا إلى إكساب كلا الكونين في الوجود المتعدِّد الأكوان التخيُّلي خصائصَ مختلفةً إذا كانَا متماثلين من البداية، بنفس الطريقة التي قد يسحب بها كمبيوترُ البنك من حسابٍ يحتوي على دولارين أحدَ الدولارين المتماثلين دونَ الآخَر. قد تُملِي قوانينُ الفيزياء — مثلًا — أن يتسبَّبَ عطلُ الناقل في وجود دفقةٍ كهربيةٍ بسيطةٍ في الأشياء المنقولة في أحد الكونين دون الآخَر؛ فلا تقدر القوانينُ — بسبب اتساقها في كلا الكونين — على تحديدِ أيٌّ من الكونين سوف يشهد هذه التفصيلة، ولكن لا حاجةَ بها إلى ذلك؛ فالكونان متماثلان على نحوٍ تامٍّ منذ البداية.
قد تتعارض مع البديهة الحقيقةُ التي تقول إن الأشياء المتشابهة تمامًا فحسب (بمعنى أنها نُسخٌ دقيقة بعضها من بعض) والواقعة تحت سطوة قوانين مُلزِمة وجبرية لا تفرق بينها؛ لا يمكن أن يختلف بعضها عن بعضٍ مطلقًا، في حين تستطيع الأشياءُ «المتماثلة» — مع أنها ظاهريًّا أكثرُ تشابُهًا بعضها ببعض — إحرازَ ذلك الاختلاف. هذه هي أولى تلك الخصائص الغريبة للتماثُل، التي لم تخطر يومًا على بال لايبنتس، والتي أرى أنها جزءٌ لا يتجزَّأ من ظواهر فيزياء الكم الأساسية.
إليك خاصية أخرى: افترِضْ أن حسابك يحتوي على مائة دولار، وأنك قد أصدرتَ تعليماتك للبنك بتحويل دولارٍ من هذا الحساب لمصلحة الضرائب في تاريخٍ محدَّدٍ في المستقبل، وعليه يحتوي كمبيوتر البنك الآن على قاعدةٍ جبريةٍ بهذا المعنى. لتفترِضْ أن سببَ هذا الإجراء هو أن مصلحةَ الضرائب تملك ذلك الدولارَ بالفعل (لنَقُلْ لأنها أرسلَتْه إليك عن طريق الخطأ باعتباره مبلغًا زائدًا عن الضرائب المستحقة عليك، ثم حدَّدَتْ لك موعدًا نهائيًّا لرده). لما كانت الدولارات الموجودة في حسابك كلُّها متماثِلةً، لم يكن ثَمَّةَ معنًى لتحديد أيُّها تملكه الضرائبُ وأيُّها تملكه أنت؛ لدينا الآن إذنْ موقفٌ فيه مجموعة من الأشياء التي ليسَتْ كلُّها — بالرغم من تماثُلها — لنفس المالك! تعاني لغةُ الحياة اليومية في وصف موقفٍ كهذا؛ إذ تتطابق كلُّ خصائص الدولارات الموجودة في الحساب تطابُقًا تامًّا بالمعنى الحرفي للعبارة، إلا أنها ليسَتْ مملوكةً لنفس الجهة؛ فهل يجوز إذنْ أن نقول إنها في هذا الموقف بلا مالكٍ؟ هذا قول مضلِّل؛ فمن الثابت أن مصلحة الضرائب تملك أحدها، وأنك تملك الباقي. هل يجوز أن نقول إنَّ لها جميعًا مالكَيْن اثنين؟ ربما، ولكن لأن هذا قول مبهم فحسب. لا يوجد مغزًى بالطبع من القول إن مصلحة الضرائب تملك سنتًا من كل دولارٍ في الحساب؛ فهذا يصطدم بمشكلةِ أنَّ كل السنتات في الحساب متماثِلةٌ هي الأخرى، لكن لاحِظْ — على أي حال — أن المشكلة التي يثيرها هذا «التبايُن بين الأشياء المتماثلة» لا تزيد عن كونها مشكلةً لغوية؛ إنها مشكلة تتعلَّق بكيفية صياغة وصْفِ بعضِ جوانب الموقف في كلمات، فلا أحدَ يجد في الموقف نفسه أيَّ تضاربٍ؛ فقد تمَّ إصدارُ التعليمات للكمبيوتر بتنفيذ قواعد محدَّدة، ولن يشوب ما سيتبع ذلك من نتيجةٍ أيُّ غموضٍ.
إن التبايُنَ بين الأشياء المتماثلة ظاهرةٌ واسعةُ الانتشار في الوجود المتعدِّد الأكوان، وهو ما سأشرحه فيما بعدُ، ولكن ما يميِّز حالةَ الدولارات المتماثِلة أننا لا نُضطَر فيها أن نتساءل عمَّا ستكون عليه الحال — أو نتنبَّأ به — لو كنَّا دولارات. أو بعبارةٍ أخرى: كيف ستكون الحال إنْ كنَّا أشياءَ متماثِلةً ثم أصبحنا مميَّزين؟ تُطالِبنا تطبيقاتٌ عدة لنظرية الكمِّ بأن نتخيَّلَ هذا بالضبط.
لكني في البداية أقترح أن نتخيَّلَ مؤقتًا أن كونَيْنا يقعان في الفضاء جنبًا إلى جنب، تمامًا كما تصف بعضُ قصص الخيال العلمي الأكوانَ الشبيهة على أنها «في أبعادٍ أخرى»، لكن علينا الآن أن نُنحِّيَ جانبًا هذه الصورةَ ونجعلهما يتطابقان؛ أيًّا كانت دلالةُ ذلك «البُعْد الإضافي»، فهو من شأنه أن يجعلهما غيرَ متماثلين. (لن تكون الكياناتُ المتشابهة تمامًا الموجودةُ في مواضعَ مختلفةٍ في أيِّ حيِّزٍ فارغٍ متماثلةً، لكن يحاجج بعضُ الفلاسفة بأن تلك الكيانات لن يكون بالإمكان التمييزُ بينها بمفهوم لايبنتس. إذا كان الأمر كذلك، فإن هذا جانبٌ آخَر يكون فيه التماثُل أسوأَ ممَّا تخيَّله لايبنتس.) ليس الأمرُ وكأنهما يتطابقان «في» أي شيءٍ كالفضاء الخارجي مثلًا. يحتوي كلٌّ منهما على نسخةٍ من الفضاء الخارجي كجزءٍ منهما؛ يعني تطابقهما أنهما فقط غيرُ منفصلَين على أي نحوٍ.
من الصعب تخيُّلُ أشياءَ تامَّةِ التشابُه وهي تتطابق؛ فمثلًا: بمجرد أن تتخيَّل أحدَهما دون الآخَر، يكون خيالُكَ قد خرق تماثُلَهما بالفعل. قد يخفق الخيالُ إذن، لكنَّ للعقل شأنًا آخَر.
يمكن لقصتنا الآن أن تبدأ في اكتساب حبكةٍ أكثر تعقيدًا؛ على سبيل المثال: قد تُسبِّب الدفقةُ الكهربيةُ التي حدثَتْ في أحد الكونين إبَّان عطلِ الناقل اختلالَ عملِ بعض الخلايا العصبية في مخِّ أحد المسافرين في هذا الكون؛ ما يتسبَّبُ في سكبه لقدح القهوة على مسافِرٍ آخَر في نفس الكون. من هنا، يشترك المسافران في خبرةٍ لم تقع لهما في الكون الآخَر، وتقودهما إلى علاقةِ حبٍّ، تمامًا كما حدث في فيلم «الأبواب المنزلقة».
ليس من الضروري أن تكون تلك الدفقاتُ الكهربيةُ آثارَ «عطلٍ» في الناقل، بل قد تكون آثارًا معتادةً لكيفية عمله. إننا نتقبَّل حدوثَ دفقاتٍ أكبر لا يمكن التنبُّؤُ بها أثناءَ سُبُلٍ أخرى للسفر كالطيران. لنتخيَّلْ أن دفقةً بسيطةً جدًّا تنتج في أحد الكونين حينما يتمُّ تشغيلُ الناقل في الكونين، وهي من الصِّغَر بحيث لا يمكن ملاحظتُها إلا بالقياس بواسطة فولتمتر حساس، أو إلا إذا لكزت شيئًا صادف أنه كان على حافة التغيُّر، ولكنه ما كان ليتغيَّرَ دون هذا اللكز.
من حيث المبدأ، يرى الملاحظون أيَّ ظاهرةٍ على أنها غيرُ ممكنٍ التنبؤُ بها لسببٍ أو أكثر من ثلاثة أسباب؛ أما السبب الأول، فهو أن تتأثَّر الظاهرةُ بمتغيِّرٍ عشوائيٍّ (غير جبري) في جوهره، ولقد استبعدتُ هذه الإمكانيةَ من قصتنا لأن الفيزياءَ الحقيقية تخلو من مثل تلك المتغيِّرات. أما السبب الثاني — وهو مسئول جزئيًّا على الأقل عن أغلب الظواهر اليومية غير الممكن التنبؤ بها — فهو أن العوامل المؤثِّرة على الظاهرة — بالرغم من كونها جبريةً قطعيةً — مجهولةٌ أو أكثر تعقيدًا بحيث لا يمكن التعرُّف عليها (إن الوضع يكون هكذا على وجه الخصوص عندما ينطوي على ابتكارٍ للمعرفة، كما ذكرتُ في الفصل التاسع). أما السبب الثالث — الذي لم يَجُلْ بخاطرِ أحدٍ قبل نظرية الكمِّ — فهو أن اثنين أو أكثر من الملاحظين الذين كانوا متماثلين من البداية أصبحوا مختلفين. هذا هو ما تتسبَّب فيه تلك الدفقاتُ الكهربيةُ الصادرةُ عن الناقل، وهو ما يجعل نتائجها غيرَ قابلةٍ للتنبؤ بها إطلاقًا، بالرغم من وصف قوانين الفيزياء الجبرية لها.
يمكن وصف هذه الملاحظات حول الظواهر غير الممكن التنبُّؤ بها دون أيِّ إشارةٍ صريحةٍ إلى التماثل؛ وهذا حقًّا ما يفعله باحثو الوجود المتعدِّد الأكوان في الغالب؛ ومع هذا أُومِن — كما قلتُ — بأن التماثُل لا غنى عنه لتفسير العشوائية الكمية وأغلب الظواهر الكمية الأخرى.
قد تتشابه هذه الأسباب الثلاثة — المختلفة اختلافًا جذريًّا بعضها عن بعض — ويلتبس أمرها على الملاحظين من حيث المبدأ، لكن في عالَمٍ قابلٍ للتفسير لا بدَّ من طريقةٍ لمعرفة أيُّها (أو أيُّ مزيجٍ منها) هو المصدر الحقيقي لأي عشوائيةٍ ظاهريةٍ في الطبيعة. كيف للمرء أن يعرف أن التماثُلَ والأكوانَ الموازية هي المسئولة عن حدوث ظاهرةٍ بعينها؟
يلوح إغراءُ تناوُلِ الاتصال بين الأكوان في الأدب دائمًا لهذا الغرض بالذات، وهو ما يُنهي مسألةَ «توازي» الأكوان؛ فكما ذكرتُ من قبلُ، تصبح القصةُ على هذا النحو قصةَ كونٍ واحد، لكن بوسعنا أن نحاول تمويهَ هذه الحقيقة بأن نقول إن هذا الاتصال «صعبٌ». قد توجد على سبيل المثال طريقةٌ لضبط الناقل في أيٍّ من الكونين ليُنتج دفقةً كهربيةً في الكون الآخَر؛ ومن ثَمَّ يمكن أن يستخدمها المرءُ للبعث برسالةٍ إلى هناك، لكن لنا أن نتخيَّلَ أن هذا إجراءٌ مرتفعُ التكلفة، أو خطر، وعلى هذا تحدُّ قوانينُ المركبة الفضائية من استخدامه، وتحظر «الاتصال الشخصي» بين المرء وشبيهِه على وجه الخصوص. ومع هذا، يضرب أحدُ أفراد طاقم المركبة بذلك الحظر عُرضَ الحائطِ في نوبةٍ ليليةٍ، ويتسلَّم — لدهشته — رسالةً تقول: «تزوَّجْتُ سوناك.» نعلم نحن — ولا يعلم هذا الشخص — أن هذا الزواج جاء أثرًا عرضيًّا لحادث سكب القهوة الذي كان بدوره أثرًا عرضيًّا للدفقة الكهربية في الكون الآخَر. ينتهي الإرسال عند هذا الحد ولا تصل رسائلُ أخرى كهذه؛ نحن نعلم — ولا يعلم هذا الشخص أيضًا — أن السرَّ وراء توقُّفِ تلك الرسائل هو افتضاحُ أمرِ ذلك الاستخدام المحظور للمعدات في الكون الآخَر؛ وعليه تمَّ اتخاذُ المزيد من إجراءات وسُبُل الحراسة. قد تستكشف القصة من بعد هذه النقطة ما قد يحدث عندما يبدأ فردُ الطاقم في التصرُّف بِناءً على تلك الرسالة المدهشة التي تسلَّمَها.
كيف «ينبغي» أن يكون ردُّ فعلِ المرء إزاء خبر زواج شبيهه؟ أيكون عليه البحثُ عن شبيهِ شريكِ الحياة ذاك في كونه هو، الذي قد يكون لم يقابله من قبلُ شخصيًّا، دَعْ عنك أن يكون قد ارتبَطَ به ارتباطًا عاطفيًّا؟ أو الذي قد يكون — كعادة قصص الحب الأزلية — شخصًا لا يُطاق. لا يمكن لخبرٍ كهذا أن يتسبَّبَ في أي مشكلات، أليس كذلك؟
تتسم الأفكار الناشئة في الكون الآخَر بأنها — على أقل تقدير — عرضة للخطأ تمامًا كالناشئة في كوننا؛ وإذا كانت صعبةَ المنال، فهذا يزيد من صعوبة تصحيح الأخطاء. وابتكار المعرفة يعتمد على تصحيح الأخطاء؛ لذا ربما كانت بقيةُ الرسالة «ولقد ندمتُ على ذلك بالفعل»، أو ربما دلَفَت سوناك إلى حجرة الناقل حينئذٍ في الكون الآخَر ممَّا حال دون إرسال ذلك التحذير، أو ربما كان الزوجان سعيدين في تلك اللحظة، لكن سرعان ما سينفصلان انفصالًا كارثيًّا يؤدِّي بهما إلى الطلاق. قد يتسبَّب ذلك الاتصالُ بين الأكوان في كل تلك الحالات إلى مضاعَفةِ عدد قرارات الزواج الكارثية التي يتَّخذها كلُّ فردٍ في الطاقم وشبيهه، وما أقلَّ فائدتَه عندئذٍ!
بصفةٍ أعمَّ، إن الخبر الخاص بأن شبيهك يبدو سعيدًا إزاء اتخاذه قرارًا معيَّنًا في الكون الآخَر، لا يقتضي أنك ستكون سعيدًا لو اتخذتَ قرارًا «مطابقًا»؛ حيث إن هناك اختلافاتٍ بين الكونين (التي دونها لا تصير الأخبارُ من الكون الآخَر أخبارًا)، يكون من الحصافة أن تتوقَّع تأثيرًا لهذه الاختلافات على نتيجة قرارك. لقد تقابلتما في أحد الكونين بسببِ تجربةٍ تصادف أن تشاركتما فيها، وتقابلتما في الكون الآخَر لأنك استخدمت معدات المركبة استخدامًا غير مشروع؛ أيؤثِّر هذا الاختلافُ على مدى سعادة إحدى الزيجات؟ ربما لا، لكن ليس بمقدورك معرفة ذلك إلا إذا كانت لديك نظريةٌ تفسيريةٌ جيدةٌ تحدِّد أيُّ العوامل يؤثِّر على الزيجات وأيُّها لا يؤثِّر؛ وإذا كانت لديك نظريةٌ كهذه، فربما لم تكن لك حاجةٌ للتسلُّلِ خلسةً إلى حجرات الناقل.
وبصفةٍ أكثر عموميةً، قد تكون فائدةُ الاتصال بين الأكوان أنها تسمح في الواقع بصورٍ جديدةٍ من معالجة المعلومات. لما كان الكونان — كما وصفتهما في السرد الخيالي — متشابهَيْن تمامًا حتى وقتٍ قريب، فإن اتصال المرءِ بنظيره في الكون الآخر يُحقِّق نفسَ تأثير تشغيل محاكاةٍ حاسوبيةٍ لنسخةٍ بديلةٍ لفترةٍ من فترات حياة المرء نفسه، دون الحاجة إلى الإلمام بكل المتغيِّرات المادية ذات الصلة إلمامًا كاملًا. يستحيل إجراءُ هذه الحوسبة بأي طريقٍ آخَر، وهي قد تُجدِي نفعًا في اختبار النظريات التفسيرية حول كيفيةِ تأثير العوامل المتعدِّدة على النتائج، لكنها مع هذا لا تكون أبدًا بديلًا عن الوصول إلى تلك النظريات.
ولذلك، ما دام هذا الاتصالُ موردًا شحيحًا، فمن الأفضل أن يُستخدَم لتبادُلِ تلك النظريات نفسها: إذا توصَّلَ شبيهك إلى حل مشكلةٍ وأخبرك به، فستستطيع أن تتأكَّدَ بنفسك كيف أنه تفسير جيد، حتى إنْ لم تملك سبيلًا لمعرفة الكيفية التي توصَّلَ بها شبيهُك إليه.
ومن الأساليب الأخرى الفعَّالة لاستخدام الاتصال بين الأكوانِ التعاونُ في تنفيذِ عمليات الحوسبة المطولة، قد تجري أحداثُ القصة مثلًا على نحوٍ يصاب فيه بعضُ أفراد الطاقم بالتسمُّم ويتهدَّدهم خطرُ الموت في غضون ساعاتٍ ما لم يتناولوا ترياقَ السم. يتطلَّب إيجادُ الترياق إجراءَ عملياتِ محاكاةٍ حوسبيةٍ لتأثيرات أشكالٍ مختلفةٍ من عقارٍ ما؛ ومن ثَمَّ تضطلع كلُّ نسخةٍ من نسختَيْ كمبيوتر المركبة بإجراءِ البحث على نصف قائمة الأشكال المختلفة، وبهذا ينتهي البحثُ في نصف المدة. عندما يتمُّ العثورُ على العلاج في أحد الكونين، يُرسَل رقمُه في القائمة إلى الكون الآخَر؛ حيث يمكن التأكُّدُ من النتيجة هناك، وبهذا يتمُّ إنقاذُ الطاقم في كلا الكونين. نرى مجدَّدًا كيف أن الدليل على وجود قدرةٍ حاسوبيةٍ متاحةٍ على هذا النحو عبرَ الناقلِ هو بمنزلة دليلٍ على وجود كمبيوتر آخَر يقوم بعملياتٍ حسابيةٍ غير التي يؤدِّيها كمبيوتر أحدِ الكونين. يُبيِّن التأمُّلُ في تفاصيل حياة الأشباه (مثل كيف يتنفَّسون وما إلى ذلك) لساكني هذا الكون كيف أن ذلك الكون الآخَر برُمَّته مكانٌ حقيقيٌّ ذو بنيةٍ وتعقيدٍ يماثلان ما في كونهم، الذي هكذا يصير قابلًا للتفسير.
لن نسمح في قصتنا بالاتصال بين الأكوان؛ لأنه لا يحدث في فيزياء الكَمِّ الواقعية؛ وعليه يُسَدُّ أمامَنا هذا الطريقُ للقابلية للتفسير. يستحيل في التاريخ الذي تزوَّجَ فيه فردَا الطاقم — وذلك الذي لم يكادَا يتعارفان فيه بعدُ — أن «يتصل» أحدهما بالآخَر أو أن يلاحظه؛ ومع ذلك — كما سنرى — تستطيع التواريخُ تحت بعض الظروف أن «يؤثِّر» بعضها على بعضٍ، من خلال سُبُلٍ لا تصل إلى درجة الاتصال. وتُقدِّم الحاجةُ إلى تفسير هذه التأثيراتِ الحجةَ الرئيسيةَ الدالةَ على أن الوجودَ المتعدِّد الأكوان حقيقةٌ.
عندما يبدأ كونَا قصتنا في الاختلاف داخل مركبةٍ فضائيةٍ واحدة، يوجد كلُّ شيءٍ آخَر في العالم على هيئة أزواج نُسَخٍ متشابهةٍ تمامًا. ينبغي أن نستمرَّ في تخيُّلِ أن تلك الأزواج متماثِلةٌ؛ فهذا ضروري لأنَّ الكونين ليسا «وعاءَيْن»؛ إنهما ليسا سوى ما يحويانِه من أشياء. لو كان للكونين واقعٌ مستقِلٌّ عن تلك الأشياء، لَباتَ للأخيرة في كلٍّ منهما خاصيةُ الوجودِ في أحدهما خصوصًا دون الآخَر، وهذا كفيلٌ بجعْل تلك الأشياءِ غيرَ متماثِلة.
ستتسع بعد ذلك مساحةُ الاختلاف بين الكونين بطبيعة الحال؛ فعلى سبيل المثال: عندما يقرِّر فردَا الطاقم الزواج، سيزفان الخبرَ ببعثهما رسائلَ لكوكبَيْهما الأم. ستصبح نسخة كل كوكبٍ من هذين الكوكبين مختلفةً فور وصول الرسائل. في البداية كان الاختلاف بين نسختَيِ المركبة الفضائية فقط، ولكن سرعان ما تسرَّبَتْ بعضُ المعلومات حتى قبل أن يشرع أحدٌ في نشرها عن قصدٍ؛ إذ ينتج مثلًا عن قرار الزواج اختلافٌ في حركة الأشخاص في مركبة أحد الكونين عن حركتهم في شبيهتها؛ ممَّا يجعل الضوءَ ينعكس عن أجسامهم على نحوٍ مختلف، ويتسرَّب بعضه من خلال الفتحات، جاعلًا هناك اختلافًا ضئيلًا بين الكونين أينما ارتحل. يصحُّ القولُ أيضًا على إشعاع الحرارة (الضوء تحت الأحمر) الذي يغادر المركبةَ من كلِّ نقطةٍ في هيكلها، وهكذا يتفاقم ما بدأ بدفقةٍ كهربيةٍ حدثَتْ في كونٍ واحدٍ فقط من الكونين ليصبح «موجة تغايُر» بين الكونين تسري في كل أرجاء الفضاء. ولما كان تجاوُزُ سرعةِ انتقالِ المعلومات في الكونين لسرعة الضوء أمرًا مستحيلًا، بات ذلك شأنَ سرعةِ موجةِ التغايُر هي أيضًا. وحيث إن سرعة تلك الموجة — عند الحافة القصوى لمقدمتها — في الغالب هي نفس سرعة الضوء أو أقل قليلًا، فستصبح الاختلافات بين أفضلية بعض الاتجاهات على بعضها بنسبةٍ أصغر من إجمالي المسافة التي تقطعها الموجة؛ فكلما زادت هذه المسافة، اتخذت الموجةُ شكلًا أكثر كرويةً؛ وعليه سأسمِّيها «كرة التغايُر».
وحتى داخل كرة التغايُر، فإن الاختلافات بين الكونين قليلةٌ نسبيًّا؛ إذ ما زالت النجوم تسطع، والكواكب توجد عليها نفس القارات. وحتى مَن تصل إلى مسامعهم أنباءُ الزفاف ويسلكون سلوكًا مختلفًا نتيجةً لذلك، يحتفظون بأغلب البيانات نفسها في عقولهم وفي غيرها من أجهزة تخزين المعلومات، ويظلون يتنفَّسون نفسَ نوعِ الهواء، ويتناولون نفسَ أنواعِ الغذاء، وما إلى ذلك.
مع ذلك، وبالرغم من أنه قد يبدو من المعقول بديهيًّا ألَّا تُحدِث أنباءُ تلك الزيجة أيَّ تغييرٍ في أغلب الأشياء، فإن هناك فكرةً بديهيةً مختلفةً يبدو أنها تُثبِت أن تلك الأنباء يجب أن تُغيِّر كلَّ شيء، ولو تغييرًا ضئيلًا. لنتأمَّلْ ما يحدث عندما تصل الأنباءُ إلى كوكب؛ لنَقُلْ في صورةِ نبضةِ فوتوناتٍ نابعةٍ من ليزر اتصال.
يتبدَّى الأثرُ المادي لهذه الفوتونات حتى قبل أن تتبدَّى أيُّ تبعاتٍ بشرية. قد نتوقَّع أن تُضفِيَ الفوتونات زخمًا على كلِّ ذرةٍ تتعرَّض للشعاع، وهو ما يعني كل ذرةٍ فيما يقرب من نصف سطح الكوكب المواجه للشعاع؛ سيتغيَّر اهتزازُ تلك الذرات حينئذٍ تغيُّرًا طفيفًا؛ ممَّا سيؤثِّر على الذرات أسفلها بواسطة القوى فيما بينها. تؤثِّر كلُّ ذرةٍ على الذرات الأخرى؛ ومن ثَمَّ ينتشر التأثيرُ سريعًا حول الكوكب كله، وسرعان ما سيصل التأثيرُ إلى كل ذرةٍ في الكوكب، وإنْ كان بقدرٍ ضئيلٍ جدًّا لا يمكن تخيُّلُه في أغلب الذرات. ومع ذلك، ومهما تكن ضآلةُ هذا الأثر، فإنه سيكون كافيًا لإنهاء التماثُل بين كلِّ ذرةٍ ونظيرتها في الكون الآخَر؛ وهكذا لن يبقى شيءٌ متماثِلٌ بعد حدوث موجة التغايُر.
تعكس هاتان الفكرتان البديهيتان المتناقضتان التفرقةَ القديمة بين ما هو متقطِّع وما هو متصل أو مستمر. تعتمد الحجة السابقة — التي تنصُّ على أنَّ كل ما يوجد في كرة التغايُر لا بد أن يتغيَّر — على حقيقة «التغيُّرات الفيزيائية البالغة الصِّغَر»، وهي تغيُّرات من الصِّغَر الشديد بحيث يستحيل قياسها. ينشأ وجود مثل هذه التغيُّرات باعتباره نتيجةً حتميةً لتفسيرات الفيزياء الكلاسيكية؛ ذلك لأن معظم الكميات الأساسية في الفيزياء الكلاسيكية (كالطاقة) متغيِّرة باستمرار. أما الفكرة البديهية المناقضة، فتنبع من تصوُّر العالَم فيما يتعلَّق بمعالجة المعلومات؛ ومن ثَمَّ فيما يتعلَّق بمتغيِّراتٍ متقطِّعةٍ كمحتويات ذكريات البشر مثلًا. تفصل نظريةُ الكمِّ في هذا التضارُب لصالح ما هو متقطِّع. يوجد لكلِّ كميةٍ فيزيائيةٍ قياسيةٍ «أصغرُ تغيُّرٍ ممكن» يمكن أن يحلَّ بها في موقف بعينه؛ فتوجد على سبيل المثال «أقلُّ كميةٍ ممكنةٍ من الطاقة» يمكن تحويلها من الإشعاع إلى ذرةٍ بعينها، ولا تستطيع الذرةُ امتصاصَ أقلَّ من هذه الكمية التي تُسمَّى في هذه الحالة «كمَّ» طاقةٍ؛ ولما كانت هذه هي أول سمةٍ مميزةٍ لفيزياء الكمِّ يتمُّ اكتشافها، فقد أكسبَتْ ذلك المجالَ اسمَه. دعونا ندمجها في فيزيائنا التخيُّلية أيضًا.
من ثَمَّ، نرى أنه ليس صحيحًا أن كلَّ الذرات على سطح الكوكب تتغيَّر بسبب وصول الرسالة اللاسلكية. تكون الاستجابةُ القياسية لجسمٍ ماديٍّ ضخمٍ عند تعرُّضه لتأثيراتٍ بالغةِ الصِّغَر في الواقع هي بقاءَ معظم ذراته بلا أيِّ تغييرٍ، ولكنْ يقتضي الامتثالُ لقوانين الحفظ أن تُبديَ بعضُ تلك الذرات تغيُّرًا متقطِّعًا كبيرًا نسبيًّا قدرُه كمٌّ واحدٌ.
يثير تقطُّعُ المتغيِّرات تساؤلاتٍ حول الحركة والتغيُّر: هل يعني أن التغيُّرات تحدث لحظيًّا؟ لا، الأمر ليس كذلك؛ الأمر الذي يثير سؤالًا آخَر: كيف يبدو العالم في منتصف حدوث هذا التغيُّر؟ كذلك، إذا تأثَّرت بضعُ ذرات بقوةٍ دون غيرها بمؤثِّرٍ ما، فما الذي يحدِّد على أيها يقع التأثير؟ الإجابة متعلِّقةٌ بالتماثُل، كما أنه لا بد أن القارئ قد خمَّنَ، وكما سأفسِّر فيما يلي.
عادةً ما تتقلَّص تأثيراتُ موجةِ التغايُر سريعًا مع زيادة المسافة؛ لأن هذا ببساطةٍ شأنُ كلِّ المؤثرات المادية بوجهٍ عامٍّ. تبدو الشمس حتى من على بُعْد مائة سنةٍ ضوئيةٍ كنقطةٍ باردةٍ وساطعةٍ في السماء، ولا تكاد تُلحق تأثيرًا بأي شيء، حالها كحال المستعرات العظمى من على بُعْد ألف سنةٍ ضوئية، بل إنَّ أعتى الدفقات النفثية عنفًا للكويزرات لا تزيد عند تأمُّلها من مجرةٍ مجاورةٍ عن لوحةٍ تجريديةٍ في السماء. لا توجد سوى ظاهرةٍ واحدةٍ معروفةٍ — إنْ حدثَتْ — لا تخفت آثارها مع زيادة المسافة، وهذا يخلق نوعًا معينًا من المعرفة؛ بداية اللانهاية تحديدًا. إن للمعرفة القدرةَ حقًّا على تصويب ذاتها نحو وجهةٍ ما، ثم قطع المسافات الهائلة دون ترك أيِّ أثر تقريبًا، ثم تغيير تلك الوجهة تغييرًا جذريًّا.
لذا يجب علينا أيضًا — في قصتنا — إنْ أردنا لعطل الناقل أن يُحقِّق تأثيرًا ملموسًا من على بُعْد مسافاتٍ فلكية؛ أن نصوغ ذلك ليحدث بواسطة المعرفة. لن يكون لسيول الفوتونات المشِعَّة من المركبة، التي تنقل — عن قصدٍ أو غير قصدٍ — معلوماتٍ عن الزفاف، أيُّ أثرٍ ملحوظٍ على الكوكب القصيِّ، إلا إذا كان عليه مَن يهتمُّ بإمكانية وجودِ مثل تلك المعلومات اهتمامًا يكفي لحثِّه على صُنْعِ الأدوات العلمية التي تُمكِّنُه من رصدها.
والآن، وكما أوضحتُ، إن قوانين الفيزياء التخيُّلية في قصتنا التي تقول إن «دفقةً كهربيةً حدثَتْ في كونٍ واحدٍ دون الآخَر» لا يمكن أن تكون قوانين جبرية، إلا إذا كان الكونان متماثلَيْن. ماذا يحدث إذن عندما يُستخدَم الناقلُ مرةً أخرى بعد انتفاءِ صفةِ التماثُل عن الكونين؟ تخيَّلْ مركبةً فضائيةً ثانيةً من نفس نوع الأولى وهي بعيدة عنها؛ ماذا يحدث إذا استخدمَتِ المركبةُ الثانية ناقِلَها مباشَرةً بعد أن استخدمَتْه الأولى؟
إحدى الإجابات المنطقية الممكنة هي أنه لا شيءَ سيحدث. أو بعبارةٍ أخرى: ستنصُّ قوانينُ الفيزياء حينئذٍ — بعدما بات الكونان مختلفَيْن — على أن الناقلين سيعملان على نحوٍ طبيعيٍّ، ولن يتسبَّبَا أبدًا في مزيدٍ من الدفقات الكهربية، غير أن هذا سيقدِّم وسيلةَ اتصالٍ أسرع من الضوء، حتى إنْ كانت غير صالحةٍ إلا لمرةٍ واحدةٍ ولا يمكن الاعتماد عليها؛ وهي بأنْ تضع فولتمترًا في حجرة الناقل وتشغِّله، فإذا حدثَتِ الدفقةُ الكهربية، فستعلم أن المركبة الأخرى — مهما بعدَتْ — لم تُشغِّل ناقلها بعدُ (لأنها لو فعلَتْ، لَوضَعَ ذلك حدًّا نهائيًّا لكلِّ الدفقات الكهربية في كل مكان). لا تسمح القوانينُ الحاكمة للوجود المتعدد الأكوان الحقيقي بمثلِ هذا التدفُّق المعلوماتي؛ فإذا أردنا لقوانين فيزيائنا التخيُّلية أن تكون عموميةً من وجهة نظر سكانِ هذا الوجود، فلا بد أن تحذوَ المركبةُ الفضائيةُ الثانيةُ حذوَ الأولى تمامًا، لا بد أن تحدث الدفقةُ في كونٍ واحدٍ دونَ الآخَر.
لكن في هذه الحالة لا بد أن يضطلع شيءٌ بتحديد أيُّ الكونين ستحدث به الدفقة الثانية. لن يظلَّ متطلَّبٌ «في أحد الكونين دون الآخَر» متطلَّبًا جبريًّا حينئذٍ، وكذلك لا ينبغي أن تحدث الدفقةُ إذا تمَّ تشغيلُ الناقل في أحد الكونين فقط؛ لأن ذلك بمنزلة اتصالٍ بينهما. لا بد أن يتوقَّف حدوثه على تشغيل نسختَيِ الناقل في آنٍ واحد، بل إنَّ حتى ذلك قد يسمح بنوعٍ من الاتصال بين الأكوان كما يلي: تشغيل الناقل في توقيتٍ محدَّدٍ سلفًا في الكون الذي حدثَتْ به دفقةٌ مرةً من قبلُ، وملاحظة الفولتمتر؛ فإن لم تحدث أيُّ دفقاتٍ، فسيدلُّ ذلك على أن الناقل مغلقٌ في الكون الآخَر. إننا في مأزقٍ إذن. من العجيب أن تكمن كلُّ هذه التفاصيل الدقيقة في تمييزٍ ثنائيٍّ يبدو واضحًا لا غموضَ فيه، هو بين «متماثل» و«مختلف»، أو «متأثِّر» و«غير متأثِّر». يوجد في فيزياء الكم الحقيقية أيضًا ارتباطٌ وثيقٌ بين حظر الاتصال الكوني وحظر الاتصال الأسرع من الضوء.
ثَمَّةَ سبيلٌ — أظنُّه الوحيدَ — للامتثال لضرورةِ جعْلِ قوانيننا الفيزيائية التخيُّلية قوانينَ عموميةً جبرية، ولمنع الاتصال الكوني الأسرع من الضوء في الوقت نفسه؛ أَلَا وهو وجودُ المزيد من الأكوان. تخيَّلْ عددًا لا متناهيًا ولا يُحصَى من الأكوان التي كلُّها تماثليةٌ بالأساس؛ يتسبَّب الناقلُ في حدوث اختلافٍ بين أكوانٍ كانت تماثليةً بالأساس — تمامًا كما حدث من قبلُ — لكنَّ قانونَ الفيزياء ذا الصلة أصبح نصُّه الآن: «تحدث الدفقةُ الكهربيةُ في نصف الأكوان التي يُستخدَم فيها الناقلُ.» في هذه الحالة، إذا قامَتِ المركبتان بتشغيل ناقلَيْهما، فستوجد بعد تداخُلِ كرتَيِ التغايُر أربعةُ أنواعٍ من الأكوان: تلك التي حدثَتْ دفقةٌ كهربيةٌ في مركبتها الأولى فقط، وأخرى حدثَتِ الدفقةُ في مركبتها الثانية فقط، وثالثة لم تحدث فيها أيُّ دفقات، ورابعة حدثت فيها الدفقةُ في كلا المركبتين. بعبارةٍ أخرى: حدث في مجال التداخُل أربعةُ تواريخ مختلفة، ويحدث كلُّ تاريخٍ منها في رُبع الأكوان.
لم تقدِّم نظريتنا التخيُّلية بنيةً كافيةً للوجود المتعدِّد الأكوان فيها بحيث يكون لتعبير «نصف الأكوان» معنًى، على عكس نظرية الكم الحقيقية. وكما شرحت في الفصل الثامن، يُسمَّى المنهجُ الذي توفِّره النظريةُ لإضفاءِ معنًى للنِّسَب والمتوسطات بالنسبة إلى مجموعاتٍ لا متناهيةٍ باسم «القياس». من الأمثلة المألوفة على ذلك تخصيصُ الفيزياء الكلاسيكية «أطوالًا» لمجموعات النقاط اللامتناهية المرتَّبَة في خطٍّ. دعونا نفترض أن قصتنا تمدُّنا بقياسٍ للأكوان.
يحقُّ لنا الآن تأليفُ حبكاتٍ للقصة كما يلي: في الأكوان التي تزوَّجَ فيها فردَا الطاقم يقضي الزوجان شهرَ العسل في كوكبٍ يسكنه بشرٌ تزوره المركبةُ. تحدث في نصف هذه الأكوان دفقةٌ كهربيةٌ إبَّان عودةِ الزوجين إلى المركبة بواسطة الناقل، وتتسبَّب في تشغيل رسالةٍ صوتيةٍ على المفكرة الإلكترونية لأحدهم تُلمِّح إلى أن أحد العروسين قد خانَ الآخَرَ بالفعل؛ مما يطلق شرارةَ سلسلةٍ من الأحداث تنتهي بالطلاق. تحتوي مجموعتُنا الأصلية من الأكوان المتماثلة الآن على ثلاثة تواريخ مختلفة؛ في أولها — وهو الجاري في نصف عدد الأكوان — ما زال فردَا الطاقم لم يتزوَّجَا، وفي ثانيها — وهو الجاري في رُبع عدد الأكوان — قد تزوَّجَا، أما في التاريخ الثالث — الجاري في الرُّبع الباقي — فهما مطلقان.
وهكذا، نرى كيف أن التواريخ الثلاثة لا تشغل نِسَبًا متساويةً من الوجود المتعدِّد الأكوان؛ إذ يبلغ عددُ الأكوان التي لم يتزوَّج فيها أحدهما الآخَر قطُّ ضعْفَ عددِ ما تطلَّقَا فيه.
الآن لنفترض أن العلماء في المركبة الفضائية على درايةٍ بالوجود المتعدِّد الأكوان ويفهمون فيزياء الناقل (لاحِظْ أننا بالرغم من ذلك لم نُمدِدْهم بعدُ بأي وسيلةٍ لاكتشاف تلك الأمور)؛ إذن فهم عند تشغيلهم للناقل يعلمون أنَّ عددًا لا متناهيًا من نُسَخهم المتماثلة التي تُقاسمهم نفسَ التاريخ، تفعل الشيءَ ذاته في نفس الوقت. إنهم يعلمون أن دفقةً كهربيةً ستحدث في نصف الأكوان التي تشاركهم ذلك التاريخ؛ ممَّا يعني أنه سينقسم مناصَفةً إلى تاريخين عندئذٍ، وعلى هذا هم يعلمون أنهم إذا استخدموا فولتمترًا قادرًا على رصد الدفقة، فسيعرف نصفُ نُسَخهم أن الفولتمتر قد سجَّلَها على عكس النصف الآخَر. لكنَّ أولئك العلماء يعلمون كذلك أن سؤالهم عن أيِّ الحدثين سيقع لهم، هو سؤال غير ذي معنًى (وليس مستحيلَ الإجابةِ فحسب)، ونتيجةً لذلك يفترضون تنبُّؤَيْن وطيدَيِ الصلة؛ الأول أن شيئًا لا يقدر على التنبؤ بما إذا كان الفولتمتر سيرصد الدفقة أم لا، بالرغم من الجبرية التامة لكلِّ ما يحدث.
أما التنبُّؤ الآخَر، فهو ببساطةٍ أن نسبةَ احتمال تسجيلِ الفولتمتر للدفقة هي النصف، وعلى هذا تكون نتائج مثل هذه التجارب «عشوائيةً على نحوٍ ذاتي» (أيْ تعتمد على منظورِ أيِّ ملاحظٍ لها)، بالرغم من أن كلَّ ما يحدث محدَّدٌ على نحوٍ جبريٍّ موضوعي. هذا هو سبب احتمال وعشوائية ميكانيكا الكمِّ في الفيزياء الحقيقية؛ أنهما ينجمان عن القياس الذي تُقدِّمه النظريةُ للوجود المتعدِّد الأكوان، الناجمِ بدوره عمَّا تسمح به النظريةُ من أنواعِ العمليات الفيزيائية وما تحظره.
لاحِظْ أن الموقفَ عندما تكون نتيجةٌ عشوائيةٌ (بهذا المعنى) على وشكِ الحدوث، يكون موقفَ تبايُنٍ بين الأشياء المتماثِلة؛ حيث يكمن التبايُنُ في المتغيِّر؛ النتيجة التي ستتم ملاحظتها. إن منطق هذا الموقف هو نفسه منطق حالاتٍ كحالة الحساب المصرفي التي ناقشْتُها آنفًا، باستثناء أن الكيانات المتماثِلة هذه المرة بشرٌ لا دولارات؛ بالرغم من تماثُلها، سيشهد نصفها الدفقة الكهربية ولا يشهدها النصف الآخر.
يستطيع العلماء اختبارَ هذا التنبؤ عمليًّا بواسطة تكرارِ التجربة مراتٍ عديدةً؛ إذ ستبوء كلُّ معادلةٍ تزعم التنبؤَ بتسلسُلِ نتائجِ التجارب بالفشل في النهاية؛ وهذا يختبر عدمَ قابليتها للتنبُّؤ. وستحدث الدفقة في الغالبية العظمى للأكوان (والتواريخ) في نصف التجارب تقريبًا؛ وهذا يختبر القيمةَ التنبُّئِية للاحتمال. لن تشهد سوى قلةٍ من نُسَخ الملاحظين أيَّ نتائجَ مختلفة.
وتستمر قصتنا. في أحد التواريخ، تنشر صحفُ الكوكبين الأم للعروسين خبرَ الخطبة، وتتناول عدةُ أعمدةٍ وصفًا للأحداث التي قادَتْ إلى تعارُفِ رائدَيِ الفضاء فردَيْ طاقمِ المركبة وما إلى ذلك، وفي تاريخٍ آخَرَ ليس فيه أخبار عن خطبة رائدَيِ الفضاء تَشغل إحدى الصحف نفسَ المساحة في الصفحة بقصةٍ قصيرةٍ يتصادف أنها قصةُ حبٍّ تدور أحداثُها على سطح مركبةٍ فضائية؛ تتطابَقُ بعضُ الجمل في تلك القصة مع جملٍ في الخبر المنشور في التاريخ الآخَر، تكون نفسُ الكلمات المطبوعة في نفس العمود في نفس الصحيفة متماثلةً بين التاريخين، ولكنها تُعبِّر عن خيالٍ في تاريخٍ وواقعٍ في الآخَر؛ وهكذا تُحدِث خاصيةُ الواقع/الخيال تبايُنًا بين الأشياء المتماثِلة.
والآن سيتزايد عددُ التواريخ المغايرة تزايدًا سريعًا؛ فأنَّى استُخدِم الناقل، فلن يلزم كرةَ التغايُر إلا ميكروثوانٍ معدودةٌ حتى تغمر المركبة بأسرها، وعليه فلو كان الناقلُ يُستخدَم عادةً عشْرَ مراتٍ يوميًّا، لَتضاعَفَ عددُ التواريخ المغايرة في داخل المركبة بأكملها حوالي عشرة أضعافٍ كلَّ يوم. وفي غضون شهرٍ ستغدو التواريخُ المغايرة أكثرَ من ذراتِ كوننا المرئي، وسيتشابه أغلبُها مع غيرها الكثير تشابُهًا دقيقًا؛ إذ إن التوقيت والمقدار الدقيقَيْن للدفقة الكهربية لن يُعجِّلَا بوقوعِ تغيُّرٍ ملموسٍ من النوع الذي حدث في فيلم «الأبواب المنزلقة»، إلا في نسبةٍ ضئيلةٍ من التواريخ. ومع هذا، تستمر الزيادة المطَّردة في عدد التواريخ، وسرعان ما ستوجَد صورٌ متنوعة للأحداث؛ ممَّا سيكون قد أدَّى إلى وقوع تغيُّراتٍ مؤثِّرةٍ في التبايُن على مستوى التنوُّع الكوني للمركبة؛ ومن ثَمَّ يتزايد إجمالي عدد تلك التواريخ على نحوٍ مطَّردٍ كذلك، مع أنها تبقى نسبةً ضئيلةً من كل التواريخ الموجودة.
وبعد ذلك بقليلٍ تبدأ سلاسلُ غريبة من «الحوادث» و«المصادفات البعيدة الاحتمال» في الوقوع في نسبةٍ أقل من التواريخ، وإنْ كانت في زيادة مطَّردة. لقد وضعتُ علاماتِ الاقتباس حول هذين التعبيرين لأن تلك الأحداث ليسَتْ عرضيةً بالمرة؛ فجميعُها محتومٌ وقوعُه طبقًا لقوانين الفيزياء الجبرية، ولقد تسبَّبَ فيها جميعًا الناقلُ.
يوجد في العام الواحد حوالي ۱۰۰ ألف فترةٍ زمنيةٍ تُقدَّر بخمس دقائق. لا يزيد احتمالُ توقُّفِ أيِّ ساعةِ يدٍ — لنَقُلْ ساعتِي مثلًا — في أيِّ فترةٍ من تلك الفترات عن ۱ في ۱۰۰۰۰۰. هذا احتمال ضعيف بالطبع؛ لكنْ يوجد ۱۰ ملايين مشاهد يتابعون الحلقة (الخاصة ببرنامج الوسيط الروحاني)؛ فإن كان نصفهم فقط يرتدي ساعاتِ يدٍ، فلنا أن نتوقَّعَ أن حوالي ٢٥ من تلك الساعات سيتوقَّف في أي دقيقةٍ أثناء عرض البرنامج. لو اتصل رُبع هؤلاء فقط بالاستوديو، فهذه ٦ مكالمات، وهي أكثر من كافيةٍ لشدِّ انتباه الجمهور الساذج وإذهاله، خاصةً إذا أضفتَ مكالماتِ الأشخاص الذين توقَّفَتْ ساعاتُهم في اليوم الماضي، والذين لم تتوقَّف ساعاتهم هم، بل ساعات أجدادهم، ومَن ماتوا إثرَ سكتةٍ قلبيةٍ فاتَّصَلَ أقاربُهم الثكالى ليصفوهم بأن «ساعتهم» قد حانَتْ فانقضَتْ أعمارهم، وهلمَّ جرًّا.
يتضح في هذا المثال كيف أن قدرةَ بعض الظروف على تفسيرِ أحداثٍ أخرى دون أن يكون لها دخْلٌ في التسبُّب فيها؛ حقيقةٌ مألوفةٌ جدًّا بالرغم ممَّا تبدو عليه من تناقُضٍ مع البديهة. إن خطأ الجمهور «الساذج» هو صورة من صور ضيق الأفق؛ إذ يلاحظ الظاهرةَ — وهو عبارة عن مشاهدين يتصلون لأن ساعاتهم قد توقَّفت — لكنه يفشل في فهم أنها جزءٌ من ظاهرةٍ أكبر وأعمَّ لا يلاحظ معظمَها، ومع أن هذه الأجزاء غير الملاحَظة من الظاهرة الأعمِّ لم تؤثِّر بأي حالٍ من الأحوال على ما نلاحظه نحن المشاهدين، فإنها ضرورية لتفسيره. وبالمثل، تتضمَّن الفيزياءُ الكلاسيكية والمنطق الشائع خطأَ ضِيقِ أفقٍ فكري، يرى أن تاريخًا واحدًا هو الموجود ولا غيره. هذا الخطأ المتأصِّل في لغتنا وفي إطار مفاهيمنا يجعل القولَ بأن أيَّ حدثٍ قد يكون مُستبعَدًا تمامًا بطريقةٍ ومؤكَّدًا بطريقةٍ أخرى قولًا غريبًا، بينما لا تشوبه أيةُ غرابة في واقع الأمر.
نرى الآن ما بداخل المركبة الفضائية باعتباره مجموعةً معقَّدةً ومُربِكةً من الأشياء المتراكِبة. تزدحم معظمُ المواقع على سطح المركبة بالناس، والذين يؤدِّي بعضهم مأمورياتٍ غيرَ معتادةٍ بالمرة، وكلهم لا يستطيع بعضهم إدراك بعض. تسير نُسَخ المركبة نفسها في طرقٍ عديدةٍ متباينةٍ تبايُنًا طفيفًا، بسبب تصرُّفات نُسَخ الطاقم التي تتبايَنُ بدورها تبايُنًا طفيفًا. «نرى» كلَّ ذلك بالطبع بمخيلتنا؛ إذ تكفل قوانينُنا الفيزيائية التخيُّلية ألَّا يرى أيُّ ملاحِظٍ في الوجود المتعدِّد الأكوان أيَّ شيءٍ كهذا؛ ومن ثَمَّ — وبالفحص الأدق (من خلال مخيلتنا) — نجد أيضًا تناسُقًا وانتظامًا عظيمًا في هذه الفوضى الظاهرية. على سبيل المثال: بالرغم من وجود حشودٍ من أشخاصٍ على مقعد قائد المركبة، فإننا نرى أن أغلبهم هو قائد المركبة، وبالرغم من وجود حشودٍ من أشخاصٍ على مقعد الملاح، فإننا نرى أن قليلًا منهم هو قائد المركبة. يرجع هذا النوع من الانتظام إلى أن كافة الأكوان — بالرغم ممَّا بينها من الاختلافات — تطيع نفسَ القوانين الفيزيائية (بما فيها حالاتها الأولى).
نرى أيضًا أن أيَّ نسخةٍ بعينها من قائد المركبة لا تتعامَلُ إلا مع نسخةٍ واحدةٍ من نُسَخ الملاح، ومع نسخةٍ واحدةٍ من نُسَخ المساعد الأول، وهاتان الأخيرتان هما بالضبط اللتان تتعامل إحداهما مع الأخرى. يعود هذا الانتظام إلى أن التواريخ شبه مستقلة؛ إذ لا يعتمد ما يحدث في كلٍّ منها إلا على ما سبق من أحداثٍ وقعَتْ فيها وحدها، اللهم باستثناء الدفقاتِ الكهربيةِ الناجمةِ عن النواقل فقط. لا يزيد هذا الاستقلالُ للتواريخ في قصتنا حتى الآن عن كونه مجردَ تفصيلةٍ غير مهمة؛ لأننا أعطينا صفةَ الاستقلالية هذه «للأكوان» منذ البداية، غير أن الأمر يستحقُّ مزيدًا من التفلسُفِ لبرهة: ما هو بالضبط وجهُ الاختلافِ بين نسختِك التي أستطيع التعامُل معها والنُّسَخِ الأخرى التي لا يمكن أن أدركها؟ إن الأخيرة موجودة «في أكوانٍ أخرى»، ولكن تَذَكَّرْ أن الأكوان تتكوَّن مما فيها من أشياءَ فحسب؛ لذا لا تزيد تلك الإجابةُ عن القول بأني أستطيع أن أرى النُّسَخَ التي أستطيع أن أراها. النتيجة أن قوانيننا الفيزيائية لا بد أن تنصَّ هي الأخرى على أن كل شيءٍ يحمل بداخله معلوماتٍ تُحدِّد أيُّ النُّسَخ منه بمقدورها التفاعُل مع أي النُّسَخ من الأشياء الأخرى (إلا عندما تكون تلك الأشياء متماثلة؛ حيث ليس ثَمَّةَ فارقٌ بين نسخةٍ وأخرى). تصف نظرية الكمِّ مثلَ هذه المعلومات، التي تُعرَف بمعلومات «التشابك». (إن وجود تلك المعلومات بالكامل داخل الأشياء أمر مثير حاليًّا للجدل بعضَ الشيء. وللحصول على نفاشٍ فنيٍّ مفصَّلٍ لتلك النقطة، انظر الورقةَ البحثية التي بعنوان «تدفُّق المعلومات في النُّظُم الكمية المتشابكة» التي وضعتُها أنا وباتريك هايدن (دورية «بروسيدجنز أوف ذا رويال سوسايتي» (٢٠٠٠)).)
نسجنا في قصتنا حتى هذه اللحظة عالمًا واسعًا ومعقَّدًا يبدو غريبًا جدًّا في مخيلتنا، ولكنه يبدو في عيون الغالبية العظمى من سكانه شبهَ مطابِقٍ للكون الوحيد الذي تدركه حواسنا وتعترف به الفيزياء الكلاسيكية، إلى جانب بعض الهزات التي تبدو عشوائيةً عند تشغيل الناقل. تأثَّرَتْ أقليةٌ صغيرةٌ من التواريخ تأثُّرًا ملموسًا ببعض الأحداث «المستبعدة» جدًّا، ولكن حتى في هذه التواريخ ظلَّ تدفُّقُ المعلومات — أي: ماذا يؤثِّر على ماذا — عاديًّا ومألوفًا؛ فمثلًا: تدرك نسخة سجل المركبة المقيَّدة به المصادفات الغريبة فقط مَن يتذكَّرون وقوعَ تلك المصادفات، أمَّا نُسَخهم، فلا.
وهكذا تتدفَّقُ المعلومات في الوجود المتعدِّد الأكوان التخيُّلي في صورة شجرةٍ متفرعة، ولكل فرعٍ من فروعها — التواريخ — سُمْك (قياس) مختلف، ولا تتَّحد تلك الفروع بعد انفصال بعضها عن بعض أبدًا. يتصرَّف كل فرعٍ وكأنَّ باقيَ الفروع غير موجودةٍ بالمرة. لو كانت هذه هي كلَّ القصة، لَظلَّتْ قوانينُ فيزياء الوجود المتعِّدد الأكوان التخيُّلية تلك تعتريها عيوب كارثية، كما كانت الحال دائمًا؛ إذ لن تختلف تنبُّؤاتها عن تنبؤات القوانين الأكثر وضوحًا ومباشَرةً، والتي ترى أن كونًا واحدًا هو الموجود — ومن ثَمَّ تاريخ واحد — وفيه يتسبَّب الناقل عشوائيًّا في إلحاق تغييرٍ على ما ينقل من أشياء. في ظل تلك القوانين، لا ينقسم التاريخ إلى تاريخين مستقلين في تلك الأحوال، بل يمر أو لا يمر بهذا التغيير على نحوٍ عشوائي؛ وبهذا سينهار الوجود المتعدد الأكوان الهائل التعقيد الذي تخيلناه بالكامل — ومعه كياناته المتعددة بما فيها الأشخاصُ الذين يمر بعضهم من خلال بعض، وحوادثُه الغريبة، ومعلومات تشابُكه — ويغدو عدمًا، تمامًا كما غدت تلك المجرة التي ذكرناها في الفصل الثاني عيبًا في الطبقة الحساسة للفيلم الفوتوغرافي. سيصبح تفسير الوجود المتعدد الأكوان لنفس الأحداث تفسيرًا سيئًا؛ ومن ثَمَّ يصبح العالَمُ غيرَ قابلٍ للتفسير بالنسبة إلى سكانه لو كان حقيقيًّا.
حان الوقت الآن للبدء في إزالة هذه المروحة.
في فيزياء الكم، لا يتسم تدفُّقُ المعلومات في الوجود المتعدد الأكوان بهذه السلاسة التي تتفرَّع بها شجرة التواريخ التي وصفتها؛ يرجع السبب في ذلك إلى ظاهرةٍ كَمِّيةٍ أخرى؛ إذ تسمح قوانينُ الحركة للتواريخ تحتَ ظروفٍ معينةٍ بأن تعاود الاندماج (أي أن تصبح متماثلةً مرةً أخرى). إن هذا عكس عملية الانقسام (التغايُر في التاريخ الواحد ليصبح تاريخين أو أكثر) كما وصفتُ من قبلُ بالفعل؛ ومن ثَمَّ تكون الطريقةُ الطبيعية لتنفيذ هذا الانقسام على الوجود المتعدد الأكوان التخيُّلي بإكساب الناقلِ القدرةَ على إبطال تقسيمه تاريخَه والعودة فيه.
لو مثَّلنا الانقسامَ الأصلي بالشكل التالي:
تُعرَف هذه الظاهرة بظاهرة «التداخل»؛ إذ يتداخل وجودُ التاريخ «ص» فيما يفعله الناقلُ عادةً بالتاريخ «س»، ويعاود التاريخان «س» و«ص» الاندماجَ. يُشبه الأمرُ اندماجَ أشباهٍ مع أصولهم في قصص منطقة الأشباح، مع الفارق أننا لا نحتاج إلى إبطال قانون حفظِ الكتلة أو أي قانونٍ آخَرَ خاصٍّ بالحفظ؛ فالقياس الإجمالي للتواريخ يظل ثابتًا.
ومع أن من شأن تجربةٍ كتلك أن تبرهن على وجود التواريخ المتعددة، بل على تأثير بعضها على بعض أيضًا تأثيرًا قويًّا (من حيث اختلاف مسلكها على حسب وجود التاريخ الآخَر أو عدم وجوده)، فإنها لا تنطوي على «اتصال» بين التواريخ (أيْ إرسال رسائل بحسب الرغبة إلى التاريخ الآخر).
عندما تؤثِّر قيمتان أو أكثر لمتغيِّرٍ فيزيائيٍّ تأثيرًا مغيرًا على شيءٍ ما في باقي العالم، تستمر التأثيراتُ غير المباشرة إلى ما لا نهاية — كما أسلفتُ الذِّكْرَ — مع موجةِ تغايُرٍ تتشابك مع المزيد والمزيد من الأشياء. إذا أمكن الرجوعُ في كلِّ التأثيرات المغيرة وإبطالها، فسيصير التداخُل بين هاتين القيمتين الأصليتين ممكنًا من جديد، لكنَّ قوانين ميكانيكا الكَمِّ تُحتِّم أن يقتضيَ هذا الإبطالُ التحكُّمَ الدقيقَ والتامَّ في «كل» الأشياء المتأثرة، وسريعًا ما يصبح غيرَ ممكن، وهي عملية تُعرَف باسم «فقدان الترابط». يحدث فقدانُ الترابط بسرعةٍ كبيرةٍ في أغلب المواقف، وهو ما يجعل الغلبة في المعتاد من حظ الانقسام لا التداخل، وهو أيضًا سبب صعوبة إثبات التداخل بوضوحٍ في التجارب المعملية، مع أنه سهل على المستوى المجهري.
يقتصر دورُ المرآتين العاديتين (الخطين الأسودين المائلين) على تحويل مسار الفوتون من المرآة شبه العاكسة الأولى إلى الثانية.
لا حاجةَ في الوجود المتعدِّد الأكوان الحقيقي إلى الناقل أو إلى أيِّ جهازٍ خاصٍّ آخَر للتسبُّب في تغايُرِ التواريخ وإعادة اندماجها؛ فطبقًا لقوانين فيزياء الكمِّ، تمرُّ الجسيمات الأولية طوال الوقت بعملياتٍ كتلك بمحض اختيارها، هذا فضلًا عن أن التواريخ قد تنقسم إلى أكثر من تاريخين اثنين — عادةً ما تنقسم إلى تريليوناتٍ عديدة — يُميِّز كلًّا منها اختلافٌ بسيطٌ في اتجاه الحركة، أو اختلافٌ في أيِّ متغيِّراتٍ فيزيائيةٍ أخرى تتعلَّق بالجسيمات الأولية المعنية، هذا إلى جانب أن التواريخ الناتجة تكون بصفةٍ عامةٍ ذاتَ قياساتٍ غير متساوية. دعنا إذن نستغنِ عن الناقل في الوجود المتعدِّد الأكوان التخيُّلي خاصتنا أيضًا.
يحار العقلُ أمام معدل نمو أعداد التواريخ المنقسمة، بالرغم من وجود قدرٍ ما الآن من إعادة الاندماج التلقائي الذي يحدث بفضل التداخل. في الوجود المتعدد الأكوان الحقيقي، لا تُحوِّل عمليةُ إعادةِ الاندماج التلقائي هذه تدفُّقَ المعلومات إلى تدفُّقاتٍ فرعيةٍ مستقلةٍ استقلالًا خالصًا؛ أيْ إلى تواريخَ مستقلةٍ متفرِّعة. وبالرغم من أن الاتصال بين التواريخ (بمعنى المراسلة) لا يزال غيرَ موجود، فإنها بعضُها يؤثر على بعضٍ تأثيرًا عميقًا؛ لأن أثرَ التداخُلِ على أي تاريخٍ يتوقَّف على التواريخ الأخرى الموجودة.
لأن هاتين المجموعتين من نُسَخ الجسيم كانتا في البداية في موضعَيْن مختلفين، ثم مرَّتَا بلحظةٍ كانتا فيها متماثلتين، فلا يهمُّ تحديدُ أيُّهما انتهت إلى هذا الموضع أو ذاك. يحدث هذا النوع من التداخل طوالَ الوقت حتى لجسيمٍ وحيدٍ في مساحةٍ تخلو من غيره؛ وعلى هذا لا يوجد ما يُدعَى «نفس» نسخة الجسيم في الأوقات المختلفة.
وبشكلٍ عامٍّ لا تحتفظ الجسيماتُ بهويتها مع الوقت حتى خلال التاريخ الواحد؛ فمثلًا: عند تصادم ذرتين تنقسم تواريخُ هذه الحادثة إلى ما يشبه الشكل التالي:
وما يشبه الشكل التالي:
وبهذا تكون الحادثة لكل جسيمٍ على حدةٍ أشبه بالاصطدام بمرآةٍ شبه عاكسة؛ تلعب كلُّ ذرةٍ دورَ تلك المرآة أمام الذرة الأخرى، لكن رؤية الوجود المتعدِّد الأكوان للجسيمين تبدو هكذا:
حيث في نهاية الاصطدام تُمسي بعضُ نُسَخ كلتا الذرتين متماثلةً مع ما كان من قبلُ ذرةً مختلفةً.
وللأسباب نفسها، لا يوجد ما يمكن أن نُطلق عليه «سرعة» نسخة جسيمٍ في موقعٍ ما. تُعرَّف السرعةُ على أنها المسافةُ التي يقطعها الجسمُ مقسومةً على الوقت المستغرَق في ذلك، وهو ما لا معنى له في المواقف التي ليس فيها ما يُدعَى بوجود نسخةٍ بعينها من الجسيم مميَّزةٍ طوال الوقت، بل بالأحرى توجد مجموعةٌ من النُّسَخ المتماثلة من جسيمٍ بوجهٍ عامٍّ لها سرعات متعدِّدة؛ أيْ إنها بوجهٍ عامٍّ ستؤدِّي أمورًا متباينةً بعد لحظة. (هذه نسخة أخرى من «التباين بين الأشياء المتماثلة».)
ولا يقتصر الأمرُ على قدرةِ مجموعةٍ متماثِلةٍ من النُّسَخ توجد في نفس الموضع على امتلاك سرعاتٍ متباينةٍ فحسب، بل تستطيع مجموعةٌ متماثلةٌ من النُّسَخ لها نفسُ السرعة أن تكون في مواضعَ متباينة؛ وبالإضافة إلى ذلك، تُفضي قوانينُ فيزياء الكمِّ إلى أنه بالنسبة إلى «أي» مجموعةٍ متماثِلةٍ من النُّسَخ لشيءٍ مادي لا بد أن تتَّسِم بعض خصائصها بالتباين؛ يُعرَف ذلك ﺑ «مبدأ عدم اليقين» لهايزنبرج، على اسم عالم الفيزياء فيرنز هايزنبرج الذي خلص إلى أول صورةٍ لهذا المبدأ من نظرية الكَمِّ.
ولهذا — على سبيل المثال — يملك الإلكترون المفرد دائمًا نطاقًا من المواقع المختلفة إلى جانب نطاقٍ من السرعات واتجاهات الحركة المختلفة؛ ونتيجةً لذلك يكون سلوكُه التقليدي الانتشارَ في الفراغ تدريجيًّا. إن قانونَ حركة ميكانيكا الكَمِّ الذي يحكم الإلكترونَ يُشبه القانونَ الحاكم لانتشار بقعةِ حبرٍ؛ فإذا كان واقعًا في مساحةٍ صغيرةٍ جدًّا في البداية، فإنه سيتمدَّد سريعًا، وكلما اتَّسَع بَطُؤ تمدُّدُه. تضمن معلوماتُ التشابُكِ التي يحملها الإلكترونُ استحالةَ مساهمة نسختين منه في نفس التاريخ (أو إذا أردنا الدقةَ، يوجد الإلكترون في الأماكن والأزمان التي «توجد» بها تواريخُ في نُسَخٍ يستحيل اصطدامُ بعضها ببعض). إذا كان لنطاقِ سرعاتِ جسيمٍ ما قيمةٌ وسطى غير الصفر، فستتحرك «بقعةُ الحبر» كلها، ويطيع مركزُها تقريبًا قوانينَ الحركة في الفيزياء الكلاسيكية؛ هذا — بوجهٍ عام — هو مفهوم الحركة في فيزياء الكَمِّ.
يفسِّر هذا كيف يمكن لجسيماتٍ موجودةٍ في نفس التاريخ أن تكون متماثلةً كذلك، في شيءٍ مثل الليزر الذري. باستطاعة جسيمَيْ «بقعة حبر» ينتمي كلاهما إلى وجودٍ متعدِّد الأكوان أن يتماكنا على نحوٍ تامٍّ في الفراغ، وتكون معلومات التشابك فيهما على نحوٍ يمنع وجودَ نسختين منهما في نفس الموضع بنفس التاريخ أبدًا.
والآن ضَعْ بروتونًا في وسط هذه السحابة المتمددة تدريجيًّا من نُسَخ إلكترونٍ واحد. للبروتون شحنةٌ موجبة تجذب الإلكترونَ ذا الشحنة السالبة؛ بهذا تتوقَّفُ السحابة عن التمدُّدِ والانتشار عندما يصل حجمها إلى نقطةٍ تتساوى على نحوٍ تامٍّ فيها نزعتُها للانتشار إلى الخارج — بفعل التبايُن الناجم عن مبدأ عدم اليقين — مع انجذابها إلى البروتون؛ تُسمَّى البنيةُ الناتجة عن هذه العملية ذرةَ هيدروجين.
تاريخيًّا، كان هذا التفسيرُ لماهية الذرات من أول إنجازات نظرية الكَمِّ؛ إذ كان يستحيل من منظور الفيزياء الكلاسيكية أن توجد الذرات. تتكوَّن الذرةُ من نواةٍ موجبة الشحنة محاطةٍ بإلكتروناتٍ سالبة الشحنة، إلا أن الشحنتين الموجبة والسالبة تتجاذبان، وهما إنْ لم تُكبحَا فستتسارع إحداهما نحو الأخرى وتنبعث منهما طاقةٌ على هيئة إشعاعٍ كهرومغناطيسيٍّ إبَّان حركتَيْهما؛ ولهذا ظلَّ سرُّ عدم «انهيار» الإلكترونات داخل النواة في ومضة إشعاعٍ سرًّا غامضًا. لا تُشكِّلُ النواة ولا الإلكترونات كلٌّ منهما بمفردها أكثرَ من واحد على عشرة آلاف من قُطر الذرة، فما الذي يباعد بينهما كلَّ هذا التباعُد؟ وما الذي يُبقِي الذرةَ مستقرةً في ظلِّ هذا الحجم؟ تُفسَّر بنية الذرة على صعيد غير فني من خلال تشبيهها بالمجموعة الشمسية؛ يتخيَّل المرءُ الإلكتروناتِ تدور حول النواة مثل دوران الكواكب حول الشمس، ولكن هذا لا يطابق الواقعَ لعدة أسباب؛ أولًا: تتحرَّك الأشياءُ المحكومة بالجاذبية حركةً حلزونيةً بطيئةً إلى الداخل، مُصدِرةً إبَّان ذلك إشعاعًا جذبويًّا (لُوحِظتْ هذه العمليةُ في النجوم النيوترونية الثنائية)، وهو ما كان سيتسبَّب في انتهاء العملية الكهرومغناطيسية في الذرة في غضون كسْرٍ من الثانية. ثانيًا: يدلُّ وجودُ المادة الصلبة — التي تتكوَّن من ذراتٍ يقع بعضها على مقربةٍ شديدةٍ من بعض — على أن الذرات لا يستطيع بعضُها اختراقَ بعضٍ بسهولة، على عكس المجموعات الشمسية القادرة على ذلك بكل تأكيد. وبالإضافة إلى كل هذا، تَبيَّنَ أنه في ذرة الهيدروجين، حين يكون الإلكترون في أقل حالات الطاقة فهو لا يدور على الإطلاق، بل — كما قلت — يكون قابعًا حيث هو مثل بقعة الحبر؛ حيث تعادل القوةُ الكهروستاتيكية نزعتَه للانتشار الناجمة عن مبدأ عدم اليقين. بهذه الطريقة نرى كيف أن ظاهرتَيِ التداخُل والتبايُن بين الأشياء المتماثلة أساسيتان لبنية وثبات كل الأشياء الساكنة — بما فيها كل الأجسام الصُّلبة — بالضبط كما أنهما أساسيتان للحركة في كل صورها.
إن مصطلح «مبدأ عدم اليقين» مصطلح مضلِّل. دعني أؤكِّد أنه بريء من أي علاقةٍ بالشك، أو بأي شعورٍ نفسيٍّ مكدرٍ ربما راوَدَ روَّادَ فيزياء الكَمِّ؛ فعندما يكون للإلكترون أكثرُ من سرعةٍ واحدة، أو أكثر من موضعٍ واحد، فلا علاقةَ لذلك بوجود شكٍّ في قيمة تلك السرعة، إلا كشَكِّ الفرد حيال أيُّ الدولارات التي في حسابه تحصل عليه مصلحةُ الضرائب. إن تبايُنَ الخصائص في الحالتين حقيقةٌ فيزيائية بصرف النظر عمَّا يعلمه أيُّ شخصٍ أو يشعر به.
وبالمناسبة، مبدأ عدم اليقين ليس «بمبدأ» كذلك؛ فوصفه على هذا النحو يوحي بأنه مسلَّمة أو فرضية مستقلة يمكن منطقيًّا نبْذُها أو استبدالها للوصول إلى نظريةٍ مختلفة. أما في واقع الأمر، فلا سبيلَ لإسقاط مبدأ عدم اليقين من نظرية الكَمِّ، تمامًا كما لا يَسَع المرءَ حذفُ ظاهرةِ الكسوف من عِلم الفلك، فلا يوجد «مبدأٌ لظاهرة الكسوف»؛ فوجودها يمكن أن يُستنتَج من نظرياتٍ ذات عموميةٍ أكبر كنظريات هندسة وديناميكا المجموعة الشمسية، ومبدأ عدم اليقين على نحوٍ مماثِلٍ مستنتَج من مبادئ نظرية الكَمِّ.
إن الإلكترون — بفضل مروره المستمر بالتداخُل الداخلي القوي — شيءٌ ينتمي إلى وجودٍ متعدِّد الأكوان على وجهٍ لا يمكن اختزاله، وليس مجموعةً من أشياءَ تنتمي إلى أكوانٍ موازيةٍ أو لتواريخَ موازية. بعبارةٍ أخرى: للإلكترون مواضع عدة، وسرعات عدة، دون أن تكون له القدرة على الانقسام إلى كياناتٍ فرعيةٍ مستقلةٍ لكلٍّ منها سرعة واحدة وموضع واحد، بل إنه حتى الإلكترونات المختلفة لا تملك هوياتٍ منفصلةً انفصالًا تامًّا؛ ومن ثَمَّ يكون الواقعُ «مجالَ» إلكترونٍ يمتدُّ في أرجاء الفراغ، وتنتشر فيه التشويشات على صورة موجاتٍ بسرعةٍ تساوي سرعة الضوء أو أقل. هذا هو ما أثارَ المفهومَ الخاطئ والدارج بين روَّاد نظرية الكَمِّ القائل بأن الإلكترونات (ومثلها كلُّ الجسيمات الأخرى) هي «جسيمات وموجات في آنٍ واحد». يوجد في الوجود المتعدِّد الأكوان مجالٌ (أو «موجات») لكلِّ جسيمٍ نلاحظه في كونٍ بعينه.
ومع أن التعبير عن نظرية الكمِّ يكون بلغةٍ رياضية، فإني قد قدَّمْتُ ها هنا عرضًا مفهومًا بلغةٍ عاديةٍ للملامح الرئيسية للواقع كما تصفه تلك النظرية؛ وعلى هذا يصبح الوجودُ المتعدِّد الأكوان التخيُّلي الذي أصفه هنا هو نفسه الوجود المتعدِّد الأكوان الحقيقي بنحوٍ أو بآخَر. تبقى نقطةٌ واحدةٌ يلزمها التوضيح: قامَتْ «سلسلةُ التأمُّلات» التي طرحتها على أكوانٍ ونُسَخٍ من الأشياء، ثم على تصويبٍ لتلك الأفكار، وذلك من أجل وصف الوجود المتعدِّد الأكوان، لكن الوجود المتعدِّد الأكوان الحقيقي لا يقوم على أي شيء، ولا هو تصويب لأي شيء. لا تأتي نظريةُ الكَمِّ على ذِكْر الأكوان، أو التواريخ، أو الجسيمات ونسخها، كما لا تتطرَّق إلى الكواكب ولا البشر ولا حياتهم ولا ما يحبون؛ إن هذه كلها ظواهر منبثقة تقريبية في الوجود المتعدِّد الأكوان.
إنَّ أيَّ تاريخٍ يُشكِّل جزءًا من الوجود المتعدِّد الأكوان بنفس الكيفية التي تُشكِّل بها أيُّ طبقةٍ جيولوجيةٍ جزءًا من القشرة الأرضية. يتمايز كلُّ تاريخٍ عن غيره بقِيَم متغيراته الفيزيائية، كما تتمايز كلُّ طبقةٍ عن غيرها بتركيبها الكيميائي وما وُجِد فيها من أنواع حفرياتٍ وما إلى ذلك. إنَّ أيَّ طبقةٍ أرضيةٍ وأيَّ تاريخٍ عبارةٌ عن قناةٍ لتدفُّقِ المعلومات؛ فهما يحفظان المعلومات لأنهما شبه «مستقلَّيْن»، بالرغم من التغيُّر الدائم لمحتوياتهما؛ أو بعبارةٍ أخرى: إن التغيرات التي تحلُّ بطبقةٍ بعينها أو بتاريخٍ بعينه تعتمد على نحوٍ كاملٍ تقريبًا على الظروف والأحوال بداخله، لا في أي مكانٍ آخَر. وبفضل هذا الاستقلال، يمكن استخدامُ حفريةٍ اكتُشِفت اليومَ باعتبارها دليلًا على ما كان موجودًا عندما تكوَّنَتِ الطبقةُ التي وُجِدت بها. وبالمثل، يُتيح هذا الاستقلال الذي يتحلَّى به أيُّ تاريخٍ من خلال الفيزياء الكلاسيكية التنبُّؤَ الصحيحَ ببعض جوانبِ مستقبلِ هذا التاريخ من ماضيه.
لا تملك الطبقة الجيولوجية وجودًا منفصلًا عن الموجودات فيها، شأنها شأن التاريخ، فهي «تتكوَّن» من تلك الموجودات، وأيضًا ليس للطبقة حدودٌ محدَّدةٌ بدقةٍ، وبالإضافة إلى ذلك، توجد مناطق من كوكب الأرض اندمجَتْ فيها الطبقاتُ الجيولوجية — بالقرب من البراكين على سبيل المثال — (وإنْ كنتُ لا أعتقد بوجود عمليةٍ جيولوجيةٍ تُقسِّم الطبقاتِ وتعيد دمْجَها، كما تنقسم التواريخُ وتندمج من جديدٍ)، وأخرى لم توجد فيها أيُّ طبقاتٍ جيولوجيةٍ بتاتًا، مثل لبِّه، وأخرى — كالغلاف الجوي — تتكوَّن فيها الطبقات بالفعل، ولكن تتفاعل محتوياتها وتختلط في مُدَدٍ زمنيةٍ أقصر كثيرًا مما تستغرقه في القشرة الأرضية. وبالمثل، يوجد من مناطق الوجود المتعدِّد الأكوان ما يحوي تواريخَ قصيرة الأجل، وأخرى لا تحتوي تقريبًا على أيِّ تواريخ.
بَيْدَ أن ثَمَّةَ اختلافًا واحدًا كبيرًا بين طريقتَيْ ظهور كلٍّ من الطبقات الجيولوجية والتواريخ من الظواهر الأساسية الخاصة بها. على الرغم من أنه لا يمكن نسب كلِّ ذرةٍ في القشرة الأرضية إلى طبقةٍ بعينها على نحوٍ لا لبسَ فيه، فإنه يمكن نسب أغلبِ الذرات المكوِّنة لطبقةٍ بعينها إلى هذه الطبقة، ولكن في المقابل تكون كلُّ ذرةٍ في كل شيءٍ حولنا في الحياة اليومية في حد ذاتها شيئًا ينتمي إلى الوجود المتعدِّد الأكوان، وهي غير مقسَّمةٍ إلى نُسَخٍ شبه مستقلةٍ وتواريخ شبه مستقلة، ولكن الأشياء الموجودة في الحياة اليومية كالمركبات الفضائية والأشخاص المخطوبين — التي تتكوَّن جميعها من مثل تلك الجسيمات — مقسَّمة بدقةٍ فائقةٍ إلى تواريخَ شبهِ مستقلة؛ حيث لا يوجد منها في كل تاريخٍ سوى نسخةٍ واحدة، ذات سرعةٍ واحدة، في موضعٍ واحد.
يرجع ذلك إلى القمع الذي يفرضه التشابُك على التداخُل؛ فكما شرحتُ من قبلُ، يحدث التداخل بصفةٍ شبه دائمةٍ سريعًا بعد الانقسام، وإلا لا يحدث مطلقًا؛ ولهذا كلما زاد حجمُ الشيء أو العملية وتعقيده، قلَّ تأثُّرُ سلوكه العام بالتداخل. في هذا المستوى «الخشن غير المصقول» من الظهور، تتكوَّن الأحداثُ في الوجود المتعدِّد الأكوان من تواريخ مستقلة؛ يتكوَّن كلُّ تاريخٍ منها من مجموعةٍ من التواريخ العديدة التي تتباين فقط في تفاصيلَ دقيقةٍ للغاية، ولكن يؤثر بعضها على بعضٍ بفعل التداخُل. تنزع كراتُ التغايُرِ إلى النموِّ بسرعةِ الضوء تقريبًا؛ وعليه — وبمقياس الحياة اليومية وما فوقها — يجوز أن نطلق على تلك التواريخ غير المصقولة لفظَ «أكوان» بالمعنى العادي للكلمة، يشبه كلُّ كونٍ منها كوْنَ الفيزياء الكلاسيكية، ومن الصحيح أن نصفها بالأكوان «الموازية»؛ فهي شبه مستقلة. يبدو كلُّ كونٍ منها في عيون سكَّانه أشبهَ بعالَمٍ ذي كونٍ واحد.
تندر الأحداث الدقيقة التي تتضخَّم بالصدفة لهذا المستوى الأعم — الخشن غير المصقول — (مثل الدفقة الكهربية في قصتنا) في أي تاريخٍ واحدٍ على ذلك المستوى نفسه، ولكنها شائعة في الوجود المتعدِّد الأكوان ككلٍّ. على سبيل المثال: تأمَّلْ جسيمَ شعاعٍ كونيٍّ يرتحل في اتجاه الكرة الأرضية قادمًا من الفضاء العميق. لا بد أن ذلك الجسيم يرتحل في نطاقٍ من الاتجاهات المختلفة قليلًا؛ لأن مبدأ عدم اليقين يقتضي ضمنًا أنه في الوجود المتعدِّد الأكوان لا بد لذلك الجسيم أن يتمدَّدَ جانبيًّا كبقعة الحبر أثناء تحرُّكه. قد تصبح تلك البقعةُ عند وصول الجسيم إلى الكرة الأرضية أكبرَ من الأخيرة بأسرها؛ ومن ثَمَّ يخفق أغلبها في إصابة الكوكب ويضرب الباقي كلَّ مكانٍ في السطح المكشوف. تَذكَّر أن هذا ليس سوى جسيمٍ واحدٍ فحسب، وهو قد يتكوَّن من نُسَخٍ متماثلة، يلي ذلك أن تنتفيَ صفةُ التماثُل عن تلك النُّسَخ، وتنقسم بفعل تفاعُلها مع ذراتٍ في مواضعِ وصولها إلى أعدادٍ متناهيةٍ ولكن هائلة من النُّسَخ، يصير كلٌّ منها أصلَ تاريخٍ منفصل.
وفي كل تاريخٍ من تلك التواريخ، توجد نسخة مستقلة من جسيم الشعاع الكوني، التي ستطلق طاقتها من أجل تكوين «شلال أشعةٍ كونية» من الجسيمات ذات الشحنة الكهربية؛ وعلى هذا يحدث ذلك الشلالُ — في التواريخ المختلفة — في مواقع مختلفة. يوفِّر الشلالُ في بعض التواريخ مسارًا موصلًا تسلكه بعد ذلك صاعقةُ برقٍ. في بعض التواريخ لا تسلم ذرةٌ واحدةٌ على كوكب الأرض من تلك الصاعقة، وفي تواريخَ أخرى سوف يصيب أحدُ جسيمات الشعاع الكوني تلك خليةً بشرية؛ حيث يشوِّه بعضَ الحمض النووي المشوَّه بالفعل، فيسرطن الخليةَ. ونِسَبٌ لا يمكن تجاهُلُها من كل حالات الإصابة بالسرطان تحدث بهذه الطريقة؛ ونتيجةً لذلك، توجد تواريخُ سرعان ما يموت فيها شخصٌ معين، يكون حيًّا في تاريخنا في أي وقت، بعد إصابته بالسرطان. وهناك من التواريخ ما سيتغيَّر فيه مسارُ معركةٍ أو حربٍ بفعل حدثٍ كذاك، أو بفعل صاعقةِ برقٍ تحدث في الزمان والمكان المناسبين، أو بفعل أيٍّ من الأحداث «العشوائية» التي لا حصرَ لها والمستبعدة. على هذا النهج، يكون من المسوغ حقًّا وجودُ تواريخ تقع فيها الأحداثُ بنحوٍ أو بآخَر كما في قصص التاريخ البديل، مثل «أرض الأجداد»، أو «روما السرمدية»، أو تواريخ تختلف فيها مجريات حياتك أنت كل الاختلاف؛ للأفضل أو للأسوأ.
لهذا يقترب أغلب الخيال من الحقيقة في مكانٍ ما في وجودٍ متعدِّد الأكوان؛ ولكن ليس كل الخيال؛ فمثلًا: لا توجد تواريخ تتحقَّق فيها قصصي عن وجودِ خللٍ في الناقل؛ لأن هذه القصصَ تتطلَّب قوانينَ فيزيائيةً مختلفة. ولا توجد تواريخ تختلف فيها ثوابتُ الطبيعة الأساسية كسرعةِ الضوء وشحنة الإلكترون، ومع ذلك، توجد ظروفٌ قد «تبدو» فيها قوانينُ فيزيائيةٌ مختلفةٌ وكأنها حقيقية لفترةٍ معينةٍ في بعض التواريخ؛ بسبب سلسلةٍ من «الصدف المستبعَدة». (قد توجد أيضًا أكوانٌ بها قوانين فيزيائية مختلفة على حسب ما تتطلَّب التفسيراتُ الإنسانية للضبط الدقيق، ولكن لا توجد نظريةٌ معقولة حول وجودٍ متعدِّدِ الأكوان كذاك حتى الآن.)
تخيَّلْ فوتونًا صادرًا من ليزرِ اتصالِ مركبةٍ فضائيةٍ متَّجِهًا نحو الكرة الأرضية؛ فمثل الشعاع الكوني، يصل الفوتون فيغمر السطحَ كله، في تواريخَ مختلفة. سوف تمتصُّ الفوتونَ في كل تاريخٍ ذرةٌ واحدةٌ فقط ولن يتأثَّر سواها أيَّ تأثُّر في البداية. يرصد جهازُ استقبالِ مثلِ هذه الاتصالات التغيُّرَ الضخم نسبيًّا، والمتقطِّعَ الذي تمرُّ به تلك الذرة. من العواقب المهمة بالنسبة إلى بناء أيِّ جهازِ قياسٍ (بما فيه العيون)، أنه مهما بلغ بُعْدُ المصدرِ تظلُّ الدفعةُ التي يعطيها الفوتونُ الوافد للذرة بنفس المستوى دائمًا؛ كلُّ ما في الأمر أنه كلما ضعفَتِ الإشارةُ قلَّتْ تلك الدفعات. لو لم يكن هذا صحيحًا — لو كانت الفيزياء الكلاسيكية صائبةً مثلًا — لَغمر بسهولةٍ التشويشُ المحلي العشوائي الإشاراتِ الضعيفةَ وبدَّدَها؛ يُشبه هذا أفضليةَ معالجةِ المعلومات الرقمية على التناظرية كما وضحتُ في الفصل السادس.
تعلَّقَتْ بعضُ أبحاثي الخاصة في الفيزياء بنظرية «أجهزة الكمبيوتر الكمية»؛ وهي أجهزة كمبيوتر تُحمَى فيها المتغيِّراتُ الحاملةُ للمعلومات بوسائلَ متنوِّعةٍ بُغيةَ منْعِها من التشابُك مع الأشياء المحيطة بها. يسمح هذا التدبير بوضعٍ جديدٍ للحوسبة لا يقتصر فيه تدفُّق المعلومات على تاريخٍ واحد. في أحد أنواع الحوسبة الكمية تستطيع أعدادٌ هائلة من عمليات الحوسبة المختلفة والمتزامنة أن يؤثِّر بعضها على بعض؛ ومن ثَمَّ تساهم في مخرجات إحدى عمليات الحوسبة؛ يُعرَف هذا باسم «التوازي الكمي».
ومثلما استطاع أفراد طاقم المركبة الفضائية أن يحقِّقوا تأثيرَ أعدادٍ هائلةٍ من عمليات الحوسبة من خلال مشاركتهم المعلوماتِ مع أشباههم، الذين يحسبون نفسَ الدالة على مجموعةٍ مختلفةٍ من المدخلات، تفعل الخوارزمية التي تستخدم التوازيَ الكَمِّيَّ الشيءَ نفسه. وبينما الأثرُ التخيُّلي محدودٌ بلوائح المركبة التي يمكننا اختلاقُها حسبما يتماشى مع حبكة القصة، تُقيِّد أجهزةُ الكمبيوتر الكمية قوانينَ الفيزياء الحاكمة للتداخُل الكَمِّي؛ فيمكن فقط لأنواعٍ معينةٍ من الحوسبة المتوازية أن تتمَّ بمساعدة الوجود المتعدِّد الأكوان بهذه الطريقة؛ وهي الأنواع التي يتصادف أن تناسبها رياضياتُ التداخُل الكَمِّي من أجل دمْجِ المعلومات التي تحتاجها النتيجةُ النهائية في تاريخٍ واحد.
وفي هذه العمليات يستطيع كمبيوتر كَمِّي ليس فيه ما يزيد عن بضع مئات الكيوبتات أن يؤدِّيَ عملياتِ حوسبةٍ متوازية تفوق في عددها كلَّ ذرات الكون المرئي. لقد تمَّ في زمنِ كتابةِ هذا الكتاب إنتاجُ أجهزةِ كمبيوتر كمية ذات نحو عشرة كيوبتات. إن «قابلية» التكنولوجيا للتوسُّع لأعدادٍ أكبر بمنزلةِ تحدٍّ هائلٍ أمام تكنولوجيا الكَم، ولكنها آخذة في التغلب عليه تدريجيًّا.
ذكرتُ قبل ذلك كيف أن النتيجة المعتادة لتأثُّر أيِّ جسمٍ كبيرٍ بمؤثرٍ طفيفٍ هي بقاء الجسم بلا تأثُّرٍ مطلقًا. أستطيع الآن شرْحَ السبب في ذلك؛ على سبيل المثال: في مقياس تداخُل ماخ-زيندر المبيَّن من قبلُ، تتحرك نسختان من فوتون واحد في مسارين مختلفين، حيث يصطدمان في طريقَيْهما بمرآتين مختلفتين؛ ولن يحدث التداخل إلا إذا نجا الفوتون من التشابك مع المرآتين، ولكنه سوف يتشابك بالتأكيد إذا احتفظَتْ أيٌّ من المرآتين بتسجيلٍ ولو واهيًا للاصطدام بها (لأن هذا سيكون بمنزلة تأثيرٍ مُغايرٍ من النُّسَخ على المسارين المختلفين). يكفي كُمُّ تغييرٍ واحد في سعة تذبذُب المرآة على قوائمها. على سبيل المثال: للحَوْل دون التداخُل (أيْ الِاندماج اللاحق لنسختَيِ الفوتون).
عندما ترتدُّ إحدى نسختَيِ الفوتون من أيٍّ من المرآتين، يتغيَّر زخمُها؛ وعليه، وبحسب قانون حفظ الزخم (النافذ على نحوٍ عموميٍّ في فيزياء الكَمِّ كما في الفيزياء الكلاسيكية تمامًا) لا بد أن يتغيَّر زخمُ المرآة بقدرٍ مساوٍ له في المقدار ومضادٍ له في الاتجاه؛ ومن ثَمَّ، يبدو — في كل تاريخ — أن مرآة واحدة يجب أن تبقى متذبذبةً بعد اصطدام الفوتون بها بطاقةٍ أقل أو أكثر قليلًا. يُميِّز تغيُّرُ الطاقة هذا المسارَ الذي اتخذه الفوتون، وبهذا تكون المرآتان قد تشابكتا مع الفوتون.
من حُسْن الحظ أن هذا ليس ما يحدث حقًّا. تذكَّرْ أن — عند مستوًى عالٍ من التفاصيل بالقدر الكافي — ما نراه دون تدقيقٍ باعتباره تاريخًا واحدًا للمرآة الساكنة في سلبية، أو المتذبذبة بهوادةٍ على قوائمها؛ يكون في حقيقة الأمر تواريخَ كثيرةً جدًّا ذات نُسَخٍ من كل ذراتها التي تنقسم باستمرار ثم تعاود الاندماج. وعلى وجه الخصوص، تتخذ الطاقة الإجمالية للمرآة عددًا كبيرًا من القِيَم الممكنة يدور حول المتوسط «الكلاسيكي». والآن، ماذا يحدث عندما يصطدم الفوتون بالمرآة مغيِّرًا هذه الطاقةَ الإجماليةَ بكَمٍّ واحد؟
لنُبسِّطِ الأمرَ للحظة؛ تخيَّلْ خمسَ نُسَخٍ للمرآة فقط من تلك التي لا حصرَ لها؛ حيث لكلِّ نسخةٍ طاقة تذبذبية مختلفة تتراوح بين كَمَّيْن أقل من المتوسط وكمَّيْن أعلى منه. تصطدم كلُّ نسخةٍ من الفوتون بنسخةٍ واحدةٍ من المرآة، فينبثق كمُّ طاقةٍ واحدٌ إضافي؛ ومن ثَمَّ وبعد هذا التصادم تزيد الطاقة المتوسطة لنُسَخ المرآة بقدر كَمٍّ واحدٍ، وستوجد عندئذٍ نُسَخٌ ذات طاقةٍ تتراوح بين كمٍّ واحدٍ أقل من المتوسط القديم وثلاثة أعلى منه، ولكن ما دام لا يوجد — على هذا المستوى الدقيق من التفصيل — تاريخٌ مستقل يرتبط بأيٍّ من قِيَم الطاقة تلك، فلا معنى لأنْ نسأل عمَّا إذا كانت إحدى نسخ المرآة التي لها قيمة طاقةٍ معينة بعد التصادم هي «نفس» النسخة التي كانت لها تلك القيمة قبله؛ ومن ثَمَّ فإن الحقيقية الفيزيائية الموضوعية تتمثَّل في أنه من بين النسخ الخمس للمرآة، أربع فقط هي التي لها طاقة كانت موجودةً من قبلُ، وأما الخامسة، فلا. وهكذا فإن نسخةً واحدةً فقط — تلك التي طاقتها أكبر بمقدار ثلاثة كمومٍ من المتوسط السابق — تحمل سجلًّا لتأثير الفوتون؛ وهذا يعني أن خُمْسَ الأكوان التي ارتطَمَ بها الفوتون بالمرآة فحسب قد غمرت فيها موجة التغايُر المرآة، وأن التداخل الكائن بين نُسَخ ذلك الفوتون التي اصطدمت بالمرآة أو لم تصطدم سيتمُّ قمْعُه في تلك الأكوان.
باستخدام أعدادٍ واقعيةٍ تكون فرصةُ ذلك واحدًا في تريليون تريليون؛ أيْ يوجد احتمالٌ واحد من تريليون تريليون أن التداخُل لن يتم، وهذا احتمال يقلُّ كثيرًا عن احتمال إعطاء التجربة نتائجَ غير دقيقةٍ بسبب الاعتماد على أدوات قياسٍ معيبة، أو أنها ستتدمر بفعل صاعقة برق.
لننظر الآن إلى وصول كمِّ الطاقة الوحيد ذاك لنرى كيف يمكن لذلك التغيُّر المتقطع أن يحدث بلا انقطاع. تأمَّلْ أبسطَ حالةٍ ممكنة: تمتصُّ ذرةٌ فوتونًا ومعه كل طاقته، ولا يحدث هذا الانتقال للطاقة في التو. (انسَ أيَّ شيءٍ قد تكون قرأْتَه عن «القفزات الكمية»؛ فهي مجرد خرافة.) توجد عدة سُبُلٍ لإمكانية حدوث ذلك، ولكن هذه أبسطها: في بداية العملية تكون الذرة (لنقل مثلًا) في «حالتها القاعية»، حيث يكون لإلكتروناتها أقل طاقةٍ ممكنةٍ مسموحٍ بها في نظرية الكَم؛ يعني ذلك أن كل نسخها لها نفس هذه الطاقة (في التاريخ ذي الصلة على هذا المستوى الخشن غير المصقول). افترض أنها متماثلة كذلك؛ تظل كلُّ هذه النُّسَخ متماثلةً عند نهاية العملية، ولكنها الآن في «الحالة المثارة»، التي لها كمٌّ إضافيٌّ واحد من الطاقة. كيف تكون الذرة في منتصف العملية؟ ما زالَتْ كلُّ نُسَخها متماثلةً، ولكن نصفها صار الآن في الحالة القاعية، والنصف الآخَر في الحالة المثارة، وكأنَّ مبلغًا ماليًّا دائمَ التغيُّر يواصِلُ تغييرَ ملكيته من مالكٍ إلى آخَر على نحوٍ تدريجي.
تشيع هذه الآلية في فيزياء الكم، وهي الوسيلة العامة التي تحدث بها التحولات بين الحالات المتقطعة باستمرار. في الفيزياء الكلاسيكية، دائمًا ما يعني «الأثر الطفيف» تغيرًا طفيفًا في بعض الكميات القابلة للقياس. في فيزياء الكَم، تكون المتغيرات الفيزيائية بطبيعة الحال متقطعة، ولا يمكن أن تمرَّ بأيِّ تغيُّرٍ طفيف، بل يعني «الأثر الطفيف» تغيرًا طفيفًا في «نِسَب» الخصائص المتقطعة المتنوعة.
يثير هذا أيضًا مسألةَ ما إذا كان الزمنُ نفسه متغيِّرًا متصلًا. إنني أفترض في نقاشي هذا أنه كذلك، ومع هذا، لم يتمَّ فهْمُ ميكانيكا كَمِّ الزمن على الوجه الأكمل بعدُ، ولن يتم قبل أن نملك نظريةً كميةً حول الجاذبية (التي تُمثِّل الجمْعَ بين نظرية الكَمِّ ونظرية النسبية العامة)، ولهذا ربما يتضح أن الأمور ليست بهذه البساطة على كل حال، غير أن ثَمَّةَ شيئًا واحدًا يسعنا التأكُّد منه، وهو أنه في تلك النظرية «الأزمان المختلفة حالة خاصة من الأكوان المختلفة». بعبارةٍ أخرى: إن الزمن ظاهرةُ تشابُكٍ، وهي تضع كلَّ قراءات الساعة المتساوية (المأخوذة عن ساعات مُعَدَّة على نحوٍ صحيحٍ أو أي شيءٍ يصلح للاستخدام كساعة) في نفس التاريخ. كان أولَ مَن استوعب ذلك عالما الفيزياء دون بيدج ووليام ووترز في عام ١۹٨٣.
كيف لقصتنا الخاصة بالخيال العلمي أن تستمرَّ في ظلِّ هذه النسخة الكاملة من الوجود الكَمِّي المتعدِّد الأكوان؟ لقد تركَّزَ جُلُّ الاهتمام الذي شدَّتْه نظريةُ الكَمِّ من جانب الفيزيائيين والفلاسفة ومؤلِّفي أعمال الخيال العلمي حول جانب الأكوان الموازية بها. في هذا نوع من المفارقة؛ لأن العالَمَ يُشبه كثيرًا عالم الفيزياء الكلاسيكية في ظل التقدير التقريبي للكون الموازي، إلا أن هذا الجانب بالذات هو ما يراه الكثيرون مرفوضًا على نحوٍ غير مفهومٍ في نظرية الكَم.
يستطيع الخيالُ أن يتطرَّقَ إلى استكشافِ كلِّ الإمكانات التي تتيحها الأكوانُ الموازية؛ فمثلًا: لما كانَتْ قصتنا قصةً غراميةً، كان بوسع شخصياتها أن يتساءلوا عن نظرائهم في التواريخ الأخرى. قد تقارن القصة بين تخيُّلاتهم وبين ما «نعلم» أنه قد حدث في التواريخ الأخرى. قد يتساءل الزوجُ الذي تبيَّنَتْ له خيانةُ زوجته بواسطة حدثٍ «عشوائي» إذا ما كان ذلك الحدث قد قدَّمَ له فرصةَ هروبٍ سعيدةً من زواجٍ كان مآلُه الفشلَ في كل الأحوال. أَلَا يزالان متزوِّجَيْن في التاريخ الذي لم تُكتشَف فيه الخيانةُ تبعًا لذلك الحدث؟ أَلَا يزالان سعداء؟ هل يمكن أن تكون سعادة حقيقية إذا كان «قوامها الكذب»؟ وبينما نراهم يتفكَّرون في تلك الأمور، نرى أيضًا تاريخًا «لا يزال» فيه الزوجان متزوجين، ونتعرَّف على الحقيقة (التخيُّلية) فيما آلَ إليه الأمر.
بمقدور الشخصيات أيضًا أن تتصوَّرَ أمورًا أوسع أفقًا. قد تقول القصة إن شمسهم جزءٌ من عنقودٍ يضمُّ عشراتِ النجوم، تقع جميعها في كرةٍ نصفُ قطْرِها بضعةُ أسابيع ضوئية. يُحيِّر هذا علماءهم لعقودٍ؛ لأنَّ تكوينَ النجوم يُبيِّن أنها قد نشأَتْ بعيدًا، ثم أصبحَتْ في قبضةِ الجاذبية بعد سلسلةٍ من الصدف المستبعَدة تمامًا. تقود هؤلاء العلماءَ حساباتُهم إلى أن الحياةَ لا تتطوَّر قطعًا في عناقيد النجوم الكثيفة هذه لكثرة التصادمات؛ ومن ثَمَّ لا توجد في أغلب الأكوان الموجود بها بشرٌ أساطيلُ من المركبات الفضائية تزور المجموعاتِ النجميةَ المأهولة الواحدة تلو الأخرى. لقد باتوا يحاولون اكتشافَ آليةٍ ربما يُسرَّع بها بعضَ الشيء قُرْبُ النجوم المجاورة من تكوين حياةٍ ذكية، لكنهم فشلوا؛ فهل يعتبرونها مجرد صدفةٍ فلكيةٍ غير محتملة؟ ولكنهم يبغضون ترْكَ الأمورِ بلا تفسير، فينتهون إلى أن «شيئًا» لا بد أنه قد اختارهم، وهو ما حدث حقًّا. أولئك الناس ليسوا مجرد قصة؛ إنهم بشر حقيقيون ومفكِّرون، وأحياء، يتساءلون في هذه اللحظة بالذات من أين أتوا، لكنهم لن يكتشفوا ذلك أبدًا. لقد جانَبَهم الحظُّ في هذه النقطة فقط: لقد اختارتهم الصدفةُ حقًّا. بتعبيرٍ آخَر: لقد اختارتهم القصة التي أرويها عنهم الآن. إن كلَّ خيالٍ لا يخرق قوانينَ الفيزياء حقيقيٌّ.
وبعض الخيال الذي «يبدو» وكأنه يخرق قوانين الفيزياء حقيقي أيضًا، وذلك في مكانٍ ما في الوجود المتعدِّد الأكوان. يتطرَّق هذا إلى مسألةٍ دقيقةٍ في بنية الوجود المتعدِّد الأكوان، أَلَا وهي: كيفية انبثاق التواريخ. التاريخ مستقل بوجهٍ تقريبي؛ فإذا وضعتُ بعضَ الماء ليغليَ في غلايةٍ لأُعِدَّ بعضَ الشاي، فسأكون حينئذٍ في تاريخٍ شغلت فيه الغلاية وتزايدت فيه حرارة الماء على نحوٍ تدريجيٍّ بفعل الطاقة التي تنقلها إليه الغلاية؛ ممَّا يتسبَّب في تكوين فقاقيع وما إلى ذلك، وبمرور الوقت يتكوَّن الشاي. إن هذا تاريخ لأن بوسع المرء أن يُقدِّم حوله التفسيراتِ والتنبؤاتِ دون أن يأتيَ مطلقًا على ذِكْر وجودِ تواريخَ أخرى في الوجود المتعدد الأكوان اخترتُ فيها أن أُعِدَّ قهوةً بدلًا من الشاي، أو حيث تأثَّرَتِ الحركةُ المجهرية لجزيئات المياه تأثُّرًا طفيفًا بأجزاءٍ من الوجود المتعدِّد الأكوان واقعة خارج هذا التاريخ. لا يأبه ذلك التفسير بأن جانبًا صغيرًا من ذلك التاريخ يمايز نفسه أثناء تلك العملية ويفعل أشياءَ أخرى. في نقطةٍ دقيقةٍ من ذلك التاريخ، تتحوَّل الغلاية نفسها إلى قبعةٍ طويلة، والمياه إلى أرنبٍ يقفز بعيدًا، ولا أحظى بالشاي ولا بالقهوة ولكن بالمفاجأة. إن هذا تاريخ كذلك، بعد ذلك التحوُّل، غير أنه ما من طريقةٍ لتفسير ما كان يحدث فيه تفسيرًا صحيحًا — ولا للتنبؤ باحتمالاته — دون الإشارة إلى أجزاءٍ أخرى من الوجود المتعدِّد الأكوان، أجزاء أكبر كثيرًا ليس فيها أرنب؛ لذا فلقد بدأ هذا التاريخ عند حدوث التحوُّل، ولا يمكن شرْحُ علاقته السببية بما حدث قبله فيما يتعلَّق بالتاريخ، وإنما فيما يتعلَّق بالوجود المتعدِّد الأكوان.
توجد في مثل هذه الحالات البسيطة لغةٌ تقريبيةٌ جاهزةٌ نستطيع باستخدامها تقليصَ ذِكْرِ باقي الوجود المتعدد الأكوان؛ لغة الأحداث العشوائية. إنها تسمح لنا بالتسليم بأن أغلب الأشياء ذات المستوى الأعلى والمتصلة بالموضوع ما زالت تتصرَّف باستقلاليةٍ فيما عدا جانبًا واحدًا؛ أنها تأثَّرَتْ بشيءٍ خارج ذاتها، كما تأثَّرْتُ أنا بالأرنب. يُشكِّلُ ذلك بعضَ الاستمرارية بين التاريخ والتاريخ الذي يسبقه والذي انبثق الأول منه، ويمكن أن نُشير إلى التاريخ المنبثق على أنه «التاريخ الذي تأثَّرَ بأحداثٍ عشوائية». ومع ذلك، لم يكن ذلك ما حدث حرفيًّا قطُّ: إن جزءَ ذلك «التاريخِ» الذي سبق «الحدثَ العشوائي» متماثِلٌ مع باقي التاريخ الأشمل، وعلى ذلك ليس له هوية منفصلة عنه؛ فلا يمكن تفسيره على نحوٍ منفصل.
غير أن تفسير التاريخ الأشمل من بين هذين التاريخين يظلُّ ممكنًا، أو بتعبيرٍ آخَر: يختلف تاريخَ الأرنب اختلافًا أساسيًّا عن تاريخ الشاي؛ إذ يبقى الأخيرُ مستقلًّا بدقةٍ بالغةٍ طوال المدة. في تاريخ الأرنب، ينتهي بيَ المطاف مفعمًا بذكرياتٍ مطابِقةٍ لما ستكون عليه في تاريخٍ أصبح فيه الماءُ أرنبًا، لكن هذه ذكريات مضلِّلة. لم يوجد تاريخٌ كذلك قطُّ، بل بدأ التاريخُ الذي يحتوي على هذه الذكريات فقط بعدما تكوَّنَ الأرنبُ، وفي هذا الخصوص، ثَمَّةَ أماكن في الوجود المتعدِّد الأكوان — يفوق حجمُها تلك المنطقةَ الأخيرةَ على نحوٍ كبير — حيث لم يتأثَّرْ سوى «مُخي»؛ ممَّا جعله يُنتج تلك الذكريات بالضبط؛ كنتُ في الحقيقة أُعانِي من هلوسةٍ ترجع إلى حركةٍ عشوائيةٍ لذرات مُخي. ينظر بعض الفلاسفة إلى مثل هذه الأمور باهتمامٍ شديدٍ، مدَّعِين أنها تُلقِي بظلال الرِّيبة على المكانة العلمية لنظرية الكَمِّ، ولكنهم تجريبيون بالطبع. في الواقع تشيع الملاحظاتُ المضللة، والذكرياتُ المضللة، والتأويلاتُ الزائفة جميعها حتى في التاريخ، وينبغي لنا العمل الدءوب على وقاية أنفسنا من الانخداع بها.
لذا، فليس من الصحيح — مثلًا — أن السحر يبدو وكأنه ينجح في بعض التواريخ، بل توجد فقط تواريخ يبدو فيها السحرُ وكأنه «قد نجح»، ولكنه لن يكرِّرها أبدًا. في بعض التواريخ قد يبدو أني مررت عبر حائط؛ إذ استعادَتْ سائرُ ذرات جسدي سابقَ حالتها بعد أن بعثرَتْها ذراتُ الحائط، لكن تلك التواريخ بدأتْ عند الحائط؛ ينطوي التفسير الحقيقي لما حدث على نُسَخٍ أخرى عديدة مني ومن الحائط، أو قد نفسِّر ما حدث في المجمل كأحداثٍ عشوائيةٍ احتماليتُها قليلةٌ جدًّا. يشبه الأمرُ الفوزَ باليانصيب إلى حدٍّ ما؛ إذ لا يَسَعُ الرابحَ تفسيرُ فوزِه على نحوٍ سليمٍ دون أن يأتيَ على ذِكْرِ وجودِ كُثُرٍ خاسرين، هؤلاء الخاسرون في الوجود المتعدِّد الأكوان هم نُسَخُ المرء الأخرى.
ينهار التقريبُ «التاريخي» بالكامل فقط عندما لا تكتفي التواريخُ بالانقسام بل تعاود الاندماج؛ أيْ عند وقوع ظاهرة التداخُل. على سبيل المثال: تتَّخِذ جزيئاتٌ معينةٌ صورةَ بناءين أو أكثر في آنٍ واحد (حيث «البناء» هو مجموعة ذراتٍ متماسكة بعضُها مع بعضٍ بواسطة الروابط الكيميائية). يعرف الكيميائيون هذه الظاهرةَ باسم «الرنين» بين البناءين؛ على أن الجزيء لا يتردَّد بينهما؛ بل يتخذهما معًا. لا توجد طريقةٌ لتفسير الخصائص الكيميائية لمثل تلك الجزيئات فيما يتعلَّق ببناءٍ واحدٍ؛ لأن الجزيء «الرنيني» عندما يشترك في تفاعُلٍ كيميائيٍّ مع جزيئاتٍ أخرى، يقع تداخُلٍ كَمِّي.
يُسمَح لنا في أدب الخيال العلمي أن نُطلق لمخيلتنا العنان، حتى لو وصلَتْ بنا إلى مستوياتٍ من اللامعقولية لا يتأتَّى منها غيرُ تفسيراتٍ بالغةِ السوء في العلم الحقيقي، ولكنَّ أفضلَ تفسيرٍ لنا في العلم الحقيقي أننا — نحن الكائنات الواعية في هذا البناء العملاق غير المألوف الذي لا استمراريةَ فيه للأشياء المادية، والذي تختلف فيه حتى الأشياء الأساسية كالحركة والتغيير عمَّا في نطاق خبراتنا — مغروسون في موجوداتٍ تنتمي إلى الوجود المتعدِّد الأكوان. حين نراقب أيَّ شيء — سواءٌ أكان أداةً علمية أم مجرةً أم إنسانًا — يكون ما نراه في الحقيقة منظورًا أحاديَّ الكون لشيءٍ أكبر ممتدٍ بطريقةٍ ما لأكوانٍ أخرى؛ يبدو هذا الشيء في بعض تلك الأكوان كما يبدو لناظرينا تمامًا، ويختلف في غيرها، ويغيب عن غيرها بالمرة. ما يراه المراقب كزوجين ليس في الحقيقة إلا شريحةً رقيقةً من كيانٍ عملاقٍ يضمُّ نُسَخًا متماثلةً عديدةً منهما، وأخرى منهما وقد طُلِّقا، ونُسَخ منهما لم تتزوَّج قطُّ.
نحن قنوات لتدفُّق المعلومات، ومثلنا التواريخ، وكل الأشياء المستقلة نسبيًّا في التواريخ؛ إلا أننا باعتبارنا كائناتٍ واعيةً قنواتٌ استثنائيةٌ تمامًا؛ ففيها «تنمو المعرفة» (أحيانًا). قد يستتبع ذلك آثارٌ قوية؛ ليس في التاريخ فحسب (حيث يمكنه مثلًا أن يُحدِث تأثيراتٍ لا تتقلَّص بفعل المسافة)، بل عبر الوجود المتعدد الأكوان كذلك. لما كان نموُّ المعرفة عمليةَ تصحيحِ أخطاء، وتفُوق فرصُ الخطأ فرصَ الصواب، سرعان ما تتشابه الكيانات الخالقة للمعرفة في التواريخ المختلفة أكثر من الكيانات الأخرى. وعلى قدر ما نعلم، تتفرد عملياتُ خلق المعرفة بهاتين السمتين: تتقلص كلُّ الآثار الأخرى بفعل المسافة في الفراغ، وتأخذ في الاختلاف عبر الوجود المتعدِّد الأكوان على المدى الطويل.
بَيْدَ أن ذلك قدر المعلوم لنا فحسب. هاك فرصة لتأملاتٍ جامحةٍ قادرةٍ على نسج قصة خيالٍ علمي: ماذا لو كان لشيء غير «تدفق المعلومات» أن يتسبَّبَ في ظواهرَ منبثقةٍ متماسكةٍ في الوجود المتعدِّد الأكوان؟ ماذا لو كان للمعرفة — أو غيرها — أن تنبثق منه، ويصبح له أهدافه الخاصة؛ ومن ثَمَّ يبدأ في تطويعٍ متعدِّد الأكوان حسبما يخدم تلك الأهداف، كما نفعل نحن؟ تُرى هل سنستطيع التواصُلَ معه؟ ربما ليس بالمعنى الشائع للتواصُل؛ فذاك نوعٌ من تدفُّقِ المعلومات، ولكن ربما تقترح القصةُ معادلًا جديدًا للتواصُل لا ينطوي على إرسال الرسائل شأن التداخل الكَمِّي. هل سنقع في شَرَك حربِ إبادةٍ ضد ذلك الكيان؟ أم يمكن أن يكون بيننا شيءٌ مشتركٌ على نحوٍ ما بالرغم من كل شيء؟ لنُنحِّ الحلولَ الضيقةَ الأفقِ جانبًا، مثل اكتشاف أن «الحب» أو «الثقة» هو الجسر الذي سيعبر الفجوةَ بيننا وبينه، لكن لنتذكَّرْ أننا إذ نعتلي قمةَ الأهمية في المخطط العام للأشياء جميعها، فإنه باستطاعة أي كيانٍ آخَر قادرٍ على خلق التفسيرات أن ينازِعنا على هذه المكانة، وفي القمة دائمًا متَّسَع.
أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها
- متماثل: متطابق على كافة الأصعدة.
- العالَم: الواقع المادي برُمَّته.
- الوجود المتعدِّد الأكوان: العالَم طبقًا لنظرية الكَمِّ.
- الكون: الأكوان مناطق شبه مستقلةٍ من الوجود المتعدد الأكوان.
- تاريخ: مجموعة من الأكوان المتماثلة على مدار زمن. يمكن أيضًا أن نتحدَّث عن تاريخ أجزاءٍ من كونٍ واحد.
- أكوان موازية: طريقة مضلِّلة بعضَ الشيء للإشارة إلى الوجود المتعدد الأكوان، وهي مضلِّلة لأن الأكوان ليسَتْ «متوازيةً» (مستقلة) تمامًا، ولأن للوجود المتعدِّد الأكوان بنيةً أزخرَ، وخصوصًا من حيث التماثُل، والتشابك، وحجم التواريخ.
- نُسَخ: في أجزاء الوجود المتعدِّد الأكوان التي تحتوي على أكوان، كلُّ شيءٍ ينتمي إلى هذا الوجود يتكوَّن تقريبيًّا من «نُسَخٍ»، بعضها متماثل وبعضها ليس كذلك، وتوجد واحدة في كل واحدٍ من الأكوان.
- الكَمُّ: أصغر تغييرٍ ممكنٍ في متغيِّرٍ فيزيائيٍّ متقطِّعٍ.
- التشابُك: المعلومات الكامنة في كل شيءٍ ينتمي إلى الوجود المتعدِّد الأكوان، التي تحدِّد أيُّ أجزائه (نُسَخه) تستطيع التأثيرَ على أي الأجزاء في الأشياء الأخرى المنتمية إلى الوجود المتعدِّد الأكوان.
- فقدان الترابط: عملية التحوُّل إلى استحالة الرجوع في تأثير موجة تغايُر بين الأكوان.
- تداخُلٌ كَمِّيٌّ: ظواهر يتسبَّب فيها تحوُّلُ نُسَخٍ غير متماثلةٍ من أشياءَ منتميةٍ إلى الوجود المتعدِّد الأكوان إلى نُسَخ متماثلة.
- مبدأ عدم اليقين: نتيجة (غير موفَّقة التسمية) من نتائج نظرية الكَمِّ، مفادها ضرورة تبايُنِ بعض خصائص أيِّ مجموعةٍ متماثِلةٍ من نُسَخ شيءٍ مادي.
- حوسبة كَمِّية: حوسبة لا ينحصر فيها تدفُّقُ المعلومات في تاريخٍ واحد.
ملخص هذا الفصل
إن العالم المادي عبارة عن وجودٍ متعدِّد الأكوان، تُحدِّد بنيتُه كيفيةَ تدفُّقِ المعلومات فيه. تتدفَّق المعلوماتُ في العديد من مناطق الوجود المتعدِّد الأكوان في هيئة تياراتٍ شبه مستقلةٍ تُدعَى التواريخ، وأحدها ما نسمِّيه «كوننا». تخضع الأكوان تقريبيًّا لقوانين الفيزياء الكلاسيكية (الفيزياء قبل الكَمِّية)، لكن ما وصلنا إليه من علمٍ حول باقي الوجود المتعدِّد الأكوان وقدرتنا على اختبار قوانين فيزياء الكَمِّ يُعزَى إلى ظاهرة التداخُل الكَمِّي؛ وبهذا يكون الكونُ صورةً منبثقةً من الوجود المتعدِّد الأكوان، لا صورةً متطابقة. التماثُلُ أحدُ أغرب الأشياء وأكثرها تحدِّيًا للبديهة في الوجود المتعدد الأكوان. قوانين الحركة في الوجود المتعدد الأكوان حتميةٌ، وما يبدو من عشوائيةٍ إنما يُعزَى إلى اختلاف نُسَخ الأشياء التي كانت في بادئ الأمر متماثلةً. والمتغيرات متقطعة بطبيعتها في فيزياء الكَمِّ، وكيفية تغيُّرها من قيمةٍ لأخرى عمليةٌ خاصة بالوجود المتعدِّد الأكوان تتضمَّن التداخُلَ والتماثُل.