تاريخ الفلسفة السيئة من منظور عالم فيزياء
بالمناسبة، ما أوجزتُه للتوِّ هو ما أدعوه «تاريخَ الفيزياء من منظورِ أحد علمائها»، وهو ليس صحيحًا على نحوٍ مطلق …
اكتُشِفتْ فيزياءُ الكَمِّ على يد عالمَيْ فيزياء توصَّلَ كلٌّ منهما إليها مستقِلًّا عن الآخَر ومن اتجاهٍ مختلف، وهما: فيرنر هايزنبرج وإيرفين شرودنجر. سُمِّيتْ «معادلة شرودنجر» على اسمه، وهي بمنزلة طريقةٍ للتعبير عن قوانين الحركة في ميكانيكا الكَم.
صيغت نسختا النظرية فيما بين عامَيْ ١٩٢٥ و١٩٢٧، وفسَّرَتْ كلٌّ منهما الحركةَ — خصوصًا داخل الذرات — بطرقٍ جديدةٍ تتحدَّى البديهةَ على نحوٍ مُدهِش. نصَّتْ نظريةُ هايزنبرج على أن المتغيِّراتِ الفيزيائيةَ للجسيم ليست ذات قِيَمٍ عددية، بل هي «مصفوفات»؛ أيْ صفوف عديدة من الأعداد التي ترتبط بنتائج ملاحظات تلك المتغيرات بطرقٍ معقدةٍ ذات طبيعةٍ احتمالية. إننا نعلم الآن بإدراكٍ متأخرٍ أن وجود تلك التعدُّدية المعلوماتية يرجع إلى أن للمتغير قِيَمًا مختلفةً في النسخ المختلفة من كل شيءٍ في الوجود المتعدد الأكوان؛ بَيْدَ أنه لا هايزنبرج ولا غيره قد اعتقد حينئذٍ أن الكَمِّيات المصفوفة القيمة التي وصفها تلك هي بالضبط ما سمَّاه أينشتاين «عناصر الواقع».
وصفت معادلة شرودنجر عند تطبيقها على حالة الجسيم الوحيد موجةً تتحرَّك في الفراغ، لكن سرعان ما أدرك شرودنجر أن الأمر يختلف في حالة جسيمين أو أكثر. لم تُمثِّل الحركةُ موجةً متعدِّدة المنحنيات، ولم يمكن تصويرُها على هيئة موجتين أو أكثر؛ بحسب التعبير الرياضي كانت الحركةُ تأخذ شكلَ موجةٍ واحدةٍ في فراغٍ أبعاده ذات إحداثياتٍ أكبر. نعلم اليوم بإدراكٍ متأخرٍ أن مثل تلك الموجات يُحدِّد قدْرَ نسبةِ نُسَخ كلِّ جسيمٍ في كل منطقةٍ في الفراغ، بالإضافة إلى معلومات التشابك الموجودة في الجسيمات.
بَدَتْ نظريتا شرودنجر وهايزنبرج وكأنهما تصفان عالمين مختلفين تمامًا، لا يسهل ربْطُ أيٍّ منهما بالمفاهيم السائدة حول الواقع حينئذٍ، ومع ذلك سرعان ما تبيَّنَ أن إلحاقَ حكمِ خبرةٍ بسيطٍ معينٍ بكلٍّ منهما سيتسبَّب في تطابق «تنبؤاتهما» على الدوام؛ وعلاوةً على ذلك، أثبتَتْ تلك التنبؤات نجاحَها الباهر.
وبإدراكٍ متأخِّر، نستطيع أن نصوغ حكْمَ الخبرة ذاك كما يلي: حينما يتمُّ قياسُ أيِّ شيء، تكفُّ كلُّ التواريخ عن الوجود إلا واحدًا، يُختار هذا التاريخ على نحوٍ عشوائي؛ حيث تساوي نسبةُ احتمال كلِّ نتيجةٍ ممكنةٍ إجماليَّ قياس كلِّ التواريخ التي تتحقَّق فيها تلك النتيجةُ.
وعندئذٍ حلَّتِ الكارثةُ؛ فسرعان ما تقهقر معظم مجتمع الفيزياء النظرية نحو الذرائعية بإذعانٍ شديدٍ بدلًا من محاولة تحسين هاتين النظريتين التفسيريتين القويتين ذواتَيِ العيوب الطفيفة، وتحقيق التكامل بينهما، وبدلًا من تفسير سرِّ نجاح حكم الخبرة إذ أضيف إليهما. كان منطقُهم في ذلك عدمَ ضرورة التوصُّل إلى التفسير ما دامَتِ التنبؤاتُ ناجحة؛ ومن هنا طفقوا ينظرون إلى نظرية الكَمِّ على أنها «لا شيء سوى» مجموعةٍ من أحكام الخبرة التي تُستخدَم بُغيةَ التنبؤ بالنتائج المرصودة للتجارب، وعلى أنها لا تخبرنا بأي شيءٍ (آخَر) عن الواقع. ما زالَتْ هذه الحركةُ منتشرةً حتى يومنا هذا، وهي تُعرَف بين معارِضِيها (بل حتى بين بعض مناصريها) باسم «أغلق فمك واحسب تفسيرات نظرية الكَم».
كان معنى ذلك إغفالَ بعض الحقائق الغريبة؛ أولاها: أن حكم الخبرة يتناقض بشدةٍ مع كلتا النظريتين؛ وعلى ذلك لا يمكن استخدامه إلا في المواقف التي تكون فيها التأثيراتُ الكَمِّية أصغرَ من أن تُلاحَظ، ومن الصدفة أن تشمل هذه المواقف لحظةَ القياس ذاتها (بسبب التشابك مع أداة القياس، وفقدان الترابط الناتج عنه كما نعلم اليومَ). وثانيتها: أن حكم الخبرة يتعارض حتى «مع نفسه» إبَّان تطبيقه على الحالة الافتراضية، وهي قيام ملاحِظٍ بإجراء قياسٍ كَمِّيٍّ على ملاحِظٍ آخَر. وثالثتها: أنَّ نسختَيْ نظريةِ الكَمِّ كانتَا تصفان بوضوحٍ نوعًا «ما» من العمليات الفيزيائية التي «أدَّت إلى» نتائج التجارب. لم يستطع الفيزيائيون — بحكم المهنية ومن خلال الفضول الطبيعي — مغالبةَ تساؤلهم عن كُنْه تلك العملية، لكنَّ الكثيرَ منهم حاولوا تجنُّبَ ذلك التساؤل، ومرَّنَ أغلبهم طلَّابَه على الدأب نفسه. حاد ذلك عن تقليد النقد الملازم للعلم عند تناوُل نظرية الكَم.
دَعْني أُعرِّف «الفلسفة السيئة» لا على أنها الفلسفة الخاطئة فحسب، بل على أنها تلك التي تدأب بنشاطٍ على منع نمو المعرفة الأخرى. في هذه الحالة، كانت الذرائعية تمنع التفسيرات في نظريتَيِ شرودنجر وهايزنبرج من التطوُّر أو النمو أو التكامُل.
طوَّرَ عالمُ الفيزياء نيلز بور (وهو رائد آخَر من روَّاد نظرية الكَم) «تأويلًا» للنظرية أصبح فيما بعدُ يُعرَف باسم «تأويل كوبنهاجن». ينصُّ ذلك التأويل على أن نظرية الكم — متضمِّنةً حكْمَ الخبرة — بمنزلة وصْفٍ كاملٍ للواقع. تجاوَزَ بور عن التناقضات والفجوات المتنوعة باستخدامه مزيجًا من الذرائعية والغموض المدروس، ولقد أنكر «إمكانية الحديث عن الظواهر باعتبارها أشياءَ ذات وجودٍ موضوعي»، بل قال إن نتائج الملاحظة فقط هي ما يجب أن تحسب باعتبارها ظواهرَ. قال بور أيضًا إن الملاحظة وإن كانت لا تصل مطلقًا إلى «الجوهر الحقيقي للظواهر»، فإنها تكشف عن العلاقات بينها، وقال كذلك إن نظرية الكَمِّ تطمس الفارقَ بين الملاحِظ والشيءِ الملاحَظ. أما بخصوص ما قد يحدث حالَ إجراء ملاحِظٍ عمليةَ ملاحظةٍ ذات مستوًى كَمِّيٍّ على ملاحِظٍ آخَر، فلقد تجنَّبَ بور هذه المسألةَ، التي عُرِفت فيما بعدُ باسم «مفارقة صديق ويجنر»، على اسم عالم الفيزياء يوجين ويجنر.
أما عن العمليات غير الملاحَظة والجارية بين عمليات الملاحظة، حيث بَدَتْ نظريتا شرودنجر وهايزنبرج تصفان مجموعةً متعدِّدةً من التواريخ جاريةً في نفس الوقت، اقترح بور مبدأً رئيسيًّا جديدًا عن الطبيعة هو «مبدأ التكامل»، ومفاده أن التعبير عن تفسيرات الظواهر غيرُ ممكنٍ إلا باستخدام «اللغة التقليدية»؛ أي اللغة التي تُعطي قيمةً واحدةً للمتغيِّر الفيزيائي في أي زمنٍ واحد، لكن اللغة التقليدية لا يمكن استخدامها إلا فيما يتعلَّق ببعض المتغيرات، بما فيها تلك التي قيست لتوِّها. مُنِع المرء من السؤال عمَّا للمتغيرات الأخرى من قِيَم؛ وبهذا مثلًا تكون الإجابة عن السؤال: «أيُّ المسارين اتخذه الفوتون؟» في مقياس تداخل ماخ-زيندر هي أنه لا يمكن تحديد هذا المسار حينما لا يكون ملاحظًا. أما السؤال: «إذنْ كيف يعرف الفوتون أيَّ المسارين يأخذ عند المرآة الأخيرة، إذ يعتمد هذا على ما حدث في كلا المسارين؟» فيجاب عنه بتعبيرٍ مبهمٍ يُدعَى «ازدواجية الموجة والجسيم»؛ وهو يعني أن الفوتون جسم ممتد (لا صفري الحجم)، وفي نفس الوقت جسم موضعي (صفري الحجم)، وللمرء أن يختار أيَّ الخاصيتين سيلاحظ لا الاثنتين. يشار إلى هذه الفكرة في أغلب الأحيان بالتعبير: «إنه موجة وجسيم في آنٍ واحد.» والمفارقة أن هذا القول صحيحٌ على نحوٍ ما؛ ففي تلك التجربة يكون الفوتون الكلي — باعتباره شيئًا منتميًا إلى الوجود المتعدد الأكوان — ممتدًّا (موجة)، بينما تكون نسخه (الجسيمات، في التواريخ) موضعية. للأسف ليس هذا هو المعنى المقصودَ في تأويل كوبنهاجن؛ ففكرته الأساسية تثير التعارُضَ بين فيزياء الكَمِّ وأساسيات التفكير المنطقي ذاتها: إن للجسيمات خواصَّ متعارضةً، وهذا كلُّ ما في الأمر. وهو يرى أن كل نقدٍ موجَّهٍ إلى هذه الفكرة غير صحيح؛ لأنه يُعَدُّ محاولةً لاستخدام «اللغة التقليدية» خارج نطاقها الملائم (أيْ وصف نتائج عمليات القياس).
أعطى هايزنبرج القِيَم غير المسموح بالسؤال عنها اسم «الإمكانيات»، والتي لا يمكن أن يتحقَّق من بينها إلا إمكانية واحدة عندما تتم عملية قياس. كيف يمكن للإمكانيات التي لا تحدث أن تؤثِّر على النتائج الفعلية؟ تُرك الرد على هذا التساؤل مبهمًا. ما الذي يُسبِّب التحوُّلَ من «الممكن» إلى «الفعلي»؟ إن مضمون لغةِ بور بشريةِ التمركز — التي باتت جليَّةً في أغلب الشروح اللاحقة لتأويل كوبنهاجن — هو أن السبب في هذا التحوُّل هو الوعي البشري به؛ وبهذا يصبح للوعي بحسب هذا القول دورٌ على مستوًى أساسيٍّ في الفيزياء.
دُرِست نُسَخ عديدة من هذا كله في مناهج الفيزياء في الجامعات على مدار عقودٍ بصفتها حقائقَ، مع ما يشوبها من غموضٍ واعتناقٍ للذرائعية ومركزيةٍ بشرية. ادَّعَى قليلٌ من الفيزيائيين فهمَه، وفي الحقيقة لم يفهمه أحدٌ؛ ومن ثَمَّ كان يجاب عن أسئلة الطلاب بلَغْوٍ فارغٍ مثل: «لو كنتَ تعتقد أنك فهمتَ ميكانيكا الكَم، فاعلم أنك لم تفهمها.» دُوفِع عن التضارب بصفته «تكامُلًا» أو «ازدواجيةً»، ورُفِع شأن ضيق الأفق وكأنه نبوغ فلسفي. زعمت النظرية على هذا النحو أنها لا تخضع لكل أشكال النقد التقليدية؛ وهذه علامة أكيدة للفلسفة السيئة.
هذا المزيج الذي لازم النظرية من الغموض والحصانة ضد النقد والسلطة المدركة للفيزياء الأساسية وهيبتها؛ فتح الباب أمام وابلٍ من أشباه العلوم وضروب الشعوذة المفترض قيامها على أسسِ نظريةِ الكَم. ولأن هذه النظرية امتهنت النقد الصريح والمنطق بصفتهما «تقليدين» مبررة بذلك عدم مشروعيتهما، فقد أعطَتْ بذلك فرصةً كبيرةً لمَن أرادوا مناهَضةَ المنطق، واعتناقَ أكبر قدرٍ من الفكر المفتقر إلى العقلانية. من هنا اكتسبتْ نظريةُ الكَمِّ — وهي أعمق اكتشافٍ عرفتْه العلومُ الفيزيائية — سمعةَ تأييدها لكلِّ ما يُقترَح تقريبًا من مذاهبَ مبهمةٍ وغامضة.
لم يقبل كلُّ علماء الفيزياء بتأويل كوبنهاجن وما تلاه، وكان أينشتاين ممَّن رفضوه على الدوام. جاهَدَ الفيزيائي ديفيد بوم من أجل وضع بديلٍ يتفق مع الواقع، وقدَّمَ من ثَمَّ نظريةً تميل إلى التعقيد أرى أنها نفس نظرية الوجود المتعدِّد الأكوان ولكن في صورةٍ مختلفة، مع أنه عارَضَ تناوُلَ نظريته من هذا المنطلق معارضةً شديدة. وفي عام ١٩٥٢ في مدينة دبلن، ألقى شرودنجر محاضَرةً حذَّرَ فيها الحضورَ مازحًا في لحظةٍ ما من أنَّ ما يُوشِك على قوله «قد يبدو خبلًا»؛ كان ما يوشك على قوله عندئذٍ هو أن معادلته عندما تبدو وكأنها تصف عدةَ تواريخَ مختلفة، فإن هذه التواريخ «ليس بعضها بدائل لبعض، وإنما تحدث كلها حقًّا في آنٍ واحد». هذا هو أقدم ذِكْرٍ معروفٍ للوجود المتعدِّد الأكوان.
في تلك اللحظة كان يقف فيزيائيٌّ جليلٌ يمازح جمهوره بأنه قد يُرَى وكأنه جُنَّ. لماذا؟ لادِّعائه بأن معادلته — تلك التي حاز عنها جائزةَ نوبل — ربما كانت «صائبة».
لم ينشر شرودنجر تلك المحاضرة قطُّ، ويبدو أنه لم يستأنف الفكرةَ لأبعدَ من ذلك. بعد خمسة أعوامٍ نشر الفيزيائي هيو إيفرت على نحوٍ منفصلٍ نظريةً شاملةً حول الوجود المتعدد الأكوان تُعرَف الآنَ باسم «تأويل إيفرت» لنظرية الكَم، ومع ذلك انقضَتْ عقودٌ عدة دون أن يلاحظ عمل إيفرت سوى مجموعةٍ قليلةٍ من الفيزيائيين، وحتى الآن بعد أن اشتُهرَتْ نظريةُ إيفرت، لم تؤيِّدها إلا أقليةٌ يسيرة من الفيزيائيين. لطالما طُلِب مني تفسيرُ هذه الظاهرة غير المعتادة؛ على أني للأسف لا أعلم لها تفسيرًا مُرضيًا بالكامل، ولكن إنْ أردنا فهْمَ سببِ عدم غرابة هذا الحدث أو تفرُّده، وجَبَ علينا تحرِّي السياق الأعم للفلسفة السيئة.
•••
إن الخطأ هو الحالة الاعتيادية للمعرفة، ولا عيبَ في هذا، وليس ثَمَّةَ ما يشين الفلسفة «الخاطئة»؛ فالمشكلات حتمية الحدوث، ولكن يمكن حلها بواسطة الفكر الإبداعي والنقدي الساعي وراء التفسيرات الجيدة. تلك هي الفلسفة الجيدة، وذاك هو العلم الجيد، واللذان وُجِدَا دائمًا على نحوٍ أو آخَر؛ فمثلًا: يتعلَّمُ الأطفالُ اللغةَ دومًا عن طريق تكوين افتراضاتٍ عن العلاقة بين الألفاظ والواقع، ثم نقد تلك الافتراضات واختبارها. وليس بوسعهم تعلُّمُ اللغة بأي طريقةٍ أخرى، كما سأشرح في الفصل السادس عشر.
بَيْدَ أن الفلسفة السيئة كانت موجودةً دومًا هي الأخرى؛ فمثلًا: لطالما قيل للأطفال: «لأنني قلتُ هذا.» وبالرغم من أن هذا القول لا يُطرَح دائمًا باعتباره موقفًا فلسفيًّا، فإنه يستحقُّ تحليله كذلك؛ فهو يحتوي في عددٍ قليلٍ من الكلمات على قدرٍ هائلٍ من مباحث الفلسفة الخاطئة والسيئة. أولًا: هذا القول مثالٌ بليغ للتفسير السيئ؛ إذ يمكن استخدامه «لتفسير» أي شيء. ثانيًا: من سُبُل تحقيقه لهذه السمة أنه يعالج قالبَ السؤال لا فحواه؛ فهو يدور حول القائل لا القول، وهو ما يناقِضُ السعْيَ وراء الحقيقة. ثالثًا: إنه يُؤَوِّل المطالبة ﺑ «تفسير حقيقي» (لماذا ينبغي لشيءٍ أن يكون بحالٍ ما؟) ليجعل منها مطالَبةً ﺑ «تبرير» (ما الذي يُخوِّل لك تأكيد هذا الأمر؟) وهذا هو وَهْمُ الإيمان الحقيقي المبرر. رابعًا: يخلط هذا القولُ بين «سلطة الأفكار» — وهي غير موجودة — والسلطة «البشرية» (القوة)، ذلك الطريق الذي كثيرًا ما اتخذَتْه الفلسفةُ السياسية السيئة. خامسًا: أنه يدَّعِي من خلال ذلك عدم خضوعه لنطاق النقد العادي.
انتمَتِ الفلسفةُ السيئة قبل التنوير إلى نوعية القول السابق، وعندما حرَّرَ التنويرُ كلًّا من الفلسفة والعلم، بدأ كلٌّ منهما في تحقيق التقدُّم، وعلى ذلك انتشرَتِ الفلسفةُ الجيدة. ولكن من المفارقة أنْ تَفاقَمَ «سوءُ» الفلسفة «السيئة».
ذكرتُ من قبلُ كيف أدَّتِ التجريبية في بادئ الأمر دورًا فعَّالًا في تاريخ الأفكار، بأنْ وقفَتْ كحائط صدٍّ أمام السلطات التقليدية والتعصُّب الفكري، وأعطت دورًا رئيسيًّا — وإنْ كان دورًا خاطئًا — للتجريب في العلم. في البداية لم ينجم عن استحالة تعليل التجريبية لآلية العلم أيُّ أذًى؛ إذ لم يأخذها أحدُهم على محملٍ واقعيٍّ دقيق. مهما كان ما «قاله» العلماء عن مصادر اكتشافاتهم، فلقد تناولوا المشكلاتِ الشائقةَ بشغف، وافترضوا تفسيراتٍ جيدة، واختبروها، وفي النهاية فقط زعموا استنتاجهم التفسيرات من التجربة. كان نجاحُهم محصلةَ الأمر؛ فلقد حقَّقوا التطوُّرَ. لم يوجد ما يمنع خداعَ «الذات» الهيِّن ذاك، ولم يُستخلَص منه أيُّ شيء.
ولكن مع الوقت انتشر التعامُل مع التجريبية على نحوٍ حَرفيٍّ، فطفق ينتج عنها المزيدُ من الآثار الضارة. على سبيل المثال: حاولَتِ «الوضعية» — التي ظهرت في القرن التاسع عشر — أن تُنقِّيَ النظريات العلمية من كل شيءٍ لم «يُستنتج من الملاحظة»، ولكن بما أنه لا شيء يُستنتَج من الملاحظة أبدًا، يعتمد ما حاوَلَ الوضعيون استبعادَه بالكامل على أهوائهم وحدْسهم. كان لهذا الأمر بعض الفائدة في بعض الأحيان؛ فمثلًا: أثَّرَ الفيزيائي إرنست ماخ (والد لودفيج ماخ الذي اشترك في ابتكار مقياس تداخُل ماخ-زيندر) على أينشتاين حين حضَّه على استبعاد الافتراضات غير المختبرة من الفيزياء، بما فيها افتراض نيوتن بأن الزمن يمرُّ بنفس المعدل لدى كلِّ ملاحظيه. تصادف أنْ كانَتْ تلك فكرةً رائعةً، لكنَّ الوضعية عند ماخ جعلَتْه يعارض نظريةَ النسبية الناتجة عن ذلك؛ تحديدًا لأنها رمَتْ إلى أن الزمكان موجود حقًّا، حتى بالرغم من استحالة ملاحظته ملاحظةً «مباشرة». عارَضَ ماخ أيضًا وجودَ الذراتِ معارَضةً مستميتة، بحجة أنها أصغر كثيرًا من أن تُلاحَظ معمليًّا. قد نسخر الآن من هذه التُّرَّهات — وتحت أيدينا المجاهر التي تُمكِّننا من رؤية الذرات — ولكن كان ينبغي أن يكون دورُ الفلسفة السخريةَ منها «آنذاك».
بدلًا من ذلك، عندما استخدم عالِم الفيزياء لودفيج بولتسمان النظريةَ الذرية من أجل التوحيد بين الديناميكا الحرارية والميكانيكا، هاجَمَه بشدةٍ ماخ وغيره من الوضعيين حتى تمكَّنَ اليأسُ منه، ولعل ذلك ما ساهَمَ في لجوئه إلى الانتحار قُبيل تبدُّل الأحوال ودرء أغلب فروع الفيزياء تأثيرَ ماخ عن نفسها. منذ ذلك الحين لم يَحُلْ دون ازدهار الفيزياء الذرية شيء. ومن حُسن الحظ أيضًا أنْ رفَض أينشتاين الوضعيةَ وبات مناصِرًا صريحًا للواقعية؛ كان هذا هو سببَ عدم قَبوله لتأويل كوبنهاجن مطلقًا. إنني أتساءل: ماذا لو استمرَّ أينشتاين في أخذ الوضعية على محمل الجد، أكان له أن يفكِّر في نظرية النسبية العامة أبدًا، وفيها لا يوجد الزمكان فحسب، بل هو كيان ديناميكي غير مرئيٍّ يقع تحت تأثير الأجسام ذات الكتلة؟ أم كانت نظرية الزمكان ستتعثَّر كما حدث لنظرية الكَم؟
ثَمَّةَ [خطوة] يتمنَّى الكثيرُ من معظم فلاسفة العلم اتخاذها، وأرفضها أنا؛ إنهم يتمنَّوْن المقارَنةَ بين النظريات [العلمية] باعتبارها تمثيلًا للطبيعة، وبيانًا عمَّا هو «موجود حقًّا في الواقع».
تحوَّلَتِ الوضعية إلى «الوضعية المنطقية»، التي رأت أنَّ أيَّ نتائجَ لا تدعمها الملاحظةُ ليست خاويةً من القيمة فحسب، بل هي غير ذات معنًى كذلك. هدَّدَ ذلك بمحو المعرفة العلمية التفسيرية بأسرها، ومعها الفلسفة كلها أيضًا؛ وبالأخص الوضعية المنطقية نفسها، لكونها عبارة عن نظريةٍ فلسفيةٍ لا يمكن التحقُّق منها بواسطة الملاحظة؛ وعليه فهي تؤكِّد خواءَها من المعنى (هي وما سواها من النظريات الفلسفية).
حاول الوضعيون المنطقيون إنقاذَ نظريتهم من ذلك التضمين (بتسميتها «بالمنطقية» مثلًا بدلًا من الفلسفية)، ولكن دون جدوى. ثم اعتنق فيتجنشتاين ذلك التضمينَ ووسم الفلسفة بأسرها — بما فيها فلسفته الخاصة — بأنها خاوية من أي مغزًى. لقد نادى بالتزام الصمتِ إزاء المشكلات الفلسفية، ومع أنه لم يحاول الالتزام بذلك قطُّ، فإن الكثيرين نظروا إليه باعتباره أحدَ أعظم عباقرة القرن العشرين.
ربما يظنُّ المرء أن الفكر الفلسفي قد بلغ بذلك الحضيض، ولكن للأسف كان هناك أسوأ من ذلك؛ فطوال النصف الثاني من القرن العشرين لم يحاول التيارُ الفلسفي العام فَهْمَ العلم كما كان يُمارَس بالضبط، أو كما يجب أن يُمارَس، وفَقَدَ اهتمامه بذلك. سادَتْ بعد آراء فيتجنشتاين لبعض الوقت مدرسةُ «الفلسفة اللغوية»، التي عقيدتها الأساسية أنَّ ما يبدو باعتباره مشكلاتٍ فلسفيةً ليس في واقع الأمر سوى ألغازٍ حول كيفية استخدام الكلمات في الحياة اليومية، وأن الفلاسفة لا يسعهم دراسة أيِّ شيءٍ آخَر دراسةً مجديةً ذات معنًى.
ثم أحجَمَ العديدُ من الفلاسفة لاحقًا عن محاولة فهم «أي شيء»، وهو تيار نشأ مع التنوير الأوروبي، ثم انتشر في الغرب كله. هاجَمَ هؤلاء بضراوةٍ فكرتَيِ الحقيقية والعقل ذاتيهما، لا فكرتَيِ التفسير والواقع فحسب. إن مجرد انتقاد مثل تلك الهجمات بحجةِ تناقُضِها الذاتي كما هي الحال بالنسبة إلى الوضعية المنطقية — وهي حقًّا كذلك — لَهُوَ بمنزلة إقرارها على نحوٍ لا تستحقه؛ لأن الفلاسفة الوضعيين وفيتجنشتاين على الأقل اهتموا بتحديد «فارقٍ» بين المعقول واللامعقول، وإنْ أيَّدُوا فارقًا غيرَ صحيحٍ بالمرة.
تنتشر الآن حركةٌ فلسفيةٌ نافذةُ التأثيرِ تحت أسماءٍ عدة، منها: ما بعد الحداثة، والتفكيكية، والبنيوية، وتتحدَّد تسميتها تبعًا لتفاصيلَ تاريخيةٍ لا تعنينا ها هنا. تزعم هذه الحركةُ أن كلَّ الأفكار، بما فيها النظرياتُ العلمية، اعتباطية بالضرورة لكونها افتراضيةً غيرَ قابلةٍ للتبرير؛ إنها ليست سوى قصص، يشار إليها في هذا السياق «بالسرد». وبمزجها بين نسبويةٍ ثقافيةٍ صارمةٍ وصورٍ أخرى من اللاواقعية، تنظر هذه الحركة إلى الصحة والخطأ الموضوعيين — وكذلك إلى الواقع والمعرفة به — على أنهما مجرد قوالبَ تقليديةٍ لألفاظٍ ترمز لتأييد جماعةٍ معينةٍ من الأشخاص — كالنخبة أو الأغلبية — أو صيحةٍ ما أو أيِّ سلطةٍ اعتباطيةٍ أخرى لفكرةٍ ما، ولا يزيد العلم والتنوير في نظرها عن مثل تلك الصيحة، وترى المعرفة الموضوعية التي يزعمها العلم محض غطرسةٍ ثقافيةٍ متعجرفة.
ربما لا مناص من إثبات هذه الاتهامات على حركة ما بعد الحداثة نفسها؛ فهي سردٌ يقاوم النقدَ العقلاني أو التحسين، من منطلق رفضها لكافة صور النقد بحجة أنها ما هي إلا سرد. لا يتطلَّب وضْعُ نظريةٍ ناجحةٍ لما بعد الحداثة حقًّا سوى تحقيقِ معايير مجتمع ما بعد الحداثة، الذي تطوَّرَ ليصبح مجتمعًا معقَّدًا واستئثاريًّا ذا أُسُسٍ سلطوية. لا تصح أيٌّ من هذه الصفات على طرق التفكير العقلاني؛ إذ لا ترجع صعوبةُ إيجاد التفسير الجيد إلى قرار أي شخص، بل إلى وجود واقعٍ موضوعيٍّ لا يتفق والتوقعاتِ السابقةَ «لأي شخص»، بما فيها توقُّعات السلطات. يختلق واضعو التفسيرات السيئة كالخرافات أمورًا غير حقيقيةٍ بالفعل، لكن منهج السعي وراء التفسيرات الجيدة يخلق تفاعلًا مع الواقع لا في مضمار العلم فحسب، بل في مضمار الفلسفة الجيدة كذلك، هذا سر نجاحها، وسبب تعارُضها مع تلفيق القصص بما يناسب معايير مختلقة.
•••
وبالرغم من علامات التحسين التي طفقت تبرز منذ أواخر القرن العشرين، ما زال يبقى من إرث التجريبية ما يتسبَّب في الحيرة ويفتح الأبوابَ لقدرٍ هائلٍ من الفلسفة السيئة: فكرة إمكانية تقسيم النظرية العلمية إلى أحكام خبرةٍ تنبُّئِيةٍ من جهةٍ، وادِّعاءاتٍ حول الواقع (أو ما يُعرَف أحيانًا باسم «التأويل») من جهةٍ أخرى. لا معنى لقولٍ كهذا؛ فدون التفسير — كما في الخدع السحرية — يستحيل تمييزُ الظروف التي يُفترض أن ينجح فيها تطبيقُ حكمِ خبرةٍ ما. ولا معنى له في الفيزياء الأساسية على وجه الخصوص؛ لأن النتيجة المتنبَّأ بها لملاحَظةٍ ما هي نفسها عملية فيزيائية غير ملاحظة.
تجنَّبَتْ علومٌ عدة هذا التقسيمَ حتى الآن، ومنها أغلبُ فروع الفيزياء، مع أن النسبية قد نجَتْ بأعجوبةٍ كما ذكرتُ؛ ومن هنا فإننا — في علم الحفريات مثلًا — لا نشير إلى وجود الديناصورات منذ ملايين السنين بصفته «تأويلًا لأفضل نظرياتنا عن الحفريات»؛ إننا نزعم أنه «تفسير» لوجود تلك الحفريات. وعلى أي حال، لا تدور نظرية التطوُّر حول الحفريات ولا حتى الديناصورات، بل حول جيناتها، التي لا يوجد منها ولا حتى حفريات لها. إننا نزعم أن الديناصورات كانت موجودةً حقًّا، وأنها كانت تملك جيناتٍ نعلم كيمياءها، بالرغم من وجود ما لا نهاية له من «تأويلات» منافسة ممكنة لنفس البيانات، تأتي جميعها بنفس التنبؤات، ولكنها تؤكِّد أن الديناصورات وجيناتها لم توجد قطُّ.
من تلك التأويلات ما يصف الديناصورات بأنها مجرد تعبيرٍ عمَّا يجيش بخاطر علماء الحفريات من مشاعرَ حين يحدِّقون في الحفريات. المشاعر حقيقية، لكن الديناصورات ليست كذلك، أو إذا كانَتِ الأخيرةُ حقيقيةً، فلن نستطيع أن نعلم عنها شيئًا؛ وهذه واحدة من خضم الاشتباكات التي ينزلق إليها المرءُ جرَّاء نظرية الإيمان الحقيقي المبرر للمعرفة؛ لأننا في الواقع نعرف عن الديناصورات الكثيرَ بالفعل. يوجد أيضًا «التأويل» الذي يرى أن الحفريات توجد فقط عندما يستخرجها عالِمُ الحفريات من الصخور على النحو الذي يختاره، ويستشعره على نحوٍ يستطيع نقله إلى علماء آخَرين. في تلك الحالة لا تفوق الحفرياتُ بالتأكيد الجنسَ البشري عمرًا، وهي على ذلك ليسَتْ بدلائل على وجود الديناصورات، بل فقط على إجراءات الملاحظة تلك؛ أو قد يسعنا القول إن الديناصورات حقيقية «حقًّا»، ولكن ليسَتْ كحيوانات، بل باعتبارها مجموعةَ علاقاتٍ بين خبرات أناسٍ مختلفين حول الحفريات فحسب. قد يستخلص المرءُ من هذا عدمَ وجودِ فارقٍ واضحٍ بين الديناصورات وعلماء الحفريات، وأن «اللغة التقليدية» — وإنْ كان لا مناص منها — غيرُ قادرةٍ على التعبير عن علاقةٍ فوق الوصف بينهما. لا يمكن تمييزُ أيٍّ من تلك «التأويلات» تجريبيًّا عن التفسير العقلاني للحفريات، لكنها تُستبعد لكونها تفسيراتٍ سيئةً؛ جميعها وسائلُ تخدم كلَّ الأغراضِ صالحةٌ لإنكار أيِّ شيء. يستطيع المرءُ استخدامها حتى لإنكار صحة معادلة شرودنجر.
ولأن التنبؤ غير القائم على التفسير مستحيل في واقع الأمر، فإن أسلوب استبعادِ التفسير من العلم ليس سوى وسيلةٍ تُتخذ للتشبُّث بالتفسيرات وتحصينها ضد النقد. دعني أضرب مثلًا أستعيره من مجالٍ بعيدِ الصلة عمَّا نتحدَّث عنه، أَلَا وهو: علم النفس.
سبق أن تحدَّثْتُ عن «النظرية السلوكية»، وهي الذرائعية حينما تُطبَّق على علم النفس. باتت النظرية السلوكية تأويلًا سائدًا في ذلك المجال لعقودٍ عدة، وبالرغم من التبرُّؤ العام منها اليومَ، ما زال البحث في علم النفس يقلِّل من قيمة التفسير لصالح أحكام الخبرة النابعة من الاستجابة للمثيرات؛ لهذا مثلًا نجد أن إجراء التجارب السلوكية لاستكشافِ إلى أي مدًى تكون حالةٌ نفسيةٌ بشريةٌ — كالوحدة أو السعادة — وراثيةً (كلون العين) أو لا تكون (كتاريخ الميلاد)، يُعَدُّ ضمنَ مصاف العلم الجيد. على أن هناك بعض المشكلات الرئيسية التي تشوب دراسةً كتلك من المنظور التفسيري؛ أولًا: كيف نقيس مدى موضوعية وتوفيق الأشخاص في تقديرهم لحالاتهم النفسية؟ بمعنى أنه قد يقدِّر البعضُ درجةَ سعادته بالمستوى ٨، مع أنه في الحقيقة إنسانٌ تَعِس تمامًا، وكذلك هو من التشاؤم بحيث لا يستطيع تصوُّرَ قدْرٍ أكبر من السعادة، في حين قد يكون بعضٌ ممَّن يدَّعون تقديرَهم لمدى سعادتهم بالمستوى ٣ فحسب أسعد من معظم غيرهم، ولكنهم اعتنقوا هوسًا يَعِدُهم بمستقبلٍ يفيض بالسعادة لمَن يتعلَّم الشكوى المتواصلة. ثانيًا: إذا اكتشفنا أن الأشخاص الحاملين لجينٍ معيَّنٍ يميلون إلى تقدير سعادتهم بمستوًى أعلى من أولئك الذين لا يحملونه، فمن أين لنا تقرير ما إذا كان ذلك الجينُ هو الحاملَ لصفة السعادة؟ ربما كان يحمل صفةَ الإقدام على التقدير الضئيل لحجم السعادة الشخصية، أو ربما كان الجين المذكور غيرَ مؤثِّرٍ على المخ بالمرة، بل على المظهر؛ وربما كان الأشخاص الأجمل مظهرًا أسعد من غيرهم في المتوسط؛ إذ يُعامَلون معامَلةً أفضل من غيرهم. لا حدودَ للتفسيرات الممكنة، ولكن الدراسة لا تسعى إلى تفسيرات.
ولو حاولَتِ التجاربُ استبعادَ عاملِ التقييم الشخصي الذاتي للسعادة وراقبَتِ «السلوك» السعيد أو التَّعِس عوضًا عن ذلك (كتعابير الوجه أو الدندنة بألحانٍ سعيدة)، لما اختلف الأمر؛ فلن تنفك العلاقةُ بالسعادة ترتبط بالمقارنة بين التأويلات الذاتية التي لا سبيلَ إلى قياسها باستخدام أسلوبٍ معياري؛ بل ستزيد أيضًا مستوياتُ التأويل واحدًا كذلك: يعتقد بعض الناس أن ممارسة السلوك «السعيد» علاجٌ للتعاسة؛ وعليه قد تكون تلك السلوكيات — لدى هؤلاء — متغيِّرًا نائبًا أو مؤشِّرًا على «عدم» سعادتهم.
لكل تلك الأسباب، لا تستطيع أيُّ دراسةٍ سلوكيةٍ تحديدَ ما إذا كانت السعادة صفةً وراثيةً أم لا؛ فليس بمقدور العلم حلُّ مسألةٍ كهذه قبل أن نتوصَّلَ إلى نظرياتٍ تفسيريةٍ عن الخصائص الموضوعية التي يستند إليها الأشخاصُ إبَّان تشخيصهم للسعادة، وعن سلسلة الأحداث المادية التي تربط الجيناتِ بتلك الخصائص.
كيف يعالج العلم الخالي من التفسيرات مسألةً كهذه إذن؟ بدايةً: يشرح الباحث كيف أنه لا يقيس السعادة مباشَرةً، بل يقيس مؤشرًا فحسب كسلوك اختيار مستوًى في نطاقٍ يُدعَى «السعادة». تستخدم كلُّ عمليات القياس العلمية سلاسلَ من المؤشرات، ولكن — كما شرحتُ في الفصلين الثاني والثالث — تُعَدُّ كلُّ حلقةٍ في السلسلة مصدرًا إضافيًّا للخطأ، ولا نستطيع تفاديَ خداع أنفسنا إلا بنقد نظرية كل حلقة، وهو ما يستحيل إلا إذا ربطت نظريةٌ تفسيرية بين المؤشرات وبين الكميات ذات الصلة؛ ولهذا لا يجسر المرء في العلم الحقيقي على ادِّعاء قياسِ كميةٍ إلا إذا امتلك نظريةً تفسيريةً توضِّح أسبابَ وكيفيةَ إنتاجِ إجراء القياس لقيمته ومدى دقةِ تلك القيمة.
ثَمَّةَ ظروف «يتوافر» فيها التفسيرُ الجيد الذي يربط بين المؤشر القابل للقياس — كاختيار أحد مستويات نطاقٍ معين — والكميات ذات الصلة، وهي حالات لا تشوب الدراسةَ فيها نقيصةُ اللاعلمية؛ على سبيل المثال: قد تسأل استطلاعاتُ الرأي السياسية ما إذا كان المجيبون عن الأسئلة «سعداء» بإعادة ترشيحِ سياسيٍّ معيَّنٍ لنفسه في الانتخابات، في ظل نظرية أن إجابتهم تلك تشي باختيارهم في الانتخابات نفسها. تُختبَر تلك النظرية بعد ذلك في الانتخابات. لا يوجد نظير لاختبارٍ كذاك في موضوع السعادة؛ فلا توجد طريقة مستقلة لقياسها. من الأمثلة الأخرى على العلم الجيدِ التجاربُ الإكلينيكية التي قد تُجرَى لاختبار عقارٍ يُرجَى منه تخفيفُ أنواعٍ (محددة ومعرَّفة) من التعاسة. يكون هدف الدراسة في هذه الحالة مجدَّدًا تحديدَ ما إذا كان العقار يتسبَّب في «سلوكٍ» كقول الشخص إنه في حالةٍ أكثر سعادةً (وأيضًا دون الإصابة بأعراضٍ جانبيةٍ مؤذية). إذا نجح العقار في الاختبار، فسيبقى العلم عاجزًا عن الفصل فيما إذا كان أثره هو جعْلَ المرضى أكثر سعادةً بحقٍّ، أم فقط تغيير شخصياتهم بما يدني من معاييرهم أو شيء من هذا القبيل. لا يتعافى العلم من ذلك العجز إلا بحلول الزمن الذي توجد فيه النظرية التفسيرية القابلة للاختبار، والمفسرة لماهية السعادة.
قد يعترف الباحثُ في العلوم التي لا تُقدِّم تفسيراتٍ بأن السعادة الفعلية والمؤشر محل القياس ليسا نظيرين بالضرورة، غير أنه مع ذلك يواصِل تسمية المؤشر «بالسعادة» ويمضي قدمًا؛ فيختار عددًا كبيرًا من الناس اختيارًا عشوائية في الظاهر (مع أنه يقتصر في اختياره في أرض الواقع على أقليات، كطلبة الجامعة في بلدٍ بعينه من الباحثين عن مواردِ دخلٍ إضافية)، ويستبعد مَن يملكون أسبابًا طارئةً للسعادة أو التعاسة يمكن تحديدها (كفوزٍ حديثٍ باليانصيب، أو التعرُّض لفاجعة). إذنْ فالمبحوثون «أشخاص عاديون»، مع أن الباحث في الحقيقة لا يمكن أن يجزم ما إذا كانوا ممثلين للواقع تمثيلًا إحصائيًّا سليمًا دون الاستناد إلى نظريةٍ تفسيرية؛ ثم يعرِّف الباحث «موروثيةَ» الصفة بمقدار ارتباطها إحصائيًّا بدرجة قرابة الأشخاص جينيًّا. من جديدٍ هذا تعريفٌ غيرُ تفسيريٍّ؛ فتبعًا لتعريفٍ كهذا، يجوز النظر إلى العبودية من عدمها باعتبارها صفةً كانت متوارَثةً بشدةٍ في أمريكا؛ فلقد توارثتها العائلات. وبصفةٍ أعم، لا بد للمرء من الاعتراف بأن الارتباطات الإحصائية لا تفيد في تحديدِ أيُّ الأشياء يتسبَّب في الآخَر، ولكن الباحث يضيف ذلك القولَ الاستقرائي المبهم: «مع أنها قد تكون موحيةً.»
ثم يُجرِي الباحثُ الدراسةَ ليجد أن «السعادة» صفةٌ «متوارثة»، لنَقُلْ بنسبة خمسين بالمائة. لا يفيد ذلك شيئًا بخصوص السعادة نفسها حتى تُكتشَف النظرياتُ التفسيرية ذات الصلة (في زمنٍ ما بالمستقبل؛ ربما بعدما يُفهَم الوعي ويصبح الذكاء الاصطناعي تقنيةً شائعة)، إلا أن تلك النتيجة تثير اهتمامَ الناس؛ إذ يُؤَوِّلونها بواسطة المعاني الشائعة للفظَيْ «سعادة» و«متوارثة»، وبحسب هذا التأويل — الذي لن يُقِرَّه صاحبُ الدراسة بأي حالٍ من الأحوال إذا كان قد التزَمَ الحرصَ والدقةَ في عمله — تمسي النتيجةُ مساهمةً عميقةً لشريحةٍ واسعةٍ من عمليات الجدل الفلسفي والعلمي حول طبيعة العقل البشري. سوف تعكس التقاريرُ الصحفية الخاصة بهذا الاكتشاف هذا الأمر، وتُنشَر تحت عناوين مثل: «دراسة جديدة توضِّح أن السعادة صفة وراثية بنسبة ٥٠٪»؛ دون علامات تنصيصٍ حول المصطلحات العلمية.
تسير الفلسفةُ السيئة التي تتَّبِع ذلك على نفس المنوال. لنفترِضْ أن شخصًا تجرَّأ عندئذٍ على السعي لإيجاد نظرياتٍ تفسيريةٍ حول مسببات السعادة الإنسانية، سيخمن ذلك الشخصُ أن السعادة حالة من الحل المستمر للمشكلات التي يواجِهُها الفردُ، أما التعاسة فيُسبِّبها التعرقُلُ المزمن في مساعي إيجاده تلك الحلول. ويعتمد حل المشكلات نفسه على معرفة الكيفية التي تُحَلُّ بها؛ ومن ثَمَّ — وبتنحية العوامل الخارجية جانبًا — يكون سببُ التعاسة هو عدمَ معرفة تلك الكيفية. (قد يجد القراءُ هذا كحالةٍ خاصةٍ من حالات مبدأ التفاؤل.)
سيُصرِّح مُؤَوِّلو الدراسة بأنها قد فنَّدتْ نظرية السعادة تلك؛ لأن عدم المعرفة بالكيفية لا يتسبَّب في التعاسة إلا بنسبة خمسين بالمائة على الأكثر، كما سيقولون، أمَّا الخمسون بالمائة الأخرى، فتقع خارج نطاق سيطرتنا؛ إذ تحدِّدها العواملُ الوراثية، وعلى هذا فهي مستقلة عمَّا نعلمه أو نؤمن به؛ ومن ثَمَّ رهن ما يمكن الوصول إليه من خلال علوم الهندسة الوراثية ذات الصلة. (لو طبَّقنا نفسَ المنطق على مثال العبودية، لَاستخلصنا في عام ١٨٦٠ أن ٩٥ بالمائة من العبودية كانت لأسبابٍ وراثية؛ ومن ثَمَّ استحال على الحركة السياسية معالجتُها.)
عند هذه النقطة، تقوم الدراسة النفسية التي لا تقدِّم تفسيراتٍ — بانتقال نتيجتها من «متوارثة» إلى «تحدِّدها العوامل الوراثية» — بتحويل نتيجتها السليمة ولكن غير الشائقة إلى شيءٍ شائقٍ جدًّا؛ فلقد تناولتْ مسألة فلسفية جوهرية (التفاؤل)، وتناولتْ أيضًا المسألة العلمية المتعلقة بالكيفية التي يتسبَّب فيها المخُّ في حالاتٍ عقليةٍ مثل الكيفيات، غير أنها فعلتْ ذلك كله دون أن تعرف أيَّ شيءٍ عنها.
سيطلب منك مُؤَوِّلو الدراسة التمهُّلَ، موضِّحين أنهم يدركون عدمَ مقدرتهم على البتِّ فيما إذا كانت هناك جينات خاصة بالسعادة (أو جزء منها)، ويسألون: مَن عساه يكترث بكيفية تَسبُّبِ الجين في إحداث التأثير، سواءٌ أكان بمنح المظهر الحسن أم بطريقةٍ أخرى؟ ما يهمُّ هو أن التأثير نفسه حقيقي.
التأثير حقيقي، لكنَّ التجربةَ غيرُ قادرةٍ على اكتشاف مقدار إمكانية تغييره دون اللجوء إلى الهندسة الوراثية، فقط بمجرد معرفة الكيفية التي يحدث بها؛ يرجع هذا إلى أن الطريقة التي تؤثِّر بها تلك الجيناتُ على السعادة تعتمد على المعرفة. على سبيل المثال: قد يتأثَّر ما يراه الناس «مظهرًا حسنًا» بفعل تغيُّرٍ ثقافي، وهو ما سيُغيِّر حينئذٍ ميْلَ البعض لأن يكونوا أكثر سعادةً من جرَّاء امتلاكهم جيناتٍ معيَّنة. تخلو الدراسة من أي عاملٍ قادرٍ على استكشاف احتمال وقوع تغيُّرٍ كهذا؛ وبالمثل: هي لا تستطيع تحديدَ ما إذا كان كتابٌ ما سوف يُؤلَّف في يومٍ من الأيام ليقنع نسبةً من الناس بأن نقص المعرفة هو أصل كل الشرور، وأن المعرفة تُخلَق بواسطة السعي من أجل التوصُّل إلى تفسيرات جيدة؛ بناءً على ذلك، إذا قام بعضُ هؤلاء بخلق المزيدِ من المعرفة — بقدرٍ أكبر ممَّا كان له أن يخلق دون فكرة الكتاب — فأصبحوا أكثر سعادةً، فإن جزءًا من الخمسين بالمائة من السعادة التي أشارَتْ كلُّ الدراسات السابقة إلى أنها «تحدِّدها العواملُ الوراثية»، لن يكون كذلك.
قد يجيب مُؤَوِّلو الدراسة عن هذا بأنها قد أثبتَتِ استحالةَ تأليف مثل ذلك الكتاب! بالقطع لن «يكتب» أحدهم كتابًا كهذا، ولن يصل إلى أطروحةٍ كهذه. بهذا تكون الفلسفةُ السيئة قد تسبَّبَتْ في العلم السيئ، الذي سيكون بدوره قد قمَعَ آنذاك نموَّ المعرفة. لاحِظْ كيف أن هذه صورة من صور العلم السيئ التي تتوافر فيها كافةُ الشروط المثلى للمنهج العلمي؛ من اختيارٍ سليمٍ لعينةٍ عشوائية، وتحكُّمٍ سليم، وتحليلٍ إحصائيٍّ سليم. تمَّ اتباعُ كافة القواعد «الشكلية» لكيفية «الامتناع عن خداع أنفسنا»، ومع هذا لا يُرجَى منها تحقيقُ أيِّ تقدُّم؛ «لأنه لم يسعَ إليه»: فالنظريات التي لا تقدِّم تفسيراتٍ لا تملك أكثر من أن ترسِّخ التفسيراتِ السيئةَ الموجودة بالفعل.
ليس من قبيل الصدفة في شيء — في الدراسة التخيُّلية التي وصفتُها — أن النتيجة بَدَتْ وكأنها تعضِّد من نظرية التشاؤم. إن النظريةَ التي تتنبَّأ بمدى ما سيصل إليه الناسُ من سعادةٍ (على الأرجح)، لا يمكنها الأخذُ بتأثيرات خلق المعرفة في الاعتبار؛ لذا فهذه النظرية — فيما يتعلَّق بخلق المعرفة — مجرد تكهُّن، وستجنح من ثَمَّ إلى التحيُّز للتشاؤم.
تؤدِّي الدراسات السلوكية في مجال علم النفس البشري — بطبيعتها — إلى نظرياتٍ نازعةٍ للصفات الإنسانية حول الحالة البشرية؛ ذلك لأن رفْضَ التنظير حول العقل بصفته عاملًا سببيًّا يُعادل النظرَ إليه باعتباره إنسانًا آليًّا غيرَ قادرٍ على الإبداع.
يظلُّ المنهجُ السلوكي على نفس الدرجة من العقم والفشل عند تطبيقه لتحديد «ما إذا» كان كيانٌ ما يملك عقلًا أم لا. لقد انتقدتُه بالفعل في الفصل السابع فيما يتعلَّق باختبار تورنج. ينطبق الأمر نفسه إزاء الخلاف حول عقول الحيوانات — مثلًا: ما إذا كان صيد أو تربية الحيوانات أمرًا مشروعًا أم لا — الذي ينشأ من نزاعاتٍ فلسفيةٍ تدور حول ما إذا كانت الحيوانات تُحسُّ بما يماثل الكيفياتِ التي يُحسُّها البشرُ في حالات الخوف أو الألم، وأيها لو صحَّ ذلك. لا يملك العلم الكثيرَ ليُقدِّمه لنا حول هذه القضية في اللحظة الراهنة؛ إذ لا توجد نظريةٌ تفسيرية لتلك الكيفيات؛ ومن ثَمَّ تعوزنا سُبُل استكشافها عبر التجريب؛ ومع ذلك لا يردع هذا الحكوماتِ عن محاولة إلقاء كرة هذا الموضوع الشائك سياسيًّا في ملعب العلم التجريبي المفترض أنه موضوعيٌّ؛ لذا — على سبيل المثال — في عام ١٩٩٧ كلَّفَ المجلسُ الوطني عالِمَيِ الحيوانِ باتريك بايتسون وإليزابيث برادشو بتقرير ما إذا كانَتِ الأيائل تتألَّم عند اصطيادها. قدَّمَ العالمان تقريرَهما الذي أفاد بأنها تتألَّمُ حقًّا؛ لأن الصيد «مجهدٌ إجهادًا جسيمًا … ومرهقٌ ومؤلمٌ»، ومع ذلك «يفترض» هذا التقريرُ أن الكميات القابلة للقياس المشار إليها في «الإرهاق» و«الألم» (كمستويات الإنزيمات في مجرى الدم) تدلُّ على وجود كيفياتٍ تحمل نفس الأسماء، وهو بالضبط ما افترضَتِ الصحافةُ والناس أنه الهدف الذي كانَتِ الدراسةُ تسعى ﻟ «اكتشافه». في العام التالي قام تحالُف الريف بإجراء دراسةٍ حول نفس المسألة بقيادة عالِم الفسيولوجيا البيطرية روجر هاريس، وخلص إلى أن مستويات تلك الكميات تضاهي ما يوجد منها في البشر حينما يستمتعون بممارسة لعبةٍ ككرة القدم، لا عندما يتألَّمون. ردَّ بايتسون على نحوٍ دقيقٍ بأن شيئًا في تقرير هاريس لا يتناقض مع تقريره هو نفسه. لكن هذا يرجع في الحقيقة إلى افتقار الدراستين إلى أي علاقةٍ بموضوع بحثيهما.
لا تزيد هذه الصورةُ من العلم الذي لا يقدِّم تفسيراتٍ عن فلسفةٍ سيئةٍ تتنكَّرُ في شكلِ العلم، ومن أثرها أن تكبح الجدلَ الفلسفي الدائر حول المعاملة التي ينبغي أن تتلقَّاها الحيواناتُ، بأنْ تدعيَ أنَّ الأمر قد حُسِم بمعرفة العلم فحسب. أما على أرض الواقع، فالعلم لا يملك — ولن يملك — لهذا الجدل إجابةً وافيةً حتى تُكتشَف المعرفةُ التفسيرية للكيفيات.
يعرقل العلمُ الذي لا يقدِّم تفسيراتٍ خُطَى التقدُّم بطريقةٍ أخرى، وهي تضخيم الأخطاء. دَعْني أقدِّم لك مثالًا غريبًا قليلًا: لتفترِضْ أنك قد كُلِّفتَ بقياس متوسط عدد زوَّار متحف المدينة بميزوري كلَّ يوم؛ مبنى المتحف كبير وله مداخل عدة، ولأنَّ الدخولَ مجانيٌّ لا يُحصَى عددُ الزوَّارِ في العادة؛ لذلك تقوم بتعيين بعض المساعدين لك، لن تلزمهم أي معرفةٍ تخصُّصيةٍ أو كفاءة، بل في الواقع — وكما سيتضح — كلما قلَّتْ كفاءتُهم، كانت نتائجُك أفضلَ.
يأخذ مساعدوك أماكنَهم عند الأبواب في كل صباح، ويرسم كلٌّ منهم علامةً على ورقةٍ لكلِّ شخصٍ يدلف عبر الباب الذي يراقبه. يُحصي المساعدون علاماتِهم بعد أن يُغلِق المتحفُ أبوابَه، وتقوم أنت بجمع نتائجهم؛ تفعل ذلك كلَّ يوم لمدة محدَّدة، ثم تحسب متوسطَ عدد الزوَّار اليومي، وتقدِّم هذا الرقمَ لعميلك الذي كلَّفَك بالمهمة.
ولكنْ يلزمك بعضُ النظريات التفسيرية لكي تزعم أن الرقم الذي تتوصَّل إليه يساوي عددَ زوَّار المتحف؛ مثلًا: أنت تفترض أن الأبواب التي تقوم بمراقبتها هي مداخل المتحف بالضبط، وأنها لا تقود «إلا» إلى المتحف؛ فلو أن أحدَ تلك الأبوابِ يؤدِّي إلى الكافيتريا أو متجر المتحف أيضًا، لَكنتَ على الأغلب تقترف خطأً كبيرًا إذا كان عميلُكَ لا يُحصي زوَّارَ هذين المكانين من «زوَّار المتحف». كما ستبزغ مشكلةُ العاملين بالمتحف؛ هل يُعَدُّون من الزوَّار؟ هذا بالإضافة إلى الزوَّار الذين يغادرون ويعودون في نفس اليوم، وما إلى ذلك؛ ومن ثَمَّ، تحتاج إلى أن تكون لديك نظريةٌ تفسيريةٌ عميقةٌ حول ما يعنيه العميلُ ﺑ «زوَّار المتحف» قبل أن تضع استراتيجيةً لعَدِّهم.
لتفترِضْ كذلك أنك قد قمتَ بعَدِّ «المغادرين» للمتحف؛ فلو كانَتْ لديك نظريةٌ تفسيريةٌ تفيد بأن المتحف خاوٍ دائمًا طوالَ الليل، وأن أحدًا لا يدلف إلى داخله أو خارجه إلا من خلال الأبواب، وأن الزوَّار لا يُخلَقون بداخله، ولا يُدمَّرون، ولا ينقسمون، ولا ينبثقون وما إلى ذلك، لَأمكنك استخدام عددِ المغادرين ذاك لاختبار عدد الداخلين: لك أن تتنبَّأ بأنهما يجب أن يكونَا متساويين؛ إذنْ إذا لم يتساويَا، فسيكون لديك تقييم لمدى «دقة» إحصائك. هذا هو العلم الجيد؛ إن تقديم نتائجك دون إجراء تقييمٍ لدقتها يجعلها في الحقيقة بلا أي معنًى، لكنْ لا يمكنك استخدام عدد مغادري المتحف أو أي شيءٍ آخَر بُغيةَ تقييمِ مدى خطئك «ما لم» تكن لديك نظريةٌ تفسيريةٌ حول المتحف من الداخل.
افترِضِ الآنَ أنك تُجرِي هذه الدراسةَ باستخدام العلم الذي لا يقدِّم تفسيراتٍ، ومعناه في الواقع علم ذو تفسيراتٍ غير معلومةٍ ولا قابلةٍ للنقد، مثلما افترَضَ تأويلُ كوبنهاجن أنه لا يوجد فقط سوى تاريخٍ واحدٍ غير مُلاحَظٍ يربط ما بين الملاحظات المتعاقبة. لك إذنْ أن تُحلِّلَ النتائجَ كما يلي: لكل يوم، اطرح عددَ الداخلين إلى المتحف من عدد المغادرين له؛ فإذا لم يكن الفارق صفرًا، فأطلِقْ إذنْ — وهذه هي الخطوة الجوهرية في الدراسة — على الفارق إذا كان عددًا موجبًا اسم «عد الخلق البشري العفوي»، أو اسم «عد التدمير البشري العفوي» إذا كان العدد سالبًا؛ أما إذا كان يساوي الصفرَ، فسَمِّه «متوافِق مع الفيزياء التقليدية».
كلما قلَّتْ كفاءةُ العدِّ والفرز لديك، زادَتِ احتمالاتُ حدوثِ حالات «عدم اتفاقٍ مع الفيزياء التقليدية» تلك. بعد ذلك «أثبت» أن النتائج التي لا تساوي صفرًا (الخلق والتدمير البشريان العفويان) غيرُ متوافِقةٍ مع الفيزياء التقليدية. أدرِجْ هذا الدليلَ في تقريرك، ولكنْ أدرِجْ أيضًا إقرارًا بأن الزوَّارَ القادمين من خارج كوكب الأرض قد يكونون قادرين على تسخير الظواهر الفيزيائية التي لا علمَ لنا بها، وأن الانتقال الآني إلى مكانٍ آخَر أو منه قد يُعرَّف خطأً على أنه «تدمير» (أيْ دون أثر)، أو «خلق» (من لا شيء) في تجربتك، وأنه بذلك لا يمكن استبعاده باعتباره مسببًا ممكنًا في تلك التفاوتات.
عندما تصدر عناوين صحفية على شاكلة «العلماء يؤكِّدون: ملاحظة محتملة للانتقال الآني في متحف المدينة»، و«العلماء يثبتون أن اختطاف الفضائيين للبشر أمر حقيقي»، عليك أن تتململ معترضًا وتقول إنك لم تزعم شيئًا من هذا القبيل، وأن نتائجك ليست قاطعةً بل هي موحيةٌ فحسب، وأنَّ إجراءَ المزيد من الدراسات ضروريٌّ لتحديد آلية تلك الظاهرة المربكة.
إنك لم تُقدِّم مزاعم باطلة؛ فالبيانات قد تصبح «غير متوافِقةٍ مع الفيزياء التقليدية» بفعل وسيلةٍ بسيطةٍ هي احتواؤها على الأخطاء، تمامًا كما قد تتسبَّب الجيناتُ في السعادة بفعل ما لا حصرَ له من وسائلَ بسيطةٍ كالتأثير على مظهرنا. لا يعني عدمُ توضيحِكَ هذه النقطةَ في تقريرك أنها غير صحيحة، وبالإضافة إلى ذلك — وكما قلتُ آنفًا — تتمثَّل الخطوةُ المهمة في وجود تعريف، والتعريفاتُ لا يمكن أن تكون خاطئة، شريطةَ أن تكون متَّسِقةً مع قوانين الفيزياء التقليدية. لقد «عرَّفت» ملاحظة زيادة عدد الداخلين عن الخارجين «بتدمير» الزوَّار، ومع أن دلالة هذه العبارة تقترن في لغة الحياة اليومية باختفاء البشر على نحوٍ مفاجئ، فليس ذلك ما تعنيه العبارةُ في هذه الدراسة؛ من أين لك أن تعلم؟ ربما يختفون حقًّا على نحوٍ مفاجئٍ أو يُختطَفون في مركباتٍ فضائيةٍ غير مرئية؛ يتوافق ذلك مع بياناتك، لكنَّ بحْثَك لا يأخذ منه موقفًا ولا يبني عليه رأيًا، بل يدور بالكامل حول نتائج ملاحظاتك.
لذا من الأفضل ألَّا تُعنون بحثَك ﺑ «الأخطاء المرتكبة عند عدِّ الناس على نحوٍ غير كفء»؛ ففضلًا عن أنه عنوان كارثي فيما يختصُّ بالجانب الإعلامي، قد يُعَدُّ ذلك العنوانُ غيرَ علميٍّ حتى من منظور العلم الذي لا يقدِّم تفسيراتٍ؛ إذ يلوح فيه موقفٌ من «تأويلِ» البيانات الملاحظة، لا يقدِّم عنه أيَّ دلائل.
هذه في رأيي تجربةٌ علمية صوريًّا فحسب؛ إن التفسير هو أهم ما في النظريات العلمية، ويشكِّل تفسيرُ «الأخطاء» أغلبَ محتوى تصميمِ أيِّ تجربةٍ علميةٍ غير تافهة.
وكما يُصوِّر المثالُ السابق، السمةُ العامةُ للتجريب هي أنه كلما ازدادَتِ الأخطاءُ التي ترتكبها، سواءٌ في الأعداد أم في تسمية وتأويل الكميات المقيسة، زادَتْ إثارةُ النتائج التي تحصل عليها، «إذا كانت حقيقية». يحمل هذا خطورةَ إثارةِ بلبلةٍ تطمس فيها النتائجُ الخاطئةُ النتائجَ الصحيحة، وذلك ما لم يوجد لاستكشاف الخطأ وتصحيحه أساليبُ فعَّالة، تعتمد على نظرياتٍ تفسيرية. في «العلوم الطبيعية» — التي عادةً ما تتَّبِع الممارساتِ العلميةَ الصحيحة — تشيع بالرغم من ذلك النتائجُ الخاطئةُ التي قد تنجم عن أي نوعٍ من الخطأ، ولكنها تُصوَّب حينما تُنتقد تفسيراتها وتُختبر؛ ولا يمكن لهذا أن يحدث في العلم الذي لا يقدِّم تفسيراتٍ.
نتيجةً لما تقدَّمَ، بمجرد أن يسمح العلماء لأنفسهم بالكفِّ عن المطالبة بالتفسيرات الجيدة، ويكتفون بتحديد مدى دقة التنبؤ من عدمها، فإنهم يُعرِّضون أنفسهم للخداع الذاتي. كانت هذه هي الوسيلةَ التي خُدِع بواسطتها سلسلةٌ من كبار علماء الفيزياء على مدار عقودٍ على أيدي سَحَرة؛ إذ صدَّقوا أن العديدَ من الخدع السحرية يمكن أن يتحقَّق بوسائل «خارقة».
•••
لا يسهل على الفلسفة الجيدة — الجدل والتفسير — محاصرةُ الفلسفة السيئة ومطاردتها؛ فالأخيرة تُحصِّن نفسها بحرص، لكن مَن يقدر على ذلك هو «التقدُّم». يرغب الناس في فهم العالم مهما علا صوتهم إذ ينكرون ذلك، والتقدم يُصعِّب قبولَ الفلسفة السيئة والإيمانَ بها، وهذه ليست مسألةَ تفنيدٍ بالمنطق أو التجربة، بل مسألةُ تفسير. أتوقَّع أن ماخ لو كان حيًّا اليومَ لتقبَّلَ وجودَ الذرات بمجرد أن يراها في المجهر تتصرف طبقًا للنظرية الذرية. من حيث المنطق لا يزال يجوز له أن يقول: «إني لا أرى ذراتٍ، بل شاشة عرض، وما أراه ليس تحقُّقًا لتنبؤات النظرية عن الذرات، بل «عني أنا».» غير أن حقيقة أن ذلك تفسير سيئ عام ستنقلب عليه. يجوز لماخ أيضًا أن يقول: «حسنًا، الذرات موجودة حقًّا، لكن الإلكترونات غير موجودة.» لكن ربما يملُّ هذه اللعبةَ إذا أُتِيح أمامَه غيرُها؛ أيْ إذا تحقَّقَ التقدُّمُ السريع؛ وعندئذٍ سرعان ما سيدرك أن هذا كله ليس بلعبة.
إن الفلسفة السيئة هي التي تُنكر إمكانيةَ التقدُّم أو الرغبة فيه أو وجوده، والوسيلةُ الفعَّالة الوحيدة لمناهضتها هي إحرازُ التقدُّم. لو كان استمرارُ التقدُّمِ بلا نهايةٍ أمرًا غيرَ ممكن، لَهَيْمَنت الفلسفةُ السيئة مرةً ثانية؛ لأنها ستكون حينئذٍ صحيحة.
أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها
- الفلسفة السيئة: الفلسفة التي تدأب على منع نمو المعرفة.
- التأويل: الجزء التفسيري في النظرية العلمية، ويُفترض به الاختلاف عن جزئها التنبُّئِي أو الذرائعي.
- تأويل كوبنهاجن: مَزْج نيلز بور بين الذرائعية ومركزية البشر والغموض المدروس والمستخدم لتفادي فهم نظرية الكم باعتبارها نظريةً حول الواقع.
- الوضعية: الفلسفة السيئة التي ترى ضرورةَ استبعادِ كلِّ شيءٍ غير «مستنتَج من الملاحظة» من العلم.
- الوضعية المنطقية: الفلسفة السيئة التي ترى أن أيَّ نتائجَ لا يمكن التحقُّق منها بالملاحظة غيرُ ذات معنًى.
معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل
-
رفض الفلسفة السيئة.
ملخص هذا الفصل
قبل التنوير، كانت الفلسفةُ السيئة هي القاعدة، بينما الفلسفةُ الجيدة هي الاستثناء النادر. جلب التنوير مزيدًا من الفلسفة الجيدة، غير أن الفلسفة السيئة باتَتْ أكثرَ سوءًا بتدنِّي التجريبية (التي لم تزدْ عن كونها باطلةً) إلى الوضعية، والوضعية المنطقية، والذرائعية، وفيتجنشتاين، والفلسفة اللغوية، وحركة «ما بعد الحداثة» وما ارتبط بها من حركاتٍ فلسفية.
تسلَّلَ التأثيرُ الرئيسي للفلسفة السيئة إلى العلم من خلال فكرة تقسيم النظرية العلمية إلى تنبؤات (غير مفسرة) وتأويلات (تعسُّفية)؛ ساعَدَ هذا على إجازة تفسير الفكر والسلوك الإنساني تفسيراتٍ نازعةً للصفات الإنسانية. في نظرية الكَم، عبَّرَتِ الفلسفةُ السيئة عن نفسها على نحوٍ رئيسيٍّ في صورة تأويل كوبنهاجن وأشكاله المختلفة، وفي صورة التأويل «أغلق فمك واحسب». راقَتْ هذه النماذجُ لمذاهب مثل الوضعية المنطقية بُغيةَ تبريرِ الالتباس المنظم، ولتحصين نفسها ضد النقد.