تطوُّر الإبداع
فيمَ كان نفع الإبداع؟
من بين كل عمليات التكيُّف البيولوجي التي لا حصرَ لها التي تطوَّرَتْ على كوكبنا، يستطيع الإبداعُ وحده إنتاجَ المعرفة العلمية أو الرياضية، أو الفن أو الفلسفة. ولقد كان للإبداع بواسطة التكنولوجيا والمؤسسات المترتبة عليه آثارٌ مادية مذهلة، تبدو في أوضح صورها بالقرب من البيئات البشرية، ولكنها لا تتوقَّف عندها؛ إذ تُستخدَم نسبةٌ كبيرةٌ من مساحة اليابسة على كوكب الأرض الآن لأغراضٍ بشرية. إن الاختيار البشري — الذي في حد ذاته نتاجٌ للإبداع — يُحدِّد أيُّ الأنواع البيولوجية الأخرى سيتمُّ إقصاؤها وأيُّها ستُترَك لتبقى أو تُنَمَّى، أيُّ الأنهار ستُحوَّل مجاريها، وأيُّ التلال ستُمهَّد، وأيُّ البراري ستُحمَى. قد تكون إحدى البقع الساطعة السريعة الحركة في سماء الليل محطةً فضائيةً تحمل على متنها أناسًا، وتسري بهم أسرعَ وأعلى ممَّا يستطيع أيُّ تكيُّفٍ بيولوجيٍّ أن يفعل؛ أو ربما كانَتْ قمرًا صناعيًّا يتواصَلُ البشرُ بواسطته على مسافاتٍ لم يقطعها اتصالٌ بيولوجيٌّ قطُّ، وذلك باستخدامه ظواهِرَ كالموجات اللاسلكية والتفاعلات النووية، التي لم تُسخِّرها علومُ البيولوجيا قطُّ. تستحوذ الآثار الفريدة للإبداع على خبرتنا بالعالم.
اليوم، يتضمَّن ذلك خبرتنا بالابتكار السريع. عندما تقرأ هذه السطور سيكون طرازُ الكمبيوتر الذي أكتبها عليه قديمًا؛ ستوجد أجهزةُ كمبيوتر ذات أداءٍ أفضل، ويتطلَّب صنعها مجهودًا أقل، وستكون حينئذٍ كتبٌ أخرى قد أُلِّفَتْ، ومبانٍ قد شُيِّدت، وأدواتٌ مُبتكَرة قد أُنتِجت، بعضها سيبطل ويُستبدَل، وبعضها سيبقى لعمرٍ أطول من عمر الأهرامات، وستخرج إلى النور اكتشافاتٌ علميةٌ مذهلة، سيغيِّر بعضها المراجِعَ العلمية التقليدية إلى الأبد. ويترتب على تبعات الإبداع هذه كلها أسلوبُ حياةٍ دائمُ التغيُّر، وهو ما لا يتاح إلا في مجتمعٍ ديناميكيٍّ طويلِ الأمد، الذي هو في حد ذاته ظاهرةٌ لا يمكن أن تتأتَّى إلا بواسطة الفكر الإبداعي.
مع ذلك، فكما ذكرتُ في الفصل السابق وفي الفصل الأول، لم يكن للإبداع أيٌّ من تلك الآثار إلا منذ عهدٍ قريبٍ في تاريخ جنسنا البشري. في عصورِ ما قبل التاريخ، لم يكن ليتَّضِحَ للملاحِظ العارض (قُلْ مثلًا لمستكشِفٍ ينتمي إلى حضارةٍ تقع خارج كوكب الأرض) أن البشر قادرون على التفكير الإبداعي بالمرة؛ كان الأمر سيبدو له وكأننا لا نفعل شيئًا سوى أن نُكرِّر على نحوٍ لا نهائيٍّ أسلوبَ المعيشة الذي تَكيَّفنا عليه وراثيًّا؛ تمامًا مثل سائر بلايين الأنواع الأخرى في المحيط الحيوي. كان من الواضح أننا من مستخدمي الأدوات، ولكن كثيرًا من الأنواع كان كذلك أيضًا. كنا نتواصَل باستخدام لغةٍ رمزية، ولكن، من جديد، لم يكن ذلك أمرًا غير معتاد؛ فحتى النحل يفعل ذلك. كنَّا نستأنس أنواعًا أخرى، ولكن كذلك يفعل النملُ. على أن الملاحظة عن كثبٍ أكبر كانَتْ ستكشف عن أن اللغات الإنسانية، والمعرفة التي يستند إليها استخدامُ الأدوات البشرية، كانت تتناقل عبر الميمات لا الجينات؛ وجعلنا ذلك غير معتادين إلى درجةٍ معقولة، وإن لم يُشِرْ إلى إبداعٍ واضحٍ في النوع البشري: كَمْ من أنواعٍ أخرى لديها ميمات! لكن ما ليس لديها هو وسائل تحسين تلك الميمات باستثناء المحاولة والخطأ العشوائيين، وهم كذلك غير قادرين على التحسين المتواصل على مرِّ الأجيال. أما اليوم، فالإبداع الذي يستخدمه البشرُ في تحسين أفكارهم هو ما يُميِّزنا عن الأنواع الأخرى بلا منازع، ومع ذلك فهو لم يكن مُستخدَمًا استخدامًا ملحوظًا في الجزء الأكبر من تاريخ وجود البشر.
ربما كان الإبداع أقل وضوحًا في أسلاف نوعنا، ولكنه لا بد أنه كان يتطوَّرُ بالفعل في ذلك النوع، وإلا ما ظهر فينا قطُّ. في الواقع، لا بد أنها كانت مزيةً ضخمةً تلك التي تسبَّبَتْ فيها الطفراتُ الجينية المتتابعة التي منحت عقولَ أسلافنا زيادةً أكبر في الإبداع (أو بمزيدٍ من الدقة: زيادةً في القدرة التي «نحسبها إبداعًا في يومنا هذا»)؛ إذ لا شكَّ في أن الإنسانَ الحديث قد تطوَّرَ من أسلافه من أشباه القِرَدة بسرعةٍ كبيرةٍ بمقاييس التطوُّر الجيني. لا بد أن تكاثُرَ أسلافنا فاقَ تكاثُرَ أقاربهم من الأنواع الأخرى، ذوي القدرة الأقل قليلًا على خلق المعرفة الجديدة. لماذا؟ وفي أيِّ شيءٍ استخدموا تلك المعرفة؟
لو لم نكن نعلم الحقيقةَ لَكانت الإجابةُ الطبيعية عن هذين السؤالين هي أنهم كانوا يستخدمون المعرفةَ كما نستخدمها اليومَ: بغرض الابتكار، وفهم العالم، من أجل تحسين معيشتهم؛ على سبيل المثال: مَن كان باستطاعتهم تحسينُ الأدوات الحجرية مثلًا كانوا سيتوصلون إلى امتلاك أدواتٍ أفضل؛ ومن ثَمَّ سيتحصلون على غذاءٍ أفضل ويُنجبون نسلًا استمرَّ لفترةٍ أطول، وكانوا سيستطيعون أيضًا صنْعَ أسلحةٍ أفضل، وبهذا يمنعون حاملي الجينات المنافسة من الوصول إلى الغذاء والأزواج، وهكذا. مع هذا، لو كان ذلك قد حدث، لَبَيَّنَ السجلُ الحفري وقوعَ تلك التحسينات على مقياسٍ زمنيٍّ يُقدَّر بأجيال، لكن ذلك لم يحدث.
وعلاوةً على ذلك، كانَتِ القدرةُ على نَسْخ الميمات تتطوَّر أثناءَ نفس المدة التي كان الإبداعُ يتطوَّر فيها أيضًا؛ يُعتقَد أن بعض أفراد نوع الإنسان المنتصب الذي عاش منذ ٥٠٠ ألف عامٍ مضَتْ، كانوا على معرفةٍ بكيفية إشعال نار المخيمات؛ كَمَنَت تلك المعرفة في ميماتهم لا جيناتهم. وبمجرد أن يوجد كلٌّ من الإبداع وانتقال الميمات، يعزِّز كلٌّ منهما القيمةَ التطورية للآخر على نحوٍ كبير؛ لأن أيًّا ما يُحسِّن شيئًا في ذلك الحين ستكون لديه الوسيلةُ ليُنعم بابتكاره على الأجيال التي تليه، وبهذا ينقل الفائدة للجينات الملائمة. ويمكن تحسين الميمات بواسطة الإبداع أسرع كثيرًا ممَّا يجري بواسطة المحاولة والخطأ؛ فلا حدودَ لقيمة الأفكار؛ ولذلك ربما كانت الظروفُ مواتيةً لتطوُّرٍ جامحٍ مشتركٍ بين نوعَيِ التكيُّف: الإبداع، والقدرة على استخدام الميمات.
لكن، مجددًا، ثَمَّةَ ما يعيب هذا السيناريو. لقد تزامَنَ تطوُّرُ نوعَيِ التكيُّف بحسب ما هو مفترض، لكن القوة الدافعة لذلك التطوُّر لم تكن تحسينَ الناس للأفكار ونقلها لصغارهم بالقطع؛ إذ لو كان ذلك صحيحًا، لكانوا راكموا تحسيناتٍ على مقياسٍ زمنيٍّ يُقدَّر بأجيال. قبل اختراع الزراعة — منذ حوالي ١٢ ألف عام — مرَّتْ عدة آلافِ أعوامٍ بين كل تغيُّرٍ ملحوظٍ والذي يليه، وكأنَّ كلَّ تحسُّنٍ وراثيٍّ في الإبداع لم يُنتِج سوى ابتكارٍ ملحوظٍ واحدٍ فقط ثم لا شيء بعده، وهو ما يُشبه تجاربنا اليومَ في «التطور الاصطناعي». لكن كيف يمكن ذلك؟ على عكس التطور الاصطناعي وأبحاث الذكاء الاصطناعي في الوقت الحاضر، كان أسلافنا يطوِّرون إبداعًا «حقيقيًّا»، وهو المقدرة على خلق سلسلة ابتكاراتٍ لا نهائية.
كانت قدرتُهم على الابتكار تتزايد سريعًا، ولكنهم لم يبتكروا سوى أقل القليل. إن هذا لغز؛ لا لكونه سلوكًا غريبًا، ولكن لأن الابتكار إذا كان بهذه الندرة، فمن أين أتى التأثيرُ التفاضلي على تكاثر أفرادٍ ذوي قدرةٍ بنحوٍ ما أو أقل على الابتكار؟ من المفترض أن مرور آلاف الأعوام بين التغيُّرات الملحوظة يعني أن حتى أكثر الأفراد إبداعًا بين الناس لم يصنعوا أيَّ ابتكار؛ وبذلك لم تتسبَّب قدرتهم الأكبر على الابتكار في ضغطٍ انتقائيٍّ لمصلحتهم. لماذا استمر الانتشار الحثيث للتحسينات الصغيرة في تلك القدرة بين الناس؟ لا بد أن أسلافنا كانوا يستخدمون إبداعَهم — إلى أقصى درجة، وعلى نحوٍ متكرر — من أجل «شيء ما»، لكن بالقطع ليس من أجل الابتكار؛ تُرَى في أي شيءٍ غيره؟
تذهب إحدى النظريات إلى أن الإبداع لم يتطور من أجل توفير أي ميزةٍ وظيفيةٍ، بل تطور من خلال الانتقاء الجنسي فحسب؛ إذ اعتاد الناسُ تحسينَ مظهرهم لاستمالة الأزواج بالملابس الملوَّنة، والتزيُّن، وقصِّ الحكايات، وخفةِ الظل، وما شابه ذلك. تواكَبَ تطوُّرُ تفضيلِ التزاوُج بالأفراد ذوي المظاهر الأكثر إبداعًا مع تطوُّر الإبداع القادر على تلبية هذه التفضيلات، في تصاعُدٍ تطوُّري — هكذا ترى النظرية — يُشبه ما بين تفضيلات أنثى الطاووس وذيل ذكره.
لكن الإبداعَ هدفٌ مُستبعَد للانتقاء الجنسي؛ إنه تكيُّف معقَّد لم نستطع حتى يومنا هذا أن نُعِيد إنتاجَه اصطناعيًّا؛ لذا يُفترَض أن تطوُّرَه أصعبُ كثيرًا من تطوُّر صفاتٍ كاللون أو شكلِ أجزاءِ الجسم وحجمها، التي يُعتقَد أن بعضها قد تطوَّرَ حقًّا بفعل الانتقاء الجنسي في البشر وحيواناتٍ أخرى عديدة. تطوَّرَ الإبداعُ — على حد علمنا — مرةً واحدةً فقط، وعلاوةً على ذلك، فإن أغلب آثارِه المنظورة تراكميةٌ؛ فلَكَمْ يصعب رصْدُ الاختلافات البسيطة في إبداع الأزواج المحتملين في أي حالةٍ واحدة، وخاصةً لو لم يكن ذلك الإبداعُ مُستخدَمًا حينها لأغراضٍ عملية! (تخيَّلْ كَمْ سيكون من الصعب في الوقت الحاضر رصد اختلافاتٍ «جينية» صغيرةٍ في القدرات الفنية للناس من خلال مسابقةٍ فنية! أيُّ اختلافاتٍ كتلك ستضيع في خضم عواملَ أخرى.) لماذا إذنْ لم نُطوِّر شَعرًا أو أظافر متعدِّدة الألوان بدلًا من أن نُطوِّرَ المقدرة على خلق معرفةٍ جديدة، أو أيًّا مما لا حصرَ له من خصائصَ كانت ستُمسي أسهلَ كثيرًا في تطويرها وتقييمها بأوجهٍ موثوقٍ فيها؟
ثَمَّةَ شكل مختلف من نظرية الانتقاء الجنسي أكثر قابليةً للتصديق، يتمثل في أن الناس اختاروا أزواجهم تبعًا للمكانة الاجتماعية، وليس بمحاباة الإبداع على نحوٍ مباشر. ربما استطاع أكثرُ الأفراد إبداعًا الوصولَ إلى مكانةٍ اجتماعيةٍ أفضل بحياكة المؤامرات أو المناورات الاجتماعية الأخرى؛ ربما أعطاهم ذلك ميزةً تطوُّريةً دون أن يُحرِزوا أيَّ تقدُّمٍ نستطيع لمس دليلٍ عليه، لكن هذه النظريات وما شابهها ما زالت تواجه مشكلةَ تفسيرِ السبب: إذا كان الإبداعُ قد استُخدِم استخدامًا كبيرًا لأي سبب، فلماذا لم يُستخدَم لأغراضٍ وظيفيةٍ كذلك؟
لماذا لم يفكِّر الزعيم — الذي اقتنص السلطةَ بواسطة مؤامرةٍ خلَّاقة — في صنع رِماحٍ أفضلَ للصيد؟ لماذا لم يُميِّز المرءوسَ الذي اخترع مثل تلك الرماح بالحبوة عن غيره؟ وبالمثل، أَلَمْ يمكن أن يُعجَب الأزواج المحتملون بالابتكارات العملية أيضًا مثلما راقَتْ لهم المظاهرُ الفنية؟ في كل الأحوال، كان من شأن بعض تلك الابتكارات العملية نفسها أن تساعد مكتشفيها على أن يكون لهم مظهرٌ أفضل. وأحيانًا ما يكون للابتكارات مدًى؛ فرُبَّ مهارةٍ جديدةٍ في عمل عقود الخرز في جيلٍ تصبح مهارةَ صنْعِ سلاح مقلاع في الجيل الذي يليه، فلماذا كانت الابتكاراتُ العملية شديدةَ الندرة في البداية إذن؟
قد يُخمِّن المرءُ من المناقشة السالفة في الفصل السابق أن إجابة هذا السؤال هي أن القبائل أو العائلات التي عاش بينها الناس كانت مجتمعاتٍ استاتيكية؛ حيث يمكن لأيِّ ابتكارٍ ملحوظٍ أن يحطَّ من مكانة صاحبه؛ ومن ثَمَّ يُقلِّل أهليته للزواج. كيف يحقِّق المرءُ مكانةً إذنْ — خاصةً بممارسته الإبداعَ أكثر من غيره — دون أن يصبح منتهِكًا صريحًا وملحوظًا للمحرمات؟
توجد طريقة واحدة على ما أعتقد، وهي تجسيد ميمات المجتمع تجسيدًا على نحوٍ أكثر دقةً من المعتاد؛ بإبداء طاعةٍ عمياء وإذعانٍ استثنائي؛ أي بالعزوف عن الابتكار عزوفًا شديدًا. لا يملك المجتمع الاستاتيكي إلا أن يكافئ حبَّ الظهور هذا. إذن، هل يجوز أن يساعد الإبداعُ المحسَّنُ الشخصَ على أن يكون «أقلَّ» ابتكارًا من غيره من الناس؟ اتضح أن ذلك سؤال محوري، وسأعود إليه بعد برهة، ولكن يجب أولًا أن أتناول لغزًا ثانيًا.
كيف تنسخ معنًى؟
غالبًا ما يُوصَف تناسُخ الميمات (من قِبَل بلاكمور على سبيل المثال) بأنه «محاكاة»، لكن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحًا. الميم فكرة، ونحن لا نستطيع أن نلاحظ الفِكَرَ في عقول الآخرين، ولا نملك الإمكاناتِ التي تُمكِّننا من تحميلها من عقلٍ لآخَر على غرار برامج الكمبيوتر، ولا نسخها بطريقة جزيئات الحمض النووي؛ لذا لا يمكننا أن نصنع نُسَخًا من الميمات؛ إذ لا نملك إلى محتواها سبيلًا إلا عن طريق سلوك حامليها (بما فيه كلامهم، وتبعات سلوكهم ككتاباتهم).
دائمًا ما يتبع تناسُخ الميمات النمط التالي: يلاحظ الشخصُ سلوكَ حامِلِ الميم ملاحظةً مباشِرةً أو غير مباشِرةٍ، ثم بعد ذلك — على الفور أحيانًا، وبعد أعوامٍ من الملاحظة أحيانًا أخرى — توجد ميمات الحامل في عقل الملاحظ. كيف تصل إلى هناك؟ يبدو الأمر وكأنه استقراء بعض الشيء، أليس كذلك؟ لكن الاستقراء مستحيل.
يبدو أن تلك العملية تشتمل في الغالب على محاكاة حاملي الميم. إننا نتعلَّم الكلمات، على سبيل المثال، من محاكاة أصواتها، ونتعلَّم كيف نُلوِّح عندما نرى مَن يُلوِّح لنا، فنقلِّد ما نراه؛ لذا نبدو ظاهريًّا — بل حتى على مستوى استبطاننا الشخصي أيضًا — وكأننا ننسخ جوانبَ ممَّا يفعله الآخَرون، ونتذكَّر ما يقولون وما يكتبون. يؤيِّد ذلك المفهومُ الخاطئُ الشائعُ حقيقةَ أن أقرب أنواع أقاربنا الأحياء — القِرَدة العليا — لديها هي الأخرى قدرةٌ على المحاكاة (أقل كثيرًا، ومع ذلك مُذهِلة). لكن الحقيقة — كما سأشرح — أن محاكاةَ أفعال الآخرين وتذكُّرَ أقوالهم لا يمكن أن يكونَا أساسَ تناسُخ الميمات البشرية؛ في الواقع، هما لا يلعبان إلا دورًا صغيرًا، وغير ضروريٍّ في الغالب.
يأتي إلينا اكتساب الميمات على نحوٍ طبيعيٍّ جدًّا بحيث يصبح من الصعب إدراكُ إعجازِ تلك العملية، أو إدراكُ ما يحدث حقًّا، يصعب على الأخص إدراكُ مصدرِ «المعرفة». يوجد قدر هائل من المعرفة حتى في أبسط الميمات البشرية؛ فحين نتعلَّمُ أن نلوِّح، لا نتعلَّم الحركةَ فحسب، بل نتعلَّم أيضًا أيُّ جوانب الموقف جعلَتِ التلويح مناسبًا فيه، وكيف، ولمَن. لا يخبرنا أحدٌ بمعظم هذا، ولكننا نتعلَّمه مع ذلك؛ وبالمثل، عندما نتعلَّم كلمةً نتعلَّم أيضًا معناها، وهو ما يشمل جوانبَ دقيقةً غير صريحةٍ جدًّا. كيف نكتسب تلك المعرفة؟
إننا لا نكتسبها بمحاكاة حاملي الميمات. اعتاد بوبر أن يبدأ مجموعةَ محاضراته عن فلسفة العلم بأن يطلب من الطلاب ببساطةٍ أن «يلاحظوا»، وكان ينتظر بعد ذلك صامتًا حتى يسأله أحدهم «ماذا» يفترض بهم أن يلاحظوا. كانت تلك طريقتَه في إيضاح واحدٍ من عيوب التجريبية المتعدِّدة التي لم تَزَلْ جزءًا من المفاهيم العامة حتى اليوم. كان يشرح لهم حينئذٍ أن الملاحظة العلمية تستحيل دون معرفةٍ سابقةٍ بما يجب ملاحظته، وما يجب البحث عنه، وكيفية الملاحظة، وكيفية تفسير المرء لما يلاحظ. ثم يشرح عندئذٍ أن النظرية — استنادًا لكل ذلك — يجب أن تأتيَ أولًا؛ فلا بد للنظرية أن تُخمَّن، لا أن تُستنتَج.
كان يمكن لبوبر أن يوضِّح نفسَ النقطة بأن يطلب من الحضور أن «يحاكوا» عوضًا عن أن يلاحظوا. كان المنطق سيظل كما هو: في ظل أيِّ نظريةٍ تفسيريةٍ ينبغي أن «يحاكوا»؟ يحاكوا «مَن»؟ بوبر؟ في هذه الحالة، أعليهم أن يتجهوا إلى المنصة ويدفعوه عن طريقهم ويقفوا مكانه؟ وإن لم يكن هذا هو المطلوب، أفعليهم أن يستديروا ليواجهوا الحائطَ الخلفيَّ للقاعة ليحاكوا الاتجاهَ الذي كان ينظر إليه؟ أيحاكون لكنته الأسترالية الغريبة، أم يتحدثون بأصواتهم العادية لأن ذلك ما كان يفعله هو؟ أم كان عليهم ألا يفعلوا شيئًا بعينه حينئذٍ، غير أن يضمنوا عروضًا في محاضراتهم التي كانوا فيها هم أنفسهم أساتذةَ فلسفةٍ؟ لا نهايةَ للتأويلات الممكنة لعبارة «حاكِ بوبر»، التي يحدِّد كلٌّ منها سلوكًا مختلفًا للمحاكي. سيبدو الكثير من تلك الطرق مختلفًا بشدةٍ عن غيره، وكل طريقةٍ منها تقابل نظريةً مختلفةً عن الأفكار — التي كانت في ذهن بوبر — والمتسبِّبة في السلوك الملاحَظ.
لذا فليس ثَمَّةَ ما يُدعَى «محاكاة السلوك فحسب»، وبالتبعية لا يمكن اكتشاف تلك «الأفكار» بواسطة محاكاة السلوك؛ لذا لا يمكن أن تكون محاكاة السلوك هي وسيلةَ اكتساب الميمات.
ستحتاج الجينات الافتراضية التي تسبَّبت في التناسُخ الميمي بالمحاكاة إلى أن تُحدِّد كذلك مَن ستحاكي. تقترح بلاكمور مثلًا أن المعيار قد يكون «محاكاة أفضل المحاكين»، ولكن هذا مستحيل لنفس السبب؛ إذ لا يتسنَّى للمرء الحكمُ على مدى جودةِ محاكاةِ شخصٍ إلا إذا كان يعرف بالفعل — أو خمَّنَ — «ما الذي» تمَّتْ محاكاته بالضبط (أيُّ جانب سلوكي، ولِمَن)، وأي الظروف يضعها المحاكي في حسبانه، وكيف.
ينطبق الأمر نفسه إذا كان السلوكُ يتكوَّن من «السرد الصريح» للميمات؛ فكما لاحَظَ بوبر، «يستحيل أن تتحدَّث بطريقةٍ لا يمكن إساءةُ فهْمِك بها». يستطيع المرء فقط ذِكْرَ المحتوى الصريح، وهو ما لا يكفي لتعريف ميم، أو أي شيءٍ آخَر، وحتى أكثر الميمات صراحةً وبيانًا — كالقوانين — تشتمل على محتوًى غير صريحٍ لا يمكن سَنُّها أو تجسيدها دونه؛ على سبيل المثال: تذكر قوانينُ عدةٌ صفةَ «المعقول»، لكن لا يستطيع أحدٌ تعريفَ هذه الصفة بما يكفي من دقة، لكي يستطيع شخصٌ من ثقافةٍ أخرى مثلًا أن يُطبِّقَ التعريفَ إبَّان الحكمِ في قضيةٍ جنائية؛ لهذا، لا نتعلَّم بالقطع ما تعنيه كلمةُ «معقول» بواسطة الاستماع إلى «ذِكْر» معناها. بيد أننا نتعلَّمه بالفعل، وتتقارب صورُه التي يتعلَّمها المنتمون إلى نفس الثقافة تقارُبًا كافيًا لجعْل القوانين المبنية عليه قوانينَ قابلةً للتطبيق.
على كل حال، نحن لا نعرف قواعدَ سلوكنا على نحوٍ صريح، كما أشرتُ في الفصل السابق. فنحن نعرف القواعد، والمعاني، وأنماط الحديث في لغتنا الأم معرفةً غير صريحةٍ إلى حدٍّ كبير، ومع هذا ننقل قواعِدَها بدقةٍ مبهرةٍ إلى الجيل التالي، بما فيها القدرة على تطبيق تلك القواعد على مواقفَ لم يخبرها المتلقي الجديد من قبلُ، وبما فيها أنماطُ حديثٍ يحاول الناس على نحوٍ صريحٍ منْعَ الجيل التالي من نَسْخها.
إن حقيقة الموقف أن الناس يحتاجون إلى المعرفة غير الصريحة لكي يفهموا القوانين، والأقوال الصريحة الأخرى، لا العكس. يكدُّ الفلاسفةُ وعلماء النفس لاكتشاف وتوضيح الافتراضات التي تتبنَّاها ثقافتُنا ضمنيًّا بشأن المؤسسات الاجتماعية، والطبيعة البشرية، والصواب والخطأ، والزمان والمكان، والنية، والسببية، والحرية، والضرورة، وغيرها؛ لكننا لا نكتسب تلك الافتراضاتِ من خلال قراءة نتائج مثل تلك الأبحاث، بل العكس هو الصحيح تمامًا.
لو كانت محاكاةُ السلوك مستحيلةً دون معرفةٍ سابقةٍ بالنظرية المتسبِّبة فيه، فكيف تقوم القِرَدةُ العليا بالتقليد كما هو معروف عنها؟ إن لديها ميمات؛ إذ تستطيع تلك القِرَدة تعلُّمَ طريقةٍ جديدةٍ لشقِّ حبة الجوز بمشاهدتها لقردٍ آخَر يعرف تلك الطريقة بالفعل. كيف لا تحار القِرَدة من الغموض اللامتناهي لمعنى التقليد؟ حتى الببغاوات تُكرِّر الكلامَ كما هو معروف عنها؛ فهي تستطيع تخزينَ عشرات الأصوات التي سمعتها في ذاكرتها، وتُكرِّرها لاحقًا؛ تُرَى كيف تتغلَّب على غموض اختيار الأصوات التي تُقلِّدها، واختيار أوقات تقليدها؟
إنها تتغلَّب عليه بمعرفتها السابقة بالنظريات غير الصريحة ذات الصلة، أو بالأحرى تعرفها جيناتها. خلَقَ التطوُّرُ في جينات الببغاوات تعريفًا ضمنيًّا لمعنى «المحاكاة»؛ إذ تعني المحاكاةُ عند الببغاوات تسجيلَ تسلسلات الأصوات التي تتماشى مع معيارٍ فطريٍّ ما، ثم ترديدها لاحقًا في ظروفٍ تتماشى مع معيارٍ فطريٍّ آخَر. تتبع ذلك حقيقة شائقة عن فسيولوجيا الببغاوات؛ فلا بد أن يحتويَ عقلُ الببغاء أيضًا على نظامِ ترجمةٍ يُحلِّل الإشاراتِ العصبيةَ الواردة من الأذنين، ويُنتِج إشاراتٍ صادرةً تجعل أحبالَه الصوتية تؤدِّي نفسَ الأصوات، تتطلَّب هذه الترجمةُ بعضَ الحوسبة المعقَّدة، وتلك مشفَّرة في الجينات لا الميمات. يُعتقَد أنها تتحقَّق جزئيًّا بواسطة نظامٍ مبنيٍّ على «الخلايا العصبية المرآتية»، وهي خلايا عصبية تنشط عندما يؤدِّي الحيوان فعلًا ما، وعندما يلاحظ غيرَه يفعله أيضًا؛ تمَّ التعرُّفُ على تلك الخلايا العصبية تجريبيًّا في الحيوانات التي لديها المقدرةُ على المحاكاة. إن العلماء المؤمنين بأن التناسُخَ الميميَّ البشريَّ صورةٌ معقَّدة من المحاكاة يميلون إلى الاعتقاد بأن الخلايا العصبية المرآتية هي أداة فهم سائر الوظائف في العقل البشري بكافة أنواعها، لكن للأسف، لا يمكن أن يكون ذلك صحيحًا.
لا يُعرَف لتطوُّر قدرة الببغاء على تقليد الأصوات «سببٌ»؛ فهو تكيُّف على قدرٍ من الشيوع بين الطيور، وربما كان يؤدِّي أكثرَ من دورٍ، لكن أيًّا كان سببُه، فإن المهم ها هنا أن الببغاوات لا حيلةَ لها مطلقًا في اختيار الأصوات التي تُقلِّدها، أو إزاء ما يتألَّف منه هذا التقليد. ربما تصادَفَ أن يهيِّئ جرسُ الباب ونباحُ كلبٍ ظروفًا تتماشى مع المعيار الفطري في الببغاء، الذي يُنشِّط سلوكَ التقليد لديه، وعندما تحدث تلك الظروفُ سيقوم الببغاء دائمًا بتقليد نفس الجوانب فيها بالضبط؛ أي أصواتها؛ وبهذا يحلُّ الغموض اللامتناهي عن طريق عدم انتقائه أيَّ اختيار. لا يخطر بباله أن يتجاهَلَ الكلبَ في ظل تلك الظروف، أو أن يقلِّد هزَّه ذيلَه؛ لأنه غير قادرٍ على تصوُّرِ أيِّ معيارٍ للمحاكاة يختلف عن ذلك المرسخ في شبكة خلاياه العصبية المرآتية. تفتقر الببغاوات إلى الإبداع، وهي تعتمد على هذا في نسخ الأصوات بدقة، ويشبه ذلك البشرَ في المجتمعات الاستاتيكية، فيما عدا اختلافًا جوهريًّا سأشرحه فيما يلي.
فَلْتتخيَّلِ الآنَ أن ببغاءً كان موجودًا في محاضرات بوبر، وأنه قد تعلَّمَ تكرارَ بعض عباراته المفضَّلة؛ سيكون — بصورةٍ ما — قد «حاكَى» بعضَ أفكار بوبر؛ نظريًّا، قد يتعلَّم طالبٌ أفكارَ بوبر باستماعه إلى الببغاء، لكن الأخير لن يكون سوى ناقِلٍ لتلك الميمات من مكانٍ إلى آخر، وهو ما لا يزيد عمَّا يفعله الهواءُ في قاعة المحاضرات. لا يمكن القول بأن الببغاء قد اكتسب الميمات؛ لأنه لا يكرِّر سوى سلوكٍ وحيدٍ ممَّا لا حصرَ له من سلوكياتٍ تنجم عن الميمات، لن يماثل السلوكُ اللاحق للببغاء، والناجمُ عن حفظه الأصواتَ عن ظهر قلب — كردودِه على الأسئلة — سلوكَ بوبر، سيكون في هذا السلوكِ صوتُ الميم فقط، لا معناه؛ والمعنى — أيِ المعرفة — هو الناسخ.
يجهل الببغاءُ المعانيَ البشرية للأصوات التي يردِّدها؛ فلو دارَتْ تلك المحاضراتُ حول وصفاتِ طبْخِ الببغاء المقلي لا الفلسفة، لَاقتبَسَ منها بنفس الحماسة وكرَّرَ ما يحفظ أمام السامعين. على أنه غير «جاهل» بمحتوى الصوت؛ فهو ليس كالمسجل الآلي، على العكس تمامًا، لا تسجِّل الببغاوات الأصواتَ دون تمييزٍ أو تردِّدها عشوائيًّا. دائمًا ما تعطي معاييرها الفطرية ضمنيًّا معانيَ للأصوات التي تسمعها، لكن ذلك المعنى لا يخرج مطلقًا عن مجموعةٍ محدودةٍ من الاحتمالات؛ فلو كانت الوظيفةُ التطوُّريةُ لتقليد الببغاوات الأصواتَ هي مثلًا القيامَ بنداءاتِ التعارُف، لَكانَ كلُّ صوتٍ تسمعه إما نداءَ تعارُفٍ محتملًا وإما غير ذلك.
تستطيع القِرَدةُ العليا التعرُّفَ على مجموعةِ معانٍ ممكنةٍ أكبر كثيرًا، يبلغ بعض هذه المعاني درجةً من التعقيد نجَمَ عنها في أغلب الأحيان سوءُ فهمِ سلوكياتِ القِرَدة باعتبارها دليلًا على امتلاكها فهْمًا واستيعابًا يشبهان ما للإنسان. على سبيل المثال: عندما يتعلَّم القردُ أسلوبًا جديدًا لشقِّ ثمرةِ الجوز بواسطة خبطها بالحجر، لا يكرِّر بعد ذلك نفسَ الخطوات تكرارًا أعمى في تتابُعٍ ثابتٍ لا يتغيَّر كما يفعل الببغاء؛ إذ تتغيَّر الحركاتُ التي يتطلَّبها شقُّ الثمرة في كل مرة، فعلى القرد أن «يصوِّب» الحجرَ على الثمرة، وقد يحتاج إلى «مطاردة» الثمرة وإعادتها إذا تدحرجت بعيدًا؛ وعليه أن يستمرَّ في خبطها حتى تُشَقَّ، لا لعددٍ معيَّنٍ من الخبطات، وهكذا. يتعيَّن في بعض أجزاء تلك الخطوات أن تتعاون يدَا القرد، وأن تفعل كلٌّ منهما مهمةً فرعية مستقلة، وحتى قبل أن يبدأ القرد في كل ذلك عليه أن يكون قادرًا على التعرف على الثمرة الصالحة لتلك الإجراءات، وعليه أن يبحث عن حجر، وعليه كذلك أن يتعرَّف على الحجر المناسب بالذات.
قد تبدو هذه الأنشطة وكأنها تعتمد على التفسير؛ أيْ تعتمد على فهم كيفية وسبب ضرورة تَماشي كلِّ فعلٍ في السلوك المعقَّد مع غيره بما يحقِّق الغرض الشامل، لكنَّ دراساتٍ حديثةً قد كشفَتْ عن كيف أن القردة العليا تستطيع محاكاةَ مثل تلك السلوكيات دون أن تخلق أيَّ معرفةٍ تفسيرية. بيَّنَ عالِمُ النفس التطوُّري والباحث في مجال سلوك الحيوان ريتشارد بيرن، في سلسلةٍ بارزةٍ من الدراسات النظرية والقائمة على الملاحظة، كيف تستطيع هذه القِرَدةُ تحقيقَ ذلك عن طريق عمليةٍ سمَّاها «التحليل السلوكي» (وهي النظير للتحليل النحوي، أو «تحليل» الكلام البشري، أو برامج الكمبيوتر).
يقسِّم البشرُ وأجهزةُ الكمبيوتر تياراتِ الأصوات أو الحروف المتواصلة إلى عناصر مفردة كالكلمات، ثم تُترجَم تلك العناصر على أن بعضها متصل ببعضٍ بواسطة منطق البرنامج أو الجملة الأكبر. وبالمثل، في التحليل السلوكي (الذي تطوَّرَ قبل تحليل اللغة البشرية بملايين السنين)، يحلِّل القردُ تيارًا سلوكيًّا متواصلًا يشاهده، مقسِّمًا إياه إلى عناصرَ منفصلةٍ يعرف بالفعل جينيًّا كيف يحاكي كلًّا منها. قد تكون العناصرُ المنفصلة سلوكياتٍ فطريةً كالعضِّ، أو مكتسَبةً من خلال المحاولة والخطأ كالإمساك بالنباتات الشائكة دون التعرُّض لوخزها، أو قد تكون ميماتٍ سبق تعلُّمها. أما عن ربط هذه العناصر بعضها ببعض ربطًا صحيحًا دون معرفة السبب، فلقد اتَّضَحَ أن في كل حالات السلوك المعقَّد المعروفة في غير البشر، يمكن الحصول على المعلومات الضرورية بمجرد مشاهدةِ السلوك عدة مراتٍ والبحثِ عن أنماطٍ إحصائيةٍ بسيطةٍ فيه، مثل التعرُّف على سلوكيات اليد اليمنى التي تصحب سلوكيات اليد اليسرى في الغالب، ومعرفة أي العناصر تُحذَف في الغالب. هذا النهج غير كفءٍ على الإطلاق؛ إذ يتطلَّب قدرًا كبيرًا من مشاهدات السلوكيات التي يستطيع الإنسان محاكاتَها على الفور تقريبًا بمجرد استيعاب الغرض منها، وهو أيضًا لا يسمح إلا بخياراتٍ محدَّدةٍ قليلةٍ لربط السلوكيات بعضها ببعض؛ لذا لا يمكن أن تُنسَخ بواسطته إلا الميمات البسيطة نسبيًّا. تستطيع القردة العليا تقليدَ بعض الأفعال على الفور — وهي الأفعال التي تملك عنها معرفةً سابقةً من جهاز خلاياها العصبية المرآتية — لكن اكتساب حصيلةِ ميماتٍ تتضمَّن تراكيبَ من الأفعال أمرٌ يستغرق منها سنوات. ومع ذلك فإن تلك الميمات — التي لا تزيد عن حيلٍ بسيطةٍ تافهةٍ بالمقاييس البشرية — بالغةُ القيمة؛ فباستخدامها تتميَّز تلك القردةُ بالانفراد بالوصول إلى مصادرِ غذاءٍ تستغلق على باقي الحيوانات، ويمنحهم التطوُّر الميمي القدرةَ على التحوُّل إلى المصادر الأخرى أسرع كثيرًا ممَّا يسمح التطوُّرُ الجيني.
إذن، يعرف القرد (ضمنًا) أن قردًا آخَر «يلتقط حجرًا»، ولا يقوم بأي تأويلٍ آخَر ممَّا لا حصرَ له من التأويلات الممكنة لنفس الفعل، مثل «الْتِقاط شيءٍ في وضعٍ نسبيٍّ ما»؛ لأن التقاطَ الحجر سلوكٌ من مخزونه الفطري من السلوكيات القابلة للتقليد، على عكس الاحتمالات الأخرى، بل قد تكون القردة «غيرَ قادرةٍ» حقًّا على محاكاة سلوك «الْتِقاط شيءٍ في وضعٍ نسبيٍّ ما». لاحِظْ فيما يتعلَّق بذلك أن القردةَ لا تستطيع تقليد الأصوات، لا تستطيع حتى أن تردِّدَها ترديدًا أعمى (كالببغاء)، مع أنها تمتلك مخزونًا فطريًّا معقَّدًا من النداءات التي تستطيع القيام بها، والتعرُّف عليها، والتصرُّف طبقًا لها في نسقٍ مقرَّرٍ حدَّدته الجينات سلفًا. كلُّ ما في الأمر أن نظام التحليل السلوكي لديها لم يُطوِّر آليةَ ترجمةٍ محدَّدة سابقًا تصل ما بين الاستماع إلى الأصوات ونطقها؛ ومن ثَمَّ لا تستطيع القردةُ تقليدَها؛ ممَّا يستتبع عدمَ وجودِ أي أصواتٍ خاصةٍ في أيٍّ من السلوكيات التي تتحكَّم بها الميمات لدى القردة.
لذا، يُشبه منطقُ المحاكاة عند القردة العليا نظيرَه عند الببغاوات على الصعيد الأهم والمتعلِّق بالتناسخ الميمي؛ إذ يعتمد القردُ على معرفته الفعلية — غير الصريحة — بمعنى كلِّ فعلٍ يقدر على نسخه، متجنِّبًا بهذا ما يعتري عمليةَ النسخ من غموضٍ لا متناهٍ، تمامًا كما يفعل الببغاء، وهو بالإضافة إلى ذلك غيرُ قادرٍ إلا على إقران معنًى واحدٍ لكل فعلٍ يستطيع تقليده؛ تعريف واحد لكيفية أداء «نفس» الفعل في ظروف متنوعة. هذا هو النهج الذي تتمكَّن به ميمات القرد من التناسخ دون حاجةٍ إلى خطوة نسخ المعرفة من قردٍ آخَر، وهي الخطوة المستحيلة. يتعرَّف متلقي الميم على معنى كلِّ عنصرٍ في السلوك على الفور، ويربط بين العناصر بواسطة التحليل الإحصائي، وليس باكتشاف كيفية دعم كلٍّ منها للآخر في أداء وظيفته.
يطرق البشرُ مسلكًا مختلفًا اختلافًا جذريًّا إبَّان اكتسابهم الميمات البشرية. تقع مشكلةُ الجمهورِ إذ يتابع محاضرةً، أو الطفلِ إذ يتعلَّم لغةً، على النقيض من مشكلة الترديد والتقليد؛ لأن معنى السلوك الذي يلاحظونه هو بالضبط ما يحاولون اكتشافه، وما لا يعلمونه سابقًا، أما الأفعال نفسها — بل حتى المنطق الذي يربط بعضها ببعض — فتكون ثانويةً إلى حدٍّ كبير، وغالبًا ما تغرب عن الذهن بعد ذلك؛ على سبيل المثال: لا نذكر نحن الكبار سوى نصِّ القليل من الجمل التي تعلَّمنا بواسطتها الكلام. لو قلَّدَ الببغاءُ أجزاءً من صوت بوبر في المحاضرة لَقلَّدها بلكنته الأسترالية؛ إذ لا تقدر الببغاواتُ على تقليدِ منطوقٍ مجردٍ من لكنته، ولكن قد يعجز طالبٌ عن تقليده «محاكيًا» اللكنة. في الواقع قد يكتسب طالبٌ ميمًا معقَّدًا في المحاضرة دون أن تكون له القدرةُ على ترديدِ جملةٍ واحدةٍ نطَقَ بها المحاضرُ، ولو حتى على إثرها فورًا؛ في هذه الحالة يكون الطالبُ قد نسَخَ معنى الميم — الذي هو المحتوى برُمَّته — دون محاكاة أي فعلٍ أو حركةٍ على الإطلاق. كما قلتُ، لا تقع المحاكاة محلَّ القلبِ من التناسُخ الميمي البشري.
افترِضْ أن المحاضِرَ قد تناوَلَ فكرةً رئيسيةً محدَّدةً وتطرَّقَ إليها مرارًا وتكرارًا، وأنه قد عبَّرَ عنها بكلماتٍ وإيماءاتٍ مختلفةٍ في كل مرة. ستزيد صعوبةُ مهمة الببغاء (أو القرد) عن مجرد تقليد المرة الأولى، وستسهل مهمةُ الطالب؛ ذلك لأن كل أسلوبٍ مختلفٍ لإيضاح الفكرة سيحمل إلى المتابِع البشري مزيدًا من المعرفة. لتفترِضْ بدلًا من ذلك أن المحاضِرَ داوَمَ على إساءةِ التعبير بحيث حرَّفَ معنى الفكرة، ثم إنه قد قام بتصحيحٍ واحدٍ في النهاية؛ سيقلِّد الببغاءُ النسخةَ الخاطئة، أما الطالب فلا. وحتى إن لم يُصحِّح المحاضِرُ الخطأَ على الإطلاق، فقد يبقى احتمالٌ لا بأسَ به لفهم المستمِع البشري للفكرة التي جالَتْ بذهن المحاضِر ودون محاكاةٍ لأي سلوكٍ أيضًا. لو نقل شخصٌ المحاضَرةَ إلى آخَرين على نحوٍ احتوَتْ به على مفاهيمَ جسيمةِ الخطأ، «لَظلَّ» المستمع البشري قادرًا على تحديدِ ما استبطَنَ المحاضِرُ الأصلي من معنًى؛ وذلك بواسطة تفسيره أخطاءَ الناقل وقصْدَ المحاضِر، تمامًا مثلما يستطيع خبيرُ الحِيَل السحرية اكتشافَ ما حدث حقًّا في خدعةٍ استنادًا إلى ما يروي عنها مشاهدوها من وصفٍ خاطئٍ مخدوع.
لا يقلِّد الإنسانُ السلوكَ، ولكنه يحاوِلُ تفسيرَه عوضًا عن ذلك — أيْ يحاول فهْمَ الأفكارِ المسبِّبة له — وتلك حالةٌ خاصةٌ من الهدف العام عند البشر، أَلَا وهو تفسير العالم. عندما ننجح في تفسير سلوكِ شخصٍ ما، ونستحسن مقصدَه المكنونَ، قد نسلك سلوكًا «شبيهًا» بسلوكه في المواقف الملائمة، لكننا إذا رفضناه فقد نتصرَّف بسلوكٍ مضادٍّ له. ولما كان خلْقُ التفسيرات طبيعتَنا الثانية (أو الأولى بالأحرى)، كان من السهل علينا أن نُخطِئَ في تأويل عملية اكتساب الميمات على أنها «محاكاة ما نُبصره». تنفُذُ بصيرتُنا عبر السلوك إلى المعنى بواسطة تفسيراتنا. تقلِّد الببغاواتُ الأصواتَ المميزة، وتقلِّد القردةُ العليا الحركاتِ الهادفةَ لفئةٍ معينةٍ ومحدودة، لكن البشر لا يقلِّدون أيَّ سلوكٍ بعينه بالضرورة، بل يستخدمون الافتراض، والنقد، والتجربة لخلق تفسيراتٍ جيدةٍ لمعاني الأشياء، كسلوكيات الآخرين، وسلوكياتهم، والعالم بوجهٍ أعم؛ هذا ما يفعله الإبداع. وإذا انتهت بنا الحال إلى التصرُّف كأناسٍ آخرين، فذلك لأننا أَعَدْنا اكتشافَ نفس الفكرة.
لهذا فحين يحاول المستمعون استيعابَ ميمات المحاضر في المحاضرة فإنهم لا ينزعون لمواجهة الحائط الخلفي لقاعة المحاضرات، ولا إلى محاكاة المحاضِر بأي طريقةٍ ممَّا لا حصرَ له من احتمالات. إنهم يرفضون مثل تلك التأويلات عمَّا يستحق النسخ أو التقليد في المحاضر؛ لا لأنهم غير قادرين على إدراكها لأسبابٍ جينية — مثل الحيوانات الأخرى — ولكن لأن تلك تفسيراتٌ سيئةٌ لما يقوم به المحاضِر، وهي كذلك أفكارٌ سيئةٌ طبقًا لقِيَم المستمعين.
حلٌّ واحدٌ لِلُغزين
قدَّمْتُ في هذا الفصل لُغزَيْن؛ اللغز الأول هو: لماذا كان الإبداع البشري مفيدًا تطوريًّا في زمنٍ لم يشهد أيَّ ابتكارٍ تقريبًا؟ واللغز الثاني هو: كيف تتمكَّن الميماتُ البشريةُ من التناسُخ في ظل انطوائها على محتوًى لا يلاحظه المتلقي على الإطلاق؟
أعتقد أن لهذين اللغزين حلًّا واحدًا: الإبداع هو ما ينسخ الميماتِ البشريةَ، وهو ما استُخدِم — أثناء تطوُّره — «لنَسْخ الميمات». بعبارةٍ أخرى: كان الإبداع مُستخدَمًا لاكتساب المعرفة الموجودة حينئذٍ، لا لخلق معرفةٍ جديدة. لكن «آلية تنفيذ الفعلين واحدة»؛ ومن ثَمَّ أصبحنا باكتسابنا القدرةَ على الفعل الأول قادرين تلقائيًّا على الفعل الآخر. كان ذلك مثالًا بارزًا على المدى، الذي جعل كلَّ ما يتميَّز به البشرُ ممكنًا.
يواجه الشخصُ حيال اكتسابه أحدَ الميمات نفسَ التحدِّي المنطقي الذي يجابهه العالِمُ. يتعيَّن على كلٍّ منهما اكتشافُ تفسيرٍ مستتر؛ أما الأول فيحتاج إلى اكتشاف الفكرة الكامنة في عقول الآخرين، وأما الثاني فيحتاج إلى اكتشاف انتظامٍ في الطبيعة أو قانونٍ لها. لا يملك أيٌّ منهما منفذًا مباشِرًا إلى هذا التفسير، ولكنَّ كلَيْهما يستطيع الوصولَ إلى دليلٍ يمكن اختبارُ التفسيراتِ به، أَلَا وهو السلوك الملاحظ للناس الحاملين للميم، والظواهر المادية المتوافقة مع القانون.
إن لغز كيفية تمكُّنِ المرء من ترجمة السلوك إلى نظريةٍ تحتوي على معناه، هو نفس لغز مصدر المعرفة العلمية. إن فكرة تناسُخ الميمات بواسطة محاكاة سلوك حاملها هي نفس مغالطة التجريبية، أو الاستقرائية، أو اللاماركية؛ إذ تعتمد جميعها على وجود طريقةٍ للترجمة التلقائية للمشكلات (كمشكلة حركة الكواكب، أو كيفية الوصول إلى الأوراق على الأشجار الطويلة، أو تمويه الفريسة) إلى حلولها. بعبارة أخرى: تفترض تلك المذاهِبُ أن البيئة (في صورة الظاهرة المراقبة، أو الشجرة العالية، مثلًا) تقدر على «توجيه» العقول أو الجينومات إلى ما يمكِّنها من مغالبةِ التحديات التي تقابلها.
يعمل المنهجان الاستقرائي واللاماركي استنادًا إلى فكرةِ وجودِ توجيهٍ قادمٍ من الخارج، أو من البيئة، أما المنهجان النقدي والدارويني، فلا يسمحان إلا بالتوجيه القادم من الداخل؛ من قلب البنية نفسها …
أزعم أنْ ليس ثَمَّةَ توجيهٌ يأتي من خارج البنية. فنحن لا نكتشف وقائعَ جديدةً أو تأثيراتٍ جديدةً عن طريق صنْعِ نُسَخٍ منها، ولا عن طريق الاستدلال عليها استدلالًا استقرائيًّا من الملاحظة، ولا عن طريق أي صورةٍ أخرى من صور التوجيه بواسطة البيئة؛ الأحرى أننا نستخدم منهجَ المحاولة واستبعاد الخطأ، وكما يقول إرنست جومبريتش: «يأتي البناء قبل المواءمة.» إن الإنتاج الفعَّال لبنية محاولةٍ جديدةٍ يتأتَّى قبل تعريضها لاختبارات الاستبعاد.
كان من شأن بوبر أن يكتب أيضًا: «نحن لا «نكتسب الميمات الجديدة» عن طريق عمل نُسَخٍ منها، ولا بالاستدلال عليها استدلالًا استقرائيًّا من الملاحظة، ولا بأي أسلوبِ محاكاةٍ آخَر للبيئة، ولا بتوجيهٍ منها.» إنَّ نقْلَ الميمات من النوع البشري — الميمات ذات المعنى غير المحدَّد سلفًا في الأغلب لدى المتلقي — لا يمكن أن يكون سوى نشاطٍ إبداعيٍّ من جانب المتلقي.
إن الميمات لا تُستنتَج من أي شيء، مثلها في ذلك مثل النظريات العلمية. بل يخلقها المتلقي من جديد؛ فهي تفسيرات افتراضية، تخضع بعدئذٍ للنقد والاختبار قبل أن تُعتمد مبدئيًّا.
يولِّد نفسُ هذا النمط المؤَلَّف من الافتراض الإبداعي والنقد والاختبار أفكارًا صريحةً وأخرى غيرَ صريحة، بل إنَّ ذلك يتأتَّى من شتَّى صورِ الإبداع في واقع الأمر؛ إذ يستحيل أن تُمثِّلَ أيُّ فكرةٍ تمثيلًا صريحًا بالكامل. فمتى نصل إلى افتراضٍ صريحٍ، لا يَخْلُ من مكونٍ غير صريح، سواءٌ أكنَّا على وعيٍ به أم لا. ويصح نفس الأمر على النقد أيضًا.
وهكذا تكرَّرَ ما حدث مرارًا في تاريخ العمومية، ولم تتطوَّر القدرةُ البشرية على التفسير العمومي بحيث يكون لها وظيفة عمومية، بل كان جلُّ ما تطوَّرَتْ إليه هو زيادة حجم المعلومات الميمية التي استطاع أسلافُنا اكتسابَها، وزيادة سرعة ذاك الاكتساب ودقته. ولما كان أسهل طريقٍ يسلكه التطوُّرُ لتحقيق ذلك هو مَنْحَنا قدرةً عموميةً على التفسير — عن طريق الإبداع — فهكذا فعل. هذه الحقيقة المعرفية لا تُقدِّم حلًّا لكلا اللغزين اللذين ذكرتهما آنفًا فحسب، بل تُبرز أيضًا السببَ لتطوُّر الإبداع البشري — ومن ثَمَّ لتطوُّر النوع البشري — في المقام الأول.
لا بد أن ما حدث كان أشبهَ بما يلي: في المجتمعات قبل البشرية الأولى، لم توجد سوى ميماتٍ فائقةِ البساطة، من النوع الذي تمتلكه القردةُ العليا الآن، ولكن ربما كان بحصيلةٍ أكبر من السلوكيات الأوَّلية القابلة للنسخ. تمحورَتْ تلك الميمات حول أمورٍ عملية، مثل كيفية الحصول على الغذاء غير الممكن الوصول إليه لولاها، ولا بد أن قيمة تلك المعرفة كانت عاليةً؛ وعليه خلَقَ هذا الأمر فجوةً جاهزةً تنتظر أيَّ تكيُّفٍ من شأنه أن يُقلِّل الجهدَ اللازم لتناسُخ الميمات. كان الإبداع أفضل تكيُّفٍ يلائم سدَّ تلك الفجوة، وبزيادة الإبداع أخذَت تكيُّفات أكثر في التطوُّر المشترك، كالزيادة في سعة الذاكرة (لتخزين ميماتٍ أكثر)، والدقة الأكبر في التحكُّم الحركي، وتوافُر بنياتٍ عقليةٍ مخصَّصةٍ للتعامُل مع اللغة. نتجت إثر ذلك زيادةٌ في السعة الميمية أيضًا (أيْ في مقدار المعلومات الميمية الممكن نقله من جيلٍ إلى ما يليه)، وكذلك أصبحَتِ الميمات أكثرَ تعقيدًا وعمقًا.
هذا هو سببُ تطوُّرِ نوعنا وكيفيته، وسببُ تطوُّره الحثيث في البداية. هيمنَتِ الميمات بالتدريج على سلوكيات أسلافنا. حدث التطوُّرُ الميمي، وسار ذلك — ككلِّ صورِ التطوُّر — في اتجاهِ مزيدٍ من التناسُخ الدقيق؛ ممَّا عنى مزيدًا من التحوُّل نحو معاداة العقلانية. كوَّن التطوُّرُ الميمي في مرحلةٍ ما مجتمعاتٍ استاتيكيةً؛ كانت قبائل على الأرجح؛ ونتيجةً لذلك لم تُنتِج كلُّ تلك الزيادات في الإبداع تياراتِ ابتكارٍ قطُّ. ظلَّ الابتكارُ بطيئًا لا يكاد يُستشعَر، حتى مع زيادة القدرة على القيام به على نحوٍ سريع.
تستمر الميمات في التطوُّر حتى في المجتمعات الاستاتيكية بسبب أخطاء التناسُخ غير الملحوظة؛ كلُّ ما هنالك أنها تتطوَّر تطوُّرًا أبطأ ممَّا يستطيع أيُّ شخصٍ أن يلاحظه؛ فالأخطاء غير الملحوظة لا يمكن قمعها. قد تتطوَّر الميمات بوجهٍ عامٍّ صوبَ مزيدٍ من دقةِ التناسُخ — كعادة التطوُّر — ومن ثَمَّ صوبَ زيادةِ استاتيكيةِ المجتمع.
في مثل ذلك المجتمع، تتضاءلُ المكانةُ الاجتماعية للمرء إثرَ مخالفته توقُّعات الناس حول السلوك القويم، بينما تعلو بالالتزام بتلك التوقعات. سيُحاصَر المرءُ من قِبَل أبوَيْه، وكهنته، ورؤسائه في العمل، وأزواجه المحتملين (أو مَن يتحكَّم في التزاوج في ذلك المجتمع أيًّا كان)، الذين انصاعوا بدورهم لرغبات المجتمع وتوقُّعاته إجمالًا. ستقرِّر آراءُ أولئك الناس مقدرةَ المرء على الحصول على الغذاء، وعلى البقاء، والتكاثُر؛ ومن ثَمَّ ستقرِّر مصيرَ جيناته.
لكن كيف يكتشف المرءُ رغباتِ الآخرين وتوقُّعاتهم؟ قد يُصدِرون الأوامرَ، لكنهم لا يستطيعون أبدًا تحديدَ كلِّ تفصيلةٍ من تفاصيل ما يتوقَّعون، دَعْ عنك تحديدَ كلِّ تفصيلةٍ في كيفية تنفيذ ذلك التوقُّع. عندما يُؤمَر المرءُ بفعلٍ ما (أو يُتوقَّع منه أمرٌ هو شريطة نَيْلِه استحقاقًا لطعامٍ أو تزاوُجٍ على سبيل المثال)، قد تثب إلى ذهنه ذكرى شخصٍ نالَ الاحترامَ بالفعل يفعل الأمرَ نفسَه، وقد يحاول تقليدَ ذلك الشخص والاقتداء به؛ ممَّا يقتضي فهْمَه مغزى تنفيذِ الأمر، ومحاولتَه تحقيقَ ذلك على أكمل وجه. قد ينال المرءُ استحسانَ رئيسه، أو كاهنه، أو أبيه، أو زوجه المحتمل عن طريق محاكاة معاييرهم لما يجب التطلُّع إليه، واتباعها؛ وقد ينال استحسانَ القبيلة برُمَّتها بنسخ فكرتها (أو أفكارِ نخبتِها المؤثرة) عمَّا هو قَيِّم، والتصرُّف طبقًا لذلك.
وعلى هذا، وممَّا يثير تناقُضًا، يتطلَّب البقاءُ في ظل المجتمع الاستاتيكي إبداعًا؛ إبداعًا يُمكِّن المرءَ من أن يكون «أقلَّ» ابتكارًا من الآخرين. على هذا النحو، شكَّلَتِ المجتمعاتُ البدائية الاستاتيكية — التي لم تنطوِ إلا على نزرٍ يسيرٍ من المعرفة، والتي حافظَتْ على وجودها عن طريق قمع الابتكار — بيئاتٍ حابَتْ بقوةٍ تطوُّرَ قدرةٍ متناميةٍ على الابتكار.
من منظورِ كائنات الفضاء الخارجي الافتراضية حين تُراقِبُ أسلافَنا، لا بد أن مجتمعًا من القردة المتقدِّمة التي لديها ميمات قبل بدء تطوُّر الإبداع، كان سيبدو ظاهريًّا شبيهًا بذلك الخاص بأحفاد هذه القردة بعد قفزتهم نحو العمومية؛ سيمتلك الأخيرُ ميماتٍ أكثرَ كثيرًا، لكنَّ الآلية التي تحافظ على استمرارِ تناسُخِ الميمات تناسُخًا دقيقًا كانت ستتغير تغيُّرًا جذريًّا. كانت حيوانات المجتمع الأقدم ستعتمد على فقرِ الإبداع لديها لنَسْخ ميماتها، أما البشر — بالرغم من وجودهم في مجتمعٍ استاتيكي — فقد اعتمدوا كامِلَ الاعتماد على إبداعهم.
ومثل كل القفزات نحو العمومية، تُثير الذهنَ الطريقةُ التي انبثقَتْ بها هذه القفزةُ من تغيُّراتٍ تدريجيةٍ، وتدعوه إلى التفكير. الإبداع خاصية «برمجية». كما قلتُ آنفًا، كان بإمكاننا أن نُشغِّلَ برامجَ الذكاء الاصطناعي على أجهزة الكمبيوتر المحمولة اليومَ إذا توافرَتْ لنا المعرفةُ بكيفية تصميم (أو تطوُّر) تلك البرامج، ومثل كل البرمجيات، ستتطلَّب هذه من الكمبيوتر مواصفاتٍ معينةً لمكوناته المادية لكي يتمكَّنَ من معالجة قدرِ البيانات المطلوب في المقدار الزمني المطلوب. ولقد تصادَفَ أنِ اتصف أولئك الذين تمتَّعوا بأفضليةٍ للتناسُخ الميمي قبل الإبداعي بتلك المواصفات لمكوناتهم المادية، التي تجعل الإبداعَ ممكنًا عمليًّا. لا بد أن سعة الذاكرة كانت أهمَّ تلك المواصفات؛ فكلما اتسعتْ ذاكرةُ المرء زادَتِ الميمات التي يمكن أن يُجسِّدَها، وزادَتْ دقةُ تجسيدِه لها، لكن ربما كانت هناك بعضُ القدرات المادية كالخلايا العصبية المرآتية لمحاكاة نطاقٍ من الحركات الأوَّلية، أكبر ممَّا تستطيع القردةُ العليا تقليدَه، كالأصوات الأوَّلية في اللغة. كان من الطبيعي أن تتطوَّرَ مساعدةُ المكونات المادية للقدرات اللغوية هذه في نفس الوقت مع زيادة السعة الميمية؛ لذا كان يوجد بالفعل مع تطوُّرِ الإبداع تطوُّرٌ مشتركٌ كبيرٌ بين الجينات والميمات؛ حيث طوَّرَتِ الجيناتُ مكوناتٍ ماديةً لدعم ميماتٍ أكثر وأفضل، وتطوَّرَتِ الميماتُ لتسيطر على ما كان من قبلُ وظائفَ جينيةً، مثل: اختيار الزوج، وأساليب تناوُل الطعام، والقتال، وغيرها؛ لذا فبرنامج الإبداع في تقديري ليس فطريًّا بالكامل، بل هو مزيجٌ من الجينات والميمات. كانت المكونات المادية للمخ البشري ستكون «قادرةً» على الإبداع (والتعقُّل، والوعي، وكل الأمور الأخرى) قبل أن يوجد أيُّ برنامجٍ إبداعيٍ بوقتٍ طويل، وبالنظر إلى تسلسُلٍ من الأمخاخ في تلك المدة، كان أقدم مَن «يقدِر» على دَعْم الإبداع منها يتطلَّب برمجةً عبقريةً كبيرةً للتوفيق بين المقدرة وبين المكونات المادية الملائمة بالكاد. ومع تحسُّن المكونات المادية، سَهُلت برمجةُ الإبداع، حتى باتَتْ بالسهولة الكافية التي تسمح للتطوُّر أن يقوم بها. لا نعلم «ما الذي» كان يزيد تدريجيًّا على طريق الاقتراب من المفسر العمومي؛ ولو علمناه، لَطوَّرناه غدًا.
مستقبل الإبداع
قبل أن تدرك بلاكمور وغيرها أهميةَ الميمات في التطوُّر البشري، قُدِّم العديدُ من مقترحات الأسباب الجذرية لِمَا دفَعَ سلالةً من القردة العليا الطبيعية المظهر لتصبح سريعًا نوعًا قادرًا على تفسير الكون والسيطرة عليه. اقترح البعض أن السببَ كان تكيُّفَ المشي بجسدٍ منتصِبٍ؛ لأنه قد حرَّرَ الطرفين الأماميين بإبهامَيْهما المتقابلتين لكي تتخصَّصَا في مناولة الأشياء؛ واقترح البعض أن التغيُّرَ المناخيَّ فضَّلَ التكيُّفاتِ التي جعلَتْ أسلافنا أكثر قدرةً على استغلال بيئاتٍ متنوعة، هذا بالإضافة إلى ما ذكرتُه آنفًا من أن الانتقاء الجنسي اعتُبِر دومًا تفسيرًا للتطوُّر السريع. توجد أيضًا «الفرضية المكيافيلية» التي تقول إن الذكاء البشري قد تطوَّرَ لكي يتنبَّأَ بسلوك الآخرين، ولكي يخدعهم. توجد أيضًا الفرضيةُ التي ترى أن الذكاء البشري هو نسخةٌ معدَّلةٌ من تكيُّفِ التقليد لدى القردة العليا، وهو ما لا يمكن أن يكون صحيحًا كما أوضحتُ آنفًا.
ومع ذلك، لا بد أن فكرة «آلة الميمات» لبلاكمور فكرة صحيحة، وهي تنصُّ على أن الأمخاخ البشرية تطوَّرَتْ لكي تنسخ الميمات؛ إذ «أيًّا كان» ما أطلق إشارةَ بدءِ التطوُّر من بين تلك الخواص، كان لزامًا على الإبداع أن يتطوَّرَ بدوره؛ ذلك أن كل الإنجازات العقلية على المستوى البشري تتطلَّب بالضرورة ميماتٍ بشريةَ النوع (تفسيرية)، وبحسب ما تنصُّ عليه القوانين المعرفية، فمثل هذه الميمات يستحيل بغير إبداع.
والإبداع ليس ضروريًّا لتناسُخ الميمات البشرية فحسب؛ إنه كافٍ ووافٍ له كذلك. يظل الصمُّ والأكِفَّاء والمشلولون قادرين على اكتساب الأفكار البشرية وخلقها بصورةٍ كاملةٍ بنحوٍ أو آخَر؛ وعلى هذا لم تكن تكيُّفاتُ المشيِ بجسدٍ منتصب، أو التحكُّم الحركي الدقيق، أو القدرة على تحليل الأصوات إلى كلماتٍ، أو أيٌّ من التكيُّفات الأخرى؛ لازمةً وظيفيًّا لكي يصبح البشرُ مبدعين، مع أنها قد تكون لعبت دورًا تاريخيًّا في خلق الظروف الملائمة للتطوُّر البشري؛ ولذلك فهي ليست مهمةً فلسفيًّا لفهْمِ ماهية البشر اليومَ، باعتبارهم مفسِّرين عموميين مبدعين.
كان الإبداع تحديدًا هو ما ميَّزَ بين ميمات القردة العليا — المكلفة من حيث الزمن والمجهود اللازمين لتناسخها، والمحدودة بطبيعتها من حيث القدرة على التعبير عن المعرفة — وبين الميمات البشرية، التي تتناقل بكفاءة، وتتمتع بعمومية قدرتها التعبيرية. كانت بداية الإبداع — على هذا النحو — هي بدايةَ اللانهاية. لا سبيلَ أمامنا اليومَ لكي نُحدِّدَ ما كانت عليه إمكانيةُ بدء تطوُّر الإبداع عند القردة آنذاك، لكن لا بد أنه ما إنْ بدأ حتى وقع عليه ضغطٌ تطوُّريٌّ لكي يستمرَّ، كما وقع على تكيُّفاتِ تيسيرٍ ميميٍّ أخرى لكي تعقبه. لا بد أن ذلك التزايد قد استمرَّ على مدار المجتمعات الاستاتيكية التي عاشت حقبة ما قبل التاريخ.
نستطيع أن ننظر الآن إلى رعب المجتمعات الاستاتيكية — الذي وصفتُه في الفصل السابق — على أنه مزحةٌ عمليةٌ ثقيلةٌ مارَسَها الكون على النوع البشري. تطوَّرَ الإبداع لدينا لكي يزيد حجمَ المعرفة التي يمكننا استخدامها، وكان يمكن أن يبيت قادرًا على الفور على تقديم سلسلةٍ لا نهائيةٍ من الابتكارات النافعة أيضًا، لولا أنه قد مُنِع من ذلك في المقام الأول من قِبَل عين المعرفة — الميمات — التي حفظها ذلك الإبداعُ نفسه. ضلَّلَتْ آليةٌ شريرةٌ خارقةٌ مساعِيَ الأفراد لتحسين أنفسهم ووَأَدَتْها في مهدها، بأنْ حوَّلَتْ مسارَ جهودهم إلى الاتجاه المعاكس تمامًا؛ لإحباط كلِّ محاولات التحسين، ولحبس كائناتٍ عاقلةٍ في حالةٍ من شظَفِ العيش والمعاناة إلى الأبد. وحده التنوير الذي أتى بعد ذلك بمئات آلاف الأعوام، وبعد عددٍ لا يعلمه أحدٌ من البدايات الخاطئة، قد يكون فَتح أخيرًا بابَ الهروب من الأبدية إلى اللانهاية.
أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها
- محاكاة: تقليد السلوك أو نسخه، وهو ما يختلف عن التناسخ الميمي البشري، الذي ينسخ المعرفة المسببة للسلوك.
معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل
-
تطوُّر الإبداع.
-
تغيير وظيفة الإبداع من وظيفته الأصلية كوسيلةٍ لحفظ الميمات بدقةٍ، إلى وظيفةِ خلْقِ معرفةٍ جديدة.
ملخص هذا الفصل
يبدو ظاهريًّا أن الإبداع لم يكن ذا نفعٍ أثناء تطوُّرِ البشر؛ لأن المعرفة كانت تنمو حينئذٍ على وتيرةٍ أبطأ كثيرًا ممَّا كان سيُعطي الأفرادَ الأكثر إبداعًا أيَّ ميزةٍ انتقائية؛ وهذا لغز. اللغز الثاني هو: كيف يمكن للميمات المعقَّدة أن توجد، في ظل عدم امتلاك الأمخاخِ لآلياتِ تحميلها من أمخاخٍ أخرى؟ لا تفرض الميمات المعقَّدة أفعالًا جسديةً بعينها، بل تفرض «قواعد». نستطيع أن نرى الأفعال، لكن لا نرى القواعد، فكيف ننسخها إذن؟ ننسخها بالإبداع. يحل هذا اللغزين؛ لأن نسْخَ الميمات دون تغييرٍ فيها هو الوظيفة التي تطوَّرَ الإبداعُ من أجلها، وهذا هو سبب وجود نوعنا.