أهمية عدم الاستدامة
تُشتهر جزيرة الفصح الواقعة في جنوب المحيط الهادي أساسًا — أو بالأحرى تُشتهر «فقط» — بالتماثيل الحجرية الضخمة التي شيَّدَها أهلُ الجزيرة منذ قرونٍ عديدة خلَتْ. لا يُعلَم الغرضُ من تلك التماثيل، ولكن يُعتقَد أنَّ لها ارتباطًا بديانةِ سلفٍ ما. ربما وصَلَ أولُ مستوطني الجزيرة إليها منذ القرن الخامس قبل الميلاد. طوَّرَ المستعمرون حضارةً معقَّدةً انتمَتْ إلى العصر الحجري، ولقد انهارَتْ بغتةً بعد أكثر من ألف عامٍ من تأسيسها. تذهب بعض الروايات إلى حدوث مجاعة، وحرب، وربما أكْل لحوم البشر. تقلَّصَ عددُ السكان إلى نسبةٍ ضئيلةٍ ممَّا كان عليه، واندثرَتْ ثقافتُهم.
تقول النظرية السائدة إن سكان جزيرة الفصح قد جلبوا الوبالَ على أنفسهم، وإنَّ بعضًا من ذلك يرجع إلى جزِّهم الغابةَ التي كانت تُغطِّي أغلبَ أرجاءِ الجزيرة في الأصل. لقد بدَّدوا أكثرَ أنواع الأشجار نفعًا بالكامل، وهذا ليس فعلًا حكيمًا عندما يعتمد مأواك على الأخشاب، أو إذا كانَتِ الأسماكُ جزءًا رئيسيًّا من غذائك، وكانت زوارقك وشباكك تُصنَع من الخشب. بالإضافة إلى ذلك لم تَسْلَم الجزيرةُ من تأثيراتٍ ثانويةٍ لاقتلاع الغابات ذاك مثل تجريف التربة، الذي عجَّلَ بدمار البيئة التي اعتمد عليها أهلُ الجزيرة.
يخالف بعضُ علماء الآثار هذه النظرية؛ فقد خلص تيري هَنت مثلًا إلى أن سكان الجزيرة وصلوا إليها في القرن الثالث عشر، وأن حضارتهم قد استمرَّتْ قائمةً طوال عملية إزالة الغابة (الذي عزاه إلى الفئرانِ، لا اقتلاعِ الأشجار منها)، إلى أنْ صرعَتْها الأوبئةُ الناجمة عن الاتصال بالأوروبيين. على أي حال، لا أبتغي مناقشةَ مدى دقةِ النظرية السائدة، بل أريد فقط أن أستخدِمَها باعتبارها مثالًا على مغالطةٍ شائعة؛ وأستخدمها كحجةٍ في مناظرةٍ حول أمورٍ أرحب أفقًا.
تفصل بين جزيرة الفصح وأقرب جزيرةٍ منها مسافةُ ألفَيْ كيلومتر، والأخيرة هي جزيرة بيتكيرن (التي لجأ إليها طاقمُ السفينة «بونتي» بعد اندلاعِ تمرُّدهم الشهير على متنها). الجزيرتان قَصِيَّتان عن سائر أنحاء العالم حتى بمقاييس يومنا هذا، ومع ذلك ارتحَلَ جاكوب برونوفسكي إلى جزيرة الفصح عام ١٩٧٢ ليُصوِّر جزءًا من مسلسله التليفزيوني الوثائقي الرائع «ارتقاء الإنسان»؛ سافَرَ برونوفسكي مع طاقم عمله على متن سفينةٍ من كاليفورنيا، قاطعًا مسافة ذهابٍ وإيابٍ تبلغ حوالي ١٤ ألف كيلومتر، وكانت صحته معتلةً، حتى إن أفراد طاقمه كانوا يحملونه حملًا إلى مواقع التصوير، لكنه ثابَرَ لأن تلك التماثيل المميزة كانت الخلفيةَ المثاليةَ التي تُمكِّنه من توصيل الرسالة الرئيسية لمسلسله — وهي أيضًا أحد موضوعات كتابه الذي حمل نفس العنوان — ومفادها أن حضارتنا تتفرَّد في التاريخ بقدرتها على إحراز التقدُّم. أراد برونوفسكي أن يُشِيد بقِيَمها وإنجازاتها، وأن يعزوَ الأخيرة إلى الأولى، وأن يقارن حضارتَنا ببديلٍ يتمثَّل في حضارة جزيرة الفصح القديمة.
كان مَن كُلِّف بتنفيذ مسلسل «ارتقاء الإنسان» هو عالمَ التاريخ الطبيعي ديفيد أتينبارا، الذي كان قائمًا على قناة التليفزيون البريطانية بي بي سي ٢ آنذاك، وبعد ربع قرن — حينما بات أتينبارا عميدَ صناعةِ أفلام التاريخ الطبيعي — قاد بنفسه طاقمَ تصويرٍ إلى جزيرة الفصح ليُصوِّرَ مسلسلًا آخَر تحت عنوان «حالة الكوكب»، واختار هو أيضًا تلك التماثيل ذات الوجوه الجهمة لتكون خلفيةً للمشهد الختامي. مع الأسف كانت رسالته نقيضًا شبهَ تامٍّ لرسالة برونوفسكي.
وعلى قدرٍ ما تشابَهَ هذان الإعلاميان العظيمان في انبهارهما بالمعرفة الجديدة، وبوضوح عرضهما، وبإنسانيتهما، برَزَ الاختلافُ الفلسفي بينهما على الفور من خلال موقفَيْهما المختلفين من تلك التماثيل. وصفها أتينبارا بأنها «منحوتات حجرية مدهشة … دليل ساطع على المهارات التقنية والفنية لدى مَن عاشوا هنا يومًا ما.» ولعلي أتساءل إذا ما كان أتينبارا قد انبهر إلى تلك الدرجة حقًّا بمهارات أهل الجزيرة، التي فاقتها مهاراتٌ شهدَتْها مجتمعاتٌ حجرية أخرى سبقتها بفتراتٍ طويلة. أعتقد أنه كان يتحدَّث بلباقةٍ فحسب؛ إذ تقتضي أصولُ اللياقة في ثقافتنا المبالغة في الثناء على أيِّ إنجازٍ لمجتمعٍ بدائي. لكن برونوفسكي رفض الانصياعَ لذلك العُرْف، ولاحَظَ قائلًا: «كثيرًا ما يتساءل الناسُ عن جزيرة الفصح، كيف وصل البشرُ إليها؟ لقد وصلوا إليها بالصدفة؛ ما من شكٍّ في هذا، لكن السؤال الحقيقي هو: لماذا لم يستطيعوا مغادرتها؟» وكان له أن يسأل أيضًا: لماذا لم يلحق بهم آخَرون لممارسة التجارة معهم (ازدهرَتِ التجارةُ بين البولينيزيين من غير سكان جزيرة الفصح)، أو لسرقتهم، أو للتعلُّم منهم؟ لأنهم لم يعلموا لأيٍّ من ذلك سبيلًا.
إن السؤال الحاسم فيما يخصُّ تلك التماثيل هو: لماذا نُحِتَتْ جميعها «متشابهةً»؟ تراها قابعةً حيث هي وكأنَّ كلًّا منها ديوجانس في برميله، شاخصةً نحو السماء بتجاويفِ عيونٍ فارغة، تُراقِبُ الشمسَ والنجومَ وهي تمر فوق رءوسها دون أن تحاول فهْمَها مطلقًا. عندما اكتشف الهولنديون هذه الجزيرة يومَ عيد الفصح عام ١٧٢٢ قالوا إن فيها ما يجعلها جنةً على الأرض، ولكن هذا غير صحيح؛ فجنة الأرض لا تتكوَّن من هذا التكرار الأجوف … تلك الوجوهُ الجامدة، تلك اللقطاتُ الجامدة في فيلمٍ دائرٍ لا تشي إلا بحضارة فشلَتْ في أن تأخذ أُولى خطواتها نحو الارتقاء نحو المعرفة العقلانية.
شُيِّدتْ كلُّ التماثيل متشابهةً لأن جزيرة الفصح كانت مجتمعًا استاتيكيًّا، لم يأخذ قطُّ خطوتَه الأولى نحو ارتقاء الإنسان، نحو بداية اللانهاية.
يوجد أقلُّ من نصف تماثيل الجزيرة البالغ عددها المئات، والتي شُيِّدت على مدار قرونٍ عدة، في مواقعها المستهدفة؛ أما البقية — ومنها أكبر التماثيل على الإطلاق — فنجدها في مراحلَ متفرِّقةٍ من استكمال النحت، ومن بينها عشرة بالمائة على الأقل في مواضع انتظارٍ على طرقٍ صُنِعت خصوصًا لهذا الغرض. من جديدٍ تتضارب تفسيراتُ هذه النقطة، ولكنْ طبقًا للنظرية السائدة، كان سببُ ذلك الزيادةَ الهائلة في معدل بناء التماثيل قبل أن يتوقَّف إلى الأبد. بعبارةٍ أخرى: لاحَتْ كارثةٌ ما في الأفق، فوجَّهَ سكانُ الجزيرة مزيدًا من الجهد لا لمعالجة المشكلة — لأنهم لم يعرفوا كيف يفعلون ذلك — بل لصنع تماثيل أكثر وأكبر لأسلافهم (وإنْ ندر جدًّا أنها كانت أفضل). ومِمَّ صنعوا تلك الطرق؟ من الأشجار!
بإمكاننا أن نطَّلِع على تحذيرٍ ممَّا قد يحمله لنا المستقبلُ بين طياته في بقعةٍ من أقصى بقاع الأرض … عندما استقرَّ البولينيزيون الأوائل هنا، وجدوا نموذجًا مصغَّرًا للعالم عامرًا بالموارد الوفيرة لدعم استدامة حياتهم، وعاشوا حياةً جيدةً …
هُجِرت الثقافة القديمة التي دعمت استدامةَ حياتهم، وتداعَتِ التماثيل، وما كان نموذجًا مصغَّرًا غنيًّا وخصبًا للعالم بات صحراءَ جرداء.
يمتدح أتينبارا الثقافةَ القديمةَ مرةً أخرى، فيقول إنها «دعمت استدامة حياة» سكان الجزيرة (كما أمنتها الموارد الوفيرة حتى فشل السكان في استخدامها «بما يدعم استدامة الحياة» على الجزيرة)، ويَستخدم تداعيَ التماثيل ليرمز إلى انهيار تلك الثقافة، كما لو كان يُحذِّر من كارثةٍ مستقبليةٍ قد تحيق بثقافتنا، ويكرِّر مقارَنةَ العالم المصغَّر بين مجتمع جزيرة الفصح القديم وتقنيتها من جانب، وتلك الخاصة بكوكبنا اليوم برُمَّته.
وعلى هذا تكون جزيرة فصح أتينبارا شكلًا مختلفًا من الأرض سفينة الفضاء؛ يتعاون في استدامة حياةِ البشر وبقائهم «كلٌّ من» المحيط الحيوي «الغني والخصب»، والمعرفة الثقافية لمجتمعٍ استاتيكي. يبدو تعبير «استدامة الحياة» غامضًا في هذا السياق؛ فقد يعني مدَّ الشخص بما يحتاجه، ولكنه قد يعني أيضًا منْعَ التغيير من الحدوث — وهو ما قد يتضادُّ مع المعنى الأول تقريبًا — لأن قمع التغيير لا يحتاجه البشرُ إلا لمامًا.
إن المعرفة التي تدعم استدامةَ الحياة البشرية في أكسفوردشير حاليًّا تدعمها فقط بالمعنى الأول؛ فهي لا تجعلنا نطبق نفسَ أسلوب المعيشة التقليدي في كل جيل، بل إنها في واقع الأمر تمنعنا من فعل ذلك. على سبيل المقارنة: إذا كان أسلوب معيشتك يجعلك فقط تُشيِّد تماثيلَ ضخمةً جديدة، يمكنك الاستمرار في المعيشة على هذا النحو تمامًا كما فعلتَ دومًا؛ هذه هي الاستدامة. أما إذا كان أسلوب معيشتك يقودك إلى اختراعِ أساليبِ زراعةٍ أكفأ، وإلى علاج مرضٍ فتَكَ بكثيرٍ من الأطفال، فهذه هي عدم الاستدامة. يزيد عددُ السكان لأنَّ مَن كان يهلك من الأطفال صار يستمر في العيش، وفي الوقت نفسه لم يَعُدِ العملُ في الحقول يتطلَّب إلا عددًا أقلَّ منهم؛ ومن ثَمَّ لم يَعُدْ من الممكن استمرارُ الحال كما كانت عليه. عليك أن تُجرِّبَ الحل، وتستعِدَّ لحلِّ المشكلات التي سيخلقها هذا الحل. إن الفضل في عدم الاستدامة هذا في احتضان جزيرة بريطانيا الآن — بمناخها الأقل حفاوةً بكثيرٍ من مناخ جزيرة الفصح شبه الاستوائي — يعود إلى حضارةٍ ذات كثافةٍ سكانيةٍ تبلغ على الأقل ثلاثةَ أضعاف ما بلغَتْه كثافةُ سكان جزيرة الفصح في أوج ذروتها، وبمستوى معيشةٍ أعلى بكثيرٍ. إن تلك الحضارة لديها معرفةٌ على نحوٍ كافٍ ومناسِبٍ بكيفية العيش على نحوٍ جيدٍ دون الغابات التي غطَّتْ في الماضي معظمَ بريطانيا.
دعمَتْ ثقافةُ سكانِ جزيرة الفصح استدامةَ حياتهم بالمعنيَيْن، وهذه سمة مميزة للمجتمعات الاستاتيكية الفعَّالة؛ إذ أمدَّتْهم تلك الثقافةُ بأسلوب حياة، ولكنها حظرت التغييرَ في الوقت نفسه؛ فقد دعمَتْ إصرارَهم على تجسيد نفس السلوكيات مرارًا وتكرارًا لأجيالٍ بعد أجيال، ودعمَتِ القِيَمَ التي حطَّتْ من شأن الغابات وجعلتها أدنى مكانةً من التماثيل، كما حافظَتِ الثقافةُ على هيئة تلك التماثيل ودعمَتْ مشروعًا عقيمًا لتشييد حتى المزيد منها.
وعلاوةً على ذلك، فإن جانبَ الحضارة الذي دعم استدامةَ حياتهم بمعنى توفيره لاحتياجاتهم لم يكن جانبًا مثيرًا بوجهٍ خاص. استطاعَتْ مجتمعاتٌ أخرى في العصر الحجري أن تصطاد السمكَ من البحر، وأن تحصد المحاصيلَ دون أن تُضيع جهودها في بناء آثارٍ لا نهايةَ لها. وإذا كانت النظرية السائدة صحيحة، تكون المجاعةُ قد حلَّتْ بسكان جزيرة الفصح «قبل» انهيار حضارتهم. بعبارةٍ أخرى: احتفظَتِ الحضارةُ ببراعةٍ مهلكةٍ في دعم نمطٍ سلوكيٍّ ثابت، حتى بعد أن توقَّفَتْ عن توفير مصدر الرزق بالنسبة إليهم؛ وهكذا ظلَّتْ قادرةً على منعهم من معالجة المشكلة بواسطة الوسيلتين الوحيدتين اللتين كان من شأنهما تحقيقُ أثرٍ ملموس، وهما: الفكر الإبداعي والابتكار. يرى أتينبارا أن تلك الثقافة كانت عاليةَ القيمة، وأن انهيارها كان بمنزلة مأساة؛ أما وجهة نظر برونوفسكي، فهي الأقرب إلى ما أراه، وهي أنه ما دامت تلك الثقافة لم تتحسَّنْ قطُّ، فإن «بقاءها» لقرونٍ عديدةٍ كان هو المأساة، شأنه شأن استمرار كافة المجتمعات الاستاتيكية.
لم يكن أتينبارا وحده مَن استقى مواعِظَ مروعةً من تاريخ جزيرة الفصح. باتَتِ الجزيرةُ نسخةً معروفة من استعارة الأرض سفينة الفضاء، لكن ما هو التشابُه الكامن وراء الموعظة بالضبط؟ إن فكرة اعتماد الحضارة على الإدارة الجيدة «للغابات» فكرة ضيقة المدى، لكن التأويل الأوسع بأن البقاء يعتمد على إدارة الموارد إدارةً جيدةً يكاد يفتقر إلى أي محتوًى: يمكن اعتبارُ «أيِّ» شيءٍ ماديٍّ «موردًا». وإذا كانَتِ المشكلاتُ قابلةً للحل، يكون سببُ سائر الكوارث على هذا النهج إذنْ هو «الإدارة السيئة للموارد». طُعِن القائد الروماني القديم يوليوس قيصر حتى الموت، وعلى هذا قد يلخِّص المرءُ خطَأَه في كونه «إدارة طائشة للحديد؛ ممَّا أدَّى إلى زيادة تراكُم الحديد في جسده». صحيح أنه لو كان نجح وقتئذٍ في إبعاد الحديد عن جسده، لَمَا هلك بالطريقة (نفسها) التي هلك بها، لكن هذا التفسير لسبب موته وكيفيته يغفل حقيقةَ الأمر إغفالًا سخيفًا. ليس السؤال المهم هو بأي سلاحٍ طُعِن قيصر، بل السؤال هو كيف وصلت الحالُ بالساسة الآخَرين ليتآمروا على إبعاده عن سدَّةِ الحكم باستخدام العنف، وكيف نجحوا في ذلك فعلًا. إن التحليل على طريقة بوبر قد يركِّز على حقيقةِ أن قيصر قد اتَّخَذَ خطواتٍ باطشةً لضمان عدم عزله من منصبه «دون» عنف؛ ثم يركِّز التحليلُ على حقيقةِ أنَّ عزْلَه لم يصحِّح وضْعَ ذلك الابتكار القامع للتقدُّم، بل رسَّخَه. ليتمكَّنَ المرءُ من فهم أحداثٍ كتلك، وما لها من دلالةٍ وأهميةٍ أعمَّ، يحتاج إلى فهم أبعادِ الموقف السياسية، والنفسية، والفلسفية، بل اللاهوتية أحيانًا أيضًا؛ لا سلاح الجريمة. ربما عانى سكانُ جزيرة الفصح من فشلٍ ذريعٍ في إدارة الغابات، وربما لا، لكن لو عانَوْا من ذلك حقًّا لَمَا كان يجب أن يدور التفسيرُ حول سبب ارتكابهم للأخطاء — حيث إن المشكلات حتميةُ الحدوث — بل حول سبب فشلِهم في تصحيح تلك الأخطاء.
ذكرت من قبلُ أن قوانين الطبيعة لا يمكن أن تفرض أيَّ قيدٍ على التقدُّم بأي حالٍ من الأحوال؛ ووفق الحجج التي سردتها في الفصلين الأول والثالث، يعد رفض ذلك بمنزلة استدعاءٍ للأشياء الخارقة والاعتماد عليها. بعبارةٍ أخرى: التقدُّم «مستدام»، إلى ما لا نهاية، ولكن فقط لمَن ينخرطون في لونٍ معيَّنٍ من الفكر والسلوك؛ بسمات التنوير من النوع الذي يحلُّ المشكلاتِ ويخلقها؛ ويتطلَّب ذلك تفاؤلًا نجده في المجتمع الديناميكي.
من تبعات التفاؤل أن يتوقَّعَ المرءُ التعلُّمَ من الفشل؛ فشلِه الخاص وفشلِ الآخرين، لكنَّ الاعتقادَ في وجود درسٍ لتستخلصه حضارتُنا من فشْلِ أهل جزيرة الفصح المزعوم في إدارة الغابات؛ هو اعتقادٌ لا يقوم على أيِّ تَشابُهٍ بنيويٍّ بين وضعهم ووضعنا؛ إذ إنهم فشلوا في إحراز أيِّ تقدُّمٍ في شتَّى مناحي الحياة تقريبًا. لا يتوقَّع أحدٌ أن يعتبر فشلَ أهلِ الجزيرة في الطبِّ مثلًا تفسيرًا للمصاعب التي نواجِهُها حيالَ معالجة مرض السرطان، أو فشلهم في فهم سماء الليل تفسيرًا لما تبدو عليه نظرية كمية للجاذبية من غموضٍ لنا. إن ما ارتكبوه من أخطاء، منهجيةً كانت أم موضوعيةً، لَهو بالغ البدائية بحيث لا يرقى لأنْ نتعلَّم منه، ولا تتعدَّى إدارتُهم الرعناءُ للغابات — إذا كانت تلك حقًّا ما دمَّرَ حضارتهم — صورةً أخرى من صور عجزهم عن حلِّ المشكلات على كافة الأصعدة. إن الأجدر بالدراسة هو نجاحاتهم الصغيرة العديدة لا إخفاقاتهم التقليدية؛ فإذا استطعنا اكتشافَ أحكامِ الخبرة التي اعتمدوا عليها (مثل: «الحرث بفرْشِ غطاءٍ من الحصى لحماية جذور المزروعات» للإعانة على إنماء المحاصيل في التربة الفقيرة)، فربما نجد أجزاءً قيِّمةً من معرفةٍ تاريخيةٍ وعِرقية، أو شيئًا آخَر ذا فائدةٍ عمليةٍ أكبر. لكنَّ استخلاصَ النتائج العامة من أحكام الخبرة أمرٌ غير ممكن، ولَكَمْ سيكون مدهشًا أن ترتبط تفاصيلُ مجتمعٍ بدائيٍّ استاتيكيٍّ بأي نحوٍ بالأخطار الخفية التي قد يواجهها مجتمعنا المفتوح، والديناميكي، والعلمي! دَعْ عنك أن تُقدِّم لنا أيَّ مقترحاتٍ بصدد التعامل مع تلك الأخطار.
لقد امتلكنا منذ قرونٍ المعرفةَ التي كان من الممكن أن تنقذ حضارةَ سكانِ جزيرة الفصح؛ إذ كان بوسع آلة سدس أن تتيح لهم استكشافَ المحيط المترامي حول جزيرتهم، والعودة إليها ببذور غاباتٍ وأفكارٍ جديدة. كان بوسع ثروةٍ أكبر وثقافةٍ مدوَّنةٍ أن تُعِينهم على التعافي بعد أن نزَلَ بهم وباءٌ فتَّاك، ولكن الأهم من كل هذا أنهم كانوا سيُمسون أقدرَ على حل كافة أنواع المشكلات إذا امتلكوا بعضًا ممَّا لدينا من أفكارٍ حول كيفية تحقيق ذلك، مثل مبادئ النظرة العلمية. إن مثل تلك المعرفة لم تكن لتضمن لهم رفاهيتهم، أكثر من ضمانها لرفاهيتنا؛ ومع ذلك فإن حقيقة فشل حضارتهم بسبب افتقارها إلى ما اكتشفناه نحن منذ سالفِ الزمان، لا يمكن أن يكون نذيرًا «بما يحمله لنا المستقبلُ بين طياته».
هذا النهج المضطلع بتفسير الأحداث الإنسانية، والقائم على المعرفة، ينبع من الحجج العامة لهذا الكتاب. نعلم أن إنجاز التغيرات والتحولات المادية التي لا تحظرها قوانينُ الفيزياء (مثل إعادة إنماء غابة) أمرٌ لا تعوزه سوى معرفةِ كيفيةِ القيام به؛ ونعلم أن الوصول إلى تلك المعرفة يتأتَّى من السعي للحصول على التفسيرات الجيدة، ونعلم أيضًا أنه لا يمكن أبدًا توقُّع ما ستئول إليه محاولةُ إحرازِ تقدُّمٍ من فشلٍ أو نجاح؛ قد نفهمها بعد انقضائها، ولكن لا يمكن استيعابها في صورة عوامل يمكن العلم بها سلفًا. وعلى هذا نفهم الآن لماذا لم ينجح الخيميائيون مطلقًا في تحقيق التحوُّل؛ إذ كان لزامًا عليهم أن يُلمُّوا بفهم بعض مبادئ علم الفيزياء النووية أولًا، لكن ذلك كان مستحيلًا آنذاك، أما التقدُّمُ الذي أحرزوه حقًّا — الذي مهَّدَ لبزوغ علم الكيمياء — فلقد اعتمد بقوةٍ على «فكر» الخيميائيين كلٍّ منهم على حدة، واعتمد بقدرٍ ثانويٍّ على عوامل مثل أنواع المواد الكيميائية المتاحة في متناول أيديهم. توجد الظروف المناسبة لحدوث بداية اللانهاية تقريبًا في كل مكانٍ يسكنه البشرُ على كوكب الأرض.
يتخذ عالم الجغرافيا الحيوية جارد دياموند الرأيَ المعاكس في كتابه «الأسلحة والجراثيم والصلب»؛ حيث يُقدِّم ما يدعوه «التفسير النهائي» لاختلاف التاريخ البشري اختلافًا كبيرًا في القارات المختلفة، ويسعى تحديدًا لتفسير سبب أنَّ مَن أبحَرَ ليغزوَ الأمريكتين وأستراليا وأفريقيا كان الأوروبيين وليس العكس. يرى دياموند أن الأمور النفسية والفلسفية والسياسية في الأحداث التاريخية ليست إلا أمواجًا عابرةً في نهر التاريخ الأكبر، الذي تشقُّ مجراه عوامِلُ مستقلةٌ عن الأفكار والقرارات البشرية، ويقول على وجه التحديد إن كلًّا من قارات كوكبنا كانَتْ تتمتَّع بمواردَ طبيعيةٍ تختلف عمَّا لغيرها — من جغرافيات، ونباتات، وحيوانات، وكائناتٍ دقيقةٍ مختلفة — وإن ذلك بصرف النظر عن التفاصيل هو ما يُفسِّر السوادَ الأعظمَ من التاريخ، بما فيه ما تكوَّنَ من أفكارٍ بشرية، وما اتُّخِذ من قرارات، وما سُنَّ من سياسات، وما ظهر من فلسفات، وما صُنِع من آلات، وهلمَّ جرًّا.
على سبيل المثال: جزءٌ من تفسيرِ دياموند عدمَ تطوير الأمريكتين حضارةً تقنيةً قبل قدوم الأوروبيين إليها يرجع إلى عدم وجود حيواناتٍ تصلح للتدجين كدواب الحمل والحرث.
•••
إن المَوطن الأصلي لحيوان اللاما هو أمريكا الجنوبية، ولقد استُخدِم كدابَّةٍ منذ عصور ما قبل التاريخ، ويفسِّر دياموند ذلك بأن اللاما لم تستوطن القارة بأكملها، بل وُجِدت في جبال الأنديز فقط. لماذا لم تنهض أيُّ حضارةٍ تقنيةٍ في جبال الأنديز؟ لماذا لَمْ تحظَ إمبراطورية الإنكا بتنوير؟ يرى دياموند أن بعض العوامل الجغرافية الحيوية الأخرى لم تكن مواتيةً لذلك.
إن نصف الكرة الأرضية الشرقي … امتلَكَ تقريبًا كافةَ الحيوانات القابلة للتدجين … أما النصف الغربي — أمريكا — فلم تكن به ثديياتٌ يمكن استئناسُها غير اللاما، التي لم توجد علاوةً على ذلك إلا في بقعةٍ واحدةٍ في أمريكا الجنوبية … وبسبب هذه الاختلافات في الظروف الطبيعية يسلك سكانُ كلا النصفين الآن طرقَ معيشةٍ مختلفةً …
لكن لماذا «ظلت» اللاما غيرَ موجودةٍ إلا في «بقعة واحدة في أمريكا الجنوبية»، إذا كان من الممكن الانتفاع بها في أماكنَ أخرى؟ لم يتطرَّق إنجلز إلى هذه المسألة، بينما أدرك دياموند أنها «تتطلَّب تفسيرًا». إن أيَّ سببٍ لعدم نقل اللاما إلى أماكنَ أخرى غيرِ متعلِّقٍ بالجغرافيا الحيوية سيجعل من «التفسير النهائي» للتاريخ لدياموند تفسيرًا باطلًا؛ ومن ثَمَّ اقترح دياموند تفسيرًا جغرافيًّا حيويًّا؛ فأشار إلى أن هناك منطقةً منخفضة، وحارة، وغيرَ مناسبةٍ للاما تفصل بين جبال الأنديز ومرتفعات أمريكا الوسطى؛ حيث كان من الممكن أن يُنتفَع من اللاما في الزراعة.
على أني أعود لأتساءل: «لماذا» أعاقَتْ مثل تلك المنطقة انتشارَ تدجين اللاما؟ لقد ارتحَلَ التجارُ بين الأمريكتين الجنوبية والوسطى لقرون؛ ربما برًّا وبالتأكيد بحرًا. أينما وجد تجارٌ رحالةً فليس من الضروري لفكرةٍ ما أن تكون نافعةً على طوال خط سيرٍ لا ينقطع حتى تكون قادرةً على الانتشار؛ فكما سبق أن أشرتُ في الفصل الحادي عشر، تملك المعرفة قدرةً فريدةً على استهدافِ هدفٍ ناءٍ وإلحاقِ التغيير الشامل به دون أن يكون لها أيُّ تأثيرٍ يُذكَر على المسافة الفاصلة بينها وبينه؛ إذنْ تُرَى ماذا تطلَّبَ الأمرُ من أولئك التجار ليصطحبوا معهم بعضَ حيوانات اللاما إلى الشمال لبيعها؟ تطلَّبَ الأمرُ الفكرةَ وحدها: قفزة الخيال نحو تخمين نفع الشيء في أماكنَ أخرى كنفعه في مكانه، والإقدام على المخاطرة. كان ذلك بالضبط ما فعله التجار البولينيزيون؛ لقد توسَّعوا في أسفارهم، وعبروا حاجزًا طبيعيًّا أكثر هولًا، حاملين بضائعَ من بينها دوابُّ. لماذا لم يَجُلْ ببال أيٍّ من تجار أمريكا الجنوبية أن يبيع حيواناتِ اللاما لسكان أمريكا الوسطى؟ قد لا نعلم أبدًا، لكن لماذا ينبغي لذلك أن يتعلَّق بالجغرافيا بوجهٍ أو آخَر؟ ربما كانوا متشبِّثين بأساليبهم أكثرَ من اللازم فحسب، ربما حُظِر استخدامُ الحيوانات استخدامًا مبتكرًا، وربما تمَّتْ محاولةُ ممارسة تلك التجارة، وصادَفَ أن فشلَتْ كل مرة لسوء الحظ فحسب. ولكن أيًّا ما كان السبب، لا يمكن أن تكون المنطقةُ الحارة هي ما وقفَتْ عائقًا ماديًّا؛ لأنه لم يكن الأمر كذلك.
تلك هي الاعتبارات الضيقة الأفق. يتبيَّن من نظرةٍ أكثرَ شمولًا أنَّ ما حدَّ من انتشار اللاما «لا يمكن إلا أن يكون» أفكار الناس ورؤيتهم؛ فلو كان لتجار الأنديز نفس رؤية التجار البولينيزيين وتطلُّعهم، لربما كانَتِ اللاما قد انتشرَتْ في الأمريكتين. لو لم يملك البولينيزيون القدماء تلك الرؤية، لَمَا أرسَوْا قواعدَ بولينيزيا قطُّ في المقام الأول، ولَباتَتِ التفسيرات الجغرافية الحيوية تشير إلى عائق المحيط الشاسع على أنه «التفسير النهائي» لذلك؛ ولو كان البولينيزيون أفضلَ في التجارة البعيدة المدى، لربما استطاعوا نقْلَ الخيول من قارة آسيا إلى جُزُرهم، ومنها إلى أمريكا الجنوبية، ولَكان ذلك إنجازًا فذًّا بما لا يزيد إبهارًا عن نقل حنبعل الأفيالَ عبر جبال الألب. ربما بات الأثينيون أولَ مَن يستوطن جزرَ المحيط الهادي لو كان التنوير الإغريقي القديم قد استمرَّ، وباتوا هم «البولينيزيين»؛ أو ربما لو كان سكان الأنديز الأوائل قد توصَّلوا إلى طريقةٍ لاستحداث سلالة لاما ضخمةٍ تُستخدَم في الحرب، وامتطَوْها خارجين بها للاستكشاف والغزو قبل أن تطرأ فكرةُ تدجين الخيول على أي بالٍ، لَأصبح علماءُ الجغرافيا الحيوية في أمريكا الجنوبية اليومَ يعزون استطاعةَ أسلافهم استعمارَ العالم إلى أن حيوان اللاما لم يوجد في أي قارةٍ غير قارتهم.
وبالإضافة إلى ذلك، لم تفتقر الأمريكتان دومًا إلى الحيوانات الكبيرة ذوات الأربع؛ فلقد انتشرت فيهما أنواعٌ متعددة من «الحيوانات الضخمة» لدى وصول البشر إليهما للمرة الأولى، ومنها الخيول البرية، وفيلة الماموث والماستودون، وغيرهما من فصيلة الفيليات. تذهب بعضُ النظريات إلى أن الإنسان طفق يصطاد تلك الحيوانات حتى انقرضت؛ تُرَى ماذا كان يمكن أن يحدث لو جالَتْ بخاطر أحد هؤلاء الصيادين فكرةٌ مختلفة، وهي أن يمتطيَ الحيوانَ قبل أن يقتله؟ في أجيالٍ لاحقة، كانت تلك الفكرة الجريئة ستستتبعها آثارٌ غير مباشرةٍ ربما تجلَّتْ في قبائلَ محارِبةٍ تمتطي الجيادَ وفيلة الماموث، وتتدفَّق لردِّ الغزو على العالم القديم عبر ألاسكا، وأمسى أحفادها اليومَ يعزون ذلك إلى التوزيع الجغرافي للحيوانات الضخمة. بيد أن السبب الحقيقي لم يزِدْ عن كونه فكرةً واحدةً في ذهن صيادٍ واحد.
كان عدد الناس في مجتمعات ما قبل التاريخ قليلًا، وكانت المعرفة ضيقة الأفق، وباعدت بين الأفكار الصانعة للتاريخ أعوامٌ عديدة؛ في تلك الأيام، اقتصر انتشارُ الميمات على حالةٍ واحدة، هي ملاحظة الشخص لغيره إذ يُجسِّد أحدَ الميمات على مقربةٍ منه، وحتى تلك الحالة لم تحدث إلا نادرًا (بسبب استاتيكية الثقافات وجمودها)؛ لذلك كان سلوك البشر آنذاك أشبهَ بسلوك الحيوانات الأخرى، وفسَّرت الجغرافيا الحيويةُ أغلبَ ما كان يحدث وقتئذٍ. ولكن بعض التطويرات كاللغة المجردة، والتفسير، ونمو الثروة بما يفوق الكفاف، والتجارة الطويلة المدى، كانت تحمل كلها إمكانيةَ القضاء على ضيق الأفق؛ ومن ثَمَّ إكساب الأفكار قوةً سببية. بحلول بداية تسجيل التاريخ، كان قد صار تاريخَ أفكارٍ أكثر منه تاريخَ أيِّ شيءٍ آخَر منذ أمدٍ بعيد، مع أن الأفكار ظلَّتْ حتى ذلك الحين مع الأسف من النوع المعادي للعقلانية والمعطِّل للقدرات الذاتية للناس. إن الإصرار على أن التفسيرات الجغرافية الحيوية تعلِّل السوادَ الأعظمَ من أحداث التاريخ اللاحق، أمرٌ يتطلَّب قدرًا هائلًا من التعصُّب لتلك الفكرة؛ فلماذا — مثلًا — انتصرتْ مجتمعاتُ أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية في الحرب الباردة، لا مجتمعات آسيا وأوروبا الشرقية؟ لن نستخلص لذلك سببًا بتحليل المناخ، ولا المعادن، ولا الطبيعة النباتية أو البرية، ولا الأمراض؛ إن التفسير هو أن خسارةَ الاتحادِ السوفييتي رجعَتْ إلى بطلان أيديولوجيته، ولا تستطيع كلُّ العوامل الجغرافية الحيوية تفسيرَ ما بطل فيها.
ومن الصدفة أن إحدى أهم أباطيل أيديولوجية الاتحاد السوفييتي هي نفس فكرة وجود تفسيرٍ نهائيٍّ للتاريخ قائمٍ على اعتباراتٍ وأسانيدَ آليةٍ غيرِ بشريةٍ كما اقترح كلٌّ من ماركس وإنجلز ودياموند. بصفةٍ عامةٍ لا تفتقر إعادةُ تأويل الشئون البشرية تأويلًا آليًّا إلى القوة التفسيرية فحسب، بل إنها ممارسة لا أخلاقية أيضًا؛ لأنها في واقع الأمر تُنكر إنسانيةَ أصحابِ الشأن، وتُهملهم هم وأفكارَهم معتبرةً إياهم مجردَ آثارٍ جانبيةٍ لطبيعة المكان. يقول دياموند إن السبب الرئيسي لتأليفه كتاب «الأسلحة، والجراثيم، والصلب» كان أن الناس لو لم يقتنعوا بأن النجاح النسبي للأوروبيين كان بفضل العوامل الجغرافية الحيوية، لَزاغَتْ أعينهم نحو التفسيرات «العنصرية» إلى الأبد. حسنًا؛ أثقُ بأن ذلك لن يحدث لقَّراء كتابي هذا! يبدو أن لدى دياموند القدرةَ على النظر إلى أثينا القديمة، أو عصر النهضة، أو التنوير — وهم جميعًا رموز السببية عبر قوة الأفكار المجردة — فلا يرى سبيلًا لإرجاع الفضل في تلك الأحداث إلى أفكارٍ وأشخاص، بل يسلِّم بأن البديل الوحيد لتفسير الأحداث تفسيرًا اختزاليًّا مجردًا للصفات الإنسانية؛ هو تفسير آخَر له نفس الصفات بالضبط.
في الواقع، لا علاقةَ للاختلاف بين إسبرطة وأثينا، أو بين سافونارولا ولورنزو دي ميديتشي، بجيناتهم؛ وينطبق الأمر نفسه على الاختلاف بين أهل جزيرة الفصح ورعايا الإمبراطورية البريطانية؛ كانوا جميعًا مفسرين وبنائين عموميين، لكن ما اختلف كان «أفكارهم». لم تتسبَّب طبيعةُ منطقةٍ ما في التنوير، بل الأكثر صحةً أن نقول إن الطبيعة المحيطة بنا الآن «نتاج» الأفكار. لم تنطوِ المناطق في العصور البدائية على أي أفكار، مع أنها كانت متخمةً بالدلائل؛ ومن ثَمَّ بالفرص. إن المعرفة وحدها هي التي تُحوِّل الأماكن إلى موارد، والبشر وحدهم هم صائغو المعرفة التفسيرية؛ ومن ثَمَّ هم مؤلِّفو ذلك السلوكِ البشريِّ الفريدِ المدعوِّ «التاريخ».
توفِّر المواردُ المادية كالنباتات والحيوانات والمعادن فرصًا؛ ممَّا قد يُلهِم بعض الأفكار، لكنها لا تستطيع ابتكارَ الأفكار ولا دفْعَ الناس نحو أفكارٍ بعينها، كما أنها تتسبَّب في مشكلات، لكنها لا تمنع الناسَ من إيجادِ سبلٍ لحلها. ربما محا حدثٌ طبيعيٌّ هائلٌ — كثورة بركان — حضارةً قديمةً عن بكرةِ أبيها بصرفِ النظر عن أفكار الضحايا، لكن مثل هذه الأحداث أمر استثنائي. عادةً، إذا نجا من الناس مَن يقدر على التفكير، فستوجد سبلٌ للتفكير تستطيع تحسينَ الموقف والاستمرار في تحسينه. وتوجد أيضًا للأسف — كما شرحتُ آنفًا — سبلُ تفكيرٍ تمنع كلَّ صور التحسُّن. نرى في ضوء هذا أن فرصَ التقدُّم وعوائقه الرئيسية تكوَّنت منذ مهْدِ الحضارات وما سبق ذلك من الأفكار وحدها؛ تلك هي محددات سواد التاريخ الأعظم. لا يقدر التوزيعُ الأوَّلي للخيول، أو حيوانات اللاما، أو الحجر الصوان، أو اليورانيوم أن يؤثِّر إلا على التفاصيل، وحتى حين يؤثِّر لا يقع تأثيرُه ذاك إلا «بعدَ» أن تطرأ فكرةٌ على ذهن إنسانٍ لكيفية استخدام تلك الأشياء. تُحدِّد آثارُ الأفكار والقرارات بالكامل تقريبًا أيُّ العوامل الجغرافية الحيوية ستمسُّ الفصلَ التاليَ من التاريخ البشري، وماهية تأثيرها عليه. لقد عكس كلٌّ من ماركس وإنجلز ودياموند الأمرَ تمامًا.
إن ألفَ عامٍ زمنٌ طويل لاستمرار بقاء مجتمعٍ استاتيكي. تلوح للخاطر الإمبراطوريات المركزية القديمة العظيمة التي استمرَّتْ لحقبٍ تجاوزَتِ الألف عام؛ على أن ذلك تأثير الانتقاء؛ فليس لدينا تأريخٌ قاطع عن أغلب المجتمعات الاستاتيكية، ولا بد أنها استمرَّتْ لمددٍ أقصر كثيرًا. يذهب التخمين الطبيعي إلى أن أغلبها اندثَرَ بجرد أن واجهت أول تحدٍّ تطلَّبَ منها خلْقَ نمطٍ سلوكيٍّ فيه تغيير ملموس. ربما أعطى موقعُ جزيرة الفصح المنعزل وطبيعةُ بيئتها الرحبة نسبيًّا لمجتمعها الاستاتيكي فترةَ حياةٍ أطولَ ممَّا كان سيحظى به لو أن الطبيعة والمجتمعات الأخرى كانوا قد عرضوه لاختبارات أكثر، بل إن حتى تلك العوامل لا تزال بشريةً إلى حدٍّ كبير، وليست جغرافيةً حيوية؛ فلو ألَمَّ أهل تلك الجزيرة بكيفية الإبحار في رحلاتٍ طويلةٍ لَمَا اتسمَتِ الجزيرة «بالانعزال» بالمعنى المقصود للكلمة. وبالمثل، يعتمد مدى «ترحاب» جزيرة الفصح على قدر المعرفة الذي يملكه سكانها؛ فلو كان قدرُ معرفةِ مستوطنيها بفنون البقاء وأساليبه يماثل القدرَ القليلَ الذي أعلمه أنا عن الموضوع، لَمَا استمروا أحياءً عليها لأكثرَّ من أسبوعٍ واحد. ومن ناحيةٍ أخرى، يحيا آلافُ الأشخاص على جزيرة الفصح اليومَ دون أن تتهدَّدهم المجاعة، ولا تظللهم غابة، مع أنهم يزرعون غابةً اليوم؛ لأنهم يريدون ذلك ويعرفون كيف يحقِّقونه.
لقد انهارتْ حضارةُ جزيرة الفصح بسبب أن المواقف البشرية لا تخلو من مشكلاتٍ جديدة، والمجتمعات الاستاتيكية تتزعزع بطبيعتها أمام المشكلات الجديدة. نهضَتِ الحضارات واندثرت في جزرٍ أخرى في جنوب المحيط الهادي، من بينها جزيرة بيتكيرن؛ كان ذلك جزءًا من السواد الأعظم للتاريخ في تلك المنطقة من العالم، ومن منظورٍ أكثر شمولًا يتضح أن السبب وراء ذلك كان ما واجهوا من مشكلاتٍ لم يكن لها قِبَلٌ بحلها. فشل أهل جزيرة الفصح في الإبحار بعيدًا عن جزيرتهم، تمامًا كما فشل الرومان في حل مشكلة كيفية تغيير الحكومات على نحوٍ سلمي. إذا كانتْ كارثةٌ قد حلَّتْ فيما تعلَّقَ بالتعامل مع الغابات في جزيرة الفصح، فلم تكن تلك ما بطش بأهل الجزيرة، بل أهلَكَهم عجْزُهم المزمِنُ عن حل المشكلة التي أثارها هذا الأمر، ولو لم تبدِّد تلك المشكلةُ حضارتَهم لَبدَّدَتْها أخرى بمرور الزمن؛ ذلك لأن استدامة حضارتهم على ذلك النحو الاستاتيكي المهووس بالتماثيل لم تكن خيارًا ممكنًا قطُّ، بل كان عليهم الاختيارُ من بين انهيارٍ مفاجئٍ ومؤلمٍ يدمِّر أغلب المعرفة القليلة التي امتلكوها، وبين التغيُّر البطيء نحو حالٍ أفضل؛ ولعل ذلك الأخير كان قد بات خيارهم فقط لو عرفوا كيف يحقِّقونه.
لا نعلم أي الأهوال اقترفَتْ حضارةُ جزيرة الفصح بما أعاق تحقيقَ التقدُّم، ولكن انهيارها — فيما يبدو — لم يلحق تحسينًا بأي شيء. في واقع الأمر، إن انهيار الاستبداد لم يكن يومًا كافيًا. تعتمد استدامة خلق المعرفة على وجود أنواعٍ معينةٍ من الأفكار، من بينها على وجه التحديد: التفاؤل، وتقليد نقد يقترن به. وبالإضافة إلى ذلك، يتحتم وجود مؤسسات اجتماعية وسياسية تطبِّق تلك التقاليدَ وتحميها؛ كوجود مجتمعٍ يسمح بدرجةٍ من المعارضة والحيد عن سننه، لا تمحق ممارساته التعليمية كلَّ جذوةٍ للإبداع. لا يتحقَّق أيٌّ من ذلك ببساطة، والحضارة الغربية اليومَ هي النتاج الحالي لتحقُّق كلِّ هذا؛ ولهذا فهي تمتلك كما أسلفت بالشرح ما يلزم لتفادي كارثةٍ من نوعِ ما أطاح بحضارة جزيرة الفصح قديمًا، فإذا كانت تواجه أزمةً حقيقيةً اليومَ، فلا بد أنها أزمةٌ من نوعٍ آخَر؛ وإذا انهارَتْ يومًا ما، فسيكون ذلك على نحوٍ مختلف، وإن احتاجَتْ إلى الإنقاذ فسيتحتم أن تناله بأساليبها الخاصة والفريدة.
•••
في عام ١٩٧١، حين كنتُ لا أزال طالبًا في المدرسة، حضرتُ محاضرةً مخصَّصةً لطلاب المرحلة الثانوية عنوانها «السكان والموارد والبيئة»، ألقاها عالم السكان باول إرليش؛ لا أذكر ما كنتُ أتوقَّعُه من المحاضرة — وأظن أني لم أكن أعرف شيئًا عن «البيئة» قبل تلك المحاضرة قطُّ — ولكن باغتني هولُ مقطوعةِ التشاؤم الشديد التي قدَّمها لنا إرليش؛ فوصف لجمهوره الشاب أي جحيم سنرثُه، وصفًا قاسيًا، ساردًا كيف أن ستة أنواعٍ من كوارثِ سوء إدارة الموارد تحيق بنا، وكيف أن بعضها بات محتومًا بالفعل، وأن مليارات البشر سيموتون جوعًا في غضون عشر سنوات أو عشرين على الأكثر، كما أن المواد الخام كانت على وشك النفاد؛ فحرب فيتنام — المستعرة آنذاك — قضَتْ على مخزون المنطقة من القصدير، والمطاط، والبترول. (لاحِظْ كيف أهمَلَ تفسيرُه الجغرافي الحيوي الاختلافاتِ السياسيةَ المسبِّبة للنزاع في حقيقة الأمر، غير مبالٍ بها.) رأى إرليش أن سائر أزمات المدن الأمريكية الداخلية في تلك الفترة — من ارتفاعٍ في معدلات الجريمة، والإصابة بالأمراض العقلية — جزءٌ من نفس الكارثة الكبرى، وربَطَها بالزيادة السكانية، والتلوُّث، واستهلاك الموارد غير المتجدِّدة استهلاكًا مفرطًا ومستهترًا؛ فقد أسرفنا في بناء محطات توليد الطاقة، والمصانع، والمناجم، والمزارع المتكاملة؛ وهذا نمو اقتصادي مبالَغ فيه، أكبر من قدرة كوكبنا على التحمُّل، والأسوأ من ذلك كله تزايُدُ أعدادِ البشر الذين هم المصدر الرئيسي لكل العلل الأخرى. كان إرليش يحذو بهذا النهج حذْوَ مالتوس، مكرِّرًا خطأه وهو: مقابلة «تنبُّؤاتٍ» بشأن عمليةٍ ما «بتكهُّناتٍ» أخرى، وعلى ذلك انتهَتْ حساباته إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتاج إلى خفض عدد سكانها إلى الربع — أيْ إلى ٥٠ مليون نسمة — إذا أرادَتْ أن تحافظ ولو على مستوى معيشة عام ١٩٧١، وهو ما كان بالطبع مستحيلًا في المدة الزمنية المتاحة. قال إرليش إن كوكب الأرض برُمَّته يعاني من زيادةٍ سكانيةٍ تبلغ سبعةَ أضعاف ما يجب أن يكون عليه تعدادُ سكانه؛ بل إن حتى أستراليا كانت على وشك الوصول إلى الحد الأقصى من عدد السكان الذي تستطيع مكابدته، وهكذا.
لم يكن لدينا كطلابٍ ما يكفي من علمٍ لنشكِّك فيما يخبرنا به الأستاذ عن المجال الذي يدرسه؛ بَيْدَ أن نقاشنا الذي تلا تلك المحاضرة لم يكن — لسببٍ ما — نقاشَ مجموعةِ طلابٍ انتُزِع منهم مستقبلُهم للتوِّ؛ لستُ أدري ما دارَ بذهن الآخرين، ولكني أستطيع أن أتذكَّرَ بالضبط لحظةَ أمسكتُ عن القلق. ألقَتْ فتاة سؤالًا على إرليش في نهاية المحاضرة، لا أذكر تفاصيله، ولكنه كان بصيغة «ماذا لو حللنا إحدى المشكلات التي وصفها إرليش في الأعوام القليلة القادمة؟ أَلَنْ يؤثِّر ذلك على النتيجة التي خلصت إليها؟» كانت إجابة إرليش قاطعةً: كيف يمكن أن نحلها؟ (لم تعلم الفتاة كيف.) وحتى إذا فعلنا، فكيف يزيد مفعولُ ذلك الحل عن مجرد تأجيل الكارثة تأجيلًا وجيزًا؟ وماذا سنفعل «حينئذٍ»؟
كَمْ أثلجَتْ تلك الإجابةُ صدري! ما إن أدركتُ أن تكهُّنات إرليش تتلخَّص في القول إننا «إذا توقَّفنا عن حل المشكلات، فقد حلَّ هلاكنا»، لم تَعُدْ صادمةً في نظري؛ إذ كيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؟ من الممكن جدًّا أن تكون تلك الفتاة قد توصَّلَتْ إلى حلٍّ لذات المشكلة التي سألَتْ عنها، «ثم» للمشكلة التي تلتها. على أي حالٍ لا بد أن أحدهم قد فعل ذلك لأن الكارثة المحدَّد موعدها في عام ١٩٩١ لم تتحقَّق حتى الآن، لا هي ولا غيرها ممَّا تنبَّأ به إرليش.
ظنَّ إرليش أنه كان يستقصي مواردَ الكوكب المادية ويتنبَّأ بمعدل نضوبها، ولكنه كان في الواقع يتكهَّن بمحتوى المعرفة المستقبلية، وبالإضافة إلى ذلك وبتصوُّرٍ لمستقبلٍ لا يستعين إلا بأفضل المعرفة المتاحة في عام ١٩٧١، كان إرليش يفترض ضمنيًّا أن ثلةً سريعةَ الاضمحلال من المشكلات فقط هي التي ستحظى بحلولٍ بعد ذلك الحين. وفضلًا عن هذا، فبصياغته المشكلات في صورة «استنزاف الموارد»، وتجاهله المستوى الإنساني للتفسير، غابَتْ عنه كلُّ المحددات المهمة لما كان يحاول أن يتنبَّأ، وهي: هل الأفراد والمؤسسات المسئولون أهلٌ لحلِّ المشكلات؟ وبصورةٍ أعمَّ، ما الذي «يلزم» توافُره لحلِّ المشكلات؟
بعد سنواتٍ قليلةٍ من تلك المحاضرة أوضح لي طالبُ دراساتٍ عليا في مجال العلوم البيئية — الجديد آنذاك — أن «التليفزيون الملوَّن» علامةٌ على الانهيار الوشيك ﻟ «مجتمعنا الاستهلاكي». لماذا؟ قال إنه — بادئ ذي بدء — بلا نفعٍ يُرجَى منه؛ إذ إن كل الوظائف المفيدة التي تُرجَى من التليفزيون يستطيع النوعُ الأحادي اللون تأديتها، وإن إضافة الألوان — بمضاعفة التكلفة عدة مرات — ليسَتْ سوى «استهلاك مظهري». كان هذا مصطلحًا صكَّه عالِمُ الاقتصاد ثورشتاين فيبلين عام ١٩٠٢، حتى قبل اختراع التليفزيون الأحادي اللون بعقدين؛ ومعناه الرغبة في امتلاك مقتنياتٍ جديدةٍ للتباهي بها أمام الجيران. قال زميلي إن من الممكن إثباتَ وصولنا إلى الحد المادي النهائي للاستهلاك المظهري عن طريق تحليل معوقات الموارد تحليلًا علميًّا. اعتمدَتْ أنابيبُ أشعة الكاثود في التليفزيونات الملونة على عنصر «اليوروبيوم» لإنتاج الفسفورات الحمراء على الشاشة، وهو أحد أكثر العناصر ندرةً في كوكب الأرض، فكان إجمالي مخزون اليوروبيوم المعروف كافيًا بالكاد لصنع بضع مئات ملايين أخرى من التليفزيونات الملونة لا أكثر، ثم تُصنَع تلك الأحادية اللون من جديدٍ، ولكن الأسوأ من ذلك ما يعنيه هذا المصير؛ فمنذ تلك اللحظة سيصير هناك نوعان من البشر: مَن يملكون تليفزيوناتٍ ملوَّنةً ومَن لا يملكون، كما ستنطبق هذه الحال على كافةِ ما يُستهلَك؛ وستقصم العالمَ فجوةٌ طبقيةٌ دائمة؛ حيث يكنز الصفوةُ المواردَ، ويَحْيَوْن حياةً مبهرجةً متكبرة، بينما يكدح كلُّ مَن عداهم في سخطٍ شديد؛ ما يدعم استمرارَ تلك الحالة الوهمية حتى انقضاء أعوامها الأخيرة، وهكذا يستمر الأمر، كابوسًا من بعد كابوسٍ.
سألتُ زميلي كيف يعلم أن مصدرًا جديدًا لليوروبيوم لن يُكتشَف، فسألني بدوره من أين لي أن أعلم العكس. وحتى لو اكتُشِف ذلك المصدر، فماذا سنفعل بعدئذٍ؟ سألتُه كيف يوقن أن أنابيب أشعة الكاثود الملونة لا يمكن صنعها دون اليوروبيوم، فأكَّدَ لي أن ذلك مستحيل، بل إن وجود ذلك العنصر الوحيد الذي تتوافر فيه كافةُ الخصائص الضرورية بمنزلة معجزة. على كل حال: لماذا يتعيَّن على الطبيعة أن توفِّر عناصرَ ذات خصائص توائِم رفاهتنا؟
اضطُررتُ إلى إقرار تلك النقطة. إن العناصر الموجودة ليست بتلك الكثرة، وليس لكلٍّ منها سوى عددٍ ضئيلٍ من مستويات الطاقة الممكن استخدامها لإطلاق ضوء، ولقد خضعَتْ جميعها بلا شكٍّ لتقييم علماء الفيزياء. إذا كانتْ محصلةُ قوله أنه ليس ثَمَّةَ بديلٌ لليوروبيوم لصناعة التليفزيونات الملونة، إذنْ فلا بديل.
غير أن شيئًا أصابني بحيرةٍ بالغةٍ بخصوص «معجزة» الفسفور الأحمر. إذا كانت الطبيعةُ لا توفِّر سوى مستويَيْ طاقةٍ مناسبين فحسب، فلِمَ عساها توفِّر «ولو حتى» واحدًا فقط في المقام الأول؟ لم أكن أعلم شيئًا حينها عن إشكالية الضبط الدقيق (التي كانت حديثةً آنذاك)، لكن ذلك كان محيِّرًا لسببٍ مماثِل. من الطبيعي أن يرغب الناسُ في أمرٍ كبث صورٍ دقيقةٍ بثًّا مباشِرًا، تمامًا كما يرغبون في التنقُّل السريع، وهو أمر لم يكن ليثير الحيرةَ لو كانت قوانينُ الفيزياء تحظره كما تحظر التنقُّلَ بسرعةٍ تفوق سرعةَ الضوء، أو كانت لا تسمح به إلا إذا امتلك المرءُ المعرفةَ اللازمة؛ أما أن «تسمح به فقط»، فتلك مصادفة خاصة بالضبط الدقيق. لمَ تضع قوانينُ الفيزياء حدودًا تقترب كلَّ هذا القُرْب من نقطةٍ يصادف أنها مهمة للتكنولوجيا البشرية؟ سيكون هذا وكأنَّ مركزَ كوكبِ الأرض قد تبيَّنَ أنه على بُعْد كيلومتراتٍ قليلةٍ من مركز الكون؛ بَدَا ذلك منتهِكًا لمبدأ العادية.
زاد من حيرتي أن زميلي كان يزعم أن ثَمَّةَ مصادفاتٍ «عديدةً» أخرى مثل تلك، ما يماثل إشكاليةَ الضبط الدقيق الحقيقية. كان جلُّ مرامِه أن مشكلة التليفزيون الملوَّن حالةٌ وحيدةٌ فقط ممثِّلةٌ لظاهرةٍ تحدث في مناحٍ تكنولوجيةٍ عديدةٍ في آنٍ واحد؛ لقد بدأ الوصول إلى الحدود القصوى؛ فكما نُفني آخِرَ مخزونِ أكثر عناصر كوكب الأرض الشحيحة ندرةً من أجل أن نشاهد مسلسلاتِ التليفزيون بالألوان، كان كلُّ ما يبدو وكأنه تقدُّمٌ في حقيقته ليس إلا تهافُتًا جنونيًّا نحو استغلالِ آخِر الموارد الباقية على الكوكب. كانت سبعينيات القرن العشرين في رأيه لحظةً فريدةً ومريعةً في التاريخ.
كان زميلي محقًّا بصدد أمرٍ وحيد، وهو أنه لم يُكتشَف للفسفور الأحمر بديلٌ حتى يومنا هذا، ومع ذلك أرى أمامي أثناء كتابة هذا الفصل شاشةَ كمبيوتر رائعةً ملوَّنةً لا تحتوي على ذرة يوروبيوم واحدة، وبكسلاتها عبارة عن بلورات سائلة تتكوَّن بالكامل من عناصر شائعة، ولا تحتاج إلى أنبوب أشعة كاثود، ولا يهم إنْ كانت تحتاج إلى اليوروبيوم؛ فلقد تمَّ استخراجُ ما يكفي منه لإمداد كلِّ إنسان على كوكب الأرض بما يكفيه من شاشاتٍ تحتاج إلى هذا العنصر، وكَمُّ المخزونِ المعلوم منه يبلغ أضعافًا مضاعَفةً من هذه الكمية.
وحتى عندما كان زميلي المتشائم يرى تكنولوجيا التليفزيون الملوَّن بصفتها تقنيةً عديمةَ الفائدة ومحتومةَ الزوال، كان المتفائلون من الناس يكتشفون أساليبَ جديدةً لتحقيق هذه التكنولوجيا، واستخداماتٍ جديدةً لها؛ استخداماتٍ حسِبَ أنه قد استبعَدَها بأنْ فكَّرَ لخمس دقائقَ في قدرةِ التليفزيونات الملونة على أداء وظيفة نظيراتها الأحادية اللون الموجودة بالفعل. ولكن البارز في الأمر — فيما أرى — ليس التكهُّنَ الفاشلَ والمغالطةَ الكامنةَ فيه، ولا الشعورَ بالارتياح لكون الكابوسِ لم يتحقَّق قطُّ، بل هو التناقض بين مفهومين مختلفين حول كُنْه «الناس»؛ فيرى المفهوم التشاؤمي أنهم سفهاء مبددون؛ إذ يستولون على الموارد الثمينة ويحوِّلونها بتهوُّرٍ إلى صورٍ ملونةٍ عديمةِ النفع. إن هذا «صحيح» في المجتمعات الاستاتيكية: كانت التماثيل التي أشرنا إليها هي بالضبط ما ظنه زميلي في التليفزيونات الملونة؛ ولهذا تصير مقارنةُ مجتمعنا ﺑ «الثقافة القديمة» لجزيرة الفصح خطأً تامًّا. أما المفهوم التفاؤلي — ذلك الذي صانَتْه مجرياتُ الأمور دون توقُّعٍ سابقٍ — فيرى أن الناس يحلُّون المشكلات؛ فهم مبتكرون للحل غير المستدام؛ ومن ثَمَّ للمشكلة التي تليه. في المفهوم التشاؤمي تقع تلك القدرةُ المميزة للبشر محلَّ الداءِ الذي دواؤه الاستدامة، أما في المفهوم التفاؤلي فالاستدامة هي الداء والناس لها دواء.
منذ ذاك الحين قامت صناعات جديدة بالكامل على امتطاء موجات ابتكارٍ هائلة، وفي كثيرٍ منها — بدءًا من التصوير الطبي إلى ألعاب الفيديو، إلى النشر المكتبي، إلى الأعمال الوثائقية عن الطبيعة كمسلسل أتينبارا — أثبَتَ التليفزيون الملون أنه ذو نفعٍ عظيمٍ بالرغم من كل شيء. وبالإضافة إلى ذلك، انتهى الأمر إلى أبعد ما يكون عن انبثاقِ فجوةٍ طبقيةٍ دائمةٍ بين أصحاب التليفزيونات الملونة وغيرهم من أصحاب التليفزيونات الأحادية اللون؛ فالأخيرة باتت منقرضةً فعليًّا، شأنها شأن التليفزيونات المعتمِدة على أشعة الكاثود. إن الشاشات الملونة من الرخص اليومَ حتى إنها تُوزَّع مجانًا مع المجلات كوسائل دعائية، وكل تلك التقنيات — البعيدة عن التمييز والتفرقة — تعتنق المساواةَ في جوهرها، وتمحو في طريقها عوائقَ عديدةً كانت مرسخةً من قبلُ فأعاقت وصولَ الناس إلى المعلومات، والرأي، والفن، والتعليم.
•••
في الغالب يحرص معارضو حجج مالتوس المتفائلون — وهم مُحِقُّون — على التأكيد على أن نقصَ المعرفة هو أصل كل الشرور، وعلى أن المشكلات قابلة للحل. توضِّح التكهُّنات بالكارثة التي سردتها حقيقة أن الفكر التكهُّني — مهما بَدَا مقبولًا منطقيًّا من منظورٍ استشرافي — مغلوطٌ ومتحيِّزٌ بطبيعته؛ ومع هذا، لا يختلف عن ذلك التوقُّع بأن المشكلات «دائمًا» ستُحَلُّ في توقيتٍ يسمح بدرْءِ الكوارث؛ فتلك هي نفس المغالطة. في واقع الأمر، إن الخطأ الأكبر والأخطر الذي ارتكبه المالتوسيون هو زعمهم امتلاكَ طريقةٍ ﻟ «درْءِ» كوارث تخصيص الموارد (وهي الاستدامة)؛ وبهذا فهم ينكرون أيضًا تلك الحقيقة العظمى التي اقترحتُ نقْشَها على الحجر، وهي: «المشكلات حتمية الحدوث».
قد يبقى حلٌّ ما خاويًا من المشكلات لمدة، وفي استخدامٍ محدودِ الأفق، ولكن لا توجد طريقة للمعرفة السابقة للمشكلات التي سيكون لها مثل هذا الحل؛ ومن ثَمَّ ليست ثَمَّةَ طريقة — سوى الجمود والركود — لتجنُّب المشكلات غير المتوقَّعة الناشئة من الحلول الجديدة، ولكن الجمود نفسه غير مستدام، كما شهد على ذلك كلُّ مجتمعٍ استاتيكيٍّ في التاريخ. لم يكن مالتوس ليدريَ أن عنصر اليورانيوم الغامض ذاك الذي اكتُشِف لتوِّه آنذاك سيصبح مع الوقت مرتبطًا ببقاء الحضارة واستمرارها، مثلما لم يكن لزميلي أن يعلم أن التليفزيونات الملونة — أثناء عمره — ستنقذ حياةَ الكثيرين كلَّ يوم.
وعلى هذا لا توجد استراتيجيةٌ لإدارة الموارد قادرةٌ على منع الكوارث، تمامًا كما لا يوجد نظامٌ سياسيٌّ لا يُنتج إلا قادةً صالحين وسياساتٍ جيدة، ولا منهجٌ علميٌّ لا يقدِّم إلا نظرياتٍ صحيحةً. لكن يوجد من الأفكار ما يتسبَّب في كوارثَ بلا ريب، ومن هذه — وأشهرها — فكرة أن المستقبل يمكن تخطيطه علميًّا. إن السياسة العقلانية الوحيدة — في الحالات الثلاث — هي الحكم على المؤسسات والخطط وأساليب المعيشة طبقًا لمدى قدرةِ كلٍّ منها على تصحيح الأخطاء: التخلص من السياسات والقادة السيئين، واستبدال التفسيرات السيئة، والتعافي من الكوارث.
على سبيل المثال: كان اكتشاف المضادات الحيوية أحدَ انتصارات التقدُّم في القرن العشرين، ولقد قضى على العديد من الأوبئة والأمراض المستوطنة التي سبَّبَتْ معاناةَ الكثيرين وهلاكَهم منذ القِدَم. ومع هذا أشار نقاد «ذلك التقدُّم المزعوم» منذ بدايته تقريبًا إلى أن ذلك الانتصار يمكن أن يكون مؤقتًا فحسب، بسبب تطوُّر كائناتٍ مُمْرضةٍ مقاومةٍ للمضادات الحيوية؛ كثيرًا ما يُستنَد إلى هذا باعتباره اتهامًا بالعجرفة — في سياقه العام — موجَّهًا إلى التنوير. إن خسارتنا معركةً واحدةً في حرب العلم هذه ضد البكتيريا وسلاحها — أيِ التطوُّر — (هكذا يمضي الجدل)، تعني حتميةَ هلاكنا؛ لأن «تقدُّمَنا المزعوم» — كالسفر الزهيد التكلفة بالطيران حول العالم، والتجارة العالمية، والمدن الضخمة — يجعلنا أكثر عرضةً من أي وقتٍ مضى لوباءٍ عالميٍّ قد يفوق الطاعونَ الأسودَ في دماره، بل قد يتسبَّب أيضًا في انقراض نوعنا.
لكن «كل» هذه الانتصارات مؤقتة؛ لذا فاستخدام هذه الحقيقة لإعادة تأويل التقدُّم بأنه «تقدُّم مزعوم»، نوعٌ من الفلسفة السيئة. إن حقيقةَ أن الاعتماد على مضاداتٍ حيويةٍ بعينها أمرٌ غير مستدام، هي اتهام صادر فقط من وجهة نظر شخصٍ يتوقَّع أسلوبَ معيشةٍ مستدامًا، ولكن ذلك في الواقع غير موجودٍ بالمرة؛ فالتقدُّم وحده هو المستدام.
لا يقدر المنظورُ التكهُّني إلا على تبيُّن ما قد يفعله المرءُ «لتأجيل» الكارثة؛ أيْ تحسين الاستدامة: بتقليص عدد السكان وتوزيعهم على أماكنَ متعدِّدة، وتصعيب التنقُّل، وقمْعِ الاتصال بين المناطق الجغرافية المختلفة. إن المجتمع الذي يُنفِّذ هذه الإجراءاتِ لن يُقدِّمَ المواردَ اللازمة للقيام بالبحث العلمي الذي قد يؤدِّي إلى اكتشاف مضاداتٍ حيويةٍ جديدة، وسيتمنَّى أفرادُه أن يحميَهم أسلوبُ معيشتِهم من المرض عوضًا عن ذلك. لكن لاحِظْ أن أسلوبَ المعيشة ذاك — حينما كان مُتَّبَعًا — لم يَحُلْ دونَ وقوع وباء الطاعون الأسود وانتشاره، كما أنه لا قِبَلَ له بمعالجة السرطان.
تفيد وسائلُ الوقاية والتأجيل، ولكنها لا يمكن أن تزيد عن كونها جزءًا ثانويًّا من استراتيجيةٍ للمستقبل قابلةٍ للتطبيق. المشكلاتُ حتميةُ الحدوث، وسوف يعتمد البقاءُ — سواءٌ أكان آجلًا أم عاجلًا — على القدرة على التعايش عندما تفشل وسائلُ الوقاية والتأجيل. من الواضح أن علينا العملَ صوبَ اكتشافِ طُرُقِ العلاج، ولكن ذلك يتسنَّى لنا فقط إزاء الأمراض التي نعلم بوجودها بالفعل؛ لذا نحتاج إلى المقدرة على التعامُل مع إخفاقاتٍ غيرِ متوقَّعةٍ ولا يمكن توقُّعُها، ونحتاج من أجل تحقيق هذه المقدرة مجتمعًا بحثيًّا كبيرًا ونابضًا بالحياة والنشاط، ومهتمًّا بالتفسير وحل المشكلات، ونحتاج كذلك إلى المال لتمويل هذا، وإلى المقدرة التكنولوجية من أجل تطبيق ما يُتوصَّل إليه من اكتشافات.
ينطبق هذا أيضًا على مشكلة التغيُّر المناخي، التي يدور حولها حاليًّا خلافٌ كبير. إننا نواجه إمكانيةَ تسبُّبِ ثاني أكسيد الكربون المنبعث من التكنولوجيا في ارتفاعِ متوسط درجة حرارة الغلاف الجوي، مؤدِّيًا إلى آثارٍ ضارةٍ كالجفاف، وارتفاع منسوبِ مياه البحر، وعرقلة الزراعة، وانقراض بعض الأنواع. ومن المتوقَّع أن تفوق هذه الآثارُ الضارة أيَّ آثارٍ مفيدة، كزيادةِ إنتاجية المحاصيل، والانتعاش العام للحياة النباتية، وتقليل عدد الأشخاص الذين يَلْقَون حتفهم إثرَ انخفاضِ درجة حرارة أجسامهم في الشتاء. تتوقَّفُ تريليوناتُ الدولارات — ومعها قدرٌ كبيرٌ من التعديلات التشريعية والمؤسسية التي تهدف إلى تقليص تلك الانبعاثات — على نتائج عملياتِ محاكاةٍ لمناخ الكوكب تُجرَى بواسطة أقوى أجهزة الكمبيوتر الفائقة، وعلى تدابيرِ وتوقُّعاتِ علماءِ الاقتصاد عمَّا تفيده عملياتُ الحوسبة تلك حول الاقتصاد في القرن القادم. في ضوء النقاش السابق، ينبغي لنا أن نلاحظ عدةَ أشياءَ حول الخلاف القائم والمشكلة التي ينطوي عليها ضمنًا.
بدايةً، لقد حالفَنا الحظ حتى الآن، بصرف النظر عن مدى دقة أنماط المناخ السائدة، فإن ممَّا يتَّسِق مع قوانين الفيزياء، ودون أي حاجةٍ إلى أجهزةِ كمبيوتر فائقةٍ أو نمذجةٍ معقَّدة، أن تلك الانبعاثات «لا بد» أن تؤدِّيَ «بمرور الوقت» إلى ارتفاعِ درجات الحرارة، الذي لا بد بمرور الوقت أن يكون ضارًّا. دَعْنا نتساءل إذنْ ماذا لو اختلفَتِ المعاملات المرتبطة بالموضوع قليلًا، وكانت لحظةُ حلولِ الكارثة مثلًا في عام ١٩٠٢ — زمن فيبلين — حينما كانت انبعاثاتُ غاز ثاني أكسيد الكربون تبلغ بالفعل أضعافًا مضاعفةً لما كانت عليه قبل التنوير؟ إذن لَكانت الكارثةُ قد وقعت قبل أن يستطيع أيُّ شخصٍ التنبُّؤَ بها، أو أن يعلم ما الذي كان يحدث، وكان منسوب مياه البحر سيرتفع، وكانت الزراعة ستُدمَّر، ثم سيبدأ الملايين يَلْقَون حتفَهم، ولا يزداد الأمرُ إلا سوءًا، ولَكان الشغلُ الشاغل للجميع هو التصرُّفَ الممكن حيالَ الكارثة، لا وسيلةَ منْعِها.
لم تكن لديهم أجهزةُ كمبيوتر فائقة. بسبب إخفاقات بابيج وسوء تقديرات الوسط العلمي — وربما كان السبب الأهم نقص الموارد — افتقروا إلى تقنية الحوسبة الآلية الضرورية. إن الآلاتِ الحاسبةَ الميكانيكيةَ وملء غُرَفٍ من المحاسبين لم تكن لتكفي، ولكن الأسوأ أنه لم يكن بينهم فيزيائيو غلافٍ جويٍّ قطُّ. في الواقع كان إجمالي عدد الفيزيائيين في كل التخصُّصات يمثِّلون نسبةً ضئيلةً من عددِ مَن يعملون اليومَ في مجال التغيُّر المناخي وحده. ارتأى المجتمعُ في ١٩٠٢ أن الفيزيائيين رفاهية، تمامًا مثل التليفزيونات الملونة في سبعينيات نفس القرن، لكنه كان سيحتاج إلى مزيدٍ من المعرفة العلمية لكي يتعافى من الكارثة، وكذلك إلى تكنولوجيا أفضل، وإلى المزيد من الأخيرة. أو بعبارةٍ أخرى: إلى مزيدٍ من المال. على سبيل المثال: كان من شأن بناء جدارٍ بحريٍّ لحماية ساحل جزيرةٍ منخفضةٍ عام ١٩٠٠ أن يتطلَّب قدرًا هائلًا من الموارد بحيث لا يستطيع تحمُّلَ نفقاتِه سوى الجُزُر ذات الكثافة العالية من العمالة الرخيصة أو الثروة الهائلة، كما في هولندا التي عاش أغلب سكانها بالفعل تحت مستوى البحر بفضل تقنية بناء الحواجز المائية.
إن هذا تحدٍّ هيِّنٌ على الأتْمتة، ولكن لم يستطع الناسُ آنذاك التعامُلَ معه على ذلك النحو؛ إذ افتقرَتْ كافةُ الآلات ذات الصلة إلى الطاقة الكافية، وكانت باهظةَ التكلفة، وغير كفء، ولا يمكن إنتاجُها بأعدادٍ كبيرة. كان مجهودٌ ضخمٌ قد بُذِل لشقِّ قناةِ بنما لكنه قد باء بالفشل، مزهِقًا أرواحَ آلافِ البشر ومبدِّدًا مبالغَ طائلةً من المال، بسبب التقنية الهزيلة وفقْرِ المعرفة العلمية؛ ولقد جمع بين هذه المشكلات نقْصُ ثروةِ العالم أجمع بمقاييس اليوم. إن مشروعًا للحماية الساحلية لا يستعصي على قدرات أيِّ دولةٍ ساحليةٍ اليومَ تقريبًا، إلى جانب أنه سيضيف عقودًا للوقت المتاح لإيجاد حلولٍ أخرى لمشكلة ارتفاع منسوب البحار.
إذا لم نجد تلك الحلول، فماذا عسانا نفعل «حينئذٍ»؟ إن هذا سؤال من نوعٍ مختلفٍ تمامًا، وهو ما يصل بي إلى ملاحظتي الثانية حول الخلاف القائم حول التغيُّر المناخي. بينما تنتج عملياتُ المحاكة التي تُجرِيها أجهزةُ الكمبيوتر الفائقة «تنبؤاتٍ» (مشروطةً)، تقدِّم التوقُّعاتُ الاقتصادية «تكهُّناتٍ» شبهَ بحتة؛ ذلك أننا نستطيع أن نتوقَّع أن يعتمد مستقبلُ استجابات الناس إلى المناخ اعتمادًا قويًّا على مدى نجاحهم في خلق معرفةٍ جديدةٍ لمعالجة المشكلات الناشئة؛ لذا ستؤدِّي المقارنة بين التنبؤات والتكهُّنات إلى نفس الخطأ القديم.
افترِضْ مرةً أخرى أن الكارثة كانت في طريقها للوقوع بالفعل إبَّان عام ١٩٠٢، وَلْنبحَثْ ما الذي كان سيدفع العلماءَ مثلًا لتوقُّعِ انبعاثاتِ ثاني أكسيد الكربون في القرن العشرين. كان باستطاعتهم أن يُقدِّروا الزيادةَ المتوقَّعةَ في تلك الانبعاثات استنادًا إلى الافتراض (المزعزع) القائل بأن استخدام الطاقة سيستمر في الزيادة بنفس معدل النمو المطرد، لكن ذلك التقدير لم يكن ليتضمَّن آثارَ الطاقة النووية؛ لا يمكنه ذلك لأن النشاطَ الإشعاعيَّ نفسه كان قد اكتُشِف لتوِّه آنذاك، ولم يُستخدَم لتوليد الطاقة إلا في منتصف القرن. لكن افترض أنهم استطاعوا توقُّعَ ذلك بطريقةٍ ما؛ فربما كانوا قد عدَّلوا توقُّعاتهم بصدد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وانتهَوْا إلى أنه يمكن اختزالها بسهولةٍ إلى مستوياتٍ أقلَّ مما هي عليه في عام ١٩٠٢ بحلول نهاية القرن؛ ولكن مجددًا سيكون ذلك فقط لأنهم لم يستطيعوا توقُّعَ الحملةِ التي ستُشَنُّ ضدَّ الطاقة النووية، والتي ستضع حدًّا لانتشارها (والمثير للسخرية أن تلك الحملة اندلعَتْ لأسبابٍ بيئية) قبل أن تصبح الطاقة النووية عامِلًا مؤثرًا في تقليل الانبعاثات، وهكذا. إن العامل الذي لا يمكن التنبُّؤُ به — أَلَا وهو الأفكار البشرية الجديدة، الجيد منها والرديء — يُثبِت مرارًا وتكرارًا أنه قادرٌ على تقويض نفع التنبؤ العلمي. ويصح القول — بنسبةٍ أكبر — على توقُّعات اليوم للقرن المقبل، وهذا ما يصل بي إلى ملاحظتي الثالثة على الخلاف القائم.
لا يُعلَم على وجه الدقة مدى حساسية درجة حرارة الغلاف الجوي لتركيز غاز ثاني أكسيد الكربون؛ أيْ مقدار زيادة التركيز الذي يرفع درجة الحرارة. هذا الرقم مهم سياسيًّا؛ لأنه يؤثِّر على مدى إلحاح المشكلة: تعني الحساسيةُ المرتفعة الإلحاحَ الشديدَ للمشكلة، بينما تعني الحساسية المنخفضة العكس. أدَّى هذا مع الأسف إلى هيمنة إشكاليةٍ جانبيةٍ على الجدال السياسي، وهي مدى التسبُّب البشري في زيادة درجات الحرارة حتى اليوم، وكأنَّ الناسَ مختلفون بشأن الكيفية المثلى للاستعداد لمواجهة الإعصار المُقبِل، بينما هم متفقون جميعًا على أن الأعاصير التي ينبغي الاستعدادُ لها هي فقط تلك التي يتسبَّب فيها الإنسانُ. يبدو أن كل الأطراف تفترض أنه إذا ما تبيَّنَ أن تذبذُبًا «عشوائيًّا» في درجات الحرارة على وشك أن يرفعَ منسوبَ البحر، ويعرقلَ الزراعةَ، ويمحوَ أنواعًا كاملةً من على وجه البسيطة، فإن أفضل خططنا هي ببساطةٍ أن نبتسم ونتحمَّلَ الأمرَ؛ أو أنه إذا ما تبيَّنَ أن ثلثَيِ الزيادة يعود لأنشطة بشرية، فليس علينا أن نكبح آثارَ الثلث الباقي.
إن محاولة التنبؤ بما سيكون عليه إجمالي تأثيرنا على البيئة في القرن المقبل، ثم تطويع كافة القرارات السياسية لتعزيز ذلك التنبُّؤ لا يمكن أن يفلحَا. لا يمكن أن نعلم النسبةَ اللازم خفض الانبعاثات إليها، ولا مدى ما سيحقِّق هذا من تأثيرٍ؛ لأننا لا يمكن أن نعلم اكتشافاتِ المستقبل التي ستجعل بعضَ إجراءاتنا اليومَ تبدو حكيمةً، وبعضَها ذا نتيجةٍ عكسية، وبعضَها عديمَ الفائدة، كما لا يمكن أن نعلم إلى أيِّ حدٍّ سيعضد الحظُّ جهودنا أو يعوقها. قد تساعدنا وسائلُ تأخير بدْءِ المشكلات المتوقَّعة، لكن لا يمكنها أن تحلَّ محلَّ زيادةِ قدرتنا على التدخُّل «بعد» أن تتغيَّرَ مجرياتُ الأحداث على نحوٍ لم نتوقَّعْه، بل يجب تطويعُها لهذا الهدف. إن لم يحدث ذلك فيما يخصُّ الاحترارَ الناشئ بفعل ثاني أكسيد الكربون، فسيحدث مع غيره.
إننا لم نتوقَّعْ كارثةَ الاحترار العالمي. أقول كارثةً لأن النظرية السائدة تفيد أن أفضل خياراتنا هو منع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بواسطة إنفاق مبالغَ طائلةٍ لمواجهة الأمر، وفرْضِ قيودٍ عالميةٍ بالغةٍ على السلوك البشري، وهذا في حد ذاته كارثةٌ بكل المقاييس؛ وأقول إنها غير متوقَّعةٍ لأننا ندرك الآن أنها كانت في طريقها للوقوع بالفعل عام ١٩٧١، عندما حضرتُ تلك المحاضرةَ. لقد أخبرنا إرليش أن الزراعة كانت على وشك التلَفِ بفعل التغيُّر المناخي المتسارِع الخطى، لكن التغيُّرَ الذي عناه كان «التبريدَ» العالمي، المتسبِّب فيه الضبابُ الدخاني وتكاثُفُ عوادم الطائرات النفاثة. كان بعض العلماء قد جادلوا بالفعل حول إمكانية حدوث احترارٍ تتسبَّبُ فيه الانبعاثاتُ الغازية، لكن إرليش رأى أن تلك لا تستحق الذكر، وأخبرنا أن الدليل على دعواه أنَّ اتجاهًا تبريديًّا عامًّا كان قد بدأ بالفعل، وأنه سيستمر مخلِّفًا آثارًا كارثية، مع أنه سوف ينقلب إلى العكس على المدى الطويل جدًّا بسبب «التلوُّث الحراري» الناتج من الصناعة (وهو تأثير أخفُّ وطأةً حاليًّا بمائة مرةٍ على الأقل من الاحترار العالمي الذي يشغل بالنا).
تقول الحكمة الدارجة إن الوقاية خير من العلاج، ولكنها لا تسري إلا عندما يعلم المرءُ من أي شيءٍ عليه أن يتوقَّى. لا يمكن لأي تدابيرَ وقائيةٍ أن تتجنَّبَ مشكلاتٍ لم نتوقَّعْها بعدُ، ولا حيلةَ للاستعداد لهذه إلا بأن نزيد قدرتنا على تصحيح الأوضاع عندما تسوء. إن محاولة الاعتماد بلا نهايةٍ على الحظ الحسن فحسب لتفادي النتائج السيئة تضمن لنا ببساطةٍ فشلًا محتومًا لا نملك معه وسائلَ للتعافي.
يعجُّ العالَمُ اليومَ بخططٍ لفرض تقليل الانبعاثات الغازية بأي ثمن، في حين أنه يجب أن يعجَّ أكثر كثيرًا بخططٍ لخفض درجات الحرارة، أو للتعايش مع درجات الحرارة العالية، وليس بأي ثمن، بل بكفاءةٍ وبتكلفةٍ زهيدة. توجد خطط كهذه بالفعل؛ منها على سبيل المثال: نزْعُ ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي بأساليبَ عدة، وتخليقُ سُحُبٍ فوق المحيطات لتعكس ضوءَ الشمس، وتشجيعُ الكائناتِ المائية على امتصاص المزيد من ثاني أكسيد الكربون. لكن هذه جهود بحثية ضئيلة للغاية حتى الآن، لا تُكرَّس لها أجهزةُ كمبيوتر فائقة، ولا اتفاقياتٌ عالمية، ولا مبالغُ طائلة؛ إنها ليست في محور الجهود البشرية المكرَّسة لمواجهة هذه المشكلة، أو المشكلات المماثِلة لها.
إن هذا أمر خطير؛ فلا يوجد حتى الآن مؤشِّرٌ جادٌّ لانتهاج أسلوبِ معيشةٍ مستدام (وهو ما سيعني في حقيقته تحقيقَ مظهرٍ من مظاهر الاستدامة فحسب)، ولكن حتى التطلُّع إلى ذلك أمر خطير؛ فما الذي سنطمح فيه؟ فرض صورتنا على عالم المستقبل، وإعادة إنتاج أسلوب معيشتنا ذاته بلا نهاية، ومعه مفاهيمنا المغلوطة وأخطاؤنا، بَيْدَ أننا إذا اخترنا الانطلاقَ في رحلةٍ مفتوحةٍ للابتكار والاستكشاف، تكون كلُّ خطوةٍ فيها غيرَ مستدامةٍ حتى تخلصها الخطوةُ التاليةُ لها — لو أصبح هذا توجُّهَ المجتمع وطموحَه — فسيبيت ارتقاءُ الإنسان، وبدايةُ اللانهاية، مستدامَيْن على الأقل، ما لم يبيتَا مضمونين بالفعل.
أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها
- ارتقاء الإنسان: بداية اللانهاية، وبالإضافة إلى ذلك، كانت حلقاتُ المسلسل الوثائقي «ارتقاء الإنسان» لجاكوب برونوفسكي أحدَ مصادر إلهام هذا الكتاب.
- استدامة: لهذا المصطلح معنيان يكادان يكونان متناقضين، ومع ذلك غالبًا ما يختلطان؛ الأول منْحُ الشخص ما يحتاجه، والثاني منْعُ الأشياء من أن تتغيَّرَ.
معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل
-
رفض (مظاهر) الاستدامة باعتبارها مطمحًا أو قيدًا على التخطيط.
ملخص هذا الفصل
تفشل المجتمعات الاستاتيكية بمرور الزمن لأن عجزها عن خلق المعرفة على نحوٍ سريعٍ لا بد أن يُحوِّل مشكلةً ما بمرور الوقت إلى كارثةٍ؛ وعلى هذا تكون المقارناتُ بين مثل هذه المجتمعات وبين حضارة الغرب التكنولوجية الحالية محضَ مغالطات. «التفسير النهائي» لماركس وإنجلز ودياموند للتواريخ المختلفة للمجتمعات المختلفة تفسيرٌ خاطئ: التاريخ تاريخ أفكار، لا آثار ميكانيكية خاصة بالجغرافيا الحيوية. واستراتيجيات منع الكوارث المتوقَّعة من الحدوث محتومٌ فشَلُها في النهاية، ولا يمكن الاعتماد عليها في مواجهة ما لا يمكن توقُّعه. نحتاج إلى التقدُّم السريع في العلم والتكنولوجيا، وإلى أكبر قدرٍ ممكنٍ من الموارد المادية من أجل الاستعداد لهذا الأمر غير المتوقَّع.