الشرارة
لم تتَّسِم معظم التفسيرات القديمة للواقع فيما يتجاوز التجارب اليومية المعتادة بخطئها فحسب، وإنما أيضًا بِسِمَةٍ تجعلها تختلف جذريًّا عن تفسيراتنا اليومَ، وهي أنها كانت تفسيراتٍ «بشريةَ التمركُزِ»؛ إذ كانت تتمحور حول البشر، أو «الكيانات الذكية» بالمعنى الأعم؛ أيِ الكيانات ذات النوايا والأفكار الشبيهة بالأفكار البشرية، ومنها مَن يمتلك قوةً وقدرةً خارقةً للطبيعة مثل الآلهة والأرواح؛ لذا استطاع القدماء الربطَ بين حدوث الشتاء وحزن أحد الأفراد، وبين الحصاد وكرم غيره، وبين الكوارث الطبيعية وغضبِ ثالث، وهكذا. دارت تلك التفسيرات في الغالب حول اهتمام كياناتٍ كونيةٍ مهمةٍ بأحوال البشر وما يفعلون، وحول نواياهم تجاه البشر، وهو ما منح الإنسان بدوره أهميةً كونية، ثم أتَتْ نظريةُ مركزيةِ الأرضِ ووضعَتِ البشر في مركز العالم المادي بالكون. تسبَّبَ هذان النوعان من «مركزية البشر» — التفسيرية والهندسية الرياضية — في جعْل كلٍّ منهما قابلًا للتصديق أكثر؛ ومن ثَمَّ اتسم الفكر فيما قبل التنوير بالتمركُز حول الإنسان بقدرٍ أكبر مما يمكننا تخيُّله اليومَ.
كان علم الهندسة الرياضية نفسه من أهم الاستثناءات في ذلك السياق، وبخاصةٍ النظام الذي طوَّرَه عالم الرياضيات الإغريقي إقليدس، والذي صارتْ مسلَّماته وأساليب تفكيره عن الكيانات غير البشرية، مثل النقاط والخطوط، فيما بعدُ مصدرَ إلهامٍ للعديد من روَّاد التنوير. لكن علم الهندسة الرياضية قبل فترة التنوير لم يكن له سوى تأثيرٍ ضئيلٍ على الآراء السائدة عن العالم؛ فمثلًا كان أغلب علماء الفلك مُنجِّمين أيضًا؛ فرغم استخدامهم لعلم الهندسة الرياضية المعقد في عملهم، فإنهم آمنوا بقدرة النجوم على التنبؤ بالأحداث السياسية والشخصية على الأرض.
قبل اكتشاف أي شيءٍ عن طريقة سَيْرِ العالم، قد تكون محاولةُ تفسيرِ الظواهر الطبيعية باعتبارها أفعالًا وأفكارًا مقصودةً شبيهةً بتلك الخاصة بالبشر؛ أمرًا منطقيًّا؛ فرغم كل شيء، تلك هي الكيفية التي ما زلنا نُفسِّر بها الكثيرَ من تجاربنا الحياتية حتى يومنا هذا؛ فمثلًا: لو اختفَتْ جوهرةٌ من خزينةٍ موصدةٍ اختفاءً غامضًا، فإننا نلجأ إلى تفسيرٍ على مستوًى بشريٍّ مثل حدوث خطأٍ أو سرقة (أو خدعة سحرية، في ظروف معينة)، ولا نلجأ لقوانينَ فيزيائيةٍ جديدة. لكنَّ المنظورَ البشريَّ التمركُزِ لم يتمخَّض عنه قطُّ تفسيرات جيدة لأي شيءٍ أبعد من حيز الأمور البشرية، أما فيما يخص العالَمَ المادي ككلٍّ، فلقد أخفق إخفاقًا كبيرًا؛ فنحن نعلم الآن أن أنماط النجوم والكواكب في سماء لَيْلِنا ليس لها أيُّ أثرٍ على الأمور البشرية، كما نعلم أننا لسنا في مركز الكون، بل إنه بلا مركزٍ هندسيٍّ رياضيٍّ أصلًا؛ ونعلم أننا لا نهمُّ أبدًا أيًّا من تلك الكيانات الفيزيائية الفلكية العملاقة التي وصفتها، مع أن بعضها لعب دورًا مؤثرًا في ماضينا. إننا نصف ظاهرةً ما بأنها «مهمة» (أو «جوهرية») عندما تعجز نظرياتُنا الضيقة الأفق عن تفسيرها، أو عندما تظهر تفسيراتُ ظواهِرَ أخرى كثيرة؛ لذا قد يبدو أن الإنسان برغباته وأفعاله غير مهمٍّ بالمرة في الكون في مجمله.
نُبِذت أيضًا المفاهيمُ البشريةُ التمركُز الخاطئة في كل مجالات العلم الأساسية؛ فما لدينا من معرفةٍ في علم الفيزياء يُعبَّر عنه بالكامل من خلال كياناتٍ غير بشريةٍ تمامًا مثل نقاط إقليدس وخطوطه، ومثل الجسيمات الأولية والقوى والزمكان (وهو الفضاء الرباعي الأبعاد المتكوِّن من الأبعاد الثلاثة للمكان وبُعْدٍ رابعٍ للزمن)، ولا نفسر تأثيرَ كلٍّ منها على الآخَر من خلال النوايا والمشاعر، بل بالمعادلات الرياضية المعبِّرة عن قوانين الطبيعة. أما في علم الأحياء، فقد كان المعتقد السائد قديمًا أنه لا بد أن كيانًا خارقًا قد صمَّمَ الكائنات الحية، وأنه لا بد من أنها تحتوي على مكونٍ من نوعٍ خاص — مبدأ حيوي — يجعلها تتصرَّف وكأنَّ لها إرادةً كما يبدو عليها. ثم اكتشف علم الأحياء أساليبَ جديدةً للتفسير، وذلك بواسطة أشياءَ غيرِ بشريةٍ مثل التفاعلات الكيميائية والجينات والتطوُّر؛ ومن ثَمَّ فنحن نعلم الآن أن كل الكائنات الحية، بما فيها البشر، تتكوَّن من نفس العناصر التي تتكوَّن منها الصخور والنجوم، وأنها جميعًا تخضع لنفس القوانين، وأنها لم يصمِّمها أحد. نرى إذنْ أن العلم الحديث قد ابتعد تمامًا عن تفسير الظواهر الطبيعية باعتبارها أفكارَ ونوايا كياناتٍ غير مرئية، بل إنه يرى أن أفكارنا ونوايانا هي محصلاتُ عملياتٍ فيزيائيةٍ مجهريةٍ غير مرئية (وإن لم تكن غيرَ قابلة للرؤية) تحدث في عقولنا.
كان هذا النبذ للنظرياتِ البشريةِ التمركُز بالغَ النفع وعظيمَ الأهمية في التاريخ الأعم للفكر، حتى إن معاداةَ مركزيةِ البشرِ يتمُّ رفعها على نحوٍ متزايدٍ لتكون بمنزلة مبدأٍ عامٍّ — يُدعَى أحيانًا باسم «مبدأ العادية» — يرى أنه «لا يوجد شيء مهم أو مميَّز في الإنسان (فيما يخص المنظومة الأكبر للكون)»؛ أو كما قال الفيزيائي ستيفن هوكينج: البشر «ليسوا سوى غثاءٍ كيميائيٍّ على سطح كوكبٍ تقليدي، يدور حول نجمٍ تقليدي، على أطراف مجرة تقليدية.» وعبارة «فيما يخص المنظومة الأكبر للكون» ضرورية هنا؛ لأن من الواضح أن لهذا الغثاء الكيميائي أهميةً خاصةً طبقًا لقِيَمٍ يُطبِّقها بنفسه على ذاته، مثل القِيَم الأخلاقية. إلا أن مبدأ العادية يرى أن هذه القِيَم نفسَها بشريةُ التمركُز؛ فهي تفسِّر سلوكَ هذا الغثاء، الذي هو أصلًا غير ذي أهمية.
من السهل أن يخلط المرء بين أفكاره الغريبة بشأن بيئته المألوفة أو منظوره (مثل دَوران سماء الليل) من جهة، وبين السمات الموضوعية لما يلاحظه من جهةٍ أخرى، أو أن يُخطئ ما بين أحكام الخبرة (مثل التنبؤ بشروق الشمس يوميًّا) والقوانين العامة، وسأشير إلى تلك النوعية من الأخطاء بضيق الأفق.
تُعَدُّ الأخطاءُ البشريةُ التمركُزِ أمثلةً على ضيق الأفق، لكن ليس كل الأخطاء الضيقة الأفق بشريةَ التمركُز؛ فعلى سبيل المثال: التنبؤ بتزامُن الفصول في كل مكانٍ على الأرض هو خطأ ضيق الأفق، لكنه ليس بشريَّ التمركُز؛ لأنه لا يفسِّر تعاقُبَ الفصول على أساس الكيانات الذكية.
ومن الأفكار المؤثرة الأخرى التي تأمَّلتْ في حالة الإنسان فكرةٌ تُعطَى أحيانًا اسمًا ذا وقعٍ مؤثر، هو «الأرض سفينة الفضاء». تخيَّلْ «سفينة فضاء جيلية»؛ أي سفينة فضاء في رحلة طويلة جدًّا، حتى إن أجيالًا من المسافرين تُولَد وتفنى وهي على متن الرحلة، وتستهدف هذه الرحلة استعمارَ مجموعاتٍ شمسيةٍ أخرى. في تلك الفكرة، تكون تلك السفينة استعارةً ﻟ «المحيط الحيوي»؛ أيْ نظام كلِّ الكائنات الحية الموجودة على الأرض وما تسكنه من مناطق عليها، وركاب تلك السفينة هم البشر الذين يعيشون على الأرض. تتصوَّرُ تلك الرؤيةُ الكونية أن الكون خارجَ السفينة عدائيٌّ جدًّا، أما بداخلها فيوجد نظام معقَّد يدعم استمرارَ الحياة على نحوٍ كبيرٍ؛ لأنه قادر على توفير كلِّ ما يحتاجه الركاب لاستمرار حياتهم. والمحيطُ الحيوي قادر — كما هي الحال بالنسبة إلى سفينة الفضاء — على إعادة تصنيع كل مخلفاته، كما أنه يحقِّق الاكتفاءَ الذاتي الكامل باستخدامه لِمُفاعله النووي العملاق (الشمس).
وكما يبدو النظامُ الداعم لاستمرار الحياة داخلَ سفينة الفضاء وكأنه مُصمَّم للحفاظ على ركابها، يبدو الأمرُ نفسُه بالنسبة إلى المحيط الحيوي وكأنه يحمل «هيئةَ التصميم»؛ فهو يبدو مهيَّأً تمامًا للحفاظ علينا — بحسب الاستعارة — لأننا نحن تكيَّفنا معه بسبب عملية التطوُّر. ولكن قدرة المحيط الحيوي محدودة؛ فلو أثقلنا العبءَ عليه — سواءٌ أكان بزيادة تعدادنا أم باتخاذ أساليبِ حياةٍ تختلف كثيرًا عمَّا تطوَّرنا لنحياه (وهي الأساليب التي «صُمِّمَ» لدعمها) — لانهار. كما أننا لا نحصل على فرص ثانية، تمامًا مثل ركاب تلك السفينة؛ فإذا اتَّسمتْ أساليب معيشتنا بالإهمال، أو زاد عددنا عن المعقول، فسندمر النظامَ الداعمَ لحياتنا ولن يكون لدينا ملجأ آخَر.
اكتسب كلٌّ من مبدأ العادية واستعارة الأرض سفينة الفضاء قبولًا واسعًا بين أصحاب العقليات العلمية، لدرجة أنهما أصبحا في حكم البديهيات، مع أنهما يذهبان إلى رأيَيْن معاكسين إلى حدٍّ ما، على الأقل ظاهريًّا؛ فبينما يؤكِّد مبدأُ العادية على أن كوكب الأرض وما عليه من غثاءٍ كيميائيٍّ يتصفان بالتقليدية (أيْ إنه لا يوجد ما يميِّزهما عن غيرهما على أي نحو)، تؤكد استعارةُ الأرض سفينة الفضاء على عدم تقليدية الأرض وما عليها (من منطلق أن كلًّا منهما مناسبٌ للآخَر على نحوٍ فريد). لكن تتقارب الفكرتان بسهولةٍ حين تُفسَّران من منظورٍ فلسفيٍّ أشمل، وهو ما يحدث عادةً؛ فكلٌّ منهما ترى نفسها تصحِّح نفسَ المفاهيم الخاطئة الضيقة الأفق، التي تنصُّ على أن تجربة حياتنا على كوكب الأرض تمثِّل الكون، وأن كوكب الأرض نفسه كبير وثابت ودائم؛ فهما تؤكدان على صغره وزواله. كما أنهما تعارضان الغرورَ؛ حيث يعارض مبدأُ العادية غرورَ ما قبل التنوير، حين ظنَّ الإنسانُ أن له أهميةً ما في هذا العالم، وتعارِض استعارةُ الأرض سفينة الفضاء غرورَ التنوير حيث طمح الإنسانُ للتحكُّم في هذا العالم. نرى إذنْ أن لكلٍّ من الفكرتَيْن عنصرًا أخلاقيًّا، وهو أننا ينبغي ألَّا نعتبر أنفسنا مهمين، وينبغي ألَّا نتوقَّعَ أن يخضع العالم لتخريبنا فيه بلا نهاية.
وبهذا تخلق الفكرتان إطارَ عملٍ مفهوميًّا غنيًّا يُلخِّص رؤيةً عامةً كاملة، إلا أنهما — كما سأوضِّح لاحقًا — فكرتان خاطئتان تمامًا، حتى من المنظور الحقيقي المباشِر. بل إنهما فائقتا التضليل حتى من منظورٍ أعم؛ فلو كنتَ تبحث عن مبادئَ عامةٍ لتنقشها في الصخر وتُردِّدها كلَّ صباح قبل إفطارك، فمن الأفضل أن تكون هاتان الفكرتان هما ما تتبنَّاه من أفكارٍ لكن بعد نفْيِهما؛ أيْ أن تقول إن الحقيقة هي أن:
لنتأمَّلْ مقولةَ هوكينج مرةً أخرى. إننا حقًّا على كوكبٍ تقليدي (إلى حدٍّ ما)، يدور حول نجمٍ تقليديٍّ في مجرةٍ تقليدية، إلا أننا أبعد ما نكون عن التقليدية من حيث التشابُه مع مكونات الكون؛ فيُعتقَد أن ٨٠ بالمائة من تلك المكوناتِ «مادةٌ مظلمةٌ» غير مرئيةٍ لا يمكنها إطلاق الضوء أو امتصاصه. إننا نرصدها الآن فقط من خلال تأثيراتها غير المباشِرة الخاصة بالجاذبية على المجرات، أما ما بقي من مكونات، وهو ٢٠ بالمائة، فهو من نوع المادة التي نُلقِّبها عن ضيق أفق باسم «المادة العادية»، والتي تتميَّز بالوميض الدائم. إننا لا نعتقد عادةً أننا مُضيئون، وهو مفهوم مغلوط آخَر ينمُّ عن ضيقِ أفقٍ سببُه محدوديةُ حواسِّنا؛ إذ إن أجسامنا تُطلِق حرارةً، هي ضوء تحت أحمر، وضوءًا في المجال المرئي، لكنه خافت جدًّا بحيث لا يمكن لأعيُننا أن تلتقطه.
والتركيزات العالية من المادة مثل أجسادنا وكوكبنا والنجوم ليست تقليدية تمامًا أيضًا، مع أنها عديدة؛ فهي ظواهر متفرقة وغير معتادة. إن الكون في معظمه ما هو إلا فراغ (بالإضافة إلى الإشعاع والمادة المظلمة). أما المادة العادية، فهي مألوفة لنا لأننا مصنوعون منها، ولوجودنا بموقعٍ غير تقليديٍّ شديدِ القرب من تركيزاتٍ هائلةٍ منها.
بالإضافة إلى ذلك، نمثل نحن أنفسنا شكلًا غير شائعٍ من أشكال تلك المادة العادية، أما أكثر أشكالها شيوعًا، فهو البلازما (وهي ذرات تفكَّكتْ إلى مكوناتها المشحونة كهربيًّا)، التي تطلق بطبيعتها ضوءًا مرئيًّا ساطعًا لأنها موجودة في النجوم، وهي بالطبع ساخنة. أما نحن — الغثاء — فنطلق بالضرورة ضوءًا تحت أحمر؛ حيث إننا نحتوي على سوائلَ وكيماوياتٍ معقَّدةٍ لا يمكن أن توجد إلا في درجات حرارةٍ شديدة الانخفاض.
تتخلَّل الكونَ إشعاعاتٌ ميكرونية، وهي البقايا المتخلفة عن الانفجار العظيم؛ وتبلغ درجة حرارة هذا الإشعاع ٢٫٧ درجة كلفينية، أي ما يزيد بمقدار ٢٫٧ درجة عن أبرد درجة حرارةٍ ممكنةٍ على الإطلاق، وهي الصفر المطلق، الذي يقل بمقدار ٢٧۰ درجةً مئويةً عن درجة تجمُّد الماء. لا تستطيع سوى ظروفٍ محدودةٍ جدًّا أن تُحقِّق درجة حرارةٍ أبرد من الموجات الميكرونية هذه، ولا يوجد بالكون كلِّه ما تقل درجة حرارته عن درجةٍ كلفينيةٍ واحدة، إلا في معامل فيزياء معينةٍ على كوكب الأرض؛ حيث أمكن التوصُّل إلى درجةٍ أقل من واحد على مليار من درجةٍ كلفينيةٍ واحدة. ينطفئ وميض المادة العادية تمامًا في درجات الحرارة غير العادية هذه، أما ما نتج من «مادة عادية غير مضيئة» على كوكبنا، فهو مادة غريبة جدًّا على الكون بأكمله؛ ومن هنا قد تكون أظلم أماكن الكون وأكثرها برودةً بداخل ثلاجاتٍ صَنعها فيزيائيون، وهو أمر لا يمكن وصفه بالتقليدي بأي حال.
كيف يكون شكلُ مكانٍ تقليديٍّ في الكون؟ دعني أفترض أنك تقرأ هذا الكتاب على كوكب الأرض، فَلْتسافر بعين خيالك لبضع مئات الكيلومترات لأعلى. أنت الآن في بيئةٍ قريبةٍ أكثر من بيئة الفضاء، لكنك ما زلت تحصل على ضوئك وحرارتك من الشمس، ويشغل الغثاء والمواد الصُّلبة والسائلة الموجودة على كوكب الأرض نصفَ مجال رؤيتك. لا يمكن لمكانٍ تقليديٍّ أن يحتويَ على كل ذلك؛ فَلْتسافر إذنْ بضعة مليارات الكيلومترات أبعد في نفس الاتجاه. إنك الآن بعيد جدًّا بحيث تبدو لك الشمس مثل سائر النجوم، أنت الآن في مكانٍ أكثر برودةً وظلامًا وفراغًا، ولا غثاءَ من حولك، إلا أن المكان لا يزال غيرَ تقليديٍّ لأنك ما زلتَ في مجرة درب اللبانة، وأغلب الأماكن في الكون ليست في أي مجرةٍ أساسًا. لتستكمل الترحال إذنْ حتى تخرج من المجرة، أي لمسافةٍ تبعد حوالي مائة ألف سنةٍ ضوئيةٍ من الأرض. لن تستطيع أن ترى الأرض من هذه المسافة، حتى لو استخدمتَ أقوى تلسكوبٍ صنعه البشر حتى يومنا هذا، لكن مجرة درب اللبانة لا تزال بيِّنَةً في سمائك. عليك أن تتخيَّل نفسك في مكانٍ يبعد ألف مرةٍ عمَّا وصلتَ إليه في عمق الفضاء المجرِّي، لتصل إلى مكانٍ تقليديٍّ في الكون.
كيف يبدو ذلك المكان؟ تخيَّلْ لو قُسِّم الفضاء كله نظريًّا إلى مكعباتٍ، حجمُ كلٍّ منها يساوي مجموعتنا الشمسية؛ لو أنك تقوم برصد أيٍّ منها، فسترى السماءَ حالكة السواد، وسيكون أقرب النجوم لك من البُعد بحيث إنه لو انفجر باعتباره مستعرًا أعظم وأنت ناظر في اتجاهه تمامًا، لَمَا رأيت حتى شعاعًا واحدًا من نوره؛ هذا يصوِّر حجمَ الكون ومدى ظلمته. وهو بارد كذلك؛ فهو في درجة الحرارة تلك البالغة ٢٫٧ درجة كلفينية، القادرة على تجميد أي مادةٍ معروفةٍ باستثناء الهليوم. (يُعتقد أن الهليوم يظل في حالته السائلة حتى وصوله إلى الصفر المطلق إلا إذا ضُغِط بشدة.)
كما أنه كون فارغ؛ إذ تبلغ كثافة الذرات هناك أقل من ذرةٍ واحدةٍ لكل مترٍ مكعب، وهو ما يقل مليون مرةٍ عن مدى كثافتها بين النجوم؛ حيث تكون كذلك أقل كثيرًا من أفضل فراغٍ استطاعَتِ التكنولوجيا الإنسانيةُ أن تصنعه. كل ذرات الفضاء المجري تقريبًا تكون ذرات هيدروجين أو هليوم؛ لذا فلا كيمياء هناك، كما لا يمكن لحياةٍ أو ذكاءٍ أن يتطوَّر هناك، كما لا يتغيَّر أيُّ شيء، ولا يحدث أيُّ شيءٍ هناك. ينطبق نفس الوصف على المكعَّب التالي، ثم الذي يليه، وإن فحصتَ مليون مكعبٍ متتالٍ في أي اتجاه، فلن يتغيَّر شيء.
إذنْ فبيئة الكون باردة ومظلمة وفارغة، وهذه البيئة المقفرة على نحوٍ صعبِ التخيُّل هي البيئة التقليدية في الكون، وهي سبيل آخَر يوضِّح على نحوٍ ماديٍّ مباشِرٍ كيف أن الأرض وغثاءها الكيميائي أبعدُ ما يمكن عن أن يُوصفَا بالتقليدية. أما عن قضية الأهمية الكونية لذلك النوع من الغثاء فسوف تأخذنا سريعًا ثانيةً إلى الفضاء المجرِّي. لكن دعني أعُدْ أولًا إلى الأرض، وَلْنتأمَّلِ استعارةَ الأرض سفينة الفضاء، من حيث معناها المادي المباشِر.
لو أن الظروف الطبيعية تغيَّرتْ غدًا، ولو قليلًا، على كوكب الأرض بمقاييس الفيزياء الفلكية، لما استطاع أي إنسانٍ أن يبقى على قيد الحياة دون حماية، تمامًا كما لا يمكنهم البقاء في سفينةِ فضاءٍ تعطَّلَ نظامُ دعمها للحياة. ومع ذلك، فأنا أكتب هذه السطور وأنا في أكسفورد بإنجلترا، حيث تكون ليالي الشتاء بالمثل عادةً شديدةَ البرودة لدرجةٍ كافيةٍ لقتل أي إنسانٍ دون حمايةٍ مثل الملابس والأشكال الأخرى من التكنولوجيا؛ لذا فكما سيقتلني الفضاء المجرِّي في غضون ثوانٍ، تستطيع أكسفوردشير في حالتها البدائية أن تقتلني في خلال ساعات، وهو أمر لا يمكن وصفه ﺑ «الداعم للحياة» إلا مجازًا. لم يقدِّم المحيط الحيوي ما في أكسفوردشير اليومَ من نظامٍ داعمٍ للحياة، إنما قدَّمه البشر، ويتكوَّن ذلك النظام من ملابسَ وبيوتٍ ومزارعَ ومستشفياتٍ وشبكاتِ كهرباء وصرفٍ صحيٍّ وغيرها. وبالمثل، لا يستطيع المحيط الحيوي للأرض في حالته البدائية دعْمَ حياة البشر لفترةٍ طويلةٍ إن لم يتمتعوا بحمايةٍ ما؛ فمن الأدقِّ أن نصفه بفخٍّ قاتلٍ للبشر بدلًا من نظامٍ داعمٍ لحياتهم. وحتى الوادي المتصدِّع الكبير في شرق أفريقيا، حيث تطوَّر نوعنا، لم يتسم بضيافةٍ أفضل من أكسفوردشير في حالتها البدائية؛ فعلى عكس نظام دعم الحياة في سفينة الفضاء التخيُّلية هذه، افتقر هذا الوادي إلى موارد المياه الآمنة والمعدات الطبية وأماكن المعيشة المُريحة، وسكنتْه الحيوانات المفترسة والطفيليات والكائنات المسببة للأمراض، وكثيرًا ما جَرح وسمَّم وأغرق وجوَّع وأمرض «ركَّابه»، وتسبَّبَ في مقتل أكثرهم.
كما كان المحيط الحيوي قاسيًا على كل الكائنات الحية الأخرى الموجودة فيه؛ إذ لا يحيا حياةً مريحةً إلا القليلُ من الأفراد، أو يموتون بسبب التقدُّم في السن في هذا المحيط الحيوي المفيد على نحوٍ افتراضي. وتلك ليست مصادفة؛ لأن أغلب سكانه من أغلب الأنواع يَحيَوْن بالقرب من حافة الكارثة والموت. ولا بد أن تبقى الأمور على هذا الوضع؛ لأنه إذا بدأت حتى مجموعات صغيرة في أن تحيا في مكانٍ ما حياةً أكثرَ سهولةً قليلًا لأي سبب — زيادة موارد غذائها أو انقراض مفترسيها أو منافسيها الطبيعيين مثلًا — فستأخذ أعدادُها في التزايد على الفور؛ ومن ثَمَّ ستنفد مواردها الأخرى بسبب تزايُد الاستهلاك؛ مما سيدفع أعدادًا أكبر من تلك المجموعات لاستيطان بيئاتٍ عشوائيةٍ أكثر، والاعتماد على موارد أقل جودة، وهكذا. تستمر تلك العملية على هذا النحو حتى تتوازن أضرارُ زيادةِ تعدادِ النوع مع مزايا التحسُّن الذي حدث في بيئته؛ أي إن معدل المواليد الجديد سيتساوى بالكاد مع معدل إعاقة ووفاة الأفراد السريع بسبب المجاعة والافتراس والزحام الشديد وكل العمليات الطبيعية المشابهة.
تكيَّفَتِ الكائنات الحية بفعل التطوُّر مع هذا الموقف؛ ومن ثَمَّ فهذا هو أسلوب الحياة الذي يبدو فيه المحيط الحيوي للأرض وقد تم «تكييفه» للحفاظ على تلك الكائنات. لا يُحقِّق المحيطُ الحيوي الاستقرارَ — وهو مؤقت إذا حدث — إلا بإهمال وأذى وإعاقة وقتل أفراد باستمرار؛ ومن هنا يظهر خطأ استعارة الأرض سفينة الفضاء أو فكرة النظام الداعم للحياة؛ إذ عندما يُصمِّم الإنسان نظامًا لذلك الهدف، فإنه يوفِّر فيه أقصى سُبُل الراحة والأمان والبقاء لمستخدميه في حدود الموارد المتاحة، لكن المحيط الحيوي لا يضع أيًّا من تلك الأمور ضمن أولوياته.
كما أن أداءه ليس أفضل فيما يتعلَّق بالحفاظ على «الأنواع». يتضمَّن التطوُّرُ، بخلاف قسوته الشديدة على الأفراد، الانقراضَ المستمرَّ لأنواعٍ كاملةٍ من الكائنات الحية، ويُقدَّر متوسطُ معدل الانقراض منذ بدء الحياة على كوكب الأرض بحوالي عشرة أنواعٍ في العام (وهو رقم تقريبي بحت)، ولقد تزايد هذا المعدل في فتراتٍ محددةٍ قصيرةٍ نسبيًّا يدعوها علماء الحفريات «حالات الانقراض الجماعي». أما معدل ظهور أنواع جديدة، فبوجهٍ عام، لم يَزِدْ إلا قليلًا عن معدل الانقراض؛ فكانت المحصلة أن الغالبية العظمى من الأنواع التي وُجِدت في أي وقتٍ على كوكب الأرض (ربما ۹٩٫٩ بالمائة منها) قد انقرضت الآن. ويرجِّح الدليل الجيني أن الجنس البشري أفلت من الانقراض مرةً واحدةً على الأقل؛ فلقد انقرض بالفعل العديد من الأنواع القريبة منه؛ حيث محاها «النظام الداعم للحياة» من الوجود بوسائلَ مثل الكوارث الطبيعية والتغيُّرات التطوُّرية في أنواعٍ أخرى والتغيرات المناخية. لم تتسبَّب تلك الأنواع في الانقراض لنفسها بأن غيَّرت أسلوب حياتها أو استنزفت المحيط الحيوي؛ بل على العكس، لقد أبادها المحيط الحيوي لأنها عاشت تمامًا كما أعدَّها التطوُّر لكي تحيا، وكما كان من المفترض للمحيط الحيوي أن يدعمها، كما تزعم استعارة الأرض سفينة الفضاء.
غير أن هذا يبالغ في تقدير مدى ملاءمة المحيط الحيوي للبشر على وجه الخصوص؛ فلم يستطِعْ ساكنو دائرة عرض أكسفورد الأوائل أن يعيشوا فيه (الذين كانوا حقًّا من الأنواع القريبة منَّا، ربما إنسان نياندرتال) إلا لأنهم جلبوا معهم المعرفة عن أمور مثل الأدوات والأسلحة والنار والملبس، ثم انتقلت تلك المعرفة من جيلٍ إلى جيلٍ ثقافيًّا وليس وراثيًّا. واستخدم أسلافنا في الوادي المتصدِّع الكبير أيضًا تلك المعرفةَ، ولا بد أن نوعنا قد جاء إلى الوجود معتمِدًا عليها لبقائه؛ والدليل على ما أقول أنني سرعان ما سأموت لو حاولتُ أن أعيش اليومَ في الوادي المتصدِّع الكبير في حالته البدائية؛ لأني لا أملك المعرفةَ الضروريةَ. استطاعت شعوب معينة من وقتها أن تحيا في أدغال الأمازون مثلًا، في حين لم تستطِعِ البقاءَ في منطقة القطب الشمالي، والعكس صحيح لشعوبٍ أخرى؛ إذنْ فالمعرفة لم تكن جزءًا من موروث الشعوب الوراثي، بل خلقها الفكر الإنساني، وحفظتْها ونقلتْها الثقافةُ الإنسانية.
واليومَ، تأتي قدرة «النظام الداعم لحياة البشر» على الأرض بالكامل تقريبًا من البشر، فنحن نُوجدها ولا تُعطَى لنا، وقد صنعناها بقدرتنا على ابتكار معرفةٍ جديدة. يوجد من الناسِ اليومَ مَن يعيش في الوادي المتصدِّع الكبير حياةً أكثرَ راحةً بكثيرٍ من تلك التي عاشها البشر الأوائل، وبأعدادٍ أكبر كثيرًا، بواسطة المعرفة بأشياء مثل الأدوات والزراعة والنظافة. صحيح أن الأرض أمَدَّتْنا بما يلزم من موادَّ أوليةٍ لبقائنا، تمامًا كما أمَدَّتْنا الشمس بالطاقة، والمستعرات العظمى بالعناصر وهكذا، لكن شتَّان ما بين كومةٍ من المواد الأولية ونظامٍ داعم للحياة؛ فالأولى تحتاج إلى المعرفة لتتحوَّل إلى الثاني، كما لم يُمْدِدْنا تطوُّرنا البيولوجي قطُّ بالمعرفة الكافية للبقاء، فضلًا عن الازدهار. هنا يكمن اختلافنا عن كل أنواع الكائنات الحية الأخرى تقريبًا؛ فكلها تملك ما تحتاج من معرفة، وهي موجودة جينيًّا بعقولها، وقد وفَّرها لها في واقع الأمر تطوُّرُها؛ أيْ بمعنًى آخَر أمَدَّها بها المحيطُ الحيوي؛ لذا فبيئاتها تبدو وكأنها مصمَّمةٌ كنظمٍ داعمةٍ للحياة خاصةٍ بها، وإن كان فقط بالمعنى القاسي المحدود الذي وصفته فيما سبق. أما نحن، فلا يوفر لنا المحيطُ الحيوي أيَّ نظامٍ داعمٍ للحياة أكثر ممَّا يوفِّر لنا تلسكوباتٍ لا سلكية.
إذنْ فالمحيط الحيوي غير قادرٍ على دعم الحياة البشرية. ومن البداية كانت المعرفة الإنسانية هي ما جعل هذا الكوكب قابلًا للسُّكنى من جانب البشر، وكانت الزيادة الهائلة في قدرة نظامنا الداعم للحياة من وقتها (من حيث عدد الأفراد والأمن وجودة المعيشة) نتيجةً بالكامل لابتكار المعرفة الإنسانية. إذا اعتبرنا أنفسَنا في سفينة فضاء، فلم نكن قطُّ ركابَها فقط، ولا مُضيفيها (كما يقال عادة)، ولا حتى فريقَ صيانتها؛ بل نحن مصمِّموها ومَن بناها. أمَّا قبل أن يبتكر البشر التصميمات، فلم تكن هناك سفينة؛ بل كان هناك فقط كومة من المواد الأولية الخطرة.
واستعارة «الركاب» خاطئة من منظورٍ آخَر؛ إذ تُلمح إلى أنه كان يوجد وقت ما عاش فيه البشر بلا مشكلات؛ عندما هُيِّئت لهم ظروف الحياة وكانوا — بصفتهم ركابًا — غيرَ مطالبين بحل سيلٍ من المشكلات ليتمكَّنوا من البقاء والازدهار. لكن في واقع الأمر، واجه أسلافنا مشكلاتٍ عويصةً باستمرارٍ حتى مع وجود معرفتهم الثقافية، مثل «من أين نأتي بالوجبة القادمة؟» وبالطبع كان عليهم أن يحلوا تلك المشكلات وإلا ماتوا. لا يوجد إلا القليل جدًّا من الحفريات الخاصة بكبار السن.
وعليه نجد أن الجانب الأخلاقي لاستعارة الأرض سفينة الفضاء يشوبه شيء من التناقُض؛ فهي تُضفي صفة الجحود على البشر لنكرانهم هباتٍ لم يتلقَّوْها في الأساس، كما تصف دورَ كلِّ الأنواع الأخرى في نظام سفينة الفضاء الداعم للحياة بالإيجابية الأخلاقية، زاعمة أن البشر هم وحدهم أصحاب الدور السلبي. لكن البشر جزء من المحيط الحيوي، وما يُزعم أنه سلوك غير أخلاقي فيهم هو نفس ما ترتكبه أنواعُ الكائنات الأخرى في حالات الرخاء، غير أن البشر فقط دون غيرهم يحاولون تخفيفَ أثر تلك الاستجابة على ذُرِّياتهم وعلى الأنواع الأخرى.
كما يشوب التناقض مبدأ العادية أيضًا؛ فبهجومه الخاص على مركزية البشر من بين كل المفاهيم المغلوطة الضيقة الأفق، فهو في حد ذاته يُوصَف بأنه بشريُّ التمركُز. كما أنه يدَّعِي أن كل حُكمٍ على القِيَم يتَّصِف بأنه بشريُّ التمركُز، في حين أنه يُعبِّر عن نفسه غالبًا بمفرداتٍ مثقلةٍ بالأحكام على القِيَم، مثل: «غرور»، و«غثاء كيميائي»، بل لفظة «العادية» نفسها أيضًا. طبقًا لأي قِيَمٍ نفسِّر كلَّ هذه الألفاظ الدالة على الانتقاص؟ ولماذا يكون الغرور حتى محلَّ انتقاد؟ وحتى لو كان اعتناقُ الرأي المغرور سلوكًا غير أخلاقي، فمن المفترض أن تشير الأخلاق فقط إلى المنظومة الداخلية للغثاء الكيميائي؛ إذنْ كيف يمكن لمبدأ العادية أن يُخبرنا بأي شيءٍ عن تنظيم العالم بعيدًا عن الغثاء، كما يدَّعِي؟
على أي حال، لم يكن الغرور سببَ تبنِّي الناس للتفسيرات البشرية التمركُز؛ فلم يكن ذلك سوى خطأٍ من أخطاء ضيق الأفق التي اتَّسمت بالمنطقية في أصلها. كما لم يكن الغرور ما منع الناسَ من إدراك ذلك الخطأ لفترةٍ طويلة؛ فهم لم يدركوا أيَّ شيءٍ لأنهم لم يعرفوا كيف يسعَوْن إلى تفسيرات أفضل، بل يمكن أن نقول إن مشكلتهم كانت في عدم غرورهم بالدرجة الكافية؛ حيث افترضوا بسهولةٍ شديدةٍ أن العالم أساسًا عَصيٌّ عليهم فهمُه.
ويظهر المفهوم الخاطئ الذي يعتقد بوجود حقبةٍ خاليةٍ من المشكلات في تاريخ الإنسان في الأساطير القديمة عن وجود عصرٍ ذهبيٍّ سابقٍ وجناتِ عدن، كما ترتبط به الأفكار اللاهوتية عن النعمة (الفضل الذي وهبه الربُّ للإنسان، على الرغم من أنه غيرُ مستحِقٍّ له)، والعناية الإلهية (يُقصَد بها الرب باعتباره الموفِّرَ لكل احتياجات الإنسان). اضطُرَّ واضعو تلك الأساطير إلى إضافة نقلةٍ ما تصل ما بين ذلك الماضي المزعوم الخالي من أي مشكلات، وبين واقعهم غير السعيد تمامًا، ومن أمثلتها حادثة الطرد من الجنة، حيث قلَّصت العنايةُ الإلهية مستوى دعمها للبشر. وفي استعارة الأرض سفينة الفضاء، عادةً ما تُعتبَر تلك النقلة وشيكةً أو جاريةً.
يتضمَّن مبدأ العادية مفهومًا مغلوطًا مشابهًا. لنتأمَّلِ الفرضيةَ الجدلية التالية التي وضعها عالم البيولوجيا التطورية ريتشارد دوكينز: تطوَّرت السمات الإنسانية تبعًا لعملية الانتقاء الطبيعي في بيئةٍ سلفية، شأنها في ذلك شأن سمات كل الكائنات الحية الأخرى. لهذا كُيِّفت حواسُّنا لترصد أشياءَ مثل رائحة الفواكه وألوانها، أو أصوات الحيوانات المفترسة؛ فالقدرة على رصد أشياء كتلك هي ما أعطت أسلافنا فرصةً أفضل للبقاء وإنجاب الذرية. ثم يوضح دوكينز أنه للسبب نفسِه لم يُضِعِ التطوُّرُ مواردَنا في رصد ظواهرَ غيرِ مؤثرةٍ على بقاء نوعنا؛ فلا يمكننا مثلًا أن نُميِّز بين ألوان معظم النجوم بالعين المجردة، كما أن رؤيتنا الليلية ضعيفة وأحادية اللون؛ إذ لم يَمُتْ عددٌ كافٍ من أسلافنا بسبب هذه النقيصة بحيث تصبح هناك ضرورة تطوُّرية مُلحة لإصلاحها. يرى دوكينز إذنْ — وهو هنا يتفق مع مبدأ العادية — أنه لا يوجد سبب يدعو إلى أنْ نتوقع أنَّ عقولنا تختلف عن عيوننا في هذا الشأن؛ لأن عقولنا تطوَّرَتْ لتتعايش مع مجموعة الظواهر المحدودة الشائعة الحدوث في محيطنا الحيوي، بما يتناسب مع حجمنا ووقتنا وقدرتنا … إلخ. تحدث أغلب الظواهر في الكون بمقاييس أعلى أو أقل كثيرًا من مقاييس الإنسان، يَقدر بعضها على أن يقتلنا فورًا، وبعضها لم يكن له أي تأثيرٍ على حياة البشر الأوائل؛ إذنْ فكما لا تستطيع حواسُّنا أن «ترصد» النيوترينوات أو الكويزرات أو أغلب الظواهر الطبيعية المهمة الأخرى في المنظومة الأكبر للكون، فلا سبب لأن نتوقَّعَ أن «تفهم» عقولنا تلك الظواهر. وقدرتُنا على فهم تلك الظواهر حتى الآن ليست سوى ضربةِ حظٍّ علينا ألَّا نتوقَّعَ استمرارَها طويلًا. يتفق دوكينز في هذه الفكرة مع أحد علماء البيولوجيا التطوُّرية الأوائل، وهو جون هالدين الذي توقَّعَ أن «الكون ليس فقط أغرب مما نفترض، بل أغرب مما يمكننا أن نفترض.»
هذه نتيجة مذهلة — ومتناقضة — لمبدأ العادية؛ فهي تقول إن كل القدرات البشرية ضيقة الأفق بالضرورة، حتى المميزة منها، مثل القدرة على إيجاد تفسيراتٍ جديدة. هذا يعني ضمنيًّا أن التقدُّمَ في العلم على الأخص لا يمكن أن يتعدَّى حدًّا معيَّنًا ترسمه الطبيعةُ البيولوجية للعقل البشري، وأن علينا أن نتوقَّع الوصولَ إلى هذا الحد عاجلًا وليس آجلًا. يتوقَّف العالم بعد هذا الحدِّ عن المنطقية (أو يبدو كذلك)؛ إذن فإجابة السؤال الذي طرحته في نهاية الفصل الثاني عمَّا إذا كان يمكن أن تكون الثورة العلمية والتنوير الأعم بدايةَ اللانهاية؛ هي النفي القاطع؛ إذن يتضح أن العلم مع كل نجاحاته وتطلُّعاته ضَيقُ الأفق بطبيعته، بل إنه — وللمفارقة — بشريُّ التمركُز.
وهنا يلتقي كلٌّ من مبدأ العادية واستعارة الأرض سفينة الفضاء؛ حيث يشتركان في تخيُّلِ فقاعةٍ صغيرةٍ صديقةٍ للإنسان موجودةٍ في كونٍ غريبٍ عدائي، تراها الاستعارةُ باعتبارها كيانًا ماديًّا هو المحيط الحيوي، بينما يراها مبدأ العادية باعتبارها مفهومًا يشير إلى حدود قدرات الإنسان على فهم العالم. ترتبط كلٌّ من الفقاعتَيْن بالأخرى، كما سنرى؛ فالرؤيتان تتفقان على أن مركزية البشر صحيحة داخل الفقاعة، ففي داخلها لا توجد مشكلات بالعالم، وهو نفسه عالم متوافِق توافُقًا فريدًا مع أمنيات البشر وفهمهم، أما خارجه فلا يوجد سوى مشكلاتٍ غيرِ قابلةٍ للحل.
يفضِّل دوكينز أن يكون العكس هو الصحيح، حيث يقول:
أعتقد أن الكون المنظم غير المبالي بما يشغل ذهن البشر، الذي لكل شيءٍ فيه تفسير — حتى إن كان أمامنا طريقٌ طويل قبل أن نصل إلى ذلك التفسير — هو مكان أجمل وأروع من كونٍ يخدعه سحر نزوي مُرتجل.
إن الكون «المنظَّم» (أي القابل للتفسير) بالفعل مكانٌ أجمل (انظر الفصل الرابع عشر)، مع أن افتراض عدم اكتراث الكون بما يشغل فكر الإنسان باعتباره ضرورةً لنظامه هو مفهوم خاطئ مرتبط بمبدأ العادية.
لن يصل بنا أي افتراضٍ بعدم قابلية العالم للتفسير إلا إلى تفسيراتٍ بالغة السوء؛ لأنه لا يمكن التمييز بين عالم غير قابل للتفسير وآخَر «يخدعه سحر نزوي مُرتجل»؛ وبالتأكيد لا يمكن لأي فرضيةٍ معنيةٍ بتفسير العالم خارجَ فقاعة القابلية للتفسير أن تكون تفسيرًا أفضل من تفسيرٍ يدَّعِي أن كل شيءٍ هناك تحت حكم الإله زيوس، أو أي أسطورة أو وهم آخَر يحلو للمرء أن يختاره.
وبما أن ما خارج الفقاعة يؤثِّر على تفسيراتنا لما هو بداخلها (وإلا كنَّا استغنينا عنه تمامًا)، إذنْ فالداخل غير قابلٍ للتفسير هو أيضًا. وهو يبدو كذلك فقط إذا تجنَّبنا طرْحَ أسئلةٍ معينة. يُشبه هذا على نحوٍ عجيبٍ المشهدَ الفكري قبل التنوير، حين فُرِّق بين الأرض والسماء. هذا التناقض متأصِّل في مبدأ العادية؛ فعلى نحوٍ مناقضٍ لما يهدف إليه، هو يجبرنا هنا على العودة إلى فهمٍ عتيقٍ بشريِّ التمركُز وغير علميٍّ للعالم.
يلتقي مبدأ العادية مع استعارة الأرض سفينة الفضاء في زعمهما بشأن «المدى»؛ فكلاهما يزعم أن مدى السمة المميِّزة لكينونة الإنسان — أيْ قدرتنا على حل المشكلات وخلْق المعرفة وتطويع العالم من حولنا — محدود. وهما يذهبان إلى أن حدود هذا المدى لا يمكن أن تكون بعيدةً عمَّا وصلنا إليه بالفعل، وأن أي محاولةٍ لتجاوُزِ هذا المدى يجب أن تؤدِّيَ إلى الفشل والكوارث تباعًا.
كما تستند الفكرتان أساسًا إلى نفس الفرضية، التي ترى أنه لولا وجود هذا الحد، لما وُجِد تفسير للنجاح المتواصِل لعمليات التكيُّف الخاصة بالعقل البشري في ظروفٍ غير التي تطوَّرتْ فيها. لماذا يجب أن تحظى عمليةُ تكيُّفٍ واحدةٍ من تريليونات عمليات التكيُّف التي شهدتها الأرض؛ بمدًى غير محدود، في حين لا تصل أيُّ عملية تكيُّفٍ أخرى إلى خارج حدود المحيط الحيوي المتناهي الصغر التافه غير التقليدي؟ أتفق مع هذا؛ فلكل مدًى تفسير. لكن ماذا لو كان هناك تفسير، وكان ذلك التفسير لا علاقةَ له بالتطوُّر ولا بالمحيط الحيوي؟
تخيَّلْ لو تصادَفَ أن سافَرَ سربُ طيورٍ من نوعٍ تطوَّرَ في جزيرةٍ معينةٍ إلى جزيرةٍ غيرها؛ حينها لن تنفك أجنحة وعيون أفراده تعمل. إن هذا مثال على مدى عمليات التكيُّف هذه؛ فهو له تفسيرٌ مفاده أن الأجنحة والعيون تعمل وفق القوانين الفيزيائية العامة (تحديدًا تلك الخاصة بالديناميكا الهوائية والبصريات، على التوالي). صحيح أنها لا تعمل وفقها على نحوٍ مثالي، لكن الظروف الجوية وظروف الإضاءة على الجزيرتين تتشابهان على نحوٍ كافٍ، من خلال المعايير المحددة من خلال تلك القوانين، بحيث تسمح لنفس عمليات التكيف أن تعمل بنجاحٍ على الجزيرتين.
لهذا تستطيع الطيور أن تطير إلى جزيرةٍ تبعد عدة كيلومترات أفقيًّا، لكنها لو انتقلت كيلومتراتٍ قليلةً لأعلى، لتوقَّفَتْ أجنحتها عن الحركة؛ لأن كثافة الهواء عندئذٍ ستكون منخفضةً جدًّا، ومعرفتها الكامنة عن الطيران لا تُجدِي في الارتفاعات العالية. كما ستتوقف أعينها وأعضاؤها الأخرى عن العمل إذا ما ارتفعتْ أكثر؛ لأن تصميمها أيضًا ليس له ذلك المدى؛ إذ تمتلئ عيونُ كل الفقاريات بماءٍ سائل، يتجمَّد في درجات حرارة طبقة الستراتوسفير، ويغلي في فراغ الفضاء. وفي تصوُّرٍ أبسط، قد تموت الطيور أيضًا إن لم تملك رؤيةً ليليةً جيدةً، ثم وصلتْ إلى جزيرةٍ ليس فيها فريسة مناسبة من الكائنات الحية غير تلك التي تنشط ليلًا فقط. لنفس السبب، إن مدى عمليات التكيُّف البيولوجية محدود أيضًا فيما يتعلَّق بالتغيُّرات التي تحدث حتى في بيئتها الأم، وهي تغيُّرات يمكن أن تتسبَّب — بل إنها تتسبَّب فعلًا — في حدوث عمليات انقراض.
لو كان لعملياتِ تكيُّفِ تلك الطيور مدًى كافٍ يُمَكِّن نوعَها من الحياة على الجزيرة الجديدة، لَبَنَتِ الطيورُ مستعمرةً فيها. في الأجيال اللاحقة، ستملك الحيوانات الطافرة الأفضل تكيُّفًا قليلًا مع الجزيرة الجديدة؛ ذريةً أكبر قليلًا في المتوسط، وستعمل عمليةُ التطوُّر على تكييف تلك الذرية على نحوٍ أدق، بحيث تكون لديها المعرفة اللازمة للعيش على هذه الجزيرة. كانت تلك هي نفسَ الطريقة التي استعمَرَ بها أسلافنا بيئاتٍ جديدةً، واتخذوا أساليبَ مستحدثةً للعيش. لكن عندما تطوَّرَ نوعنا، كان أسلافنا من البشر يُحقِّقون نفسَ الشيء أسرع بآلاف المرات، بأن طوَّروا معرفتهم الثقافية، وكان ما يملكونه من معرفةٍ أفضلَ قليلًا من المعرفة البيولوجية لكونها أوسع أفقًا؛ لأنهم لم يكونوا قد توصَّلوا إلى العلم بعدُ. وتمثَّلت تلك المعرفة في أحكام خبرة؛ لذا كان التقدُّم — بالرغم من أنه كان سريعًا إذا ما قُورِن بالتطوُّر البيولوجي — بطيئًا إذا ما قُورِن بما عوَّدَنا عليه التنوير.
اعتمد التقدُّم التكنولوجي منذ التنوير تحديدًا على خلْق المعرفة التفسيرية. لقد حلم الناس لفتراتٍ طويلةٍ بالطيران إلى القمر، لكنهم لم يبدءوا في فهم ما كان يتطلَّبه تحقيق ذلك إلا مع ظهور نظريات نيوتن عن سلوك الكيانات غير المنظورة مثل القوى وزخم الحركة.
-
مستحيلًا؛ حيث تمنعه قوانين الطبيعة.
-
أو ممكنًا في حالة توافر المعرفة الصحيحة.
إن السبب في هذا هو أنه لو كانتْ هناك تحوُّلات يستعصي على التكنولوجيا تحقيقها — بصرف النظر عمَّا تقوله المعرفة بشأنها — لكانت هذه الحقيقة نفسها انتظامًا خاضعًا للاختبار في الطبيعة. لكن لكل أشكال الانتظام في الطبيعة تفسيرات؛ لذا فتفسير ذلك الانتظام سيكون هو نفسه قانونًا من قوانين الطبيعة، أو نتيجةً لواحدٍ منها؛ ومن ثَمَّ يكون — مرةً أخرى — كلُّ ما لا تمنعه قوانين الطبيعة قابلًا للتحقيق في ظلِّ وجود المعرفة الصحيحة.
هذا الارتباط الجوهري بين المعرفة التفسيرية والتكنولوجيا هو سبب خطأ فرضية هالدين ودوكينز — بأن العالم أغرب مما يمكننا أن نفترض — وهو سبب تميُّز مدى عمليات التكيُّف البشرية بطابعٍ مختلفٍ عن كل عمليات التكيُّف الأخرى في المحيط الحيوي. تمنح القدرةُ على ابتكار واستخدام المعرفة التفسيرية «الكياناتِ الذكيةَ» قوةً تساعدها على تغيير الطبيعة، وهي قدرة لا تحدها عوامل ضِيق الأفق مثل كل عمليات التكيُّف الأخرى، وإنما تحدها فقط القوانين العامة. هذه هي الأهمية الكونية للمعرفة التفسيرية؛ ومن ثَمَّ للكيانات الذكية، التي سأُعرِّفها من الآن فصاعدًا بأنها الكيانات القادرة على ابتكار المعرفة التفسيرية.
يُحفَر تجمُّع الجينات الخاص بنوعٍ ما على مدار أجيالٍ من أسلافه من خلال الانتقاء الطبيعي ليُناسب بيئة معينة. نظريًّا، يجب أن يكون باستطاعة أي عالِمِ حيوانٍ خبيرٍ أن يُعيد بناءَ الظروف البيئية التي أدَّتْ إلى عملية الحفر هذه، إذا كانت لديه النسخة الكاملة للجينوم الخاص بذلك النوع (أي المجموعة الكاملة للجينات الخاصة به). في ضوء هذا، يعتبر الحمض النووي هو الوصفَ المُشفَّر لبيئات أسلافنا.
وللدقة أضيف أن «عالِمَ الحيوان الخبير» يجب أن يكون بإمكانه إعادة البناء فقط لجوانب بيئة أسلاف الكائن التي بذلت ضغوطًا انتقائية، مثل أنواع الفرائس التي وُجِدت بها، وطرق اصطيادها، والمواد الكيميائية التي لزمتْ لهضمها وهكذا. هذه هي كل أشكال الانتظام في تلك البيئة، وأي جينوم يحتوي على وصفٍ مشفرٍ لكلٍّ منها، وعليه يحدد ضمنيًّا البيئات التي يمكن للكائن الحي العيش فيها؛ على سبيل المثال: تحتاج كل الرئيسيات لفيتامين «ج»، وإلا مرضت وقتلها مرض الإسقربوط، لكن جيناتها لا تحتوي على المعرفة اللازمة لتصنيعه؛ لذا إذا عاش أيٌّ من تلك الحيوانات — عدا الإنسان — في بيئةٍ تفتقر إلى فيتامين «ج» لفترةٍ طويلة، فسيموت. ستبالغ أي قصةٍ تغفل هذه الحقيقة في تقدير مدى تلك الأنواع؛ إن البشر من الرئيسيات، لكن مداهم لا يتعلَّق بما إذا كانت البيئات التي يعيشون فيها تحتوي على فيتامين «ج» أم لا؛ فالبشر قادرون على ابتكار وتطبيق معرفةٍ جديدة تُمكِّنهم من تصنيعه بواسطة نطاقٍ واسعٍ من المواد الخام، سواءٌ من خلال الزراعة أم المصانع الكيميائية، كما يستطيع البشر أن يدركوا بأنفسهم في معظم البيئات «احتياجَهم» إلى تصنيعه ليتمكَّنوا من البقاء.
وبالمثل، لا تعتمد قدرة البشر على العيش بالكامل خارج المحيط الحيوي — على القمر مثلًا — على ابتكارات علم الكيمياء الحيوية؛ فكما يستطيع البشر حاليًّا إنتاجَ كميةٍ كبيرةٍ من فيتامين «ج» أسبوعيًّا في أكسفوردشير (من مزارعهم ومصانعهم)، فهم قادرون على فعل الأمر نفسِه على القمر. ينطبق الأمر نفسه على الهواء المتنفَّس والماء ودرجة حرارة الجو المريحة وكل الاحتياجات الأساسية الأخرى. يمكن لكل تلك الاحتياجات أن تسد إذا كانت لدينا المعرفة الصحيحة، بواسطة تحويل الموارد الأخرى. حتى مع ما هو متاح من تكنولوجيا اليوم، يمكن بناء مستعمرةٍ ذاتيةِ الاكتفاء على القمر، تمدها الشمسُ بالطاقة، وتعيد تصنيع مخلفاتها، وتحصل على المواد الخام من القمر نفسِه. يوجد الأكسجين بوفرةٍ على القمر في صورة أكسيدات المعادن في الصخور، كما يمكن أيضًا بسهولةٍ استخلاص الكثير من العناصر الأخرى. يندر وجود بعض العناصر على القمر؛ من ثَمَّ يمكن عمليًّا الحصول عليها من كوكب الأرض، لكن نظريًّا يمكن للمستعمرة أن تكون مستقلةً عن الأرض كليًّا إذا بعثَتْ بمركباتٍ فضائيةٍ روبوتيةٍ لاستخراج تلك العناصر من الكويكبات أو صنعتها عن طريق عملية التحوُّل.
ذكرتُ هنا المركبات الفضائية «الروبوتية» على وجه التحديد؛ لأن كل المعرفة التكنولوجية يمكن تطبيقها مع الوقت في صورة معداتٍ آلية، وهذا سببٌ آخَر يُبيِّن أن المقولة «واحدٌ بالمائة إلهام وتسعةٌ وتسعون بالمائة جهد» هي وصف مضلِّل للكيفية التي يحدث بها التقدُّم؛ إذ يمكن لمرحلة «الجهد» أن تُؤَتْمَتَ، تمامًا كما هي الحال بالنسبة إلى مهمة التعرُّف على المجرات في الصور الفلكية. وكلما تقدَّمَتِ التكنولوجيا، تقلَّصَتِ الفجوة بين الإلهام والأتْمتة، وكلما زاد حدوث ذلك في مستعمرة القمر، قلَّ المجهود البشري المطلوب للحياة هناك. مع الوقت سيأخذ مستعمرو القمر الهواءَ باعتباره أمرًا مسلَّمًا به، مثلما يأخذ قاطنو أكسفوردشير الآن الماءَ باعتباره أمرًا مسلَّمًا بالحصول عليه فور فَتْحِهم الصنبور. ولو افتقر أيٌّ من الجانبين إلى المعرفة الصحيحة، فسرعان ما ستقتلهما بيئتاهما.
لقد اعتدنا أن نرى الأرض على أنها وطنُنا الرحب، وأن نرى القمر باعتباره فخَّ هلاكٍ بعيدًا ومقفرًا. لكن هذه هي الطريقة التي كان من شأن أسلافنا أن ينظروا بها إلى أكسفوردشير، بل — وللمفارقة — هي الطريقة التي أرى أنا بها اليومَ الواديَ المتصدِّعَ الكبيرَ في حالته البدائية. ففي الحالة الفريدة للبشر، يعتمد الفرق بين البيئة الرحبة والفخ القاتل على ما ابتكروه من معرفةٍ عن الأمر؛ فبمجرد أن تتوافر المعرفة الكافية عن تلك المستعمرة القمرية، يمكن أن يُكرِّس المستعمرون فكرَهم وطاقتهم لابتكار المزيد من المعرفة، وسرعان ما سيفقد المكانُ صفةَ المستعمرة ويصبح وطنًا، ولن يرى أحدٌ القمرَ على أنه بيئة ثانوية تختلف عن بيئتنا «الطبيعية» على الأرض، أكثر مما نرى نحن الآن أكسفوردشير واختلافها الجذري عن الوادي المتصدِّع الكبير باعتباره مكانًا للعيش.
إن استخدام المعرفة لإحداث تحوُّلاتٍ ماديةٍ مؤتْمتةٍ في حد ذاته أمرٌ لا ينفرد به البشر، بل هو المنهج الأساسي الذي تحافظ به كل الكائنات الحية على حياتها؛ فكل خليةٍ هي بمنزلة مصنعٍ كيميائي. ويكمن الفرق بين البشر والأنواع الأخرى في نوع المعرفة التي يمكن للبشر استخدامها (معرفة تفسيرية بدلًا من معرفةٍ قائمةٍ على أحكام الخبرة)، وكيفية ابتكارهم لها (بالافتراض ونقد الأفكار بدلًا من التبايُن والانتقاء الجيني). يفسِّر هذان الاختلافان خصوصًا سببَ قدرةِ الكائنات الحية الأخرى على العيش فقط في نطاقٍ محدودٍ من البيئات المناسبة لها، في حين يُحوِّل البشرُ البيئاتِ غيرَ المناسبة لهم — مثل المحيط الحيوي — إلى نُظُمِ دعمٍ لحياتهم. وبينما تعمل الكائنات الأخرى بمنزلة مصانعَ لتحويل أنواعٍ معينةٍ من الموارد إلى كائناتٍ أخرى، تعمل الأجسام البشرية (بما في ذلك أمخاخها) بمنزلة مصانعَ لتحويل أي شيءٍ إلى أي شيءٍ في حدودِ ما تسمح به قوانين الطبيعة؛ فهي في هذا عبارة عن «بنَّائين عموميين».
هذه العمومية المميزة في الحالة البشرية جزء من ظاهرةٍ أكبر سأناقشها في الفصل السادس، وهي أمر لا يشاركنا فيه أي نوعٍ آخَرَ موجودٍ حاليًّا على الأرض، لكننا نشترك فيه بالضرورة مع ما قد يوجد بالكون من كياناتٍ ذكيةٍ أخرى؛ لكونه أمرًا نابعًا بالضرورة من القدرة على ابتكار التفسيرات. إن الفرص التي تسمح بها قوانين الطبيعة لتحويل الموارد تتسم بالعمومية، وكل الكيانات التي لها مدًى عامٌّ بالضرورة لها نفس المدى.
لا يقدر على امتلاك معرفةٍ ثقافيةٍ سوى أنواعٍ قليلةٍ غير البشر؛ فتستطيع بعض القِردة العليا مثلًا أن تكتشف أساليبَ جديدةً لشقِّ حبات الجوز، وأن تنقل هذه المعرفة إلى قِردةٍ عليا أخرى. قد يفسِّر وجودُ تلك المعرفة كيفيةَ تطوُّر أنواعٍ شبيهةٍ بالقردة العليا إلى بشر، كما سأناقش في الفصل السادس عشر، إلا أن تلك المعرفة غيرُ ذاتِ صلةٍ بما نتناوله ها هنا؛ لأن هذه الكائنات ومثيلاتها غير قادرةٍ على ابتكار أو استخدام المعرفة التفسيرية؛ لذا فالمعرفة الثقافية لهذه الكائنات هي في الأساس من نفس نوع معرفتها الوراثية، وليس لها فعلًا غيرُ مدًى صغيرٍ ومحدودٍ بطبيعته؛ فهذه الكائنات ليست بنَّائين عموميين، لكنها على درجةٍ عاليةٍ من التخصُّص؛ وتصح عليها فرضيةُ هالدين ودوكينز، التي ترى أن العالم أغرب ممَّا بإمكانها أن تتصوَّر.
في بعض البيئات في الكون، ربما تكمن أكثر الطرق فاعليةً لارتقاء البشر في تعديل جيناتهم، وهو ما نفعله فعلًا في بيئاتنا الحالية للقضاء على الأمراض التي أودَتْ بحياة الكثيرين في الماضي. يعترض البعض على هذه العملية على أساس أن الكائن البشري المعدَّل جينيًّا لا يُعَدُّ بشريًّا، وهذا خطأ نابع من التركيز على البشر. يتميز البشر جميعًا بمزيَّةٍ هامةٍ وفريدةٍ واحدةٍ (سواءٌ في المنظومة الأكبر للكون أم بأي معيارٍ إنسانيٍّ عقلاني)، وهي قدرتهم على ابتكار تفسيراتٍ جديدة، نشترك فيها مع كل الكيانات الذكية الأخرى. لا تُنتقص بشريتنا لو فقَدَ أحدُنا أحدَ أطرافه في حادث، بل لو فقَدَ عقلَه؛ فلا فرق إذنْ بين تعديل جيناتنا لتحسين حياتنا وتسهيل تحسيناتٍ أخرى، وبين تغطية أجسامنا بالملابس أو مساعدة أعيُننا بالتلسكوبات.
هل يمكن أن يكون مدى «الكيانات الذكية» على نحوٍ عامٍّ أكبرَ من مدى البشر؟ ماذا لو كان مدى التكنولوجيا، على سبيل المثال، لا محدودًا حقًّا، ولكن فقط لمخلوقاتٍ تمتلك إبهامين في كل يد، أو كانت المعرفة العلمية بلا حدودٍ فقط لكائناتٍ ذات أمخاخٍ في ضِعف حجم أمخاخنا؟ تُمكِّننا صفتنا باعتبارنا بنائين عموميين من التغلُّب على أمورٍ كهذه مثلما نتغلَّب على عدم توافر فيتامين «ج»؛ فإن اعتمد التقدُّم في مرحلةٍ ما على امتلاك إبهامين في اليد الواحدة، فإن النتيجة لن تعتمد على المعرفة الموروثة في جيناتنا، وإنما على قدرتنا على صُنع روبوتات — أو قفازات — لها إبهامان في اليد الواحدة، أو تعديل أجسادنا ليكون لنا إبهامٌ ثانٍ في كل يد؛ وإن اعتمد التقدُّم على امتلاك المخ البشري سعةَ ذاكرةٍ أو سرعةً أكبر، فستعتمد النتيجة على قدرتنا على صُنع أجهزة كمبيوتر تؤدِّي هذه المهمة. مرةً ثانية، تلك أمور معتادة بالفعل في عالم التكنولوجيا.
افترض عالم الفيزياء الفلكية مارتن ريس أنه في مكانٍ ما في الكون «ربما توجد حياة وذكاء في هيئاتٍ لا يُمكننا أن نتصوَّرها؛ فربما كانت هناك جوانب للواقع أكبر من قدرة عقولنا على الاستيعاب، تمامًا كما لا يُمكن للشمبانزي أن يفهم نظرية الكم.» لكن هذا غير ممكن؛ إذ لو كان المقصود بالقدرة هنا السرعةَ الحسابيةَ أو سعةَ الذاكرة، إذنْ نستطيع أن نُدرِك الجوانبَ المعنيةَ بمساعدة أجهزة الكمبيوتر، تمامًا كما تَمكَّنَّا من فهم العالم لقرونٍ بمساعدة الورقة والقلم، وكما قال أينشتاين: «أنا وقلمي أذكى مني بلا قلمي.» وفيما يخص المخزون الحسابي، فإن أجهزة الكمبيوتر الخاصة بنا — وعقولنا — عمومية بالفعل (انظر الفصل السادس)، أما لو قصد الزعم أننا غير قادرين «كيفًا» على فهم ما تستطيع أشكال ذكاءٍ أخرى أن تفهمه، وأن هذه نقيصة لا يمكن معالجتها من خلال عملية الأتْمتة فقط، فليس هذا إذنْ إلا زعمًا آخَر بعدم قابلية العالم للتفسير، بل إنه مساوٍ لمزاعم التفسير التي تستند إلى وجود قوًى خارقةٍ بكل ما يشوب تلك المزاعم من اعتباطية. والحقيقة أننا لو أردنا دمْجَ عالمٍ خياليٍّ غير قابل للتفسير إلا للخارقين في رؤيتنا للكون، فما كان من الضروري أن نتخلص من أساطير برسيفوني وأمثالها من الآلهة من الأساس.
إن المدى البشري في جوهره هو نفس مدى المعرفة التفسيرية ذاتها، وتقع أي بيئةٍ داخل مدى البشر إذا أمكن ابتكار تيارٍ لا متناهٍ من المعرفة التفسيرية بها؛ فإذا أمكن تمثيل المعرفة الصحيحة في صورة أشياءَ ماديةٍ مناسبة، فستتسبَّب تلك المعرفة في بقائها ونموِّها بلا نهاية. هل يمكن أن توجد تلك البيئة؟ هذا هو السؤال الذي طرحتُه في نهاية الفصل السابق — هل يمكن لهذا الإبداع أن يستمرَّ بلا نهاية؟ — وهو ما أجابَتْ عنه استعارة الأرض سفينة الفضاء بالنفي.
يتلخَّص الموضوع في الآتي: إذا أمكن وجود مثل هذه البيئة، فما أقلُّ ما يلزم توافره من أشياءَ ماديةٍ بها؟ إنَّ توافُر الموادِّ أحدُ هذه الأشياء؛ على سبيل المثال: تقوم عملية استخراج الأكسجين من أحجار القمر على توافُر مُركَّبات الأكسجين بها في المقام الأول. صحيح أنه يمكن تصنيع الأكسجين من خلال عملية التحوُّل فيما بعدُ مع ظهور المزيد من التكنولوجيا المتقدمة، إلا أنه مهما بلغَتِ التكنولوجيا التي نملكها من تقدُّمٍ، فسنظل بحاجة إلى المواد الخام. صحيح أنه يمكن إعادة تدوير الكتلة، لكن ابتكار تيارٍ معرفيٍّ لا متناهٍ يعتمد على وجود إمدادٍ لا متناهٍ منها لتعويض الإخفاقات الحتمية، ولتصنيع سعة الذاكرة الإضافية المطلوبة لتخزين المعرفة الجديدة بعد ابتكارها.
كما يستلزم العديد من التحوُّلات الضرورية توافُرَ «طاقة»؛ إذ لا بد لمصدرٍ ما أن يشغل الافتراضات والتجارب العلمية وكل تلك العمليات التصنيعية، كما أن قوانين الطبيعة تمنع استحداث الطاقة من عدم؛ فلا بد إذنْ من وجود مصدرٍ للطاقة. إلى حدٍّ ما، يمكن للكتلة أن تتحوَّل إلى طاقة، والعكس صحيح؛ فمثلًا يتسبَّب تحويل الهيدروجين إلى أي عنصرٍ آخَرَ في توليد طاقةٍ من خلال الاندماج النووي. كما يمكن أن تتحوَّل الطاقةُ إلى كتلةٍ من خلال العديد من العمليات دون الذرية (لكن لا أستطيع تخيُّل أي ظروفٍ طبيعيةٍ تصبح فيها هذه الطريقةُ أفضلَ الطرق للحصول على المادة).
ويبقى عامل أخير ضروري إلى جانب المادة والطاقة، وهو «الدليل»؛ أيِ المعلومات الضرورية لاختبار النظريات العلمية. يموج سطح الأرض بالأدلة؛ لقد اختبرنا قوانين نيوتن في القرن السابع عشر، وقوانين أينشتاين في القرن العشرين، لكن الدليل الذي استخدمناه في ذلك غمر سطح الأرض لمليارات السنين قبلها، وسيستمر لملياراتٍ أخرى؛ هذا الدليل هو الضوء القادم من السماء، وهو دليل لم يَنَلِ القدرَ الكافيَ من الدراسة حتى يومنا هذا. سيكون الدليل على سطح بيتك في أي ليلةٍ صافيةٍ آتيًا من السماء، قادرًا على أن يتسبَّب في فوزك بجائزة نوبل فقط لو عرَفتَ عمَّ تبحث وكيف تبحث عنه. في علم الكيمياء، توجد كل العناصر المستقرة على سطح الأرض أو تحته مباشَرةً، وفي علم الأحياء ينتشر الدليل على طبيعة الحياة انتشارًا غزيرًا بداخل المحيط الحيوي، وفي متناول أيدينا، في حمضنا النووي. وعلى قدر علمنا، كل ثوابت الطبيعة الرئيسية يمكن قياسها هنا، وكل قانونٍ رئيسيٍّ يمكن اختباره هنا. إن كلَّ ما يلزم لابتكار تيارٍ معرفيٍّ لا متناهٍ متوافِرٌ بكثرةٍ هنا، في المحيط الحيوي للأرض.
ينطبق الأمر نفسُه على القمر؛ فعليه من موارد الكتلة والطاقة والدليل ما يماثل الأرض. قد تختلف التفاصيل، لكن حقيقة احتياج البشر الذين يعيشون على القمر إلى تخليق هوائهم ليست أكثر أهميةً من احتياج المعامل على الأرض لصُنع الفراغ الذي تحتاجه. يمكن أتْمتة هاتين المهمتين بحيث لا تحتاجان إلا إلى أقل مجهودٍ أو متابعةٍ بشرية، وبالمثل لن تزيد أي مشكلةٍ تتعلَّق بإيجاد أو تحويل الموارد عن كونها عاملًا يعوق ابتكارَ المعرفة مؤقتًا في البيئة الجديدة؛ لأن البشر بنَّاءون عموميون؛ وعليه فالمادة والطاقة والدليل هي فقط ما تتطلَّبه أيُّ بيئةٍ لتكون تربةً صالحةً لابتكار تيارٍ معرفيٍّ لا متناهٍ.
ومع أن كل مشكلةٍ ليست سوى عاملٍ مؤقت، فإن ضرورة حل المشكلات للبقاء والاستمرار في ابتكار المعرفة هي حالة دائمة. لقد ذكرتُ أنه لم توجد قطُّ فترةٌ بلا مشكلات في تاريخ البشر، وهو ما يصحُّ قوله عن المستقبل مثلما يصحُّ عن الماضي. ما زالت هناك مشكلات بلا حصرٍ على الأرض اليومَ، وعلى المدى القصير يجب حلها للقضاء على نقص الغذاء والأشكال الأخرى للمعاناة البشرية الشديدة التي ترجع في قِدَمها إلى ما قبل التاريخ. وسيتحتَّم علينا في المدى القريب — في غضون بضعة عقود لا أكثر — أن نختار أن نُجريَ تعديلاتٍ جوهريةً على المحيط الحيوي، أو أن نتركه كما هو، أو أيَّ درجةٍ بين هذا وذاك، وسيكون الناتج في كل الأحوال مشروعًا يستدعي تحكُّمًا على مستوى الكوكب، ويتطلَّب ابتكارَ قدرٍ وافرٍ من المعرفة العلمية والتكنولوجية، مع قدرٍ من المعرفة حول كيفية اتخاذ قراراتٍ كتلك بعقلانية (انظر الفصل الثالث عشر). وحتى على المدى الأبعد، لن تنحصر المشكلات في مدى راحتنا أو مداركنا الجمالية، ولا حتى في معاناة الأفراد، لكن ستكون المشكلة الرئيسية — كما هي الحال دائمًا — في بقاء نوعنا؛ فمثلًا: توجد حاليًّا في أي دولةٍ احتماليةٌ تُقدَّر بواحدٍ في الألف لاصطدام مُذنَّبٍ أو كويكبٍ بالأرض يكون من الضخامة بحيث يقضي على نسبةٍ كبيرةٍ من سكانها على أقل تقدير؛ يعني هذا أن احتمالات وفاة أي طفلٍ يُولَد بالولايات المتحدة اليومَ نتيجةً لحادث اصطدامٍ فلكي؛ تفوق احتمالات وفاته في حادث سير. إن الحادثَيْن ضعيفَا الاحتمال، لكن إن لم نبتكر قدرًا من المعرفة العلمية والتكنولوجية يفوق ما لدينا الآن، فلن نملك آليةَ دفاعٍ ضد هذا الخطر وغيره من الكوارث الطبيعية التي لا بد أنها ستحدث لا محالة، بل إن هناك أيضًا مخاطرَ أكثر قُربًا واحتمالًا تهدد الوجود أصلًا (انظر الفصل التاسع).
لا أعتقد أن الجنس البشري سيتمكَّن من البقاء للألف سنة القادمة، ما لم ننتشر في الفضاء؛ فهناك الكثير جدًّا من الحوادث التي قد تُبيد الحياةَ على كوكبٍ بأكمله. لكني متفائل، ولسوف نصل إلى النجوم.
لكن حتى هذه لن تكون حالة وجود بلا مشكلات، ولا يكتفي أغلب الناس بالثقة في عدم فناء النوع البشري؛ فهم يرغبون في عدم فنائهم هم أنفسهم، كما يسعَوْن إلى التحرُّر من الخطر المادي والمعاناة، شأنهم في ذلك شأن البشر الأوائل. في المستقبل، سيُعالَج بنجاحٍ العديد من أسباب الموت والمعاناة مثل المرض والشيخوخة، وستزيد معدلات أعمار الحياة البشرية، وحينها سيلتفت الناس إلى المخاطر ذات المدى الأبعد.
بل إن الناس في الحقيقة سيرغبون في أكثرَ من ذلك دومًا؛ إذ سيرغبون في التقدُّم؛ فبالإضافة إلى المخاطر ستظل المشكلات غير الخطيرة حاضرة، مثل الأخطاء والفجوات والتناقضات والنقائص في معرفتنا مما سنودُّ أن نعالجه، ومنها وليس أبسطها المعرفةُ الأخلاقية؛ أي أنْ نعرف ما يجب علينا أن نريده وأن نكافح من أجله. يسعى العقل دومًا إلى التفسيرات، وهو إذ يعلم الآن كيف يجدها لن يتوقَّف طواعيةً. هناك مفهوم مغلوط آخَر عن جنات عدن، وهو أن حالة عدم وجود المشكلات المفترضة ستكون حالة جيدة للمرء. يُنكر ذلك بعض علماء اللاهوت، وأنا أتفق معهم؛ لأن حالةً كتلك هي حالة افتقارٍ إلى الفكر الإبداعي، واسمها الآخَر هو الموت.
ترتبط كل هذه الأنواع من المشكلات (تلك المتعلقة بالبقاء، وتلك المتعلقة بالتقدُّم، والمشكلات الأخلاقية والمشكلات التي لا دافعَ لها سوى الفضول) بعضُها ببعض. يُمكننا مثلًا أن نتوقَّع أن قدرتنا على التأقلم مع التهديدات الوجودية ستظل معتمدةً على المعرفة التي ابتُكرتْ من أجلها، كما لنا أن نتوقَّع استمرارَ الخلاف على الأهداف والقِيَم، ومن أسباب ذلك أن التفسيرات الأخلاقية تعتمد جزئيًّا على حقائق العالم المادي؛ فمثلًا: تعتمد المواقف الأخلاقية في كلٍّ من مبدأ العادية واستعارة الأرض سفينة الفضاء على عدم قابلية العالم المادي للتفسير على النحو الذي ناقشتُ هنا إمكانيته.
كما لن تنفد مشكلاتنا أبدًا؛ فكلما تعمَّقَ أيُّ تفسير، زادَتِ المشكلاتُ التي يخلقها. هذا لا بد أن يحدث؛ لأننا لا يمكن أبدًا أن نصل إلى تفسير مطلق؛ فمثلما يتسم التفسير: «هذا من فعل الآلهة» دائمًا بأنه تفسير رديء، فإن أيَّ أساسٍ آخَر مزعومٍ لكل التفسيرات هو بالضرورة تفسيرٌ رديء؛ إذ لا بد أنه سهل التغيير لأنه لا يمكنه الإجابة عن السؤال التالي: لماذا هذا الأساس وليس غيره؟ فلا يمكن تفسير شيءٍ من منظور نفسه فقط، وهذا ينطبق على الفلسفة تمامًا كما ينطبق على العلم، وتحديدًا على فلسفة «الأخلاق»؛ فلا يمكن للمدينة الفاضلة أن توجد؛ إذ يمكن لقِيَمنا وأهدافنا أن تستمرَّ في التحسُّن بلا نهاية.
وهكذا فاللامعصومية وحدها لا تقدِّر على نحوٍ كافٍ الطبيعة المعرضة للخطأ لعملية ابتكار المعرفة. وابتكار المعرفة ليس «معرَّضًا» فقط للخطأ؛ فالأخطاء شائعة ومهمة وستظل كذلك على الدوام، وتصحيحها سيكشف عن مشكلاتٍ أكثر وأفضل؛ وعليه فإن المبدأ الذي اقترحْتُ نقْشَه على الحجر من قبلُ، والذي كان «المحيط الحيوي «غيرَ قادرٍ» على دعم الحياة البشرية عليه» هو في الحقيقة حالة خاصة لحقيقةٍ أكثر شمولًا، وهي أن «المشكلات حتمية الحدوث». لننقش هذا على الحجر.
فمن المحتم أن تواجهنا مشكلات، لكن لا توجد مشكلة معينة حتمية؛ فنحن نبقى ونرتقي بحل أي مشكلةٍ حينما تظهر. وبما أن القدرة البشرية على تحويل الطبيعة لا تحدها إلا قوانين الطبيعة؛ إذن فلن تشكِّل أبدًا أيُّ مشكلةٍ من سيل المشكلات اللامتناهي حاجزًا مستحيلًا. من هنا، تتضح حقيقةٌ أخرى مهمة على نحوٍ متساوٍ ومكملة عن الإنسان والعالم التقليدي، وهي أن «المشكلات قابلة للحل»، وأعني ﺑ «قابلة للحل» أن المعرفة الصحيحة قادرة على حلها. بالطبع، لا يمتلك المرءُ المعرفةَ بمجرد أن يتمنَّاها، لكن المبدأ العام أنها غير عصية علينا؛ لننقش ذلك على الحجر أيضًا.
ربما كانت الفكرة الجوهرية في التنوير هي أن «التقدُّم» مرغوبٌ وممكنٌ في نفس الوقت؛ فهي تحفز كلَّ تقاليد النقد وتحفز مبدأ السعيِ وراء تفسيراتٍ جيدة، لكن يُمكن تأويلها بطريقتَيْن شبه متناقضتَيْن، والأمر المُرْبك أن كلًّا منهما يُعرَف ﺑ «الكمال»؛ ففي حين يُعرف التقدُّم في التأويل الأول بقدرة الإنسان — أو المجتمعات الإنسانية — على الوصول إلى حالةٍ من الكمال المفترض، مثل «النيرفانا» بالنسبة إلى البوذيين أو الهندوس، أو المدن الفاضلة سياسيًّا، يرى التأويل الآخَر أن أي حالةٍ يمكن الوصول إليها يمكن أن تتحسَّنَ إلى ما لا نهاية. تستبعد اللامعصومية التأويلَ الأول وتُفضِّل الثانيَ عليه؛ فلن تكون حالتنا البشرية على وجه الخصوص، ولا معرفتنا التفسيرية بصفةٍ عامة، مثاليةً أو كاملةً أبدًا، بل لن تقترب حتى من هذا الوضع، وسنكون دائمًا في «بداية» اللانهاية.
أَلْهم هذان التأويلان الكمالَ والتقدُّمَ البشريَّ تاريخيًّا فرعَيْن كبيرَيْن من التنوير، والفرعان — على التقائهما في بعض السمات مثل نبذ السلطة — يختلفان جدًّا في أوجُهٍ مهمة، حتى إنه من المؤسف أن يُشار إلى كلٍّ منهما بنفس الاسم. يُشار في بعض الأحيان إلى التنوير اليوتوبي — نسبةً إلى المدينة الفاضلة يوتوبيا — بالتنوير الأوروبي، لتمييزه عن التنوير الأكثر لامعصوميةً، وهو التنوير البريطاني الذي بدأ قبله بقليلٍ وأخذ مسارًا مختلفًا تمامًا (انظر مثلًا: كتاب «التنوير» للمؤرخ روي بورتر). بمفرداتي الخاصة، أقول إن التنوير الأوروبي أدرك أن المشكلات قابلة للحل، ولكنه لم يدرك أنها حتمية، في حين أدرك التنوير البريطاني الأمرين معًا. لاحظ أن هذا التصنيف يقع على مستوًى فكري، وليس على مستوَى أممٍ أو حتى مفكرين فرديين؛ إذ لم ينتمِ أيٌّ من مفكري التنوير بالكامل إلى أحد الفرعين دون الآخَر، ولم يتحتم على مفكري أحد الفرعين أن يُولَدوا في نفس المكان المسمَّى الفرع باسمه؛ على سبيل المثال: كان الفيلسوف وعالم الرياضيات نيكولا دي كوندورسيه فرنسيًّا، مع أنه كان ينتمي إلى ما أدعوه هنا التنوير البريطاني، في حين كان كارل بوبر — أهم فلاسفة التنوير البريطاني في القرن العشرين — نمساويَّ المولد.
كان التنوير الأوروبي متطلعًا بشدة للوصول إلى الحالة المثالية؛ وهو ما أدَّى إلى تسلُّطٍ فكريٍّ وعنفٍ سياسيٍّ وأشكالٍ جديدةٍ للطغيان، ولعل الثورة الفرنسية في عام ١٧٨٩ وفترة الإرهاب الثوري التي تبعتها من الأمثلة النموذجية على ذلك. أما التنوير البريطاني الذي كان تطوريًّا مدركًا لِلَامعصومية البشر، فقد كان متطلعًا بشدة لإنشاء مؤسسات لا تعوق التغيير التدريجي والمستمر، كما كان متحمسًا أيضًا لإجراء تطويراتٍ صغيرةٍ ليس لها حدود في المستقبل (انظر مثلًا كتاب «رجال الجمعية القمرية» للمؤرخة جيني أوجلو). هذه الحركة هي التي أرى أنها كانت ناجحةً في سعيها نحو التقدُّم؛ ومن ثَمَّ فحين أذكر «التنويرَ» في هذا الكتاب، سيكون التنوير البريطاني هو ما أقصده.
إذا أردنا استكشاف المدى الأقصى للبشر (أو للكيانات الذكية، أو للتقدم)، ينبغي ألَّا نعتمد على أماكنَ مثلِ كوكب الأرض والقمر؛ لأنهما فريدان في غناهما بالموارد. لِنَعُدْ إلى ذلك المكان التقليدي، وهو الفضاء المجرِّي؛ فعلى عكس الأرض التي تعجُّ بالمادة والطاقة والدليل، تكون هذه المقومات الثلاثة في أقل كمياتٍ لها في هذا الفضاء، كما لا توجد هناك موارد معدنية غنية، ولا مفاعل نووي عملاق في الأفق يقدِّم طاقةً مجانيةً، ولا أضواء في السماء، ولا أحداث متنوعة تقدِّم أدلةً على قوانين الطبيعة؛ إنه فارغ وبارد ومظلم.
أهو حقًّا كذلك؟ في الواقع، ليس هذا سوى مفهومٍ مغلوطٍ آخَر ضَيق الأفق؛ فصحيح أن الفضاء المجرِّي فارغ جدًّا بمقاييس البشر، لكنَّ كلًّا من تلك المكعبات البالغ كلٌّ منها حجمَ المجموعة الشمسية يحتوي على أكثر من مليار طنٍّ من المادة، أغلبها في صورة هيدروجين مُتأيِّن، وهو كَمٌّ أكثر من كافٍ لبناء محطةٍ فضائيةٍ مثلًا، ولبناء مستعمرةٍ لعلماءَ يثابرون من أجل ابتكار تيارٍ معرفيٍّ لا متناهٍ؛ فقط إذا وُجِد مَن يعرف كيف يقوم بذلك.
لا يعرف أيُّ إنسانٍ حتى الآن كيف يقوم بذلك؛ على سبيل المثال: سيحتاج المرء أولًا أن يُحوِّل بعض الهيدروجين إلى عناصرَ أخرى، لكن ما زال الحصول على الهيدروجين من مصدرٍ غير مركَّزٍ كهذا أبعدَ كثيرًا من قدراتنا الحالية؛ لأنه ليس لدينا من المعرفة ما يسمح بتحويل الهيدروجين إلى عناصرَ أخرى على نطاقٍ صناعي، مع أن بعض أنواع التحوُّل تُنفَّذ على نحوٍ روتينيٍّ في الصناعة النووية. ولا يزال إنشاءُ أبسطِ مفاعلِ اندماجٍ نوويٍّ عصِيًّا على تكنولوجيا اليوم، لكن يرى علماء الفيزياء أن أيًّا من قوانين الفيزياء لا يمنع إنشاءه؛ أيْ إنها مسألة توصُّلٍ إلى المعرفة ليس إلا، كما هي الحال دائمًا.
لا شك أنه لا يمكن لمحطة فضاءٍ مصنَّعةٍ من مليار طنٍّ من المادة أن تكون كبيرةً على النحو الكافي بحيث تستمر على المدى البعيد جدًّا؛ إذنْ سيرغب السكان في زيادة حجمها، وهذه ليست مشكلةً نظريًّا؛ إذ سيتدفق المزيد من الهيدروجين إلى المكعب من الفضاء المحيط كلما استنفدوه منه، فيكتسب المكعب ملايين الأطنان من الهيدروجين كلَّ عام. (يُعتقَد كذلك أن المكعب يحتوي على المزيد من الكتلة في صورة «المادة المظلمة»، لكننا لا نعرف كيف نستخدمها في أي شيءٍ مفيد؛ لذا سنتجاهل وجودَها في هذه التجربة الفكرية.)
أما فيما يتعلَّق بالبرد وبنقص الطاقة، فتتكفل بهما كذلك عمليةُ تحويل الهيدروجين، التي تُولِّد بالاندماج النووي طاقةً هائلةً تزيد عن حصص استخدام الطاقة لكل سكان الأرض مجتمعين؛ إذنْ لا يفتقر المكعبُ إلى الموارد كما بَدَا للوهلة الأولى الضيقة الأفق.
ماذا عن الدليل؟ من أين لمحطة الفضاء أن تأتيَ بمصدرٍ للأدلة؟ يمكن إنشاء مَعاملَ علميةٍ بواسطة العناصر المصنَّعة من تحوُّل الهيدروجين، تمامًا كما في مشروع قاعدة القمر. اعتمد علم الكيمياء على الأرض في مهده في صُنع اكتشافاته على الترحال في أرجاء الكوكب لجمع المواد المختلفة لإجراء التجارب عليها، لكنَّ تحوُّلَ العناصر يجعل ذلك غيرَ ضروريٍّ بالمرة؛ إذ ستتمكَّنُ مَعاملُ الكيمياء في محطة الفضاء من تصنيع أيِّ مركباتٍ من أي عناصر، وهي الحال نفسها فيما يخص فيزياء الجسيمات الأولية؛ ففي هذا المجال يمكن استخدام أي شيءٍ تقريبًا باعتباره مصدرًا للدليل؛ لأن كل ذرةٍ هي بمنزلة باقةٍ وافرةٍ من جسيماتٍ متأهبةٍ للتجلِّي بمجرد أن يطرقها أحدُهم بالقوة الكافية (بواسطة مسرِّع جسيمات) ويلاحظها بالأدوات الصحيحة. أما على صعيد علم الأحياء، فيمكن تصنيع الحمض النووي وكلِّ الجزيئات البيوكيميائية الأخرى وإجراء التجارب عليها. ربما ستكون رحلات الاستكشاف الميداني صعبة؛ لأن أقرب النُّظُم البيئية إلى المحطة سيكون على بُعْدٍ يُقدَّر بملايين السنوات الضوئية، ومع ذلك يمكن الاعتماد على تخليق أشكال الحياة المرغوب فيها ودراستها في نظمٍ بيئيةٍ اصطناعية، أو بواسطة محاكاة الواقع الافتراضي لها. وفيما يخص علم الفلك، سيتغلب راصد السماء على سوادها الحالك بالتلسكوبات — حتى المتوافر منها اليومَ — ليجد أن السماء تزدحم أمامه بالمجرات، ويمكن لتلسكوبٍ أكبر قليلًا أن يرصد النجومَ داخل تلك المجرات بتفصيلٍ يكفي لاختبار معظم نظريات اليوم عن الفيزياء الفلكية وعلم الكون.
وحتى بعيدًا عن كل مليارات الأطنان من المادة تلك، فالمكعب ليس فارغًا؛ فهو يموج بضوءٍ واهٍ يكشف كمًّا مذهلًا من الأدلة يكفي لرسم خارطةٍ لكلِّ نجمٍ وكوكبٍ وقمرٍ في كل المجرات القريبة منه بدقةٍ تفصيليةٍ تصل إلى عشرة كيلومترات. يحتاج التلسكوب إلى شيءٍ يشبه المرآة، ويجب أن يكون بنفس عرض المكعب تقريبًا ليتمكَّن من رصد تلك الأدلة بالكامل، ويتطلَّب صُنع تلك المرآة كمًّا من المادة لا يقلُّ عمَّا يتطلَّبه بناء كوكب، إلا أن هذا حتى ليس صعبَ التنفيذ بالنظر إلى مستوى التكنولوجيا الذي نفترضه؛ كلُّ ما يحتاجه هؤلاء العلماء لجمع هذا الكمِّ من المادة هو انتشالها من على مدى بضعة آلافٍ من المكعبات عرضًا، وهي مسافة هيِّنة بمقاييس الفضاء المجرِّي. لكن لا يزال أمام علم الفلك الكثير ليبحث فيه هناك، حتى ولو بتلسكوبٍ يزيد وزنه عن مليون طنٍّ من المادة. سيكون من الجلي عندئذٍ ملاحظة أن الكواكب ذات المحور المائل متغيِّرةُ الفصول على مدار العام، وسيتمكَّن علماءُ الفلك من رصد وجود الحياة إنْ وُجِدت على أي كوكبٍ بدراسة تكوين غلافه الجوي، وسيتمكَّنون من اختبار النظريات الخاصة بطبيعة وتاريخ الحياة — أو الذكاء — على تلك الكواكب، بإجراء المزيد من القياسات الأدق. في كل الأحوال، يحتوي كلُّ مكعب، بهذا المستوى من التفصيل، على أدلةٍ عن أكثرَ من تريليون نجمٍ وكواكبها في آنٍ واحد.
وهذا ليس سوى مثالٍ واحد؛ فالمزيد من هذا النوع من الأدلة يتدفَّق إلى داخل المكعب طوالَ الوقت؛ مما يسمح لعلماء الفلك فيه أن يُتابعوا التغيُّراتِ الواقعةَ في السماء كما نفعل نحن على الأرض، كما أن الضوء المرئي ليس سوى نطاقٍ واحدٍ من نطاقات الطيف الكهرومغناطيسي. ويستقبل المكعب الأدلةَ أيضًا من كل النطاقات الأخرى؛ من الأشعة السينية وأشعة جاما، نزولًا إلى الإشعاعات الخلفية الميكرونية والموجات اللاسلكية، بالإضافة إلى بعض جسيمات الأشعة الكونية. الخلاصة أن كلَّ الطرق تقريبًا التي نستقبل من خلالها الدليلَ على الأرض حاليًّا عن كل العلوم الأساسية متاحةٌ أيضًا في الفضاء المجرِّي.
كما أن لها تقريبًا نفسَ محتوى نظيرتها على الأرض؛ فالكون ليس عامرًا بالأدلة فحسب، إنما هو عامر بنفس الأدلة في كل مكان، فعندما يتحرَّر البشرُ في الكون من عقبات ضيق الأفق بواسطة الفهم الكافي، تسنح لهم جميعًا نفس الفرص. تلك سمة تدل على وحدة العالم المادي، التي لها من الأهمية ما يفوق كل الاختلافات التي ذكرتها بين بيئتنا وما يمكن أن نطلق عليه بيئة تقليدية في الكون. يرجع ذلك إلى انتظام قوانين الطبيعة وانتشار الأدلة الدالة عليها، ولتوطُّد الارتباطِ بين الفهم والتحكُّم بصورةٍ تجعل الإنسان قادرًا على ممارسة نفس العلم وتحقيق نفس التقدُّم في أي مكانٍ بالكون، سواءٌ أكان في بيئته المحدودة أم على بُعْد مائة ميلون سنةٍ ضوئيةٍ في الفضاء المجرِّي.
من هنا، نرى أن أي موقعٍ تقليديٍّ بالكون مهيَّأ لذلك التيار المعرفي اللامتناهي، وهكذا الحال تقريبًا بالنسبة إلى كل أنواع البيئات الأخرى لاحتوائها على المزيد من المادة والطاقة وقدرةٍ أكبر على الوصول إلى أدلةٍ مقارَنةً بالفضاء المجرِّي. لقد افترضَتْ هذه التجربةُ الفكرية أسوأَ السيناريوهات الممكنة؛ فربما لا تسمح قوانينُ الفيزياء بابتكار معرفةٍ داخل الكويزرات مثلًا، وربما تسمح، لكن في كل الأحوال نقول إن إمكانية ابتكار المعرفة في الكون بوجهٍ عامٍّ هي القاعدة وليست الاستثناء؛ أيْ إن القاعدة هي إتاحة هذه الإمكانية للكيانات الذكية ذات المعرفة اللازمة لهذا، أما مَن لا يملكها، فمصيره هو الموت. تلك هي نفس القواعد التي سادَتْ منذ ظهَرَ الإنسانُ في الوادي المتصدِّع الكبير، وحتى يومنا هذا.
من الغرابة أن تلك المحطة الفضائية الخيالية في تجربتنا الفكرية هي بعينها السفينة الجيلية في استعارة الأرض سفينة الفضاء، فيما عدا أننا حذفنا الافتراض غير الواقعي بأن ساكنيها لا يطوِّرونها أبدًا؛ وعليه فلقد تمكَّنوا غالبًا من حل مشكلة الفناء ولم تَعُدِ «الأجيال» مهمة لطريقة عمل السفينة. على كل حالٍ يتضح الآن أن السفينة الجيلية كانت اختيارًا سيئًا للتعبير عن الزعم بهشاشة الحالة البشرية، واعتمادها على دعمٍ من محيطٍ حيويٍّ لا يتغيَّر؛ إذ يتناقض هذا الزعم مع إمكانية وجود هذه السفينة من الأساس. وإذا تمكَّنَ الإنسان من الحياة على سفينةٍ فضائيةٍ في الفضاء إلى الأبد، فلا بد أنه يستطيع الحياةَ على سطح الأرض باستخدام نفس التكنولوجيا، وتحقيق تقدُّمٍ مستمرٍّ سيجعل الحياة عليه أسهل؛ ولن تشكِّل سلامةُ المحيط الحيوي إلا فرقًا طفيفًا من المنظور العملي، وسواءٌ دعم وجود أنواع الكائنات الحية الأخرى أو لم يدعم، فإنه سيسع بالتأكيد كلَّ الكيانات الذكية — بما فيها البشر — ما دام أنها قد امتلكت المعرفة الصحيحة.
أستطيع الآن أن أتحوَّل إلى التحدُّث عن أهمية المعرفة — والكيانات الذكية — في المنظومة الأكبر للكون.
هناك أشياء كثيرة أهم على نحوٍ واضحٍ من الكيانات الذكية؛ فالزمان والمكان مهمان؛ فهما يظهران في كل تفسيرات الظواهر المادية الأخرى تقريبًا، وبالمثل فإن الذرات والإلكترونات مهمتان. يبدو أن البشر ليس لهم مكان في تلك الصحبة العظيمة؛ فكل تاريخنا وسياستنا وعلمنا وفنِّنا وفلسفتنا وتطلُّعاتنا وقِيَمنا الأخلاقية ليست سوى نتائجَ ثانويةٍ بسيطةٍ لانفجار مستعرٍ أعظم حدث منذ بضعة ملياراتٍ من السنين، ويمكن أن تُمحَى غدًا في انفجارٍ مماثل. للمستعرات العظمى أيضًا أهمية متوسطة في المنظومة الأكبر للكون، لكن يبدو أننا نستطيع تفسيرَ كلِّ شيءٍ عنها — وعن كل شيءٍ آخَر تقريبًا — دون ذِكْر الكيانات الذكية أو المعرفة بالمرة.
لكن هذا خطأ آخَر من أخطاء ضِيق الأفق يتسبَّب فيه موقفُنا الحالي غير التقليدي بالنسبة إلى تنويرٍ عمرُه مجرد بضعة قرون. على مدًى أبعد، قد يستعمر البشرُ مجموعاتٍ شمسيةً أخرى، وبزيادة معرفتهم يتحكَّمون في عملياتٍ طبيعيةٍ أكبر وأقوى. وإذا قرَّرَتْ أي كياناتٍ ذكيةٍ أن تعيش بالقرب من نجمٍ قادرٍ على الانفجار في أي لحظة، فقد ترغب في منْع حدوث انفجارٍ كهذا؛ ربما بإزالة بعض المواد من النجم، وسيحتاج مشروع كهذا إلى مئات أضعاف الطاقة التي يتحكَّم فيها البشرُ اليومَ، وأيضًا سيحتاج إلى تكنولوجيا أكثر تقدُّمًا، إلا أنه يبقى مهمة بسيطة نظريًّا، ولا يتطلَّب أيَّ خطواتٍ تقترب حتى من حدود الحظر التي تضعها قوانين الفيزياء؛ مما يجعله قابلًا للتنفيذ بوجود المعرفة الصحيحة. مَن أدرانا؟! فلربما كانت تلك المهمة تُنفَّذ على نحوٍ روتينيٍّ من قِبَل المهندسين في أماكنَ أخرى بالكون؛ من ثَمَّ نجد أن من الخطأ الاعتقادَ بأن سمات وظروف المستعرات العظمى غير مستقلةٍ بوجهٍ عامٍّ تمامًا عن وجود أو غياب الكيانات الذكية، أو عمَّا تعرفه وتريده.
على نحوٍ أعمَّ، إذا أردنا أن نتنبَّأ بما سيفعله نجم، فسيكون علينا أولًا أن نُخمِّنَ إذا ما كانت هناك كيانات ذكية بالقرب منه، وإن وجدت، نخمن ما لديها من معرفةٍ وما قد تريد تحقيقه. إذا خرجنا من منظورنا الضَّيق الأفق، فسنجد أن الفيزياء الفلكية لا تكتمل دون وجود نظريةٍ عن الكيانات الذكية، تمامًا كعدم اكتمالها لو افتقرتْ إلى نظريةٍ عن الجاذبية أو التفاعُلات النووية. لاحِظْ أن هذه النتيجة لا تعتمد على فرضية أن البشر أو غيرهم «سوف» يستعمرون المجرة ويتحكَّمون في أي مستعرٍ أعظم؛ ففرضية أنهم «لن» يفعلوا ذلك هي بالمثل نظريةٌ عن السلوك المستقبلي للمعرفة. إن المعرفة ظاهرة مهمة في الكون؛ لأن التنبُّؤ بأي شيءٍ تقريبًا يتعلَّق بالفيزياء الفلكية يستلزم «اتخاذَ موقفٍ» من أنواع المعرفة التي ستكون متوافِرةً أو غيرَ متوافِرةٍ بالقرب من الظاهرة محل الدراسة؛ ومن ثَمَّ، لا يخلو أيُّ تفسيرٍ لكل ما هو موجود في العالم الطبيعي من ذِكْرٍ للكيانات الذكية والمعرفة، ولو على نحوٍ ضمني.
لكن أهمية المعرفة أكبر من ذلك. لنتأمَّلْ أيَّ كيانٍ مادي؛ على سبيل المثال: مجموعة شمسية أو رقاقة سيليكون، ثم لنتأمَّلْ كلَّ التحوُّلات الفيزيائية التي يمكن أن يمرَّ بها هذا الكيان؛ مثلًا: قد تُصهَر الرقاقة ثم تتصلَّب في شكلٍ آخَر، أو تتحوَّل إلى رقاقةٍ ذات وظيفةٍ مختلفة، وقد تتدمَّر المجموعةُ الشمسية تمامًا إذا أصبح نجمُها مستعرًا أعظم، أو قد تتطوَّر على أحد كواكبها حياةٌ، أو قد تتحوَّل — من خلال عملية التحوُّل وتكنولوجياتٍ مستقبليةٍ أخرى — إلى معالجاتٍ دقيقة. عمومًا، نجد أن فئةَ التحوُّلات التي قد تحدث على نحوٍ تلقائيٍّ — في غياب المعرفة — قليلة جدًّا مقارَنةً بالفئة التي يمكن أن تتأثَّر صناعيًّا بالكيانات الذكية التي أرادت لهذه التحوُّلات أن تحدث؛ إذن فتفسيرات كل الظواهر الممكنة تقريبًا هي عن كيفية تطبيق المعرفة لتحدث تلك الظواهر؛ فلو أردتَ مثلًا أن تُفسِّر كيف يمكن أن تصل درجةُ حرارةِ شيءٍ ما إلى عشر درجاتٍ أو إلى مليون درجة، فبإمكانك أن تُشير إلى عملياتٍ تلقائيةٍ وتتجنَّب ذِكْرَ الكيانات الذكية تمامًا (مع أن أغلب العمليات التي تحدث في تلك الدرجات لا يقدر على إجرائها إلا الكائنات الذكية). لكنك إذا أردتَ تفسيرَ الكيفية التي قد يُبرَّد بها شيءٌ ما لتصل درجة حرارته إلى واحدٍ على مليونٍ من درجةٍ واحدةٍ فوق الصفر المطلق، فلن تستطيع تجنُّبَ التفسير المفصل لما في استطاعة الكيانات الذكية أن تفعل في هذا الشأن.
وليس هذا سوى أقلِّ القليل. استكمِلْ بعين خيالك الرحلةَ من النقطة التي وصلتَ إليها في الفضاء المجرِّي إلى أبعدَ منها، على الأقل إلى عشرة أضعاف. لنشدَّ الرحالَ هذه المرة إلى داخل إحدى الدفقات النفثية لكويزر، تُرى كيف ستكون الحال هناك؟ إن اللغة لَتعجز عن وصف ما قد يحدث هناك؛ سيُشبه الأمرُ مواجهةَ انفجارِ مستعرٍ أعظم من مسافةٍ قريبةٍ جدًّا، لكن لمدة ملايين السنين في المرة الواحدة، وسيُقاس زمنُ بقاء أي جسمٍ بشريٍّ بواحدٍ على تريليون من الثانية. من غير الواضح كما قلتُ آنفًا إن كانت قوانين الفيزياء تسمح لأي معرفةٍ بالنمو هناك أم لا، فضلًا عن وجود نظامٍ داعمٍ للحياة البشرية. إن الوضع هناك شديد الاختلاف عن بيئة أسلافنا، وما يُفسِّره من قوانينَ فيزيائيةٍ لا يُشبه أيَّ أحكام خبرةٍ ضمَّتْها ثقافة أو جينات أسلافنا، ومع ذلك يعرف العقلُ البشري اليومَ ما يحدث هناك بدرجةٍ معقولةٍ من التفصيل.
بطريقةٍ أو بأخرى يحدث هذا الدفق النفثي على نحوٍ يجعل من الممكن أن يتمكَّن غثاء كيميائي في يومٍ ما بعد مليارات السنين في الجانب الآخَر من الكون، من أن يعلم ويتنبَّأ بما سيفعل ذلك الدفق ويفهم السبب. يعني هذا أن نظامًا ماديًّا ما — عقل عالم فيزياء فلكية مثلًا — يحتوي على نموذج عملٍ دقيقٍ لنظامٍ آخَر وهو الدفق النفثي، الذي لا يكون على هيئة صورة سطحية (وإن تضمَّنَ هذا أيضًا)، وإنما على هيئة نظريةٍ تفسيريةٍ تجسِّد نفسَ العلاقات الرياضية والسببية. هذه معرفة علمية. كما أن مدى تشابُه كلا النظامين آخِذٌ في الزيادة على نحوٍ منتظم. بهذا ينشأ ابتكار المعرفة. ما لدينا هنا هو كيانان ماديان يختلف كلٌّ منهما عن الآخَر بشدة، وتتحكَّم في سلوك كلٍّ منهما مجموعةٌ مختلفةٌ من قوانين الفيزياء، ومع ذلك فهما يجسِّدان نفسَ العلاقات الرياضية والسببية، ويفعلان ذلك بدقةٍ متزايدة، لا يمكن لأي عمليةٍ فيزيائيةٍ تحدث في الطبيعة أن تُوفِّر مثل ذلك التشابُه، بخلاف عملية ابتكار المعرفة.
يوجد في أرسيبو ببورتوريكو تلسكوب لا سلكي عملاق، من إحدى مهامه العديدة «البحث عن الذكاء خارج كوكب الأرض». توجد في أحد المكاتب ببنايةٍ قريبةٍ من التلسكوب ثلاجةٌ منزليةٌ صغيرةٌ بها زجاجة شامبانيا مقفلة بسدادةٍ من الفلين، لنتأمَّلِ السدادة.
ستُنزَع تلك السدادة عندما ينجح التلسكوب في مهمته برصد إشاراتٍ لا سلكيةٍ يُطلِقها ذكاءٌ خارجَ الأرض؛ إذنْ لو راقبنا السدادةَ من كَثَبٍ وشاهدناها تنخلع من الزجاجة في أحد الأيام، لَاستنتجنا وجودَ ذكاءٍ خارج كوكب الأرض. يدعو التجريبيون وضْعَ هذه السدادة ﺑ «المتغيِّر النائب»؛ أيْ متغيِّر مادي يُقاس باعتباره وسيلةً لقياس متغيِّر آخَر (وكلُّ القياسات العلمية تتضمَّن سلاسلَ من المتغيِّرات النائبة). يمكن إذنْ أن نعتبر مرصد أرسيبو، والعاملين فيه والزجاجة والسدادة أدواتٍ علميةً لرصد وجود كياناتٍ ذكيةٍ بعيدة.
لذا، فتفسير سلوك تلك السدادة البسيطة والتنبؤ به أمر بالغ الصعوبة؛ فسيلزمك كي تتنبَّأ بسلوك سدادة الفلين أن تعرف إذا ما كان يوجد بالفعل مَن يرسل إشاراتٍ لا سلكيةً من مجموعاتٍ شمسيةٍ أخرى، وسيتعيَّن عليك لتفسِّر سلوكَ السدادة أن تفسِّر كيف تعرف بوجود تلك الكيانات وسماتها، ولا تستطيع سوى المعرفة الدقيقة المعتمدة — ضمن أشياءَ أخرى — على الخصائص الدقيقة للكيمياء على كواكبِ النجوم البعيدة، أن تفسِّر أو تتنبَّأ إذا ما كانت السدادة ستنخلع في وقتٍ ما، ومتى سيحدث ذلك.
كما أن أداة البحث تلك مضبوطة بدقةٍ عاليةٍ لأداء وظيفتها؛ فهي لا تكترث إطلاقًا لوجود أطنانٍ عديدةٍ من الكيانات الذكية على مقربة أمتارٍ منها، ولا حتى لوجود عشرات الملايين من الأطنان منها على نفس الكوكب، إنما هي ترصد فقط وجودَ مَن هم على كواكبَ تطوف بنجومٍ غير الشمس، وفقط إذا كانوا مهندسين متخصِّصين في الأنظمة التي تصدر موجاتٍ لا سلكيةً. لا يوجد على الأرض أو في الكون كلِّه أيُّ ظاهرةٍ أخرى تستشعر ما تفعله الكياناتُ الذكية في موقعٍ يبعد عنها مئات السنوات الضوئية، فضلًا عن أنها تفعل هذا بهذه الدرجة العالية من التمييز.
إن تلك المهمة ممكنة لعدة أسباب، منها حقيقة عدم وجود سوى أنواعٍ قليلةٍ من المادة المميزة المماثلة لنوع الغثاء هذا على تلك المسافات النائية. تحديدًا، لا ترصد أفضل أدواتنا الحالية من على هذا البُعْد النجمي ظواهِرَ سوى: (١) أجرام شديدة السطوع مثل النجوم (أو للدقة، أسطحها فقط). (٢) بضعة أجسامٍ تعوق رؤيتنا لتلك الأجرام الساطعة. (٣) تأثيرات بعض أنواع المعرفة. يمكننا رصد الأجهزة المصمَّمة للاتصال مثل الليزر وأجهزة الإرسال اللاسلكية، ورصد المكونات المميزة لوجود حياةٍ في الأغلفة الجوية المحيطة بالكواكب؛ من هنا يتَّضح أن أنواع المعرفة هذه من أبرز وأهم الظواهر في الكون.
لاحِظْ كذلك أن أداةَ البحث هذه مُعَدَّة على نحوٍ دقيقٍ لرصد شيءٍ لم يُرصَد من قبلُ قط، وهذا الإعداد أو التكيُّف في استطاعة المعرفة العلمية وحدها، ولا يقدر التطوُّر البيولوجي أن يأتيَ بمثله، وهذا يفسِّر لماذا لا يمكن أن تكون المعرفةُ غيرُ التفسيرية عامَّةً. ويستطيع مشروع البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض — كغيره من أوجه العلم — أن يفترض وجود شيءٍ ما، ثم يُعدِّد بعضَ السمات التي ستكون قابلةً للملاحظة به، ثم يُنشئ أداة لرصده. لا تستطيع الأنظمةُ غير التفسيرية أن تَعبر الفجوةَ المفهومية التي يَعبرها الافتراضُ التفسيري، والتي تُمكِّنه من التعامُل مع دليلٍ لم يُختبَر من قبلُ أو ظاهرةٍ غير موجودة. ولا ينطبق هذا على العلوم الأساسية فحسب؛ فعندما يتنبَّأ أحدُ المهندسين بأنَّ تحميل الوزن كذا وكذا على جسرٍ ما تحت التخطيط سيتسبَّب في انهياره، تكون تلك معلوماتٍ صحيحةً ومفيدةً جدًّا، حتى إن لم يُبْنَ الجسرُ بعدُ، فضلًا عن تحميله بأي أوزان.
توجد زجاجات شامبانيا أخرى مماثِلة في معاملَ أخرى، يُشير خلْعُ سدادةِ أيٍّ منها إلى اكتشافٍ جديدٍ عن شيءٍ ما في المنظومة الأكبر للكون؛ وعليه فإن دراسة سلوك سدادات الشمبانيا وغيرها من المتغيِّرات النائبة لأفعال الكيانات الذكية تساوي منطقيًّا دراسةَ كلِّ شيءٍ مهم؛ مما يستتبع أن البشر والكيانات الذكية والمعرفة ليسوا ذوي أهميةٍ موضوعيةٍ فحسب، بل هم أهم الظواهر في الطبيعة؛ فهم فقط الذين لا يمكن فهم سلوكهم إلا باستيعاب كلِّ ما له أهمية جوهرية.
وأخيرًا، فَلْنتأمَّلِ الفارقَ الشاسع بين السلوك التلقائي لأي بيئة (أيْ سلوكها في غياب المعرفة)، وبين سلوكها عندما يصلها أقل القليل من المعرفة الصحيحة. سوف نرى تلك المستعمرة القمرية على أنها نشأتْ على الأرض في الأساس حتى بعد اكتفائها ذاتيًّا، لكنْ أيٌّ من مكوناتها بالضبط ذلك الذي نشأ على الأرض؟ على المدى الطويل، ستكون كلُّ ذرات تلك المستعمرة قد نشأتْ على القمر (أو الكويكبات)، وتكون كلُّ طاقتها مستمدةً من الشمس. لن يأتيَ سوى جزءٍ من «معرفتها» من الأرض، وسرعان ما سيتضاءل ذلك الجزء في ظل الانعزالية التامة للمستعمرة حسبما تفترض الفكرة. إن ما حدث فعلًا هو أن «القمر» قد تغيَّر — تغيُّرًا بسيطًا في البداية — بواسطة مادةٍ جاءتْ من الأرض، قد صنعتْ ذلك التغيير ليس بنفسها، ولكن بالمعرفة المكنونة بها، واستجابت مادةُ القمر لتلك المعرفة بأن أعادت تنظيم نفسها بطريقةٍ جديدةٍ أشملَ وأكثرَ تعقيدًا، وبدأت في ابتكار تيارٍ معرفيٍّ طويلٍ ولا متناهٍ دائمِ البحث عن تفسيراتٍ أفضل، وهذه هي بداية اللانهاية.
بالمثل، في تجربتنا الفكرية عن الفضاء المجري، تخيَّلْنا «تجهيزَ» أحد المكعبات التقليدية على نحوٍ نتجتْ عنه استجابةُ هذا الفضاء، بأن بدأ في تقديم تيارٍ من التفسيرات التي تتطوَّر دائمًا. لاحِظِ الفارقَ المادي بين المكعب المعدل والمكعب التقليدي؛ فالمكعب التقليدي له تقريبًا نفس كتلة أيٍّ من ملايينِ المكعبات القريبة منه، وتلك الكتلة تتغير بالكاد على مرِّ عدة ملايينَ من السنين، أما كتلة المكعب المعدل، فهي أكبر من المكعبات المجاورة له، وهي تزيد على نحوٍ مستمرٍّ لأن سكان المكعب دَءُوبون على الحصول على المادة واستخدامها لتجسيد المعرفة. تنتشر كتلة المكعب التقليدي عبر حجمه بالكامل، أما المكعب المعدل فتتركَّز أغلب كتلته في مركزه. يحتوي المكعب التقليدي في الأغلب على الهيدروجين فقط، بينما يحتوي المكعب المعدل على كل العناصر. لا يُنتِج المكعب التقليدي أيَّ طاقة، لكن المكعب المعدل يُحوِّل الكتلة إلى طاقةٍ بمعدلٍ كبير. والمكعب التقليدي غني بالأدلة، لكن أغلبها يمرُّ هباءً، ولا يتسبَّب أيٌّ منها في أي تغييرات، أما المكعب المعدل، فهو أغنى بالأدلة التي أُنتِج أغلبها محليًّا، وهو يرصدها بأدواتٍ تتطوَّر باستمرارٍ وهكذا هو يتغير بسرعة. لا يصدر عن المكعب التقليدي أي طاقة، بينما يمكن للمكعب المعدل أن يبثَّ تفسيراتٍ في الفضاء، ولعل أكبر اختلافٍ بين الاثنين هو أن المكعب المعدل يُصحِّح الأخطاء، شأنه في ذلك شأن كلِّ نُظُم ابتكار المعرفة، ستلاحظ هذا لو حاولتَ الحصول على مادةٍ منه أو تعديلها؛ لأنه سيقاوم ذلك!
لكن يبدو أن معظم البيئات ما زالت غيرَ مبتكِرةٍ لأي معرفةٍ بعدُ، ولا نعلم بوجود أي بيئةٍ تقوم بذلك، غير تلك الموجودة على الأرض أو بقُربها، وما نلاحظه يحدث في أي مكانٍ آخَر مختلفٌ تمامًا عمَّا يُفترض أن يحدث لو كان ابتكارُ المعرفة منتشرًا فيه. لكن الكون لا يزال شابًّا، ورُبَّ بيئةٍ لا تبتكر اليومَ أيَّ معرفةٍ قد تفعل ذلك يومًا ما في المستقبل، ويمكن أن يختلف ما هو تقليديٌّ اليومَ تمامًا عمَّا سيكون تقليديًّا في المستقبل البعيد.
تقبع أعدادٌ لا حصر لها من البيئات منذ دهورٍ في أرجاء الكون، وكأنها متفجر في انتظار الشرارة؛ قد تكون ساكنةً لا تفعل شيئًا، أو محتدمةَ النشاط لا تتوقَّف عن إنتاج الأدلة وتخزينها أو صبها في الفضاء، لكن كلًّا منها تنتظر لحظةَ انفجارٍ مباغتةً لا رجعةَ فيها، لحظة أن تصل إليها المعرفةُ الصحيحة، لتبدأ في نوعٍ مختلفٍ تمامًا من النشاط المادي، وهو الابتكار المكثَّف للمعرفة، الذي سيكشف عن كل أشكال التعقيد والعمومية والمدى المتأصلة في قوانين الطبيعة، ويغيِّر تلك البيئة مما هو تقليدي اليومَ إلى ما قد يصبح تقليديًّا في المستقبل؛ وإذا أردنا هذا، فسيمكننا أن نكون نحن تلك الشرارة.
أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها
- الكيان الذكي: أي كيان قادر على ابتكار معرفة تفسيرية.
- بشري التمركُز: ممركز حول البشر أو الكيانات الذكية.
- ظاهرة جوهرية أو مهمة: ظاهرة تلعب دورًا أساسيًّا في تفسير ظواهر متعددة، أو تتطلب خصائصُها المتميزة تفسيراتٍ متميزةً في صورة نظرياتٍ جوهرية.
- مبدأ العادية: مبدأ ينصُّ على أنه «لا يوجد شيء مهم أو مميز في الإنسان».
- ضِيق الأفق: الخلط بين المظهر والواقع، أو بين أشكال الانتظام المحلية والقوانين العامة.
- الأرض سفينة الفضاء: فكرة ترى أن «المحيط الحيوي نظام داعم لحياة البشر».
- بنَّاء: كيان قادر على إخضاع أشياءَ أخرى لتحوُّلاتٍ من دون أن يطرأ عليه هو نفسه أي تغيير.
- بنَّاء عمومي: بنَّاء قادر على إخضاع أي مواد خام لأي تحوُّلٍ ممكنٍ من الناحية المادية، مع توافر المعرفة الصحيحة.
معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل
-
حقيقة أن كل ما لا تحظره قوانينُ الطبيعة قابلٌ للتحقيق في ظل توافُرِ المعرفة الصحيحة. و«المشكلات قابلة للحل».
-
يمكن دائمًا أتْمتة مرحلة «الجهد».
-
إتاحة العالم المادي لإمكانية ابتكار المعرفة بوجهٍ عام.
-
الكيانات الذكية بنَّاءون عموميون.
-
بداية الابتكار اللامتناهي للتفسيرات.
-
البيئات قادرة على ابتكار تيارٍ معرفيٍّ لا متناهٍ، إذا تم تحضيرها بالصورة المناسبة (أيْ كل البيئات تقريبًا).
-
حقيقة أن التفسيرات الجديدة تخلق مشكلاتٍ جديدة.
ملخص هذا الفصل
إن مبدأ العادية وفكرة الأرض سفينة الفضاء، على عكس أهدافهما، مغلوطان وضَيقَا الأفق على نحوٍ لا يمكن إصلاحه. ومن خلال المنظورات الأقل ضيقًا للأفق المتاحة لنا، يتبيَّن لنا أن الكيانات الذكية هي أهم الكيانات في المنظومة الأكبر للكون؛ فبيئتها لا تدعمها، وإنما تدعم هي ذاتَها بابتكار المعرفة، وبمجرد أن تتوافر لديها المعرفةُ المناسبة (وبخاصة التنويرية منها)، تصبح قادرةً على إطلاق شرارة المزيد من التقدُّم غير المحدود.
لا تستطيع سوى عمليةٍ واحدةٍ بخلاف فكر الكيانات الذكية أن تبتكر المعرفةَ، وهذه العملية هي عملية التطوُّر البيولوجي. وما تبتكره هذه العملية من معرفة (غير تلك التي تتمُّ عن طريق الكيانات الذكية) محدود وضيق الأفق بطبيعته، لكن تتشابه هذه المعرفة في بعض جوانبها مع المعرفة البشرية. ويتناول الفصل التالي نقاطَ التشابُه والاختلاف بين نوعَيِ المعرفة هذين.