الخلق
تدين كلٌّ من المعرفة الموجودة في العقول البشرية وتلك الناتجة عن عمليات التكيُّف البيولوجية بوجودهما ﻟ «التطوُّر» بمفهومه العام، وهو التباين في المعلومات الموجودة بالتبادل مع الانتقاء. يحدث هذا التبايُن في حالة المعرفة البشرية من خلال الافتراض، ويحدث الانتقاء بالنقد والتجريب. أما في المحيط الحيوي، فيرتبط التبايُن بحدوث طفراتٍ (أيْ تغييرات عشوائية) في الجينات، وتفضِّل عمليةُ الانتقاءِ الطبيعي التغييراتِ التي تُحسِّن من قدرات الكائنات الحية على التكاثُر؛ ممَّا يسمح لتلك الجينات المتغيِّرة أن تنتشر في نسلها كله.
حين يكون الجين «مُكيَّفًا» لأداء وظيفةٍ معينةٍ، فهذا يعني أنه ليس بحاجةٍ إلا إلى تغييراتٍ طفيفة — إن احتاج أيَّا منها من الأساس — ليُحسِّن من قدرته على أداء تلك الوظيفة. بعض التغييرات قد لا يكون لها أيُّ تأثيرٍ على تلك القدرة من الناحية العملية، لكنَّ أغلبَ التغييرات ذات التأثير يكون فيها ذلك التأثيرُ في الغالب للأسوأ. بعبارةٍ أخرى: إن عمليات التكيُّف الجيدة، مثل التفسيرات الجيدة، تتميَّز بأنه من الصعب التغيير فيها مع استمرارها في أداء وظيفتها.
يضطلع كلٌّ من العقل البشري وجزيئات الحمض النووي بأداء عدة وظائفَ خاصةٍ بكلٍّ منهما، لكنهما في المقام الأول من وسائط تخزين المعلومات المتعددة الأغراض؛ فهما قادران نظريًّا على تخزين معلوماتٍ من أي نوع. ويشترك نوعا المعلومات اللذان تطوَّر من أجل تخزينهما العقلُ والحمضُ النووي في خاصيةٍ واحدةٍ ذات أهميةٍ كونية، وهي: أنهما «بمجرد أن يتجسَّدَا ماديًّا في بيئةٍ مناسبة، يميلان إلى الإبقاء على نفسَيْهما على هذا النحو.» ومن غير المحتمل جدًّا أن تنشأ هذه المعلومات — التي أسمِّيها «المعرفةَ» — بغير طريقٍ واحد، هو عملية تصحيح الأخطاء التي يقوم بها الفكر أو التطوُّر.
توجد كذلك بعض الاختلافات المهمة بين هذين النوعين من المعرفة، من تلك الاختلافات أن المعرفة البيولوجية معرفة غير تفسيرية؛ ومن ثَمَّ ليس لها سوى مدًى محدود، أما المعرفة البشرية التفسيرية، فيمكن أن يكون لها مدًى واسع أو حتى غير محدود. ومن أوجه الاختلاف أيضًا أن الطفرات عشوائية، في حين يكون وضْعُ الافتراضات مقصودًا لخدمة هدفٍ محدَّد. ومع ذلك، يشترك نوعَا المعرفة في بنيتهما المنطقية بقدرٍ يجعل نظريةَ التطوُّر مهمةً على نحوٍ كبيرٍ للمعرفة البشرية. على وجه التحديد، توجد بعض المفاهيم التاريخية الخاطئة عن التطوُّر البيولوجي التي تقابلها أيضًا مغالطات عن المعرفة البشرية. وسأقوم في هذا الفصل بعرض بعض تلك المفاهيم الخاطئة، وسأقدِّم كذلك التفسيرَ الحقيقي لعمليات التكيُّف البيولوجي؛ أيِ النظرية التطوُّرية الداروينية الحديثة التي تُعرَف أحيانًا ﺑ «الداروينية الجديدة».
نظرية الخلق
تعتقد نظريةُ الخلق بوجود كينونةٍ (أو عدة كينونات) خارقةٍ صمَّمَتْ وخلقَتْ كلَّ عمليات التكيُّف البيولوجية. أو بلفظٍ آخَر: «هذا مِن فعل الآلهة.» تتسم النظريات من هذا القبيل بكونها تفسيراتٍ سيئة، وذلك مثلما أوضحتُ في الفصل الأول. بل إن هذه التفسيرات — ما لم تعضدها قرائنُ محدَّدة صعبة التغيير — لا تعالج أصلًا المشكلة الرئيسية محل التفسير، تمامًا مثل تفسير «هذا من فعل قوانين الفيزياء» الذي لن يجعلك تفوز بجائزة نوبل، أو تفسير «هذا من فعل الساحر» الذي لن يحل لغز الخدعة السحرية.
يتعيَّن على مبتكِر الخدعة السحرية أن يُلمَّ تمامًا بتفسيرها قبل أن يؤدِّيَها؛ فأصل تلك المعرفة هو نفسه أصل الخدعة، وبالمثل فإن مشكلة تفسير المحيط الحيوي هي مشكلة تفسير الكيفية التي ابتُكِرتْ بها المعرفةُ الكامنة في عمليات التكيُّف الخاصة به. وبتعبيرٍ أدق، لا بد أنَّ مَن صمَّمَ كائنًا حيًّا قد ابتكَرَ أيضًا المعرفةَ التي تُفسِّر ذلك الكائن وتصرُّفاته. في ضوء هذا، تُواجِه نظريةُ الخلق مشكلةً أزلية، وهي: هل هذا المصمِّم هو كيان خارق — كان «موجودًا فحسب» ولديه كل هذه المعرفة — أم لا؟ لا يستطيع كيان «موجود فحسب» أن يكون بمنزلة تفسير (فيما يخصُّ المحيط الحيوي)، وإلا كان من الأسهل أن نقول إن المحيط الحيوي نفسه «حدث فحسب»، متضمِّنًا نفسَ هذه المعرفة المتجسدة في الكائنات الحية. ومن ناحيةٍ أخرى، مهما قدَّمَتْ نظريةُ الخلق من تفسيراتٍ عن الكيفية التي صمَّمَتْ وخلقَتْ بها الكياناتُ الخارقةُ المحيطَ الحيوي، فإن تلك الكيانات لن تصبح سوى مجردِ كياناتٍ غير مرئية — وليست خارقة — قد تكون موجودة خارج كوكب الأرض مثلًا؛ حينئذٍ لا تكون النظرية عبارةً عن نظرية خلق، إلا إذا افترضت أن كياناتٍ خارقةً قد صمَّمت أولئك المصمِّمين غير الأرضيين.
وبالإضافة لما سبق، لا بد لمصمِّم أيِّ عمليةِ تكيُّفٍ أن يكون قد «قصد» للعملية أن تكون على ما هي عليه، لكن هذا الأمر من الصعب أن يكون صحيحًا بالنسبة إلى المصمِّم المتصور تقريبًا في كل الأشكال المختلفة لنظرية الخلق — أيِ الإله أو الآلهة التي تستحق العبادة — إذ في الواقع تشوب العديدَ من عمليات التكيُّف البيولوجي بعضُ العيوب التصميمية؛ على سبيل المثال: تقع شبكات الأعصاب والأوردة الدموية في عيون الفقاريات أمام الشبكية؛ حيث يُمتَصُّ الضوءُ القادم ثم يُشتَّت؛ ممَّا يُقلِّل من جودة الرؤية. أيضًا توجد بقعة عمياء؛ حيث يمرُّ العصبُ البصري عبرَ الشبكية في طريقه إلى المخ، ولعيون بعض اللافقاريات مثل الحبار تصميمٌ مشابِهٌ جدًّا، لكنها تخلو من تلك العيوب التصميمية. صحيح أن أثر تلك العيوب على كفاءة العين طفيف جدًّا، لكن ما أقصده أن تلك العيوب تتعارض بالكامل مع الهدف الوظيفي للعين؛ ومن ثَمَّ تتعارض مع فكرة أن هذا الهدف كان يقصده المصمِّم الإلهي. وكما قال تشارلز داروين في كتابه «أصل الأنواع»: «إذا نظرنا إلى كل كائنٍ حيٍّ على أن كلَّ أعضائه قد صُمِّمَتْ منفردةً خصوصًا من أجله، فسيكون من الصعب تفسيرُ شيوع وجود أعضاء غير ذات وظيفة.»
بل إن هناك أمثلةً على تصميماتٍ غير قادرةٍ على أداء وظيفتها؛ على سبيل المثال: تملك معظم الحيوانات جينًا مسئولًا عن تصنيع فيتامين «ج»، لكن ذلك الجين غير فعَّالٍ في الرئيسيات — ومنها البشر — ولا يؤدِّي أيَّ وظيفةٍ مع أن وجوده فيها بيِّنٌ. من الصعب جدًّا تفسيرُ هذه الظاهرة إلا بأنها صفة غير متطوِّرة، ورثتْها الرئيسيات من أسلافها من غير الرئيسيات. قد يرى البعض أن كل تلك الصفات التصميمية المعيبة لها أهداف وظيفية لم تُكتشَف بعدُ، إلا أن هذا تفسير سيئ؛ إذ يمكن استخدامه لتبرير سوء أو انعدام تصميم أيِّ كيانٍ على أنه تصميم مثالي.
تفترض معظم الديانات صفةً أخرى في المصمِّم، أَلَا وهي الإحسان، غير أن المحيط الحيوي كما وصفتُه في الفصل الثالث أضيق بسكانه من أي شيءٍ قد يُصمِّمه بشريٌّ مُحسِن أو حتى شبه خيِّر. تُعرَف هذه المشكلة في السياقات اللاهوتية بمشكلة العذاب، أو بمشكلة الشر، وتُستخدَم باعتبارها حجةً على عدم وجود الرب، لكنها تخفق في هذا الدور؛ إذ يسهل تقديمُ الدفوع التقليدية بأنه ربما تختلف أخلاقيات الكيان الخارق عنَّا، أو ربما كنَّا أضحلَ فكرًا من أن نفهم مدى أخلاقية المحيط الحيوي. على كل حالٍ، ليس هدفي هنا مناقشة قضية وجود الرب من عدمه، وإنما كيفية تفسير عمليات التكيُّف البيولوجية فحسب، وعليه فإن دفوع نظرية الخلق يشوبها نفس العيب القاتل لفرضية هالدين ودوكينز (المشار إليها في الفصل الثالث)؛ فالعالم إذا كان «أغرب ممَّا يمكننا أن نفترض»، لا يمكن تمييزه عن عالم «يخدعه سحر»؛ لذا فكل هذه التفسيرات سيئة.
إن الخلل الرئيسي في نظرية الخلق — وهو أنها لا تقدِّم تفسيرًا للكيفية التي يمكن أن تبتكر بها المعرفة الكامنة في عمليات التكيُّف، أو أنها تقدِّم تفسيرًا خارقًا أو غيرَ منطقيٍّ — هو نفس الخلل الرئيسي في مفاهيم ما قبل التنوير التسلُّطية عن المعرفة البشرية. في بعض الأحيان تكون النظرية فيهما واحدة، مع وجود أنواعٍ معينةٍ من المعرفة (مثل علم الكونيات أو المعرفة الأخلاقية وقواعد السلوكيات الأخرى) تُنقل من الكيانات الخارقة إلى البشر الأوائل، وفي أحيانٍ أخرى، تحتمي السماتُ الضيقة الأفق للمجتمع (مثل وجود الملوك في الحكومات، أو حتى وجود الرب في الكون) بالمحرمات، أو تُعامَل باعتبارها مسلَّماتٍ غيرَ قابلةٍ للنقد، لدرجة أن المجتمع ينسى أنها كانت في الأصل مجردَ أفكار. وسأناقش «تطوُّر» مثل هذه الأفكار والمؤسسات في الفصل الخامس عشر.
يتعارض احتمالُ وجودِ ابتكارٍ لا متناهٍ للمعرفة في المستقبل مع نظرية الخلق تعارُضًا يُقوِّض أساسَها تقويضًا؛ فبمرور الوقت، وبمساعدة ما سنعتبره أجهزةَ كمبيوتر عظيمة القدرات، سيكون بمقدور أيِّ طفلٍ أن يُصمِّم ويُنفِّذ محيطًا حيويًّا في ألعاب الفيديو، يفوق كوكبَ الأرض تعقيدًا وجمالًا بل أخلاقيًّا أيضًا، ربما على نحوٍ عشوائيٍّ أو ربما بابتكاره لقوانينَ فيزيائيةٍ خياليةٍ تكون أكثرَ فاعليةً في الوصول إلى تنويراتٍ من القوانين الفعلية. في هذه الحالة لن يبدوَ المصمِّم المفترض لمحيطنا الحيوي مُقصِّرًا أخلاقيًّا فحسب، بل سيبدو بليدًا فكريًّا أيضًا، وهي صفة لا يمكن التغاضي عنها بسهولة؛ وعليه، ستتخلى الأديانُ عن ادِّعاء أن تصميم المحيط الحيوي أحد إنجازات آلهتها، تمامًا كما لم تَعُدْ تعبأ بالرعد باعتباره أحد تلك الإنجازات.
التولُّد التلقائي
يعني التولُّد التلقائي نشوءَ كائناتٍ حيةٍ من أصولٍ غير حية، وليس بتناسُلها من كائناتٍ حيةٍ أخرى، كأنْ تنشأ الفئران من كومة خِرَق قماشٍ مُلقاة في ركنٍ مظلم. ظلَّتِ النظرية التي ترى أن الحيوانات الصغيرة تنشأ تلقائيًّا طوال الوقت بهذه الطريقة (إلى جانب تكاثُرها بالطريقة العادية) جزءًا من الموروث السائد غير القابل للنقد أو المساءلة لآلاف السنين؛ وظلت تؤخذ على محمل الجد حتى مرور جزءٍ لا بأس به من القرن التاسع عشر. وبازدهار علم الحيوان، اضطُرَّ المدافعون عن تلك النظرية تدريجيًّا إلى حصر فرضيتهم عن التولُّد في الحيوانات الأصغر، إلى أن انحصرت الفرضيةُ فيما نُطلِق عليه اليومَ الكائناتِ الدقيقةَ، مثل الفطريات والبكتيريا التي تنمو في المزارع المعملية المغذية. بالنسبة إلى هؤلاء، كان من الصعب جدًّا عليهم دحْضُ نظرية التولُّد التلقائي معمليًّا؛ فمثلًا: لا يمكن إجراءُ التجارب عليها في أوعيةٍ مُحكَمةِ الغلق؛ إذ قد يكون الهواء ضروريًّا للتولُّد التلقائي، لكن في النهاية استطاعَتْ بعضُ التجارب العبقرية التي أجراها عالِمُ البيولوجيا لوي باستير في عام ١٨٥٩ — وهو نفس العام الذي نشر فيه داروين نظريتَه عن التطوُّر — أن تفنِّدَ نظريةَ التولُّدِ التلقائي.
كان يجب ألَّا يحتاج العلماءُ حتى إلى إجراء التجارب ليقتنعوا بسوء نظرية التولُّد التلقائي؛ فكما لا يصحُّ تفسيرُ الخدعة السحرية من خلال السحر الحقيقي؛ أيْ بقدرة الساحر على أمر الأشياء بالحدوث، وإنما بابتكاره معرفةً سابقةً على تقديم الخدعة، كان ينبغي على علماء البيولوجيا أن يبحثوا عن إجابةٍ لسؤال واحد، وهو: كيف وصلَتْ معرفةُ خلق الفئران إلى تلك الخِرق البالية، وكيف طُبِّقت هذه المعرفةُ فحوَّلَتِ الخِرق إلى فئران؟
حاوَلَ عالم اللاهوت القديس أوجسطين (٣٥٤–٤٣٠) أن يقدِّم تفسيرًا للتولُّد التلقائي، بأن رجَّحَ أن أصل كل أشكال الحياة يأتي من «بذور»، تحمل الكائناتُ الحية بعضَها وينتشر البعضُ الآخَر في كل مكانٍ على الأرض؛ وأضاف أن كِلا النوعين قد خُلِقَ إبَّان الخلق الأول للعالَم، وهما قادران — عند توافر الظروف المناسبة — على أن ينموَا في هيئة كائناتٍ من شتى الأنواع بحسب البذرة. واقترح أوجسطين بعبقريةٍ أن ذلك قد يُفسِّر لماذا لم يتعيَّن على سفينة نوح أن تحمل أعدادًا كبيرةً جدًّا من الحيوانات؛ فمن الممكن لأغلب الأنواع أن تستأنف تكاثُرها بعد الطوفان دون مساعدة نوح. إلا أن الكائنات الحية في ضوء هذه النظرية لا تنشأ نشأة خالصة من موادَّ أوليةٍ غير حية. ونوع البذور المنتشر في جميع أنحاء الأرض هو شكل من أشكال الحياة مثل البذور الحقيقية بالضبط؛ مما يفترض أن المعرفة كامنة في عمليات تكيُّف الكائن الحي الناشئ منها؛ وعليه يتضح أن نظرية أوجسطين — كما أكَّدَ هو نفسه — ليست في الواقع سوى صورةٍ من صور نظرية الخلق وليس التولُّد التلقائي. وترى بعض الأديان الكونَ باعتباره حالةً مستمرةً من الخلق الخارق، وفي كونٍ كهذا، يندرج كلُّ تولُّد تلقائي تحت مظلة نظرية الخلق.
لكن لا مفرَّ من نبذ نظرية الخلق إذا كان هدفنا هو الوصولَ إلى تفسيراتٍ جيدة، كما سبق وأوضحت؛ وعليه لا يبقى للتولُّد التلقائي سوى احتمالٍ واحد، وهو أن يكون ببساطةٍ محكومًا بقوانين الفيزياء، كأنْ «تتكوَّن» الفئرانُ في ظروفٍ معيَّنة، شأنها شأن البلورات وأقواس قزح والأعاصير والكويزرات.
يبدو هذا التصوُّر عبثيًّا اليومَ؛ حيث تمَّ اكتشافُ الآليات الجزيئية للحياة بالفعل، لكن ما الذي يعيب تلك النظرية في حد ذاتها باعتبارها تفسيرًا؟ إن ظواهر مثل أقواس قزح لها مظهر مميَّز يتكرَّر على نحوٍ لا نهائي، دون أن تنقل إحدى مرات حدوثها أيَّ معلوماتٍ للمرة التي تليها، بل حتى البلورات تتصرَّف بطرقٍ تُذكِّرنا بسلوك الكائنات الحية؛ فهي إذا وُجِدت في محلولٍ مناسب، تجذب المزيدَ من الجزيئات المناسبة وتُنظِّمها بطريقةٍ تتيح لها الزيادةَ في الحجم. وإذا كان كلٌّ من البلورات والفئران تعمل وفق قوانين الفيزياء نفسها، فلماذا يُعَدُّ التولُّد التلقائي تفسيرًا جيدًا للبلورات وليس الفئران؟ المفارقة أن الإجابة عن هذا التساؤل تُقدِّمها حجة كان الهدفُ الأصلي منها تبريرَ نظرية الخلق، وهو ما سننتقل بحديثنا إليه في القسم القادم.
حجة التصميم
استُخدِمت «حجةُ التصميم» لفتراتٍ طويلةٍ باعتبارها واحدةً من أشهر «أدلة» إثبات وجود الرب، وهي ترى أن بعض ملامح العالم يبدو أنها قد تم تصميمها عمدًا، غير أنها لم يتم تصميمها من قِبَل البشر؛ إذَنِ الرب موجود لأن «كلَّ تصميم يتطلَّب بالضرورة وجودَ مُصمِّم». كما أشرتُ يتَّسِم هذا التفسيرُ بالسوء؛ لأنه لا يفسِّر كيف خُلِقَتِ المعرفة الأصلية اللازمة لخلق تلك التصميمات (أيْ «مَن صمَّمَ المصمِّمَ؟» وغير ذلك). غير أنه من الممكن استخدام حجة التصميم بطرقٍ صحيحة، مثلما استخدمها الفيلسوف الأثيني القديم سقراط، الذي يُعَدُّ أقدمَ مَن استخدمها؛ كان ذلك حينما بزَغَ تساؤُلٌ في يومٍ ما بين طلاب سقراط مفاده: «بفرض» أن الآلهة قد خَلقَتِ العالَمَ حقًّا، أتراها تأبه لما يحدث فيه؟ جادَلَ أرسطوديموس أحد تلامذة سقراط بأنها لا تفعل، في حين أجاب تلميذه الآخَر المؤرخ زينوفون بترديد إجابة سقراط نفسه حين قال:
كان سقراط محقًّا حين رأى أن «هيئة التصميم» في الكائنات الحية هي أمر بحاجةٍ إلى تفسير، فلا يمكن أن تكون «محض صدفة»؛ تحديدًا لأنها تَشِي بوجود معرفة. لكن كيف خُلِقتْ هذه المعرفةُ؟
لكن لم يوضِّح سقراط قطُّ ممَّ تتألف هيئة التصميم هذه ولماذا. هل للبلورات وأقواس قزح هذه الهيئة؟ وهل الأمر ينطبق كذلك على الشمس أو الصيف؟ وفي أي شيءٍ تختلف هذه الأشياء عن عمليات التكيُّف البيولوجية مثل الحواجب؟
كان أول مَن تناوَلَ مسألةَ ما ينبغي تفسيرُه بالضبط في «هيئة التصميم» هو الكاهن ويليام بايلي، أبرز مناصري حجة التصميم؛ ففي عام ١٨٠٢ — أيْ قبل مولد داروين — نشر بايلي إحدى تجاربه الفكرية في كتابه «اللاهوت الطبيعي»، التي تخيَّلَ فيها أنه مشى في مرج، فعثر على حجر، أو عثر على ساعة، وتخيَّلَ أنه قد تساءَلَ في الحالتين كيف أتى ما عثَرَ عليه إلى الوجود، ثم فسَّرَ لماذا يحتاج وجود الساعة إلى تفسيرٍ من نوعٍ مختلفٍ تمامًا عن تفسير وجود الحجر؛ لأنه حسب ظنه ربما كان الحجر قابعًا هنالك منذ الأزل. نحن نعلم اليومَ عن تاريخ الأرض ما هو أكثر؛ ومن ثَمَّ يجب أن نُرجِع الأمرَ إلى مستعرٍ أعظم وتحوُّل العناصر وتصلُّب قشرة الأرض، لكن ذلك لا يؤثِّر على حجة بايلي، فما أراد قوله هو أن هذا النوع من التعليلات قد يفسِّر كيف أتى إلى لوجود الحجرُ أو حتى المواد الخام التي صُنِعت منها الساعةُ، لكنه لا يمكن أن يفسِّر الساعةَ نفسها أبدًا.
لهذا السبب فقط دون غيره يتضح لنا حين نفحص الساعةَ أن أجزاءها المختلفة قد صُنِعتْ وجُمِعتْ لهدفٍ محدَّدٍ (وهو ما لا نجده في الحجر)؛ أي إنها مثلًا مصنَّعة ومهيَّأة بحيث تنتج عنها حركة، وهذه الحركة في غاية الانتظام بحيث تتمكَّن من الإشارة إلى الوقت بدقة.
لا يمكننا تفسير وجود وتركيب الساعة دون الرجوع إلى الهدف الذي تختصُّ به، وهو الإشارة الدائمة إلى الوقت الصحيح. ومثل التلسكوبات التي ذكرتها في الفصل الثاني، فهي تركيب مادي فريد، وليس من قبيل الصدفة أنها تشير إلى الوقت على نحوٍ دقيق، ولا أن أجزاءها تلائِمُ تلك المهمة، ولا أنها مركَّبة معًا بطريقةٍ محدَّدةٍ دون غيرها؛ إذنْ فلا بد أن «كياناتٍ ذكيةً» قد صمَّمَتْ تلك الساعةَ. كان بايلي يُلمح بالطبع إلى أن كل هذا ينطبق بوجهٍ أحقَّ على أي كائنٍ حي — كالفأر مثلًا — والذي بفحصه نرى أن «أجزاءه المختلفة» مصنَّعة (ويبدو أنها مصمَّمة) لخدمة هدفٍ ما؛ حيث تخدم عدسات عينيه مثلًا هدفًا يُشبه الهدف من عدسات التلسكوبات، وهو تركيز الضوء لتكوين صورةٍ على شبكيته، وهذا يخدم بدوره هدفًا آخَر هو التعرُّف على الطعام والخطر وغيرهما.
لو اختلف شكل الأجزاء عمَّا هو عليه، أو اختلف حجمها، أو تمَّ تركيبها على شكلٍ مختلفٍ أو بترتيبٍ مختلف، لَما نتجت عنها أيُّ حركة، أو لَنتجَتْ عنها حركةٌ لا تؤدِّي إلى تحقيق الهدف الذي جُمِعت معًا من أجله.
إن مجرد أن يخدم كيانٌ ما هدفًا ما، دون أن يكون من الصعب تغييره مع استمراره في تحقيق نفس الهدف، ليس من علامات التصميم أو التكيُّف؛ فيمكننا مثلًا أن نستخدم الشمسَ لنستدلَّ بها على الوقت، وهو هدف سيظل ممكنَ التحقيق لو تغيَّرَتْ كلُّ صفات الشمس قليلًا (أو حتى كثيرًا)؛ فهو استخدامٌ أوجدناه نحن للشمس ضمن استخداماتٍ أخرى عديدة، ولم تتكيَّف أو تُصمَّم قطُّ هي لأدائه، تمامًا كما نُحوِّل الكثير من موادِّ الأرضِ الخام غير المكيَّفة لنخدم بها أهدافنا. وتنتمي المعرفة، في هذه الحالة، إلينا — وإلى ساعاتنا الشمسية — وليس إلى الشمس، غير أن المعرفة كامنة في الساعة، وفي الفأر.
من الحتمي إذنْ أن نستنتج أنه لا بد من وجود صانعٍ للساعة … فلا يمكن أن يوجد تصميم دون مصمِّم، ولا شيء مصنوع بلا صانع، ولا تنسيق بلا اختيار، ولا ترتيب دون شيءٍ قادرٍ على الترتيب، ولا أدوات صالحة لهدفٍ محدَّدٍ دون وجودِ مَن يقصد هذا الهدف، ولا وسيلة لخدمة غاية ما … دون وجود مَن يتأمَّل تلك الغاية، أو وسيلة كُيِّفت لبلوغ تلك الغاية. يشير هذا الترتيب وتناسُق الأجزاء وصلاح الوسيلة لخدمة الغاية وارتباط الأدوات بالاستخدام الذي وُجِدت من أجله؛ إلى وجود عقلٍ وذكاء.
غير أننا نعلم اليومَ أنه «من الممكن» أن يوجد تصميم بلا مصمِّم، وأن توجد معرفة دون مَن يوجدها؛ فبعض أنواع المعرفة يمكن أن توجد من خلال التطوُّر، وسأناقش ذلك بعد قليل. لكني لا أنتقد بايلي هنا على عدم درايته باكتشافٍ لم يكن قد حدث بعدُ آنذاك، والذي يُعَدُّ من أعظم الاكتشافات في تاريخ العلم.
ومع ذلك، فبايلي مع دقة فهمه للمشكلة، لم يفطن إلى أن الحل الذي يقترحه — أي نظرية الخلق — لا يحل تلك المشكلة، وأن حجته تستبعده؛ لأن المصمِّم الأعظم الذي نادى بايلي بوجوده هو أيضًا كيان معقَّد وهادف، وقطعًا لا يقلُّ تعقيدًا عن الساعة أو أي كائنٍ حي؛ وعليه، وكما لاحَظَ العديدُ من النقَّاد من حينها، فإننا إذا استبدلنا «المصمِّم الأعظم» ﺑ «الساعة» في نص بايلي السابق، فإننا ندفعه دفعًا لنفس «الاستنتاج الحتمي بأنه لا بد للمصمِّم الأعظم من صانع»؛ وبهذا التناقض تستبعِد حجةُ التصميم التي طوَّرها بايلي وجودَ مصمِّم أعظم.
لاحِظْ أن هذا ليس دليلًا على عدم وجود الرب، مثلما لم تكن الحجة الأصلية دليلًا على وجوده، لكنه يثبت أنه لا يمكن للرب أن يقوم بالدور الذي تفترضه نظريةُ الخلق، وذلك في أي تفسيرٍ جيدٍ لأصل عمليات التكيُّف البيولوجية. وعلى الرغم من أن هذا هو عكس ما اعتقد بايلي أنه حقَّقَه، فلا يمكن لأيٍّ منَّا أن يختار ما تُضمره أفكاره. كان مدى فكرة بايلي عامًّا؛ إذ شمل — بحسب معياره — كلَّ ما له هيئة التصميم، وأضحت الفكرة ضروريةً لفهم العالم؛ إذ أوضحَتِ الحالةَ الخاصةَ للكائنات الحية، ووضعتْ معيارًا يجب لتفسيرات الكيانات المثقلة بالمعرفة أن تفيَ به حتى تكون صحيحة.
اللاماركية
لطالما تساءَلَ الناس قبل ظهور نظرية داروين الخاصة بالتطوُّر عمَّا إذا كان المحيطُ الحيوي وعمليات التكيُّف الخاصة به قد ظهرَتْ تدريجيًّا، وكان إراسموس داروين (١٧٣١–١٨٠٢) جدُّ تشارلز داروين وعمادُ التنوير ممَّنْ شغلتهم تلك المسألةُ. أُطلِق على تلك العملية في ذلك الحين مصطلح «التطوُّر»، وإنِ اختلَفَ معناها الرئيسي عمَّا هو عليه اليومَ؛ إذ عُرِفتْ كلُّ عمليات التحسُّن التدريجي حينئذٍ بالتطوُّر، بصرف النظر عن آلياتها. (وهو مصطلح ما زال يُستخدَم حتى اليوم في الأحاديث العامة، باعتباره مصطلحًا فنيًّا في الفيزياء النظرية على وجه الخصوص؛ حيث يعني «التطوُّر» أيَّ نوعٍ من أنواع التغيُّر المستمر التي يلجأ المرء إلى تفسيرها من خلال قوانين الفيزياء.) ميَّزَ تشارلز داروين العمليةَ التي اكتشفها بأن سمَّاها «التطوُّر بالانتقاء الطبيعي»، وإنْ كان من الأفضل أن تُدعَى «التطوُّر بالتبايُن والانتقاء».
لا بد أن بايلي كان سيجد أن «التطوُّر بالانتقاء الطبيعي» منهج تفسيري أكثر موضوعيةً من «التطوُّر» فحسب لو أنه عاش ليعاصره؛ فبينما يعجز «التطوُّر» عن حلِّ مشكلة بايلي، ينجح «التطوُّر بالانتقاء الطبيعي» في حلها. تطرح أي نظريةٍ عن التحسُّن سؤالًا محتومًا، وهو: كيف خُلِقَتِ المعرفة التي كان من شأنها خلْقُ ذلك التحسُّن؟ وهل تلك المعرفة موجودة منذ البداية؟ أم أنها «حدثت فحسب»؟ إن النظرية التي ترى أن المعرفة موجودة منذ البداية هي نظرية الخلق، أما تلك التي ترى أنها حدثت فحسب، فهي نظرية التولُّد التلقائي.
في الأعوام الأولى من القرن التاسع عشر، قدَّمَ أحد أنصار المذهب الطبيعي جون-باتيست لامارك اقتراحًا آخَر لإجابة نفس السؤال، والذي يُعرَف اليومَ باسم «اللاماركية». والفكرة الرئيسية في اللاماركية هي أن ما يطرأ على الكائن الحي من تحسيناتٍ على مدار حياته يمكن أن يُورَّث لذُريته. كان لامارك يُركِّز تحديدًا على التحسينات التي تحدث في أعضاء الكائن الحي، وأطرافه وغيرها، مثل زيادة قوة وحجم العضلات التي يستعملها الكائن الحي بكثرة، وضعف تلك التي يندر استعماله لها؛ وكان إراسموس داروين قد توصَّلَ إلى ذلك التفسير المعتمد على فكرة «الاستخدام وعدم الاستخدام» منفردًا كذلك. ومن أمثلة التفسير اللاماركي الكلاسيكية تفسيرُ طول رقبة الزرافات، بأنها حين حاولت أن تأكل من الأشجار، ووجدت أن أوراق أغصانها القريبة من الأرض قد نفدت، اضطُرَّت إلى مَطِّ أعناقها لأكل الأغصان العليا، وهذا من المفترض أنه أدَّى إلى استطالة أعناقها قليلًا ووراثة ذُرياتها سمةَ الرقبة الأطول قليلًا؛ وعليه تطوَّرَتِ الزرافات ذات العنق الطويل من أسلافٍ ذات عنقٍ عاديٍّ على مدى أجيالٍ عديدة. وأضاف لامارك مقترحًا أن تلك التحسينات تحدث بسبب ميلٍ أصيلٍ في قوانين الطبيعة نحو زيادة التعقيد.
إلا أن تلك الإضافة الأخيرة محض هراء؛ فليس كل تعقيدٍ يمكن أن يكون تفسيرًا لتطوُّر عمليات التكيُّف؛ إذ لا بد أن ينطويَ الأمر على «المعرفة». وهكذا يتفق هذا الجزء من النظرية مع نظرية التولُّد التلقائي، أو المعرفة غير المفسرة. لم يكن لامارك ليمانع؛ إذ اعتبر التولُّد التلقائي أمرًا مسلَّمًا به، مثل الكثير من مفكِّري عصره، حتى إنه أدمجه بوضوحٍ في نظريته عن التطوُّر؛ حيث خمَّنَ أن سبب وجود كائناتٍ بسيطةٍ، لا تتفق مع قانونه الخاص بالطبيعة الذي يُجبر الأجيالَ المتعاقبة من الكائنات الحية على اتِّخاذ أشكالٍ أكثر تعقيدًا، هو أنها تتكوَّن باستمرارٍ بالتولُّد التلقائي.
اعتبر البعضُ تلك النظريةَ فكرةً رائعة، إلا أنها لا تمتُّ للحقائق بِصلة، وأبرزُ أخطائها أن عمليات التكيُّف التطورية في الواقع لها طابع يختلف تمامًا عن التغيرات التي تطرأ على الفرد على مدار عمره؛ فالأولى تتطلَّب خلقَ معرفةٍ جديدة، أما الثانية، فلا تحدث إلا إذا وُجِد بالفعل التكيُّفُ الذي يسمح بوقوع ذلك التغيير. على سبيل المثال: يتحكَّم في ميل العضلات لأنْ تكون أقوى أو أضعف بالاستخدام أو عدم الاستخدام مجموعةُ جيناتٍ معقَّدة (مثقلة بالمعرفة). لم يملك أسلاف الحيوان الأقدم تلك الجينات، ولا تستطيع اللاماركية تفسيرَ خلق المعرفة التي وُجِدت بتلك الجينات.
إذا عانيتَ من نقصٍ في فيتامين «ج»، فلن يتسبَّبَ ذلك في تحسين جينِ تصنيعِ فيتامين «ج» المعيب في جسدك، إلا إذا تصادَفَ أنْ كنتَ اختصاصيَّ هندسةٍ وراثية. وإذا عاش نمر في بيئةٍ تُظهِره ألوانُه فيها أكثرَ مما تُخفِيه، فلن يفعل ما يُغيِّر به ألوانَ فرْوه، وإن فعل فلن تَرِثَ ذُريتُه ذلك التغييرَ؛ إذ إنه لا شيء في النمر «يعرف» سببَ وجود تلك الخطوط على فروه؛ إذنْ كيف كان لأي آليةٍ لاماركيةٍ أن «تعرف» أنَّ تخطيطَ فرْو النمر على نحوٍ أكثفَ قليلًا سيؤمِّن له فرصَ غذاءٍ أفضل؟ ومن أين لها أن «تعرف» كيفيةَ تصنيع الصبغات اللونية وإفرازها في الفرو على نحوٍ يرسم الخطوطَ بتصميمٍ أكثر نفعًا.
يتشابه الخطأ الرئيسي الذي ارتكَبَه لامارك مع ذلك الخاص بالاستقرائية في منطقهما، حين يفترضان أن المعرفة الجديدة (عمليات التكيُّف والنظريات العلمية على الترتيب) موجودة في التجربة فعلًا بطريقةٍ أو بأخرى، أو أنها يمكن أن تُستخلص آليًّا من التجربة. لكن الحقيقة دائمًا هي أن المعرفة لا بد أن تُفترَض أولًا، ثم تُختبَر، وهذا بالضبط ما تنصُّ عليه نظرية داروين؛ إذ تقول إن الطفرات العشوائية تحدث في البداية (إذ لا تأخذ في اعتبارها المشكلة التي تحاول حلها)، ثم ينبذ الانتقاءُ الطبيعي الجيناتِ المتغيرةَ غيرَ القادرة على إيجاد مكانٍ لنفسها مرةً أخرى في الأجيال المستقبلية.
الداروينية الجديدة
تدور الداروينية الجديدة حول فكرةٍ رئيسيةٍ هي أن التطوُّر يُحابي الجينات التي تُجيد الانتشار بين أفراد النوع، وهي فكرة أعمق مما تبدو عليه، كما سأوضِّح.
من المفاهيم الخاطئة الشائعة عن التطوُّر الدارويني أنه يُعظم من «مصلحة النوع»، وهذا تفسير معقول، لكنه خاطئ، لبعض مظاهر سلوك الإيثار في الطبيعة، مثل مخاطرة الآباء بحياتهم لحماية صغارهم، أو أن تُطوِّق الحيوانات الأقوى أطراف قطعانها عند تعرُّضها لهجمات؛ ممَّا يقلِّل فرصها في حياةٍ سهلةٍ طويلةٍ أو الحصول على ذُريةٍ أكثر. في ضوء هذا، قيل إن التطوُّرَ يميل إلى مصلحة الأنواع ككلٍّ، لا الأفراد، لكنه في الحقيقة لا يعمل لمصلحة أيٍّ منهما.
تأمل معي التجربة الفكرية التالية لأُوضِّح لك سبب هذا. تخيَّلْ أن في جزيرةٍ ما يمكن أن تزيد الأعدادُ الكلية من نوعٍ محددٍ من الطيور لو أنها عشَّشَتْ في بداية شهر أبريل مثلًا، ويعود تفسير تحديد هذا التوقيت إلى عدة تفضيلاتٍ تتضمَّن عواملَ مثل: درجة الحرارة، وانتشار الحيوانات المفترسة، وتوافر الغذاء، ومواد بناء الأعشاش وغيرها. لنفترِضْ أن تلك الطيور بها جينات تجعلها تُعشِّش في ذلك التوقيت الأمثل؛ سيعني ذلك أن تلك الجينات مكيَّفة لزيادة تعداد الطيور، وهو ما يمكن أن نُسمِّيَه «تعظيم مصلحة النوع».
لنفترِضْ أن هذا التوازن قد أخلَّ به حدوثُ طفرةٍ في جينٍ في طائرٍ واحدٍ تجعله يُقِيم عشَّه قُبيلَ موعده بقليلٍ، في آخِر مارس مثلًا؛ وَلْنفترِضْ أن باقيَ الجينات السلوكية لذلك النوع تُوجِب أن يتلقَّى الطائرُ عندما يرغب في بناء عشٍّ له كلَّ التعاون المطلوب من رفيقته؛ سيحظى هذا الزوج بأفضل موقعٍ لبناء عشِّهما على الجزيرة، وهذه مَزيَّة فيما يتعلَّق ببقاء ذريتهما ستفوق كلَّ المساوئ البسيطة التي قد يُسبِّبها التعشيشُ المبكر. في هذه الحالة ستتزايد أعدادُ الطيور التي تبني أعشاشَها في مارس في الجيل التالي، وستحصل جميعًا على مواقعَ ممتازةٍ للتعشيش، وسيعني هذا أن عددًا أقل من المعتاد من الطيور المعشِّشة في أبريل سيجد بقعًا جيدة للأعشاش؛ لأن أفضل بُقَع التعشيش ستكون قد نَفِدَتْ بحلول الوقت الذي يبدءون فيه البحثَ، وسيستمر ازدياد بُناة الأعشاش في مارس في الأجيال المتعاقبة، وإذا اتَّسع تأثيرُ مَزيَّة الحصول على المواقع الأفضل بوجهٍ كافٍ، فقد تنقرض مجموعةُ بُناة الأعشاش في أبريل، وإذا عادت إلى الوجود مرةً أخرى باعتبارها طفرةً، فلن تتكاثر لأنها لن تجد مكانًا لبناء أعشاشها حين يحين وقت ذلك.
لذا، فالموقف الأصلي كما تخيَّلناه — حيث الجينات مكيَّفة على النحو الأمثل لتعظيم مصلحة المجموعة (أي: «مصلحة النوع») — هو موقف غير ثابت؛ حيث سيحدث من الضغط التطوُّري ما يُجبِر الجيناتِ على أن تكون «أقلَّ» تكيُّفًا لأداء تلك المهمة.
لقد أضرَّ هذا التغييرُ بالنوع لأنه قلَّلَ من أعداده الإجمالية (لأن الطيور في هذه الحالة لم تَعُدْ تبني أعشاشها في الوقت الأمثل)، ولربما أضَرَّه أيضًا بأنْ زاد من احتمالات انقراضه؛ مما يقلِّل فُرَصَ انتشاره في بيئاتٍ ومواطنَ أخرى، إلى آخِره. على هذه الشاكلة نرى كيف يمكن لنوعٍ متكيِّفٍ تكيُّفًا مثاليًّا أن يتطوَّر ليصبح «أسوأ حالًا» بكل المقاييس.
لو ظهر جين طافر آخَر يُسبِّب بناءَ الأعشاش في وقتٍ أبكر من مارس، لَتكرَّرَتِ العمليةُ كلُّها مرةً أخرى، ولَكانت الغلبة لجينات البناء المبكِّر ولَقَلَّتِ الأعدادُ الإجمالية للنوع مرةً أخرى؛ وبهذا يكون التطوُّرُ دافعًا لتبكير التعشيش وتقليل الأعداد، ولن يوجد توازنٌ جديد قبل أن تفوق المنفعةُ لذُرية طائرٍ منفردٍ من حصوله على أفضلِ موقعٍ لعُشه مساوئَ التعشيش المبكر، وهو بالتأكيد ليس التوازنَ الأمثل للنوع.
هناك مفهوم خاطئ آخَر ذو صلةٍ هنا فِكرتُه أن التطوُّر دائمًا ما يكون «تكيُّفيًّا»؛ أي إنه يكون باعثًا بالضرورة على التقدُّم، أو على الأقل على إحداث أي تحسينٍ في أداء الوظائف التي يعمل على جعْلها أفضل. عادةً ما تتلخَّص هذه الفكرة في عبارةٍ صاغها الفيلسوف هربرت سبنسر — وللأسف كرَّرها داروين نفسه — هي: «البقاء للأصلح.» لكن الوضع ليس كذلك أيضًا كما توضِّح لنا التجربةُ الفكرية السابقة؛ إذ إن ما حدث من تغييرٍ تطوُّريٍّ لم يضرَّ بالنوع فحسب، بل أضرَّ كلَّ طائرٍ على نحوٍ منفرد؛ لأنه سيعاني من حياةٍ أقسى من ذي قبل في أي موقعٍ يتخذه للعُش؛ لأنه سيتخذه مبكرًا.
من هنا يتضح أنه رغم أن وجود التقدُّم في المحيط الحيوي كان سببَ ظهور نظرية التطوُّر في محاولةٍ لتفسيره، فليست كلُّ أشكال التطوُّر تُحقِّق التقدُّمَ، كما أن التطوُّر «الجيني» لا يعزِّز التقدُّمَ.
إذنْ، ما الذي حقَّقه تطوُّرُ هذه الطيورِ بالضبط في تلك الفترة؟ لم يُعزِّزِ التكيُّفَ الوظيفيَّ لجينٍ متغيِّرٍ بالنسبة إلى بيئته — وهو ما كان سيُعجِب بايلي — بل عزَّزَ القدرةَ النسبيةَ للجينِ المتغيِّر الذي بقي على أن «ينتشر في باقي أفراد النوع». لن يستطيع جينُ التعشيش في أبريل الانتشارَ في الجيل التالي، مع أنه وظيفيًّا الجينُ الأفضل؛ قد يكون جينُ التعشيش المبكر الذي حلَّ محله فعَّالًا، إلا أنه ليس «الأصلحَ» إلا لمنع الجينات المختلفة منه من الانتشار. إن التغيير الذي حلَّ على هذا النوع خلال تلك الفترة التطوُّرية هو كارثة بالنسبة إليه وإلى أفراده، لكنَّ التطوُّرَ لا يهتم بذلك، وهو يفضِّل فقط الجيناتِ الأقدرَ على الانتشار بين أفراد النوع.
إن التطوُّرَ حتى قد يفضِّل جيناتٍ ليست فقط أقلَّ من المُثلى، بل ضارة أيضًا بالكامل للنوع ولأفراده، ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك ذيلُ الطاووس الملوَّن الكبير، الذي يُعتقَد أنه يقلِّل من فُرص استمرار حياته؛ لأنه يُصعب مهمتَه في التخفِّي من الحيوانات المفترسة، كما أنه ليس له وظيفةٌ مفيدة على الإطلاق. سادت جيناتُ الذيول البارزة ببساطةٍ لأن إناثَ الطاووس تميل إلى اختيار الذكور ذوي الذيول البارزة عند التزاوج؛ فلماذا كان ضغطُ الانتقاء في صالح تلك التفضيلات؟ أحد الأسباب أن الإناث عندما تزاوَجَتْ من الذكور ذوي الذيول البارزة أنجبت ذكورًا ذوي ذيولًا أكثر تميُّزًا، وجدت بدورها إناثًا أكثرَ للتزاوُج، ومن الأسباب أيضًا أن الذكر ذا الذيل الكبير والملوَّن يكون غالبًا أوفرَ صحةً. في كل الأحوال، كانت محصلة ضغوط الانتقاء أنِ انتشرتْ كلٌّ من جينات الذيول الكبيرة الملوَّنة، وجينات تفضيل هذه الذيول في أفراد النوع، وكان على النوع وأفراده أن يعانيَ العواقب.
إذا فرضت أفضلُ الجينات انتشارًا مساوئَ قاتلةً على النوع، فسينقرض النوع. لا يمنع ذلك شيء في التطوُّر البيولوجي؛ ومن المفترض أن هذا حدَثَ مرارًا على مرِّ تاريخ الحياة على الأرض لأنواعٍ أقل حظًّا من الطاووس. سمَّى دوكينز رؤيتَه البارعةَ للداروينية الجديدة «الجينَ الأناني»؛ لرغبته في التأكيد على أن التطوُّر لا يدعم «رخاءَ» الأنواع ولا أفرادها، لكنه — كما أوضح دوكينز — لا يدعم رخاءَ الجينات كذلك؛ فهو لا يُكيِّفها للبقاء بأعدادٍ أكبر، ولا حتى للبقاء على الإطلاق، وإنما يُكيِّفها فقط للانتشار بين أفراد النوع على حساب الجينات المنافسة، التي تختلف عنها اختلافات طفيفة وحسب.
إذنْ، هل يعود تحقيقُ معظم الجينات في الغالب إلى منافعَ وظيفيةٍ — وإنْ كانت ليست مثاليةً تمامًا — لأنواعها ولحامليها من الأفراد إلى عامل الحظ وحده؟ الإجابة هي: لا؛ فالكائنات الحية عبيد، أو أدوات، تستخدمها الجيناتُ لتحقيق «هدفها» في نَشْر نفسها بين أفراد النوع (وهو الهدف الذي لم يُخمِّنه بايلي ولا حتى داروين). تكون لجيناتٍ معينةٍ منافعُ أكبر من الجينات الأخرى جزئيًّا بإبقاء عبيدها على قيد الحياة أصحاء، تمامًا كما يفعل مالكو العبيد من البشر. لم يُقدِّم مالكو العبيد الغذاءَ والمأوى لعبيدهم، بل وكانوا يجبرونهم على التناسُل، بدافع حرصهم عليهم سواءٌ كمجموعاتٍ أم كأفراد، بل سعيًا وراء تحقيق مطامحهم الشخصية، وهو نفس ما تفعله الجينات.
وهناك أيضًا ظاهرةُ المدى؛ فالمعرفة الموجودة في الجين إذا ما كان لها مدًى، فإنها ستساعد الفردَ في مساعدة نفسه في نطاقٍ أوسع من الظروف، أكثر ممَّا يتطلَّبه الجينُ لينتشر؛ لهذا مثلًا تعيش البغالُ على الرغم من أنها كائنات عقيمة. إذن ليس من الغريب أن الجينات عادةً ما تمنح نوعَها وأفراده بعضَ المنافع، وأنها تنجح في معظم الأحيان في زيادة أعداده؛ وأيضًا ينبغي ألَّا يفاجئنا فعلُها العكسَ في أحيانٍ أخرى. لكنَّ ما تتكيَّف الجيناتُ من أجل أدائه — وما تُحقِّقه أفضل من منافسيها من أشكالها الأخرى — لا علاقةَ له بالنوع ولا بالأفراد ولا حتى ببقائها هي على المدى الطويل، وإنما يرتبط فقط بتناسُخها وانتشارها على حساب الجينات الأخرى.
الداروينية الجديدة والمعرفة
لا تشير الداروينية الجديدة على مستواها الأساسي إلى أي شيءٍ بيولوجي، وهي تقوم على فكرة الناسخ (أي شيء يشترك في نسْخ نفسِه على نحوٍ سببي). (يختلف استخدامي لمصطلح الناسخ عن استخدام دوكينز؛ إذ يسمِّي دوكينز كلَّ ما ينسخ لأي سببٍ ناسخًا، وما أشير إليه أنا بالناسخ يُسمِّيه هو «الناسخ النَّشِط».) على سبيل المثال: قد يتسبَّب أحد الجينات الذي يوفِّر القدرةَ على هضم نوعٍ معينٍ من الطعام، في جعْل أحد الكائنات يحافظ على صحته في بعض المواقف التي قد تُحتِّم ضعفَه أو هلاكَه لولا وجودُ هذه القدرة في جعبته؛ وبهذا يزيد الجينُ من فُرَص الكائن الحي في إنجاب ذُريةٍ في المستقبل، سترث «نسخًا» من هذا الجين وتنشرها.
يمكن للأفكار أيضًا أن تكون ناسخات؛ على سبيل المثال: المزحة الجيدة ناسخة؛ لأنها حينما تقطن عقلَ شخصٍ تميل إلى جعْله يقصُّها على غيره، وبهذا تنسخ نفسَها في عقولهم. ابتكَرَ دوكينز المصطلح «ميمات» للإشارة إلى الأفكار التي تنسخ نفسَها. معظم الأفكار ليست ناسخات؛ فهي لا تجعلنا ننقلها للآخرين، لكن كل الأفكار الطويلة الأمد تقريبًا — مثل: اللغات، أو النظريات العلمية، أو العقائد الدينية، أو كل الحالات العقلية التي لا يمكن وصفها والتي تُمثِّل الثقافات مثل كون الشخص بريطانيًّا، أو المهارة التي تُمكِّن الشخصَ من أداء مقطوعةٍ موسيقيةٍ كلاسيكية — هي ميمات (أو «مجمعات الميمات»، وهي تجمُّعات من الميمات المتفاعلة). سأعرض المزيدَ عن الميمات في الفصل الخامس عشر.
إن الطريقة الأعم لعرض المغزى الرئيسي لنظرية الداروينية الجديدة عن التطوُّر تتمثَّل في أن مجموعةً من الناسخات المعرَّضة للتبايُن (بالنَّسخ غير المثالي مثلًا) ستتغلَّب عليها الأشكالُ المختلفةُ الأقدرُ على التسبُّب في نسْخ نفسِها مقارَنةً بمنافِساتها. تُنتقَد هذه الحقيقة العميقة على نحوٍ مدهشٍ عادةً، إما لعدم ضرورة عرضها نظرًا لبداهتها الشديدة، وإما لأنها خاطئة. أعتقد أن السبب هو أن هذه الحقيقة لا تُفسِّر بعضَ التكيُّفاتِ المحدَّدةَ بذات البديهية التي تُفسِّر بها نفسَها؛ إننا نميل فطريًّا إلى تفضيل التفسيرات التي تشرح الهدفَ أو الوظيفةَ؛ أي: ماذا يُحقِّق الجين لحامله، أو نوع حامله؟ لكننا رأينا لتوِّنا كيف أن الجينات لا تُحسِّن عمومًا من أداء الوظائف.
المعرفة الكامنة في الجينات إذنْ هي معرفة خاصة بالكيفية التي تُمكِّنها من نسْخ نفسِها على حساب منافِساتها. عادةً ما تُحقِّق الجيناتُ ذلك بنقلها وظائفَ نافعةً للكائن الحي الذي يحملها، وحينئذٍ تتضمَّن المعرفةُ الكامنة بالجينات معرفةً عن تلك الوظائف أيضًا. تتحقَّق هذه الوظائفُ عن طريق تشفير الانتظامات الموجودة في البيئة — بل أحيانًا أيضًا تقريبات تعتمد على أحكام الخبرة عن قوانين الطبيعة — داخل الجينات، وفي هذه الحالة تكون الجيناتُ أيضًا هي ما يقوم بذلك التشفير؛ إلا أن جوهرَ تفسير وجودِ أيِّ جينٍ هو دائمًا أنه استطاع أن ينسخ نفسَه أكثر من منافسيه من الجينات.
يمكن أن تتطوَّر المعرفةُ البشرية غير التفسيرية أيضًا على نحوٍ مماثل؛ فلا تنتقل أحكامُ الخبرة بدقةٍ إلى الجيل التالي من مستخدميها، وتلك التي تبقى منها على المدى الطويل لا تكون بالضرورة هي تلك التي تُحسِّن من أداء الوظيفة الظاهرية؛ فعلى سبيل المثال: قد يتمُّ تذكُّر وتكرار حكم الخبرة المَصوغ في شكلٍ موزونٍ على نحوٍ أفضل من ذلك المَصوغ في شكلٍ نثريٍّ عاديٍّ، وإنْ كان أدقَّ. لا توجد معرفة بشرية غير تفسيريةٍ بالكامل؛ فهناك دائمًا على الأقل خلفية من الافتراضات عن الواقع التي يُفهَم في ظِلِّها معنى أحكام الخبرة، والتي قد تجعل بعض الأحكام غير الصحيحة تبدو قابلةً للتصديق.
تتطوَّر النظريات التفسيرية بآليةٍ أكثر تعقيدًا؛ حيث ما زال للأخطاء العارضة في النقل والذاكرة دورٌ، وإن كان أصغر كثيرًا. يرجع هذا إلى أن التفسيرَ الجيدَ صعبُ التغيُّر، حتى دون أن يُختبَر؛ ومن ثَمَّ يغدو من الأسهل على المتلقِّي اكتشافُ الأخطاء العشوائية الموجودة في نقْل التفسير الجيد وتصحيحُها. والإبداع هو أهم منابع التبايُن في النظريات التفسيرية؛ فمثلًا: عندما يحاول الناس فهم فكرةٍ يسمعونها من غيرهم، فلا يصلهم منها إلا أكثر المعاني منطقيةً بالنسبة إليهم، أو ما يتوقَّعون أن يسمعوا، أو ما يخشون أن يسمعوا، وهكذا. يفترض القارئ أو المستمع هذه المعاني، التي قد تختلف عمَّا كان يعنيه الكاتب أو المتحدِّث، وبالإضافة إلى هذا، عادةً ما يسعى الناسُ إلى تحسين التفسيرات، حتى إن تلقَّوْها بدقةٍ؛ إذ يقومون بتعديلاتهم الإبداعية النابعة من نقدهم الشخصي، وهم إذ ينقلون بعد ذلك التفسيرَ لغيرهم، يحاولون عادةً أن ينقلوا ما يعتقدون أنه النسخة المحسَّنة منه.
بخلاف الجينات، تأخذ الميمات أشكالًا ماديةً مختلفةً في كل مرةٍ تنسخ نفسَها فيها؛ فمن النادر جدًّا أن يتناقل الناس الأفكارَ باستخدام نفس الكلمات التي سمعوها بها، وهم أيضًا يترجمون الأفكار من لغةٍ إلى أخرى، وبين لغتَي التحدُّث والكتابة، وهكذا. إلا أننا ندعو على نحوٍ صحيحٍ ما يُنقَل بأنه «نفس» الفكرة؛ أي نفس الميم. هكذا، نرى أن الناسخ الحقيقي في حالة معظم الميمات هو شيء مجرد غير ملموس، وهو المعرفة نفسها، وينطبق ذلك نظريًّا أيضًا على الجينات؛ فكثيرًا ما تلجأ التكنولوجيا الحيوية إلى تخزين الجينات في شكل معلوماتٍ في ذاكرات أجهزة الكمبيوتر، حيث تكون في هيئةٍ ماديةٍ مختلفة. يمكن لتلك المعلومات أن ترجع لأصلها في شكل سلاسل الحمض النووي؛ ومن ثَمَّ تُزرَع في حيواناتٍ مختلفة. إن السبب الوحيد وراء عدم كون تلك الممارسة شائعةً بعدُ هو أن نسْخ الجين الأصلي أسهل، لكن قد تُنقَذ جينات نوعٍ ما نادرٍ من الانقراض في يومٍ ما، بأن تتسبَّب في جعْل نفسِها تُخزَّن في ذاكرة كمبيوتر؛ ومن ثَمَّ تُزرَع في خلية نوعٍ آخَر. وأقول «تتسبَّب في جعْل نفسِها تُخزَّن»؛ لأن علماء التكنولوجيا الحيوية لن يُسجِّلوا المعلومات على نحوٍ عشوائيٍّ، وإنما فقط ما يجدون أنه يتوافق مع معيارٍ معينٍ مثل «جين نوعٍ معرَّضٍ للانقراض»؛ وعليه ستكون قدرةُ الجين على إثارة انتباه العلماء في هذا المجال على هذا النحو جزءًا من المدى الذي تصل إليه معرفته.
لذا، فإن المعرفة وعمليات التكيُّف البيولوجية هي ناسخات مجردة؛ أيْ أشكالٌ من المعلومات التي تميل إلى البقاء على شكلها بمجرد أن تُجسَّد في نظامٍ ماديٍّ مناسب، بخلاف معظم الأشكال المتغيرة منها.
إن حقيقة أن مبادئ تلك النظرية، من منظورٍ معين، بديهية وواضحة بذاتها تم استخدامها باعتبارها أحدَ أسباب النقد الموجَّه لها؛ على سبيل المثال: كيف تكون نظرية قابلة للاختبار إذا كان «يجب» أن تكون صحيحة؟ من الإجابات التي طُرِحت لهذا التساؤل إجابةٌ تُنسَب لهالدين، تقول إن النظرية كلَّها يمكن أن تُفنَّد لو اكتُشِفت حفريةُ أرنبٍ في طبقةٍ صخريةٍ تعود إلى العصر الكامبري. إلا أن هذه إجابة مضللة؛ فاستخلاص ملاحظةٍ كهذه سيعتمد على التفسيرات المتاحة في الظروف المحيطة بالاكتشاف؛ فعلى سبيل المثال: حدثتْ من قبلُ أخطاءٌ في التعرُّف على الحفريات وعلى الطبقات؛ ومن ثَمَّ يجب التخلُّص منها بالتفسيرات الجيدة قبل أن يمكن الإعلان عن اكتشاف «حفرية أرنبٍ في طبقةٍ صخريةٍ تعود إلى العصر الكامبري».
وحتى بوجود تفسيراتٍ كهذه، لن يُلغيَ العثورُ على حفرية الأرنب بهذه الكيفية نظريةَ التطوُّر نفسَها، وإنما فقط النظرية السائدة عن تاريخ الحياة والعمليات الجيولوجية على الأرض. لنفترِضْ مثلًا وجودَ قارةٍ فيما قبل التاريخ منفصلةٍ عن باقي القارات كانت مقرًّا لتطوُّرٍ أسرعَ بعدة أضعاف من أيِّ تطوُّرٍ آخَر على غيرها، وأن كائنًا يُشبه الأرنب قد تطوَّرَ عليها بالتطوُّر التقاربي في العصر الكامبري؛ ولنفترِضْ أيضًا أن القارات قد ارتبطتْ معًا من خلال كارثةٍ طمستْ معظمَ أشكال الحياة على تلك القارة وأغرقت حفرياتها، وأن شبيه الأرنب كان من الناجين القلائل، الذي سرعان ما انقرَضَ بعد ذلك. يبقى هذا التفسير للدليل المفترض أفضل كثيرًا من نظرية الخلق واللاماركية مثلًا؛ إذ تفتقر كلٌّ منهما إلى أي تفسيرٍ لأصل المعرفة الجلية الموجودة في الأرنب.
إذنْ، ما الذي يمكن أن يُفنِّد النظريةَ الداروينية للتطوُّر؟ إنه الدليل الذي في ضوء أفضل التفسيرات المتاحة يشير إلى قدوم المعرفة إلى الوجود بطريقةٍ مختلفة؛ على سبيل المثال: لو لُوحِظ أن كائنًا حيًّا يمرُّ (على نحوٍ أساسي) بطفراتٍ مرغوبةٍ فقط، كما توقَّعَتِ اللاماركيةُ أو نظريةُ التولُّد التلقائي، فستُدحَض مسلمة «التباين العشوائي» المميزة للداروينية. ولو لُوحِظ أن مِن الكائنات الحية مَا يُولَد حاملًا عملياتِ تكيُّفٍ جديدةً ومعقَّدةً — لأي شيء — لم تكن لها أصول في آبائه، لدُحضتْ فكرة التنبؤ بالتغيُّر التدريجي ومعها الآلية الداروينية لخلق المعرفة. ولو وُلِد كائن حي مالكًا لعملية تكيُّفٍ معقَّدةٍ لم يفضِّلها الضغط الانتقائي في أسلافه، ولكن لها قيمة بقائية اليومَ (مثل القدرة على رصْد واستخدام توقُّعات الأرصاد على الإنترنت لاختيار أفضل الأوقات للبيات الشتوي) لدُحضَت الداروينية مرةً ثانية؛ وحينها سينشأ الاحتياجُ إلى تفسيرٍ جديدٍ تمامًا، وستواجهنا حينئذٍ نفسُ المشكلة التي لم تُحَلَّ — التي واجهها بايلي وداروين — وسيكون علينا أن نبدأ في البحث عن تفسيرٍ سليم.
الضبط الدقيق
في عام ١٩٧٤، توصَّلَ عالم الفيزياء براندون كارتر إلى أن قوة التفاعُل بين الجسيمات المشحونة لو كانت أقلَّ مما هي عليه بنسبةٍ مئويةٍ بسيطة، لَمَا تكوَّنتْ أي كواكب، ولَمَا كان في الكون أجسامٌ مكثفة غير النجوم؛ وأن قوة التفاعل نفسِه لو كانت أكبر بنسبةٍ مئويةٍ بسيطة، لَمَا تفجَّرَتْ أيُّ نجوم، ولَمَا وُجدت أي عناصر خارجها غير الهيدروجين والهليوم. وفي الحالتين، لم تكن لتوجد أيُّ كيمياء معقدة؛ ومن ثَمَّ لما وُجِدت أيُّ حياة.
لننظر إلى مثالٍ آخَر: لو كان معدل تمدُّد الكون إبَّان الانفجار العظيم أعلى قليلًا، لَمَا تكوَّنت النجوم، ولَمَا وُجِد في الكون غير الهيدروجين، في كثافةٍ شديدة الانخفاض وآخِذةٍ في الانخفاض أكثر. ولو كان معدل التمدُّد أقلَّ قليلًا، لَعاوَدَ الكونُ الانهيارَ على نفسِه في أعقاب الانفجار. ينطبق الأمر نفسه على الكثير من الثوابت الفيزيائية الأخرى غير المحددة بنظرياتٍ معروفة، ويبدو أن معظم تلك الثوابت، إنْ لم يكن كلها، لو تغيَّرَتْ أقل تغيير، لَمَا أمكن وجود الحياة بالمرة.
استُشهِد بهذه الحقيقة المذهلة باعتبارها دليلًا على أن تلك الثوابت كانت محكمةً على نحوٍ دقيقٍ؛ أي إنها من تصميم كيانٍ خارق. هذه إذنْ نسخة جديدة من نظرية الخلق ومن حجة التصميم، تقوم على وجود هيئة التصميم في قوانين الفيزياء. (المفارقة أن نعرف أنه في ظل تاريخ تلك الإشكالية أضحَتِ الأطروحةُ الجديدة هي أن قوانين الفيزياء لا بد أنها صُمِّمتْ لتخلق محيطًا حيويًّا بواسطة التطوُّر الدارويني.) أقنعَتْ هذه النظريةُ الفيلسوفَ أنتوني فلو — أحد مناصري الإلحاد المتحمسين السابقين — بوجود مصمِّم خارق، وما كان ينبغي لها أن تفعل هذا؛ إذ ليس من الواضح حتى إذا كان هذا الضبط الدقيق ينمُّ عن هيئة تصميمٍ من منظور بايلي، وذلك كما سأشرح بعد قليل. لكن حتى إن فعل، فإن هذا لا يغيِّر من حقيقة أن كل تفسيرٍ يزعم بوجود كيانٍ خارقٍ هو تفسير سيئ، وفي كل الأحوال، تخطئ أي نظريةٍ ترى بوجود تفسيرٍ قائمٍ على كيانٍ خارق، بحجة عدم وجود تفسيراتٍ علميةٍ أو وجود تفسيراتٍ علميةٍ معيبة؛ فلقد نقشنا في الصخر في الفصل الثالث أن المشكلات حتمية الحدوث؛ أيْ ستوجد دائمًا مشكلات بلا حلول، لكنها تُحل مع الوقت. يستمر العلم في تحقيق التقدُّم حتى — أو بالأخص — بعد تحقيق اكتشافاتٍ عظيمة؛ لأن هذه الاكتشافات تزيح الستارَ بدورها عن مشكلاتٍ أخرى؛ ولهذا، لا يدل وجودُ مشكلةٍ فيزيائيةٍ بلا حلٍّ على وجود كيانٍ خارق، مثلما لا تدلُّ جريمةٌ بلا حلٍّ على أن مرتكبها شبح.
يعترض البعض على احتياج نظرية الضبط الدقيق إلى أي تفسيرٍ من الأساس؛ إذ يرَوْن أننا ليس لدينا تفسير جيد يرى بضرورة وجود الكواكب أو الكيمياء لتكون الحياة. عندما ألَّفَ عالم الفيزياء روبرت فوروارد روايةَ الخيال العلمي الرائعة «بيضة التنين»، وبنى فكرتها على الافتراض الذي يرى أنه من الممكن تخزين ومعالجة المعلومات — وللحياة والذكاء أن يتطوَّرَا — بواسطة التفاعلات بين النيوترونات على سطح نجمٍ نيوتروني (وهو نجمٌ انهارَ بفعل جاذبيته ليصبح محيطُه بضعةَ كيلومتراتٍ فقط؛ ممَّا جعله شديدَ الكثافة لدرجة أن معظم مادته تحوَّلتْ إلى نيوترونات). إننا لا نعلم إذا ما كان هذا النظير الافتراضي النيوتروني للكيمياء موجودًا، أو إذا كان ممكنًا لو تغيَّرت قليلًا قوانينُ الفيزياء، ولا فكرة لدينا عن أنواع البيئات الأخرى التي ستسمح بنشأة الحياة التي قد توجد في ظل تلك القوانين الجديدة. (تدحض نظرية الضبط الدقيق فكرةَ أن قوانين الفيزياء المماثلة قد تؤدِّي إلى نشأة بيئاتٍ مماثلة.)
ومع ذلك، وبصرف النظر عمَّا إذا كانت نظرية الضبط الدقيق تنمُّ عن هيئة تصميمٍ أم لا، فهي تُمثِّل مشكلةً علميةً منطقيةً ومهمةً للسبب التالي: إذا كانت الحقيقة هي أن ثوابت الطبيعة ليست محكمةً بدقةٍ على نحوٍ يُوجِب نشأةَ الحياة؛ لأن معظم التغيُّرات الطفيفة التي قد تطرأ عليها تسمح للحياة والذكاء أن يتطوَّرَا بشكلٍ أو بآخر — وإن حدث ذلك في بيئاتٍ من نوعٍ مختلفٍ تمامًا — فإن هذا إذنْ سيمثِّل انتظامًا غير مفسَّر في الطبيعة؛ ومن ثَمَّ مشكلة يكون على العلم أن يعالجها.
أمَّا إنْ كانت قوانينُ الفيزياء محكمةً بدقةٍ كما تبدو فعلًا، فسنكون أمام احتمالين: إما أن تلك القوانين هي الوحيدة الممثلة في الواقع (على هيئة أكوان)، وإما أن تكون هناك قطاعات من الواقع — أكوان موازية — ذات قوانين مختلفة. (لا أعني هنا الأكوانَ الموازية كما في نظرية الوجود الكمي المتعدِّد الأكوان، التي سأتناولها في الفصل الحادي عشر، لكن تلك الأكوان تخضع كلها لقوانين الفيزياء نفسها، ويوجد تفاعُل بسيط ومستمر فيما بينها، كما أنها مبنية على الافتراض على نحوٍ أقل بكثير.) في الاحتمال الأول، علينا أن نتوقَّع وجودَ تفسيرٍ لسبب كون القوانين على ما هي عليه، وقد يشير ذلك التفسيرُ إلى وجود الحياة، وقد لا يفعل. إنْ فعل، فهو يرجع بنا إلى مشكلة بايلي؛ حيث سيعني أن القوانين لها «هيئة التصميم» بغرض خلق الحياة لكنها «لم» تتطوَّر، وقد لا يشير التفسير إلى وجود الحياة، وهو في هذه الحالة يعجز عن تفسير سبب وجود تلك القوانين في إحكامٍ دقيقٍ مخصصٍ لخلق الحياة، إذا كانت موجودة لأسبابٍ لا تتعلَّق بالحياة.
لو أن هناك أكوانًا موازية عدة، وكان لكلٍّ منها قوانينُه الفيزيائية الخاصة به، التي أغلبها لا يسمح بوجود حياة، لَدَلَّ ذلك على أن فكرة الضبط الدقيق المرصودة ليست سوى رؤيةٍ ضيقةِ الأفق؛ فهي لا تتماشى إلا مع أكوانٍ يسكنها علماءُ الفيزياء الكونية الذين يتساءلون لماذا تبدو ثوابتُ الكون بهذا الضبط الدقيق. يُعرَف هذا النوع من التفسير ﺑ «المنطق الإنساني»، ويقال إنه نابع من مبدأٍ يُعرَف ﺑ «المبدأ الإنساني الضعيف»، ولو أنه ليست هناك حاجة في الواقع لأي مبدأ؛ فالأمر كله يعتمد على المنطق فحسب. (استخدمت صفة «الضعيف» لوصف ذلك المبدأ لتمييزه عن عدة مبادئَ إنسانيةٍ أخرى تم افتراضها، وهي أكثر من «مجرد منطق»، إلا أنها لا تعنينا ها هنا.)
لكننا لو دقَّقنا النظر، لوجدنا أن الأطروحات الإنسانية لا تعطي أبدًا تفسيرًا كاملًا، وإنْ أردتَ أن تعرف السبب، فتأمَّلْ معيَ الأطروحةَ التالية التي قدَّمَها عالم الفيزياء دينيس سياما.
تخيَّلْ أن في وقتٍ ما في المستقبل حسب الباحثون النظريون نطاقَ قيم أحد الثوابت الفيزيائية، والتي بموجبها سيكون هناك احتمالٌ معقول بظهور علماء فيزياء فلكية (من نوعٍ مناسب). لنفترضْ أن هذا النطاق يتراوح بين ١٣٧ و١٣٨. (لا شك أن القِيَم الحقيقة لن تكون أعدادًا صحيحة، لكن لنُبْقِ الأمورَ بسيطةً.) تخيَّلْ كذلك أنهم قدَّروا أن أعلى احتمالٍ لظهور هؤلاء العلماء يحدث في نقطة منتصف النطاق؛ أيْ عند الثابت ١٣٧٫٥.
تخيَّلْ أن التجريبيين قد عزموا بعد ذلك على قياس قيمة ذلك الثابت الرياضي على نحوٍ مباشِر، في المعامل، أو بالملاحظة الفلكية مثلًا؛ فبِمَ عساهم سيتنبَّئُون؟ من الغريب أن أحد التنبؤات المباشرة للتفسير الإنساني أن القيمة الناتجة لن تكون ١٣٧٫٥ بالضبط. لماذا؟ إذا تخيَّلنا أن قِيَم احتمالات ظهور علماء الفيزياء الفلكية تُمثِّلها نقطةُ مركز الدائرة في لعبة رمي السهام، فمن الخطأ أن نتوقَّع أن السهم سيصيب الدائرةَ في مركزها بالضبط كلَّ مرة، وبالمثل لن يكون لذلك الثابت نفس القيمة المثلى لإنتاج علماء الفيزياء الفلكية، وذلك في الغالبية العظمى من الأكوان التي قد يتمُّ القياس فيها (لأن بها علماء فيزياء فلكية)، ولا حتى قيمة مقاربة، مع أخذ حجم رقعة المركز في لعبة رمي السهام في الاعتبار.
وعليه استنتج سياما أننا لو قسنا أحدَ الثوابت الفيزيائية ووجدناه شديدَ الاقتراب من القيمة المثلي لظهور علماء الفيزياء الفلكية، فإن ذلك سيدحض إحصائيًّا التفسيرَ الإنساني للقيمة ولا يعضده. «ربما» جاءت تلك القيمة بمحض صدفةٍ بالطبع، لكن لو كنا سنقبل بالمصادفات الفلكية غير المحتملة الحدوث باعتبارها تفسيرات، لما كان علينا أن نُلقيَ بالًا للضبط الدقيق في المقام الأول، ولأخبرَنا بايلي أن الساعة التي وجدها «ربما» تكوَّنت بالصدفة.
بالإضافة إلى ذلك، من المفترض أن يكون من غير المحتمل نسبيًّا وجود علماء فيزياء فلكية في الأكوان العدائية الظروف التي لا تسمح بوجود أولئك العلماء؛ وعليه فإذا تخيَّلنا كلَّ القِيَم التي تسمح بظهور علماء الفيزياء الفلكية متراصةً في خط، فسيقودنا التفسيرُ الإنساني إلى أن نتوقَّع أن توجد القيمةُ المقيسة في نقطةٍ ما ليست بقريبةٍ من المركز ولا من الطرفين.
بَيْدَ أن هذا التنبؤ يختلف كليًّا إذا ما كانت هناك عدة ثوابت قيد التفسير، وهذا ما يأخذنا إليه الاستنتاجُ الرئيسي الذي وصل إليه سياما؛ فعلى الرغم من أن أيًّا من الثوابت من المحتمل ألَّا يكون بالقرب من حافة نطاقه، فإنه كلما زاد عدد الثوابت، زاد احتمال أن يكون ولو أحدُها قريبًا من تلك الحافة. تشرح الصورة التالية هذه الفكرة، وقد حلَّ محل مركز دائرة السهام خطٌّ مستقيم، ومربع، ومكعب … ولنا أن نتخيَّل أن يمتد هذا التسلسل بأي عددٍ من الأبعاد بقدر ما في الطبيعة من ثوابتَ محكمةِ الدقة. سنضع تعريفًا اعتباطيًّا للموقع «بالقرب من حافة النطاق» بأنه: «البُعْد بين الثابت والحافة في حدود ١٠ بالمائة»، نرى إذنْ أنه في حالة وجود ثابتٍ واحد، كما بالشكل، تقع ٢٠ بالمائة فقط من قِيَمه المحتملة بقرب واحدةٍ من حافتَيِ النطاق، في حين تقع ٨٠ بالمائة من قِيَمه المحتملة «بعيدًا عن الحافة». لكن مع وجود ثابتين، يتعيَّن على قيمتين أن تفيا بشرطين لتكونَا «بعيدتين عن الحافة»، ولا يتحقَّق ذلك إلا لنسبة ٦٤ بالمائة من قِيَمهما، وعليه تقع ٣٦ بالمائة من قيمهما قرب الحافة. وفي حالة وجود ثلاثة ثوابت تقع حوالي نصف الاختيارات المحتملة بالقرب من الحافة، أمَّا إذا وُجِد مائة ثابت، يكون ٩٩٫٩٩٩٩٩٩٩ بالمائة منها قرب الحافة.
نرى إذنْ أنه كلما كثر عدد الثوابت المرتبطة بالأمر، اقتربنا من عدم وجود أي علماء فيزياء فلكية في الأكوان التي بها علماء فيزياء فلكية. لا نعلم كَمْ من الثوابت يتداخل في الأمر، لكن يبدو أنها عديدة؛ ومن ثَمَّ تقع الغالبيةُ العظمى من الأكوان في المنطقة المختارة بواسطة المنطق الإنساني قرب حافتها؛ وعليه استنتَجَ سياما أن التفسير الإنساني يتنبَّأ بأن الكون قادر «بالكاد» على إيجاد علماء فيزياء فلكية، وهو عكس ما يتنبَّأ به في حالة وجود ثابتٍ واحد.
في ظاهرها، تبدو تلك الفكرة مفسرةً للغزٍ علميٍّ غامضٍ وشهيرٍ آخَر يُطلَق عليه «مشكلة فيرمي» على اسم عالم الفيزياء إنريكو فيرمي، الذي يقال إنه طرح التساؤل التالي: «أين هي؟» بمعنى: أين هي تلك الحضارات الواقعة خارج الأرض؟ لا يوجد ما يدعونا للاعتقاد بأن ظاهرة وجود علماء الفيزياء الفلكية ظاهرةٌ يتفرَّد بها كوكبنا، وذلك طبقًا لمبدأ العادية، أو حتى بِناءً على ما نعرفه عن طبيعة المجرة والكون؛ إذ يفترض أن تتوافر ظروفٌ مماثلةٌ في مجموعاتٍ شمسيةٍ عديدةٍ أخرى، فلماذا لا تنتج عن بعضها محصلات مماثلة؟ فضلًا عن ذلك، يتضح بالنظر إلى الأُطُر الزمنية لتطوُّر النجوم والمجرات أنه من غير المحتمل تمامًا أن توجد حضارات غير أرضيةٍ تمرُّ حاليًّا بمرحلةٍ شبيهةٍ بمرحلة تطوُّرنا التكنولوجي الحالية؛ فهي غالبًا ستكون أصغر عمرًا بملايين السنين (أيْ إنها لم تُوجَد بعدُ)، أو أقدم من كوكبنا بملايين السنين. ولقد توافَرَ الوقتُ الكافي للحضارات الأقدم لكي تستكشف مجرتنا، أو لترسل على الأقل مسابير فضائية روبوتية أو إشارات. تكمن مشكلة فيرمي في أننا لا نجد أبدًا أيَّ حضاراتٍ أو مسابيرَ أو إشاراتٍ من ذلك القبيل.
حاولتْ عدة تفسيرات أن تحل هذه المشكلة، إلا أنه لم يكن تفسير منها بالجودة الكافية. قد يبدو التفسير الإنساني للضبط الدقيق — في ضوء أطروحة سياما — حلًّا شافيًا؛ إذ لو كانت ثوابتُ الفيزياء في كوننا قادرةً بالكاد على إنتاج علماء الفيزياء الفلكية، فلا يجب أن يفاجئنا أنَّ هذا الحدث لم يتكرَّر؛ حيث إن حدوثه مرتين على نحوٍ منفصلٍ في نفس الكون أمرٌ غيرُ محتمل بالمرة.
للأسف، إن هذا أيضًا تفسير سيئ؛ فالتركيز على الثوابت الأساسية ضِيق أفقٍ بيِّن؛ فلا فارق حقيقي بين «نفس» قوانين الفيزياء لكن ثوابت مختلفة وبين قوانين الفيزياء المختلفة. وهناك ما لا يمكن حصره من قوانين الفيزياء الممكنة منطقيًّا، التي لو تجسَّدت جميعها في أكوانٍ حقيقية — كما افترض بعضُ علماء الكون مثل ماكس تيجمارك — لكان من المؤكَّد إحصائيًّا أن كوننا يقع على حافة فئة الأكوان القادرة على إنتاج علماء فيزياء فلكية.
نُدرك جيدًا أن ذلك غير ممكنٍ بحسب أطروحة فاينمان (وإن كان قد طبَّقها على مشكلةٍ مختلفةٍ نسبيًّا). لنتأمَّلْ فئةَ الأكوان التي يمكن أن تحتويَ على علماء فيزياء فلكية، وما يحتويه معظمها من غيرهم، بل لنتأمَّلْ على الأخص كرةً كبيرةً بما يكفي لأن تحويَ عقلك فقط. إذا كنتَ مهتمًّا بتفسير نظرية الضبط الدقيق، فإن عقلك بحالته الحالية بمنزلة «عالم فيزياء فلكية» في هذه التجربة الفكرية. في هذه الفئة الخاصة بكل الأكوان التي تحتوي على علماء فيزياء فلكية، يوجد الكثير من الأكوان التي تحتوي على كرةٍ يتطابق بدقةٍ الجزءُ الداخليُّ منها مع الجزءِ الداخليِّ لكُرتك التي تحتوي على عقلك بكل تفاصيله، لكن تسود الفوضى خارج الكرة في الغالبية العظمى من تلك الأكوان، في حالةٍ شبهِ عشوائية، وما أكثرَ الحالاتِ شبهَ العشوائية في هذه الأكوان، التي لا تعتريها الفوضى فحسب، وإنما هي ساخنة كذلك! وعليه فإن أول ما سيحدث في معظم تلك الأكوان هو أن الإشعاع الفوضوي النابع من خارج الكرة سيقتلك على الفور. تُدحَض أي نظريةٍ تدَّعِي أننا سنَهلِك في أي جزءٍ من الثانية عند ملاحظة جزء الثانية التالي له، وعندئذٍ تطرح نظرية أخرى من نفس النوع؛ وعليه فهي تفسير سيئ جدًّا؛ فهي ليست سوى نسخةٍ متطرفةٍ من تكهُّنات المقامر.
ويصحُّ القول نفسه على كل تفسيرٍ يقوم فقط على المبدأ الإنساني مستهدِفًا تبريرَ أيِّ «إحكام دقيق» يتعلَّق ولو بأقل عددٍ من الثوابت؛ فمثل هذه التفسيرات تتنبأ بأن هناك احتمالًا كبيرًا بأننا نعيش في كونٍ قادرٍ بالكاد على إنتاج علماء فيزياء فلكية، وبأنه سيختفي من الوجود في أي لحظة. فهي إذنْ تفسيرات سيئة.
من ناحية أخرى، لو وُجِدت قوانين الفيزياء في «شكلٍ» واحدٍ فقط، بينما لم يختلف بين الكون والآخَر إلا قِيَم بضعةِ ثوابتَ فيزيائية، فحقيقة أن القوانين ذات الأشكال المختلفة لا تتحقَّق، هي جزء من عملية الضبط الدقيق التي فشل هذا التفسيرُ الإنساني في تفسيرها.
تنطوي النظريةُ القائمة على تحقُّق كلِّ قوانين الفيزياء الممكنة منطقيًّا في صورة أكوان، على مشكلةٍ عويصةٍ أخرى تعيب دورها باعتبارها تفسيرًا؛ فكما سأوضِّح في الفصل الثامن، عند النظر في مجموعاتٍ لا متناهيةٍ مثل هذه، عادةً لا توجد طريقة موضوعية يمكنها «حساب» أو «قياس» كَمْ منها لديه سمةٌ ما دون غيره. على الجانب الآخَر، وسط فئة كل الكيانات الممكنة منطقيًّا، فإن الكيانات التي يمكنها فهم نفسها، كما هي الحال في الواقع المادي الذي نحيا فيه، هي بالتأكيد ندرة ضئيلة؛ ومن ثَمَّ يكون الاعتقاد بأن أحد تلك الكيانات قد «حدث فحسب» — بلا تفسير — هو بلا شكٍّ صورة من صور نظرية التولُّد التلقائي.
علاوةً على ذلك، تختلف تقريبًا كلُّ تلك «الأكوان» التي تصفها تلك القوانين الفيزيائية الممكنة منطقيًّا اختلافًا جمًّا عن كوننا، على نحوٍ يجعلها غيرَ ملائمةٍ للوجود في الأطروحة أساسًا؛ فمثلًا: يحتوي عدد لا حصرَ له منها على لا شيء سوى ثور بيسون واحد فقط، وذلك في وضعيات مختلفة، وسيدوم لفترة لا تتجاوز ٤٢ ثانية، وسيحتوي أيضًا ما لا حصرَ له منها على ثور بيسون وعالِم فيزياء فلكية. لكن ما قيمة عالم فيزياء فلكية في كونٍ دون نجومٍ ولا أدواتٍ علميةٍ ولا دلائل؟ وما قيمة أي عالم، أو كيان مفكِّر، في كونٍ تصحُّ فيه التفسيراتُ السيئة فقط؟
تقريبًا كلُّ الأكوان الممكنة منطقيًّا، التي يوجد بها علماء فيزياء فلكية تحكمها قوانينُ فيزياء، هي في حقيقة الأمر تفسيرات سيئة. فهل علينا أن نتنبَّأ بأن كوننا غير قابلٍ للتفسير هو أيضًا؟ أو بأن هناك احتماليةً عاليةً — وإن كانت غير معلومة — لكونه كذلك؟ إذن فكل أطروحةٍ إنسانيةٍ تقوم على «كل القوانين الممكنة» تُنبَذ لكونها تفسيراتٍ سيئة.
ومن ثَمَّ، ولكل ما تقدَّمَ من أسباب، فإني أخلص هنا إلى أن المنطق الإنساني، وإن أمكن أن يكون جزءًا من تفسير الضبط الدقيق الظاهري في الكون وغيره من الملاحظات، لا يمكن أبدًا أن يكون التفسيرَ الكاملَ لسبب ملاحظتنا لشيءٍ سيبدو بغير ذلك هادفًا جدًّا بحيث لا يمكن تفسيره على أنه تم بمحض الصدفة؛ لذا فإننا في حاجةٍ إلى تفسيراتٍ محددةٍ في إطار قوانينَ محددةٍ للطبيعة.
•••
ربما لاحَظَ القارئ أن كلَّ ما ناقشتُ في هذا الفصل من تفسيراتٍ سيئةٍ مرتبطٌ في النهاية بعضه ببعض؛ فلو أنك توقَّعتَ الكثيرَ من المنطق الإنساني، أو تعمَّقتَ في التفكُّر في اللاماركية وآلياتها، لَوصلتَ بالضرورة إلى التولد التلقائي، وإنْ أخذتَ التولُّدَ التلقائي على محمل الجد، فسيصل بك حتمًا إلى نظرية الخلق، وهكذا. يرجع ذلك إلى أنها جميعها تعالج نفسَ المشكلة الأساسية، كما أنها كلها قابلة للتغيير فيها، ويمكن بسهولةٍ التبديل فيما بينها أو بتنويعاتٍ من نفسها، وهي أيضًا تفسيرات «شديدة السهولة»؛ إذ يمكن أن تفسِّر أيَّ شيء على نحوٍ ملائم. أما الداروينية الجديدة، فلم يكن الوصولُ إليها سهلًا، ولا هي سهلة التغيير. حاوِلْ أن تُبدِّل فيها — حتى باستخدام مفاهيم داروين الخاطئة — ولن تحصل إلا على تفسيرٍ لا يؤتي نفس الفاعلية. حاوِلْ أن تفسِّر بها أمرًا غير دارويني — مثل تكيُّفٍ معقَّدٍ جديدٍ في كائنٍ حيٍّ ليس له أصول في أبويه — ولن تتمكَّن من التفكير في شكل متغيِّر منها له تلك الصفة.
تُحاوِل التفسيرات الإنسانية أن تبرِّر البناءَ الهادف للكون (مثل الثوابت المحكمة الدقة) باعتباره فعلًا اختياريًّا. لكن هذا يخالف التطوُّر، ولا يمكن أن يكون صحيحًا. وسيتمثَّل حلُّ هذا اللغز الخاص بالضبط الدقيق في التوصُّل إلى تفسيرٍ دقيقٍ لما نلاحظه، سيكون كما وصفه ويلر: «فكرة غاية في البساطة … لدرجة أننا … سيسأل بعضُنا بعضًا: كيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك؟» بمعنًى آخَر، لا تتمثَّل المشكلة في أن العالم معقَّد جدًّا بحيث لا يمكننا فهم لماذا يبدو بهذا التعقيد، وإنما هو بسيط جدًّا لدرجة أننا لم نستطِعْ فهمه حتى الآن، ولكننا لن ندرك ذلك إلا متأخرًا.
تخفق كلُّ تلك التفسيرات السيئة للمحيط الحيوي في تناوُل مشكلة كيفية خلق المعرفة الكامنة في عمليات التكيف البيولوجية، أو تفسِّرها تفسيرًا سيئًا؛ أي إنها كلها لا تقدِّر «الخلْقَ» حقَّ قدره، ومن المفارقة أن أكثر النظريات بخسًا لحقيقة الخلق هي نظرية الخلق نفسها. تأمَّلْ ما يلي: لو أن مَن خلق الكون هو كيان خارق أتَمَّ خلقه عندما بَدَا أن أينشتاين أو داروين أو غيرهما من العلماء العظماء قد توصَّلوا لتوهُّم إلى أهم اكتشافاتهم، لكان عندئذٍ الخالق الحقيقي لتلك الاكتشافات (وما سبقها) هو الكيانَ الخارقَ وليس العالم. تنكر هذه النظرية إذنْ وجودَ الخلق الحقيقي الوحيد الذي حدث بالفعل في بداية اكتشافات هذا العالِم.
إلا أن ذلك هو الخلق الحقيقي، فما من سبيلٍ تَنبُّئِيٍّ لكشف محتوى أو تبعات اكتشافٍ ما قبل أن يوجد، وإلا كان ذلك التنبُّؤُ هو الاكتشافَ نفسَه، فلا يمكن التنبؤ بأي اكتشافٍ علميٍّ قبل أن يوجد مع أنه يتحدَّد وفق قوانين الفيزياء. سأعرض بإسهابٍ أكبر لهذه الحقيقة المدهشة في الفصل التالي؛ ولكني باختصارٍ الآن أقول إن أيَّ اكتشافٍ يدين بالفضل لوجود مستوياتٍ «منبثقةٍ» من التفسير، وفي هذه الحالة تكون المحصلة أن ما يُحقِّقه العلمُ — أو التفكير الإبداعي بوجهٍ عام — هو خلقٌ «من عدم» لا يمكن التنبُّؤ به، وتماثله في ذلك السَّمْتِ عمليةُ التطوُّر البيولوجي فقط دون غيرها من العمليات.
من المضلِّل إذنْ أن تُلقَّب نظريةُ الخلق بهذا الاسم؛ فهي ليست نظريةً مفسِّرةً للمعرفة بأن تنسبها إلى الخلق، بل هي على العكس تُنكِر حدوثَ الخلق في الواقع بوضع أصل المعرفة في مجالٍ لا تفسيرَ له. إن نظرية الخلق في واقع الأمر تُنكِر وجودَ الخلق، وهكذا الحال بالنسبة إلى كل تفسيرٍ سيئٍ آخَر.
لقد أدَّتْ محاولاتُ فهم لغز ماهية الكائنات الحية وكيفية نشأتها إلى تاريخٍ عجيبٍ من المفاهيم المغلوطة والنظريات الخاطئة والمفارقات. كان آخر تلك المفارقات أن نظرية الداروينية الجديدة — مثل نظرية بوبر عن المعرفة — تصف الخلقَ بالفعل، في حين لم تستطِعْ منافِساتها أن تحقِّق ذلك بالمرة، وعلى رأسها نظريةُ الخلق.
أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها
- التطوُّر (الدارويني): خلق المعرفة بالتبديل بين التبايُن والانتقاء.
- ناسخ: كيان يُسهم على نحوٍ سببيٍّ في نسْخ نفسه.
- الداروينية الجديدة: هي الداروينية باعتبارها نظريةً عن الناسخات، بعد تطهيرها من العديد من المفاهيم الخاطئة مثل «البقاء للأصلح».
- ميم: فكرة ناسخة لنفسها.
- مجمع ميمات: مجموعة ميمات تساعد بعضُها بعضًا على نسخ نفسها.
- التولُّد التلقائي: تكوُّن الكائنات الحية من أصولٍ غير حية.
- اللاماركية: نظرية تطوُّرية خاطئة قائمة على الاعتقاد بأن عمليات التكيُّف البيولوجية هي تحسينات يكتسبها الكائن الحي على مدار حياته ثم تتوارثها ذريته.
- الضبط الدقيق: لو اختلفت الثوابت أو القوانين الفيزيائية قليلًا عمَّا هي عليه، لَمَا وُجِدت الحياة.
- تفسير إنساني: «لا يبزغ التساؤل عن أسباب الظواهر التي تحدث إلا في الأكوان التي بها ملاحظون أذكياء.»
معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل
-
التطوُّر.
-
بوجهٍ أعم: خلق المعرفة.
ملخص هذا الفصل
يتشابه على نحوٍ عميقٍ كلٌّ من تطوُّر عمليات التكيُّف البيولوجية وخلق المعرفة البشرية، لكن تبقى بينهما بعض الاختلافات المهمة. التشابهات الرئيسية هي أن كلًّا من الجينات والأفكار تنسخ نفسها، وأن المعرفة وعمليات التكيُّف من الصعب التغيير فيهما. أما الاختلاف الأساسي، فهو أن المعرفة البشرية يمكن أن تكون تفسيريةً، وأن يكون لها مدًى كبير، لكن عمليات التكيُّف البيولوجية لا تكون تفسيريةً أبدًا، ويندر أن يكون لها مدًى أبعد من المواقف التي تطوَّرت فيها. إنَّ لكل تفسيرٍ خاطئٍ عن التطور البيولوجي نظيرَه عن نموِّ المعرفة البشرية؛ فنظير اللاماركية مثلًا هو الاستقرائية. أوضحَتْ نسخةُ بايلي من حجة التصميم ما له «هيئة تصميم» وما ليس له ذلك؛ ومن ثَمَّ ما لا يمكن تفسيره باعتباره نتيجةً للصدفة وحدها؛ تحديدًا عملية التكيُّف العسيرة التغيير ذات الغاية. لا بد أنَّ أصل هذا هو خلق المعرفة. لا يعزِّز التطوُّرُ البيولوجي منافعَ النوع ولا المجموعة ولا الفرد ولا حتى الجين، وإنما يعزز فقط قدرةَ الجين على الانتشار بين نسل النوع. تحدث هذه المنافع مع ذلك بسبب عمومية قوانين الطبيعة ومدى بعض المعرفة التي تمَّ ابتكارها. استُخدمت فكرة «الضبط الدقيق» للثوابت أو القوانين الفيزيائية باعتبارها إحدى صور حجة التصميم. هذه الفكرة ليست بالحجة الجيدة في قضية وجود الكيان الخارق، لكن النظريات «الإنسانية» التي تحاول أن تُبرِّرَ هذه الحجةَ باعتبارها تأثيرَ اختيارٍ بحتٍ من بين عددٍ لا متناهٍ من الأكوان؛ هي في حد ذاتها تفسيراتٌ سيئة أيضًا جزئيًّا؛ لأن معظم القوانين الممكنة منطقيًّا هي في الواقع تفسيرات سيئة.