القفزة نحو العمومية
لكن لا يمكن أن تُطبَّق هذه القاعدةُ في كل الأحوال؛ فهي لا تفيد في التعبير عن الكلمات الأحادية المقطع، وغيرها الكثير. قد تبدو القاعدةُ خرقاءَ وبدائيةً إذا ما قُورِنتْ بأنظمة الكتابة الحديثة، لكن كان لها من جوانب الأهمية ما لم يستطِعْ أيُّ نظامِ كتابةٍ بحتٍ يعتمد على الرسوم التصويرية — بلا قواعدَ مماثلة — أن يُحقِّقه؛ وهو أنها أضافَتْ كلماتٍ لنظام الكتابة لم يُضِفْها شخصٌ بعينه على نحوٍ علني؛ يعنى ذلك أنه كان لها مدًى، وللمدى دائمًا تفسير. وكما قد تُلخِّص المعادلةُ البسيطةُ في العلم كمًّا هائلًا من الحقائق، يمكن لقاعدةٍ بسيطةٍ وسهلةِ التذكُّر أن تُدخِل العديدَ من الكلمات الإضافية إلى نظام كتابةٍ ما، إذا عكست انتظامًا ضمنيًّا. يكمن الانتظامُ في هذه الحالة في أن كل الكلمات في أي لغةٍ لا تتكوَّن إلا من بضع عشراتٍ من «الأصوات البسيطة»، مع استخدام كل لغةٍ لمجموعةٍ مختلفةٍ مختارةٍ من نطاق الأصوات الهائل الذي يمكن للصوت البشري أن يُصدِره. لماذا؟ سأصل إلى ذلك فيما يلي.
تختلف العموميةُ التي تحقَّقتْ من خلال القواعد عن تلك التي تحقَّقت بواسطة قائمةٍ كاملةٍ (مثل المجموعة الكاملة الافتراضية من الرسوم التصويرية)، ويتضح أحدُ الاختلافات في حقيقةِ أن القواعدَ يمكن أن تكون أبسطَ كثيرًا من القائمة. ويمكن للرموز الفردية أن تكون أبسط أيضًا؛ لأن عددَها سيكون أقلَّ. لكن الأمر لا يقتصر على هذا فحسب؛ فحيث إن القواعد تنجح عن طريق استغلال الانتظامات في اللغة، فهي تشفر تلك الانتظامات ضمنيًّا، وبهذا تحتوي على معرفةٍ أوسع ممَّا بالقائمة. تحتوي الأبجدية مثلًا على معرفةٍ حول كيفية نطق الكلمات؛ ممَّا يجعلها مناسِبةً للاستخدام من قِبَل الأجنبي عنها ليتعلَّم التحدُّث بلغتها، في حين لا تُجدِي الرسومُ التصويرية إلا في الاستخدام كوسيلةٍ لتعلُّم كتابة تلك اللغة. تتسع القواعد أيضًا لوجود التصريفات كالبادئات واللواحق التي تضاف إلى الكلمات، وذلك دون أن تزيد من تعقيد نظام الكتابة؛ ممَّا يسمح للنصوص المكتوبة بتوطين النحو في جملها، هذا إلى جانب أن أنظمة الكتابة القائمة على أبجدية لا تفي بغرض تمثيل كل كلمةٍ موجودةٍ في اللغة كتابةً فحسب، وإنما أيضًا بكل كلمةٍ «ممكنةٍ» في اللغة؛ مما يفسح مكانًا حتى للكلمات التي لم تُبتكَر بعدُ؛ ومن ثَمَّ يصلح النظامُ للاستخدام في ابتكار الكلمات الجديدة بطريقةٍ سهلةٍ ولا مركزيةٍ بدلًا من خرقه مؤقتًا في كل مرةٍ تضاف فيها كلمةٌ جديدةٌ إليه.
أو على الأقل كان يمكن لذلك أن يحدث. كَمْ من اللطيف أن نعتقد أن الكاتب المجهول الذي ابتكَرَ أولَ أبجديةٍ قد علم أنه قد صنع أحدَ أعظم الاكتشافات في التاريخ، لكنه لم يعلم، وإذا كان يعلم فقد فشل إذنْ بالتأكيد في نقل حماسه بهذا الاكتشاف إلى الكثيرين غيره؛ فقوَّة العمومية التي وصفتُها للتوِّ كانت نادرةَ الاستخدام في العصور القديمة حتى عند توافُرها. وعلى الرغم من أن أنظمة الكتابة المعتمدة على الرسوم التصويرية قد اختُرِعتْ في العديد من المجتمعات، وتطوَّرت الأبجديات العمومية منها أحيانًا على النحو الذي وصفتُ منذ قليل، فإنه لم يتخذ أحدٌ تقريبًا الخطوة التالية «البديهية» قطُّ، وهي استخدام الأبجدية على نحوٍ عموميٍّ بدلًا من الرسوم التصويرية، واقتصر استخدام الأبجديات على أغراضٍ خاصةٍ ككتابة الكلمات غير الدارجة أو الترجمة الصوتية للأسماء الأجنبية. ويعتقد بعض المؤرخين أن فكرة استحداث نظامِ كتابةٍ قائمٍ على أبجدية، لم تحدث سوى مرةٍ واحدةٍ في التاريخ البشري — على يد أسلافٍ مجهولين للفينيقيين، الذين نشروها لاحقًا عبر منطقة البحر الأبيض المتوسط — ممَّا يعني أن كل نظامِ كتابةٍ أبجديٍّ إما أنه انحدر من النظام الفينيقي هذا وإما أنه استُلهِمَ منه. ولكنْ حتى النظام الفينيقي لم يتضمَّن حروفًا متحركة؛ ممَّا قلَّصَ بعضَ المزايا التي ذكرتُها، ولقد أضافها الإغريقُ فيما بعدُ.
يرى البعض أحيانًا أن الكَتَبة تعمَّدوا الحدَّ من استخدام الأبجديات خوفًا من أن يهدِّد نظامٌ سهلٌ جدًّا في التعلُّم مصدرَ رزقهم، إلا أن ذلك يبدو فرضًا لتأويلٍ فائقِ الحداثة عليهم، وإني لأظن أنه لا فرص العمومية ولا مخاطرها قد طرأت على الأذهان في تاريخ البشرية إلا بعد ذلك بكثير، وأن أولئك المبدعين القدامى لم يهتموا إلا بالمشكلات المحددة التي كانوا يواجهونها — أيْ كتابة كلماتٍ محدَّدة — ممَّا تسبَّب في أنِ اخترع أحدُهم قاعدةً تُمكِّنه من ذلك، وتصادَفَ أنْ كان لتلك القاعدة صفةُ العمومية. لربما بَدَا ذلك الموقفُ ضيقَ الأفق على نحوٍ لا يُصدَّق، إلا أن الأمور كانت كذلك في تلك العصور.
في الواقع لقد تكرَّرَ كثيرًا في بداية تاريخ معظم المجالات ألَّا تكون العمومية — عند تحقُّقها — هدفًا رئيسيًّا، هذا إنْ كانت هدفًا من الأصل، وإنما كان الأمرُ أنْ أدَّى تغييرٌ طفيفٌ في نظامٍ ما بهدف تحقيقِ هدفٍ محدودٍ إلى جعْلِ صفة العمومية للنظام كله، وهذه هي القفزة نحو العمومية.
ويرجع تاريخ «الأعداد» إلى فَجْر الحضارة، تمامًا مثل الكتابة. يُميِّز علماءُ الرياضيات اليومَ بين «الأعداد» (وهي كيانات مجردة) وبين «الأرقام» (وهي الرموز المادية المستخدَمة للتعبير عن الأعداد)، إلا أن الأعداد قد اكتُشِفت أولًا. وقد تطوَّرت الأعداد من «علامات العصا» (|، ||، |||، |||| …) أو قِطَع العَدِّ كالحجارة، التي استُخدِمت منذ عصور ما قبل التاريخ لتعداد الأشياء المنفصلة كالحيوانات أو الأيام؛ فمثلًا: لو رسم الشخصُ علامةً مقابل كلِّ نعجةٍ تخرج من الحظيرة، ثم شطب علامةً عن كل نعجةٍ عادَتْ، فهذا يعني أنه بعد شطبه كلَّ العلامات المرسومة يكون قد استعاد النعجاتِ كافةً.
هذا نظام عمومي للعد، ولكنَّ للعمومية تسلسُلًا مثل مستويات الانبثاق بالضبط. وبعد مستوى العد يأتي الإحصاء، الذي يرتبط بالأعداد؛ فعند العدِّ يفكِّر المرءُ فقط بطريقة: «واحدة، وأخرى، وأخرى، وأخرى …» ولكنه عند الإحصاء يفكِّر بطريقة: «أربعون، واحد وأربعون، اثنان وأربعون …»
-
وضْعُ الرموز متجاورةً يعني جمعها معًا (وهي قاعدة موروثة من نظام علامات العصا).
-
يجب كتابة الرموز في ترتيبٍ تنازليٍّ بحسب القيمة من اليسار إلى اليمين.
-
الرموز المتجاورة يجب أن يُستبدل بها رمزٌ لقيمتها المجمعة كلما أمكن.
وإني أعني ما أقول حرفيًّا حين أقول إنَّ مَن قام بالحساب هو نظام الأرقام نفسه. صحيح أنَّ مَن أحدث تلك التحوُّلات ماديًّا هو المستخدِم البشري، لكنه من أجل تحقيق ذلك، اضطُرَّ إلى تضمين قواعد النظام في مكانٍ ما بعقله أولًا، ثم احتاج إلى تنفيذ القواعد كيفما ينفِّذ الكمبيوتر برنامجه. والبرنامج هو مَن يخبر الكمبيوتر بما عليه أن يفعل، وليس العكس؛ وعليه فالعملية التي نصفها ﺑ «استخدام الأرقام الرومانية لإجراء العمليات الحسابية» تتكوَّن كذلك من استخدام نظام الأرقام الرومانية «لنا» لإجراء العمليات الحسابية.
لم ينجح نظامُ الأرقام الرومانية في الاستمرار إلا بأن جعَل الناس يفعلون ما وصفت؛ أيْ بأن تسبَّبَ في جعْل الرومان يتناقلونه من جيلٍ إلى جيل؛ فعندما وجدوه مفيدًا، ورَّثوه لذُرِّياتهم. إن المعرفة — كما أشرتُ من قبلُ — معلومات إذا ما جُسِّدت ماديًّا في بيئةٍ مناسبة، فإنها تميل لأن تبقى هكذا.
إن وصفي لنظام الأرقام الرومانية بأنه تَحكَّمَ فينا ليُتيح لنفسه النَّسخَ والاستمرارَ، قد يبدو وصفًا يحطُّ من قدر الإنسان إلى منزلة العبيد، إلا أن ذلك ليس صحيحًا؛ فالإنسان «يتكوَّن» من معلوماتٍ مجردة، تشمل الأفكار المميزة والنظريات والنوايا والمشاعر وكل حالات العقل الأخرى المميزة ﻟﻠ «أنا»؛ لذا فالاعتراضُ على «تحكُّم» الأرقام الرومانية فينا عندما نكتشف نفعها يُشبه الاعتراضَ على أن تحكمنا نوايانا؛ حيث إنه بتفكيرٍ كهذا يكون من الاستعباد أن نهرب من العبودية، لكني في الواقع حين أخضع للبرنامج الذي أتكوَّن منه (أو عندما أخضع لقوانين الفيزياء)، يختلف حينئذٍ معنى الخضوع عمَّا يؤدِّيه العبيد؛ فالمعنى في كل حالةٍ من الحالتين يفسِّر أحداثًا على مستوًى مختلفٍ من الانبثاق.
وكما يمكن تحديث مفرداتِ نظامِ كتابةٍ قديمٍ بإضافة المزيد من الرسوم التصويرية، كان يمكن إضافةُ رموزٍ إلى أي نظامِ أرقامٍ لزيادة نطاقه، وهو ما حدث فعلًا، لكن لن ينفك النظام الناتج بعد كل إضافةٍ أن يحتويَ على رمزٍ دالٍّ على أعلى قيمة، ولهذا لن يكون نظامًا عموميًّا صالحًا للقيام بعملياتٍ حسابيةٍ دون عَد.
كانت الطريقة الوحيدة لتحرير إجراء العمليات الحسابية من العد هي استخدامَ قواعدَ عموميةِ المدى، وكما هي الحال في حالة الأبجديات، لم يتطلَّب الأمرُ سوى مجموعةٍ محدودةٍ من القواعد والرموز الأساسية. يستخدم النظام العمومي اليومَ عشرةَ رموزٍ، هي الأرقام من ٠ إلى ۹، وقد اكتسَبَ عموميتَه من القاعدة التي تنصُّ على أن قيمة الرقم تتحدَّد بِناءً على موضعه في العدد؛ إذ نجد أن الرقم ٢ يعني اثنين إذا كُتِب مفردًا، بينما يعني مائتين في العدد ٢٠٤. تتطلَّب مثل هذه الأنظمة «الموضعية» رموزًا «نائبة» مثل الرقم ٠ في العدد ٢٠٤، الذي تقتصر وظيفتُه هنا على وضع الرقم ٢ في موقعه حيث يعني مائتين.
نشأ هذا النظام في الهند، ولكن من غير المعلوم متى نشأ على وجه التحديد؛ ربما نشأ متأخرًا في القرن التاسع؛ إذ لا يظهر مستخدَمًا قبل ذلك التاريخ إلا في القليل من الوثائق الغامضة. وعلى أي حالٍ لم ينتشر الإدراك بما يبشِّر به ذلك النظام من إمكانياتٍ هائلةٍ في مجالات العلم والرياضيات والهندسة الرياضية والتجارة انتشارًا واسعًا في ذلك الحين. كان ذلك في نفس الفترة التي ألَمَّ فيها العلماءُ العرب بذلك النظام، وإنْ لم ينتشر استخدامُه في العالم العربي على نحوٍ عامٍّ إلا بعد ذلك بحوالي ألف عام. ولقد تكرَّر هذا النقص الغريب في الحماس للعمومية في أوروبا في القرون الوسطى، حين لم يتقبَّل الأرقامَ الهنديةَ من العلماء إلا القليل؛ حيث انتقلَتْ إليهم من العرب في القرن العاشر (ولقد أدَّى ذلك إلى التسمية الخاطئة لتلك الأرقام بِاسم «الأرقام العربية»)، وحتى هذه لم تنتشر في الاستخدامات اليومية إلا بعد قرونٍ من ذلك التاريخ.
اخترع البابليون القدماء نظامَ أرقامٍ له سمةُ العمومية في حقبةٍ مبكرةٍ من التاريخ، في عام ١۹٠٠ قبل الميلاد، لكن يبدو أنهم لم يهتموا بعموميته، أو حتى لم يدركوها. كان نظام البابليين للأرقام نظامًا موضعيًّا، وإن كان شديدَ التعقيد مقارَنةً بالنظام الهندي؛ إذ يتضمَّن ٥۹ «رقمًا» يُكتَب كلٌّ منها في صورة مجموعة رموزٍ تُشبه نظامَ الأرقام الرومانية؛ ممَّا جعل استخدامَه في العمليات الحسابية للتعبير عن التعاملات اليومية أكثرَ تعقيدًا من استخدام الأرقام الرومانية. كما لم يشمل نظامُ البابليين رمزًا للصفر، فاستخدم المسافات باعتبارها علاماتٍ نائبةً، ولم يشمل طريقةً للتعبير عن الأصفار التي على اليمين، ولا العلامات العشرية (كأنْ نُعبِّر في نظامنا عن الأعداد ٢٠٠ و٢٠ و٢ و٠٫٢ وهكذا كتابةً بالرقم ٢، على أن يتمَّ التمييزُ بينها على حسب السياق). يدلُّ كلُّ ذلك على أن العمومية لم تكن الهدفَ الرئيسيَّ من تصميم النظام، وأنها لم تكن تتمتع بقيمةٍ عاليةٍ عندما تحقَّقَتْ.
لماذا فعل أرشميدس ذلك؟ إن هذه القيود التي فرضها على مواضع استخدام الرموز في أرقامه تبدو غير ذات نفعٍ اليومَ؛ إذ لا يوجد ما يبررها رياضيًّا، لكن لو كان أرشميدس يرغب في أن تُطبَّق قواعده دون قيودٍ اعتباطية، لَتسنَّى له أن يبتكر نظامًا عموميًّا أفضلَ كثيرًا، فقط بإزالة القيود التعسُّفية عن النظام اليوناني السائد حينئذٍ. وبعد بضعة أعوامٍ ابتكَرَ عالِمُ الرياضيات أبولونيوس نظامًا آخَر للأرقام يفتقر إلى العمومية لنفس السبب؛ يبدو الأمر وكأنَّ الجميعَ في العالم القديم كان يتجنَّب العمومية عن قصد.
كتب عالم الرياضيات بيير سيمون لابلاس (١٧٤۹–١٨٢٧) عن نظام الأرقام الهندي قائلًا: «سوف نقدر عظمة هذا الإنجاز حقَّ قدرها حينما نتذكر كيف أنه لم يَرِد على ذهن أرشميدس ولا أبولونيوس، وهما اثنان من أعظم العقول التي أنجبتها العصور القديمة.» لكن هل حقًّا لم يَرِد هذا النظام على ذهنيهما، أم أنه كان شيئًا رَغِبَا في الابتعاد عنه؟ لا بد أن أرشميدس قد أدرك أن طريقته لتوسيع نظامِ أعدادٍ ما — ذاك الذي استخدمه مرتين متعاقبتين — يمكن أن يستمر في زيادته إلى ما لا نهاية. لكن ربما تشكَّكَ في أن مثل تلك الأعداد اللامتناهية التي ستنتج عن نظامٍ كذلك قد تُستخدَم لأي أمرٍ يمكن أن يعقله المرء. في واقع الأمر، كان أحد أهداف مشروع أرشميدس ذاك معارَضةَ الفكرة السائدة حينها، التي كانت تُعَدُّ من البديهيات، والتي كانت تقر بأنه لا يمكن فعليًّا معرفة عدد حبات الرمل على أي شاطئ؛ ومن ثَمَّ استخدَمَ نظامه لحساب عدد حبات الرمل المطلوبة لملء الكرة السماوية بأكملها. في ضوء هذا، نرى أن أرشميدس، والثقافة اليونانية القديمة بوجهٍ عام، لم يكن لديهما على الأرجح أيُّ مفهومٍ حول الأعداد المجردة بالمرة؛ وعليه فلم يكن للأرقام استخدامٌ سوى الإشارة إلى أشياءَ مادية، حتى إن كانت مِن صُنع الخيال. وفي حالةٍ كهذه يصبح مفهوم العمومية مفهومًا من الصعب الوصول إليه، فضلًا عن أن يُتطلَّع إليه؛ أو ربما شعَرَ أرشميدس أنَّ عليه أنْ يتجنَّبَ التطلُّعَ إلى مدًى لا نهائيٍّ بُغيةَ جعْلِ تجربته مفهومةً ومقنعةً للآخرين. على كل حال، لا يبدو لنا اليومَ أن أرشميدس قد رغب لنظامه في أن يصل إلى العمومية، حتى إن بَدَا أنه «حاوَلَ» القفز نحوَها غير مرة.
وبمزيدٍ من التأمُّل نصلُ إلى احتماليةٍ أخرى، وهي أن أهم المكاسب التي تُحقِّقها العموميةُ في أي مجال، أكثر من مجرد حل مشكلةٍ ضيقةِ الأفق تستهدفها، هي أنها تُمهِّد الطريقَ لمزيدٍ من الابتكار، لكن الابتكار لا يمكن التنبُّؤ به؛ لذا يتطلَّب تقديرُ العمومية وقتَ اكتشافها تقديرًا للمعرفة المجردة في حد ذاتها، أو التوقُّع لتلك العمومية بتحقيق مكاسبَ لا يمكن توقُّعها. يبدو أن هذين موقفان غير واردٍ حدوثُهما في مجتمعٍ قلَّمَا اختبَرَ التغيير، بَيْدَ أن هذا تغيُّر مع التنوير من خلال فكرته المهمة التي ذكرتُها من قبلُ؛ وهي أن تحقيق التقدُّم أمرٌ ممكن ومرغوب، ومثله العمومية.
بحلول عصر التنوير تغيَّرت النظرةُ إلى كل الاستثناءات والقيود التعسُّفية وضيق الأفق، وأصبحَتْ تُرَى على أنها تُسبِّب إشكالياتٍ، وهي نظرة لم تقتصر على حقول العلم فحسب؛ فلماذا ينبغي أن تختلف معاملة القانون لأبناء الطبقة الأرستقراطية عن العامة؟ أو للسيد عن العبد؟ أو للرجل عن المرأة؟ بدأ فلاسفة عصر التنوير مثل جون لوك في تحرير المؤسسات السياسية من القواعد والافتراضات التعسُّفية، وحاوَلَ آخَرون أن يستنتجوا القواعدَ الأخلاقية من التفسيرات الأخلاقية العمومية بدلًا من طرحها باعتبارها مسلماتٍ تعسُّفيةً؛ ومن هنا بدأت النظريات التفسيرية العامة للعدالة والشرعية والأخلاق تتخذ مكانها بجوار النظريات العامة حول المادة والحركة. كانت العمومية في كل تلك الأحوال مطلبًا يُسعَى إليه عن قصدٍ باعتبارها صفةً مرغوبةً في حد ذاتها — بل ضرورية الوجود أيضًا في أي فكرةٍ لتمام صحتها — وليس باعتبارها وسيلةً لحل مشكلةٍ ضيقة الأفق فحسب.
ومن أهم القفزات نحو العمومية، التي لعبَتْ دورًا بارزًا في بداية عصر التنوير، اختراعُ الطباعة ذات الحروف المتحركة، التي تكوَّنتْ من قطعٍ متفرقةٍ من المعدن تحمل كلٌّ منها نقشًا بارزًا لأحد حروف الأبجدية. كانت طرقُ الطباعة الأقدم قد اقتصرتْ على تنظيم الكتابة بالطريقة التي نظمتْ بها الأرقام الرومانية العد؛ حيث تمَّ نقْشُ كلِّ صفحةٍ على لوح طباعةٍ بحيث يمكن نسْخ كل محتوياتها من الرموز في خطوةٍ واحدة، لكن مع وجود نُسَخٍ متعددةٍ لكل حرف، لم يَعُدْ هناك داعٍ لممارسة أي أعمالِ نقشٍ معدنيةٍ أخرى؛ فلا يلزم سوى أن يقوم العامِلُ بترتيب قطع الحروف في كلماتٍ وجمل، وأصبح من غير اللازم أيضًا معرفةُ ما ستحتويه الوثائقُ التي ستتمُّ طباعتها في المستقبل لإعداد قطعٍ لها؛ أيْ أصبحَتِ المطبعة تتصف بالعمومية.
على الرغم من هذا، فإن أسلوب الطباعة هذا لم يُحدِثْ أيَّ فارقٍ عندما اختُرِع في الصين في القرن الحادي عشر؛ ربما لعدم الاهتمام المعتاد بالعمومية، أو ربما لأن نظام الكتابة الصينية يستخدم آلافَ الرسوم التصويرية؛ ممَّا قلَّل المزايا المباشرة للاعتماد على نظام طباعةٍ عمومي. لكن عندما أعاد يوهانز جوتنبرج اكتشافَ أسلوب الطباعة هذا في أوروبا في القرن الخامس عشر باستخدام حروف الأبجدية المتحركة، استهَلَّ ذلك فيضانًا من التقدُّم من بعده.
إن ما نحن بصدده هنا هو تحوُّلٌ تمرُّ به كل القفزات نحو العمومية؛ فقبل القفزةِ يكون على المرء أن يصنع أشياءَ مخصَّصة لكلِّ وثيقةٍ يطبعها، أما بعد القفزة فالمرء يخصِّص (أو يبرمج) شيئًا عامًّا، وهو في مثالنا مطبعةٌ تعتمد على أسلوب طباعة الحروف المتحركة. بالمثل، في عام ١٨٠١ اخترع جوزيف ماري جاكارد آلةَ نسْجِ حريرٍ متعدِّدةَ الأغراض تُعرَف الآن ﺑ «منسج جاكارد»، وبدلًا من التحكُّم يدويًّا في كل صفٍّ من غُرَز كل ثوب قماشٍ من الحرير المطبق عليه نمط معيَّن، يستطيع عامِلُ النسيج بواسطة تلك الآلة برمجةَ نمطٍ معينٍ على بطاقاتٍ مثقوبةٍ ليوجِّه آلةَ النسيج لنسْج ذلك النمط أيَّ عددٍ من المرات.
ويبقى أهمَّ هذه التقنيات اختراعُ الكمبيوتر أو الحاسوب، الذي يعتمد عليه الآن القطاعُ الأكبرُ من كل التقنيات الأخرى، والذي له أهمية نظرية وفلسفية كذلك. كان ينبغي لقفزة الحوسبة نحو العمومية أن تحدث في عشرينيات القرن التاسع عشر عندما صمَّمَ عالم الرياضيات تشارلز بابيج آلةً سمَّاها «محرك الفروق»، وهي آلة حاسبة ميكانيكية مُثِّلتْ فيها الأرقام العشرية بتروسٍ يمكن أن يدقَّ أيٌّ منها في واحدٍ من عشرة مواضع. كان الغرضُ الأصلي من المحرك ضَيِّقَ الأفق، وهو أتْمتة إنتاجِ جداول الدوالِّ الحسابيةِ كالخوارزميات وجيوب التمام، التي كانت تُستخدَم بكثرةٍ في مجالات الملاحة والهندسة. في ذلك الوقت، كان يتمُّ تجميعُ تلك الجداول من قِبَل أعدادٍ كبيرةٍ من الموظفين عُرِفوا بِاسم «الحَسَبَة» (ومن هنا، جاء أصل تسمية الحاسوب)، والذين كان معروفًا عنهم ارتكابُهم لأخطاءٍ كثيرةٍ في عملهم. كان من شأن محرك الفروق أن يرتكب أخطاءً أقل بكثيرٍ لأن قواعد علم الحساب مدموجة في بنائه، ولم يلزم لطباعة جدولٍ لدالَّةٍ معيَّنةٍ إلا أن يُبرمجه المرءُ مرةً واحدةً بتعريف الدالة في صورة عملياتٍ بسيطة؛ في المقابل، كان على الحَسَبَة البشريين أن يَستخدموا (أو يُستخدموا من قبل) التعريف والقواعد العامة للحساب آلاف المرات في كل جدول، وكل مرةٍ بمنزلة فرصةٍ لحدوث خطأٍ بشري.
للأسف، لم ينجح بابيج في صُنعِ محرك الفروق قطُّ بسبب سوء تنظيمه الشخصي، مع أنه قد أنفق على هذا المشروع الكثيرَ من ماله الخاص بالإضافة إلى تمويل الحكومة البريطانية، لكنَّ تصميمه كان صحيحًا (باستثناء بعض الأخطاء البسيطة)؛ وفي عام ١۹۹١ قام فريق بقيادة المهندس دورون سواد في متحف لندن للعلوم بتنفيذ محرك الفروق بنجاحٍ باستخدام الإمكانيات الهندسية المتوافرة في زمن بابيج فحسب.
كانت مهام محرك الفروق محدودة جدًّا بمعايير أجهزة كمبيوتر اليومَ، بل حتى بمعايير الآلات الحاسبة أيضًا، ولكنَّ الهدف من وجوده بالأصل هو وجود انتظامٍ مشتركٍ بين كل الدوال الرياضية التي تتكرَّر بالفيزياء؛ ومن ثَمَّ في الملاحة والهندسة. وتُعرَف تلك الدوال ﺑ «الدوال التحليلية». ولقد اكتشف عالم الرياضيات بروك تايلور في عام ١٧١٠ أنه من الممكن تقريب كلِّ الدوال التحليلية باستخدام الإضافة والضرب فقط على نحوٍ متكرِّر، وهي العمليات التي يؤدِّيها محركُ الفروق (ولقد سبقَتْه بضعُ حالات تقترب من ذلك الاكتشاف، إلا أن القفزة نحو العمومية تحقَّقتْ على يد تايلور). دأب بابيج على حل مشكلة حوسبة مجموعة الدوال المطلوبة طباعتها في جداول، باختراعه آلةً حاسبةً اتَّسَمَتْ بعموميتها إزاء حساب الدوال التحليلية، وقد استفادت تلك الآلة أيضًا من عمومية أسلوب الطباعة بالحروف المتحركة في طابعتها الشبيهة بالآلة الكاتبة، التي لولاها لَمَا أمكنَتِ الأتمتةُ التامة لعملية طباعة الجداول.
على أن عمومية الحوسبة لم تكن في تصوُّر بابيج في بادئ الأمر، ومع هذا اقترَبَ محركُ الفروق اقترابًا واضحًا من العمومية ليس بما يؤدِّيه من عمليات، وإنما بتكوينه المادي؛ فكان يلزم في البداية تشغيل تروسٍ معيَّنةٍ من أجل برمجة المحرك لطباعة جدولٍ ما، لكن بابيج توصَّل في النهاية إلى إمكانيةِ أتْمتةِ مرحلة البرمجة هذه عن طريق تجهيز الإعدادات على بطاقاتٍ مثقوبةٍ كتلك التي استعملها جاكارد، على أن تُنقَل ميكانيكيًّا إلى التروس. ولقد عالَجَ هذا التطويرُ محركَ الفروق بأنْ أقصى مصدرَ الأخطاءِ الرئيسيَّ عن عملياته، وزاد من العمليات التي يستطيع القيامَ بها. ثم أدرك بابيج أن المحرك لو استطاع أيضًا أن يثقب البطاقات الجديدة لاستخدامها فيما بعدُ، وأن يتحكَّم في اختيار البطاقات التي سيقرؤها (كأنْ يختار من مجموعةٍ من البطاقات بِناءً على موقع تروسه)، لَتحقَّقَ بذلك أمرٌ جديدٌ كيفًا؛ وهو القفزة نحو العمومية.
أطلق بابيج على هذه الآلة المعدلة اسمَ «المحرك التحليلي»، وكان يعلم هو وزميلته عالمة الرياضيات آدا دوقة لافليس أن هذا المحرك سيكون قادرًا على حوسبة أي شيءٍ في استطاعة الحَسَبَة البشريين أن يحسبوه، وهو ما يزيد عن مجرد إجراء العمليات الحسابية؛ إذ في استطاعته حلُّ مسائلِ الجبرِ ولعبُ الشطرنج وتأليفُ الموسيقى ومعالجةُ الصور وتأديةُ الكثير من المهام الأخرى؛ كان ذلك المحرك بمنزلة ما يُصطلَح على تسميته اليومَ باسم الكمبيوتر التقليدي العمومي. (ولسوف أشرح أهمية الصفة «تقليدي» في الفصل الحادي عشر، عندما أتطرَّق لمناقشة أجهزة الكمبيوتر الكمية التي تعمل على مستوياتٍ أعلى من العمومية.)
لم يتخيَّل بابيج ولا آدا ولا غيرهما لمدة قرنٍ من الزمان ما ستكون عليه الاستخدامات الأكثر شيوعًا للحوسبة اليومَ، مثل الإنترنت ومعالجة الكلمات والبحث في قواعد البيانات والألعاب، لكنهما توقَّعَا استخدامًا آخَر مهمًّا للحوسبة، وهو عمل تنبُّؤات علمية. يمكن للمحرك التحليلي أن يصبح أداةَ محاكاةٍ عمومية قادرة على التنبؤ بسلوك أيِّ شيءٍ ماديٍّ لأي درجةٍ مرغوبةٍ من الدقة، في ضوء قوانين الفيزياء ذات الصلة بذلك الشيء؛ تلك هي العمومية التي أشرتُ إليها في الفصل الثالث، والتي تستطيع عن طريقها الأشياءُ المادية المختلفة في طبيعتها وفي قوانين الفيزياء التي تنظمها (كالأمخاخ والكويزرات) أن تُظهِر نفس العلاقات الرياضية.
كان بابيج وآدا من أنصار التنوير؛ لذا أدركَا أن عمومية المحرك التحليلي ستُقدِّم تقنيةً عظيمةَ الأهمية، ومع ذلك، ومع جهودهما الكبيرة، فشلَا في أن ينشرَا حماسهما إلا لعددٍ قليلٍ من معاصريهما، الذين أخفقوا بدورهم تمامًا في نقل ذلك الحماس لغيرهم؛ وعليه بات المحرك التحليلي واحدًا من المشروعات الواعدة غير المكتملة التي يزخر بها التاريخ. ولو أنهما فقط بحثَا حولهما لإيجاد طرقٍ أخرى لتنفيذ المحرك، ربما كانا قد أدركَا أن الطريقة المُثلى كانت قابعةً هنالك بانتظارهما؛ وهي المُرحِّلات الكهربية (وهي مفاتيح تشغيلٍ تتحكَّم فيها تياراتُ الكهرباء). كانت المُرحِّلات الكهربية من أوائل تطبيقات الأبحاث الرئيسية في مجال الكهرباء المغناطيسية، وكانت على وشك أن تُنتَج على نطاقٍ واسعٍ تماشيًا مع ثورة التلغراف التكنولوجية، وكان من شأنِ محركٍ تحليليٍّ معدَّلٍ يَستخدم مفتاحَ تشغيلِ وإيقافِ التيار الكهربي ليمثِّل الأعداد الثنائية والمُرحِّلات للقيام بالحوسبة؛ أن يكون أسرعَ من محرك بابيج، وأرخص وأسهل في التصنيع. (كانت الأعداد الثنائية معروفةً جيدًا آنذاك، حتى إن عالِمَ الرياضيات والفيلسوف جوتفريد فيلهلم لايبنتس قد اقترح استخدامها في الحسابات الميكانيكية في القرن السابع عشر.) إذنْ كان من الممكن لثورة الكمبيوتر أن تحدث مبكرًا عمَّا حدثت بالفعل بقرنٍ من الزمان، ولكانت تبعتها حينئذٍ ثورةُ الإنترنت أيضًا؛ نظرًا للتطوُّر التكنولوجي في مجال التلغراف والطباعة الذي تزامَنَ مع هذا. ولقد قدَّمَ كاتبَا الخيال العلمي ويليام جيبسون وبروس سترلينج في روايتهما «محرك الفروق» وصفًا مشوِّقًا لما كان يمكن أن تبدوَ عليه الأمور حينها لو تحقَّقَ كلُّ ذلك. ويصرُّ الصحفي توم ستانديدج في كتابه «إنترنت العصر الفيكتوري» أن نظام التلغراف القديم قد خلق بين مشغليه ظاهرةً تُشبِه الإنترنت حتى دون أجهزة كمبيوتر، وأنه شهد «قرصنةً، وعلاقاتٍ عاطفيةً، وحفلاتِ زفافٍ، وغرفَ دردشةٍ، ومشاداتٍ كلاميةً … وغيرها».
بالإضافة إلى ما سبق، فكَّرَ بابيج ودوقة لافليس في تطبيقٍ آخَرَ لأجهزة الكمبيوتر العمومية لم يتحقَّق حتى اليوم، وهو ما يُسمَّى بالذكاء الاصطناعي؛ فبما أن الأمخاخ البشرية هي أشياء مادية تخضع لقوانين الفيزياء، وبما أن المحرك التحليلي أداةُ محاكاةٍ عمومية، إذنْ يمكن برمجته ليفكِّر مثل البشر بالضبط (ولو أنه سيكون أبطأ جدًّا وسيتطلَّب كمًّا غيرَ عمليٍّ من البطاقات المثقوبة)؛ إلا أنهما استبعدَا ذلك التطبيقَ، وكانت حجةُ دوقة لافليس في ذلك: «لا يملك المحرك التحليلي من الدوافع ما يجعله يُنتج أيَّ شيء؛ إذ ليس بوسعه إلا أن ينفِّذَ ما نعلم نحن كيف نأمره أن ينفِّذه. إن باستطاعته متابعة التحليلات، لكنه لا يقدر على توقُّع أيِّ حقائقَ أو علاقاتٍ تحليلية.»
أطلَقَ عالمُ الرياضيات ورائد علوم الكمبيوتر آلان تورنج على هذا الخطأ فيما بعدُ «اعتراض السيدة لافليس»؛ فلم تكن عموميةُ الحوسبة هي ما أخطأت دوقة لافليس في تقديرها، وإنما عمومية قوانين الفيزياء. لم يملك العلم آنذاك أيَّ معرفةٍ عن فيزياء المخ، وأيضًا لم تكن نظريةُ داروين عن التطوُّر قد نُشِرتْ بعدُ، وكانت تفسيرات طبيعة البشر على أساس الخوارق ما زالت سائدةً، أما اليوم، فلا عزاء للمجموعة القليلة من العلماء والفلاسفة الذين لا يزالون يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي أمرٌ لا يمكن تحقيقه. على سبيل المثال: وضَعَ الفيلسوفُ جون سيرل مشروعَ الذكاء الاصطناعي في المنظور التاريخي التالي: حاوَلَ بعضُ الناس لفتراتٍ طويلةٍ أن يُفسِّروا العقلَ على أسس آلية باستعمال التشبيهات والاستعارات المعتمدة على أكثر الآلات تعقيدًا في عصرهم، في البداية افترضوا أن العقل مجموعة عملاقة ومعقَّدة من التروس والروافع، ثم تصوَّروا في عصرٍ تالٍ أنه أنابيبُ هيدروليكيةٌ، ثم محركات بخارية، ثم سنترالات هاتفية، واليومَ عندما أضحَتْ أجهزةُ الكمبيوتر أعمق تكنولوجياتنا تأثيرًا، يقال عن العقول إنها أجهزة كمبيوتر. ويقول سيرل إن هذه ليست سوى استعاراتٍ للتشبيه، وإنه لا يوجد من الأسباب ما يؤكِّد أن العقل جهاز كمبيوتر وليس محركًا بخاريًّا.
لكن السبب موجود! فالمحرك البخاري ليس أداةَ محاكاةٍ عمومية، على عكس جهاز الكمبيوتر؛ مما يجعل توقُّع قدرةِ الأخير على القيام بكل ما تفعله الخلايا العصبيةُ ليس محضَ استعارةٍ أو تشبيه، بل هي خاصية معروفة ومثبتة عن قوانين الفيزياء كما نعرفها. (وبالمناسبة، يمكن تحويل الأنابيب الهيدروليكية، وكذلك التروس والروافع، إلى أجهزةِ كمبيوتر تقليديةٍ عمومية، تمامًا كما أثبت بابيج.)
ومن المفارقة أن اعتراض السيدة لافليس استند إلى نفس المنطق الذي استند إليه دوجلاس هوفستاتر في فكره عن الاختزالية (انظر الفصل الخامس)، ومع ذلك فهو أحد أهم المدافعين عن إمكانية وجود الذكاء الاصطناعي في وقتنا هذا؛ وذلك لأنهما اشتركَا في اعتناقهما للمقدمة المنطقية الخاطئة باستحالة قدرة خطوات الحوسبة ذات المستوى الأقل على التحوُّل إلى «أنا» ذات مستوًى أعلى يمكنها أن تؤثِّر على أي شيء. لكن يكمن الاختلاف بينهما في أنَّ كلًّا منهما قد اختار جانبًا مختلفًا من المعضلة عن الآخَر؛ ففي حين اختارت دوقة لافليس النتيجةَ الخاطئة التي تقول إن الذكاء الاصطناعي غير ممكن، اختار هوفستاتر النتيجة الخاطئة المقابلة، وهي أن تلك «الأنا» لا يمكن أن توجد.
تسبَّبَ فشل بابيج في صنعِ كمبيوتر عموميٍّ أو حتى إقناع الآخرين بالقيام بذلك، في مرور قرنٍ من الزمان قبل أن يخرج أول كمبيوتر إلى النور، وما حدث في تلك الفترة يُشبه تاريخَ العمومية القديم؛ فمع أن الآلات الحاسبة الشبيهة بمحرك الفروق كانت تُصنَع وتُستخدَم حتى من قبل أن يتخلَّى بابيج عن مشروعه، فإن الجميع تجاهَلَ تمامًا المحركَ التحليلي، حتى علماء الرياضيات.
وفي عام ١۹٣٦، طوَّرَ تورنج النظريةَ الحاسمة عن أجهزة الكمبيوتر التقليدية العمومية، وإنْ لم يكن دافعه لذلك هو بناءَ مثل هذه الأجهزة، وإنما استخدامُ النظرية استخدامًا مجردًا لدراسةِ طبيعةِ البراهين الرياضية. وعندما صُنِع أول جهازٍ من أجهزة الكمبيوتر العمومية بعد ذلك بعدة أعوام، لم يكن ذلك أيضًا بنِيَّة تطبيق العمومية؛ إذ صُنِعت في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب العالمية الثانية من أجل خدمة تطبيقاتٍ حربيةٍ محدَّدة. استُخدِمت أجهزةُ الكمبيوتر البريطانية «كولوسس» (التي شارك تورنج في صنعها) في فك الشفرات، أما الأمريكية «إينياك» فكانت مصمَّمة لحل المعادلات الضرورية لضبط دقة تصويب الأسلحة الضخمة. كانت التكنولوجيا المستخدَمة في كلٍّ من النوعين هي الصماماتِ المفرغةَ الإلكترونية، التي استُعمِلتْ باعتبارها مُرحِّلات، لكنها كانت أسرع بمئات المرات. وفي نفس الوقت، صنع المهندس كونراد تسوزه في ألمانيا آلة حاسبة قابلةً للبرمجة من المُرحِّلات، كما كان ينبغي لبابيج أن يفعل. كانت تلك الأجهزة الثلاثة لها كلُّ السمات التكنولوجية المطلوبة كي تصبح أجهزةَ كمبيوتر عمومية، إلا أن أيًّا منها لم يكن مُعَدًّا من أجل ذلك؛ فلم تفعل آلات «كولوسس» سوى فك الشفرات، ثم تَمَّ تفكيك معظمها بعد الحرب، أما آلة تسوزه، فقد دمَّرَتْها قنابلُ الحلفاء، لكن «إينياك» حَظِيَتْ بالفرصة للقفز نحو العمومية؛ فلقد استُخدِمَتِ استخداماتٍ شتَّى بعد الحرب لم تكن قد صُمِّمت من أجلها في الأصل، كتوقُّعات الطقس ومشروع القنبلة الهيدروجينية.
سيطَرَ على تاريخ التكنولوجيا الإلكترونية بعد الحرب العالمية الثانية مَيْلٌ نحو التصغير أدَّى إلى إنتاج مفاتيحَ كهربيةٍ متناهيةِ الصغر، ودمجها في كل جهازٍ جديد. أدَّتْ تلك التحسينات إلى قفزةٍ نحو العمومية حوالي عام ١۹٧٠ عندما أنتجَتْ عدةُ شركاتٍ كلٍّ على حدةٍ معالجًا دقيقًا، وهو كمبيوتر تقليدي عمومي على رقاقةٍ واحدةٍ من السليكون؛ ومن وقتها تمكَّنَ مصمِّمو أيِّ جهازٍ معالجٍ للبيانات أن يعتمدوا في تصميمهم على معالجٍ دقيقٍ ثم يقوموا بتخصيصه — أيْ برمجته — ليؤدِّيَ مهامَّ محدَّدةً لذلك الجهاز. اليومَ، يتحكَّم في الغسالة الموجودة ببيتك على الأرجح كمبيوتر يمكن برمجته لأداء مهامَّ في الفيزياء الفلكية أو لمعالجة الكلمات لو زُوِّد بأدواتٍ مناسبةٍ للإدخال والإخراج، بالإضافة إلى ذاكرةٍ كافيةٍ لتخزين البيانات الضرورية.
ومن المذهل أننا لو صرفنا النظر عن تلك الأشياء (السرعة وسعة الذاكرة وأدوات الإدخال والإخراج)، لَوجدنا أن كلًّا من «أجهزةِ الكمبيوتر» البشرية القديمة، والمحركِ التحليلي المدار بالبخار بأجراسه وصفافيره، وأجهزةِ كمبيوتر الحرب العالمية الثانية ذات الصمامات المفرغة التي بحجم الغرفة، وأجهزةِ الكمبيوتر الفائقة الحديثة؛ كلها تؤدِّي نفسَ عمليات الحوسبة.
تشترك تلك الأجهزة أيضًا في أنها كلها «رقمية»؛ أي إنها تُعبِّر عن البيانات في صورة قِيَمٍ متقطعةٍ للمتغيرات المادية، كأنْ تضبط المفاتيحَ الإلكترونية على التشغيل أو الإيقاف، أو تكون التروس في أحد المواضع العشرة. كانت أجهزة الكمبيوتر «التناظرية» البديلة — مثل المساطر الحاسبة، التي تُعبِّر عن المعلومات كسلسلةٍ متصلةٍ من المتغيرات المادية — واسعةَ الانتشار في وقتٍ ما، لكنها لا تكاد تُستخدَم اليومَ؛ لأن أي كمبيوتر رقميٍّ حديثٍ قابلٌ للبرمجة بحيث يحاكي أيًّا منها مؤدِّيًا أداءً يفوق في جودته أيًّا منها في أي تطبيقٍ لها تقريبًا. ولقد تسبَّبت قفزةُ أجهزة الكمبيوتر الرقمية نحو العمومية في أن تراجعتْ أجهزةُ الكمبيوتر التناظرية، وهو ما كان محتومًا؛ لأنه لا يوجد ما يُسمَّى بكمبيوتر تناظريٍّ عمومي.
يرجع ذلك للحاجة إلى «تصحيح الأخطاء»؛ ففي خلال عمليات الحوسبة المطولة، يجعل تراكُمُ الأخطاء — التي تحدث نتيجةً لأمورٍ مثل عيوبٍ بالمكونات أو بتركيبها، أو التقلبات الحرارية، أو أي مؤثراتٍ خارجيةٍ عشوائية — أجهزةَ الكمبيوتر التناظرية تشرد بعيدًا عن مسار الحوسبة المراد. قد يبدو هذا اعتبارًا بسيطًا أو ضيقَ الأفق، لكن العكس هو الصحيح؛ فدون تصحيح الأخطاء ستكون عمليةُ معالجة البيانات بالكامل، ومن ثَمَّ عملية ابتكار المعرفة، محدودةً بالضرورة؛ فتصحيح الأخطاء هو بداية اللانهاية.
على سبيل المثال: لا تكون عمليةُ العد عموميةً إلا إذا كانت رقمية؛ تخيَّلْ أن جماعةً من رعاة المَعْز القدامى حاولوا حسابَ «الطول» الإجمالي لقطيعهم بدلًا من عدده، بأن اعتمدوا على لفة خيطٍ يمدُّون منها قدرَ طولِ كلِّ نعجة تخرج من الحظيرة حين تخرج، ويعيدون لفها عند عودة النعجة، وبعد ذلك يعرفون أن كلَّ القطيع قد دخل إلى الحظيرة حينما يكتمل لف الخيط بالكامل. من المؤكَّد أن النتيجة العملية لأسلوبٍ كهذا كانت ستتصف دائمًا بعدم الدقة بسبب تراكُم أخطاء القياس مرةً بعد مرة؛ فمهما كانت دقة القياس، فإنه لا بد أن يوجد عددٌ أقصى للماعز التي يمكن أن تُعَدَّ على نحوٍ موثوقٍ فيه بنظام «العد التناظري» هذا. ينطبق الأمر نفسه على كل العمليات الحسابية التي قد تُؤدَّى بهذا النظام؛ فكل مرةٍ تجمع فيها الخيوط المعبرة عن عدة قطعان، أو يقسم أحد الخيوط تعبيرًا عن انقسام القطيع، أو «يُنسَخ» بأن يُصنع مثله بنفس الطول؛ ستحدث أخطاء. قد يحاول الفرد تخفيفَ آثار تلك الأخطاء بتكرار كلِّ عمليةٍ عدة مراتٍ والاحتفاظ بالمتوسط، لكن عمليات مقارنة وتكرار الأطوال نفسها ليس لها سوى مستوًى محدودٍ من الدقة تُؤدَّى في نطاقه، وهي من ثَمَّ لا تستطيع أن تخفض معدل تراكُم الأخطاء في كل خطوةٍ بما يفوق ذلك المستوى من الدقة؛ يفرض هذا بدوره حدًّا أقصى لعدد العمليات المتعاقبة الممكنة تأديتُها قبل أن تصبح النتيجةُ غيرَ ذات نفعٍ لغرضٍ بعينه، ولهذا السبب لا يمكن لأجهزة الكمبيوتر التناظرية أن تصبح عمومية أبدًا.
فالعمومية تتطلَّب نظامًا يأخذ في حسبانه أن الأخطاء ستحدث لا محالة، ولكنه يصححها بمجرد أن تحدث، وهذه إحدى حالات الحقيقة القائلة: «المشكلات حتمية الحدوث، لكنها قابلة للحل» على أدنى مستوًى من انبثاق معالجة البيانات. لكن تصحيح الأخطاء في الحوسبة التناظرية سيصطدم بالمشكلة المنطقية الأساسية المتمثِّلة في أنه لا توجد طريقة لتمييز القيمة الخاطئة من الصحيحة بمجرد النظر؛ إذ من طبيعة الحوسبة التناظرية أن كلَّ قيمةٍ يمكن أن تكون صحيحة؛ فأيُّ طولٍ من الخيط قد يكون هو الطولَ الصحيح.
لا يحدث ذلك في حوسبةٍ تحصر نفسها في نطاق الأعداد الصحيحة؛ فمثلًا: نحن نستطيع باستخدام نفس الخيط أن نُعبِّر عن الأعداد الصحيحة بأطوالٍ من الخيط لها قياس محدَّد من البوصات، وبعد كل خطوةٍ نُقصر أو نُطيل الخيوط الناتجة لأقرب بوصة. بهذه الطريقة، لن تتراكم الأخطاء؛ فإذا افترضنا مثلًا أن كل القياسات يمكن أن يُسمَح فيها بتفاوتٍ لا يتعدَّى عُشْر بوصة، فبهذا ستُكتشَف كلُّ الأخطاء وتُستبعَد بعد كل خطوة؛ مما سيُلغي الحدَّ المفروض على عدد الخطوات.
إذنْ فكلُّ أجهزة الكمبيوتر العمومية رقمية، وتَستخدم جميعُها إجراءَ تصحيحِ الأخطاء بنفس المنطق الأساسي الذي وصفتُه للتَّو، ولكن بعمليات تنفيذٍ مختلفةٍ عديدة؛ ولذلك حدَّد بابيج في أجهزة الكمبيوتر خاصته عشرةَ معانٍ مختلفةٍ فقط لكل مُتَّصِلٍ من الزوايا التي قد تتحرك فيها عجلة الترس؛ وبهذه الطريقة يمكن للتروس تنفيذُ عمليةِ تصحيحِ الأخطاء على نحوٍ مؤتْمت؛ حيث يُصحَّح على الفور أيُّ انحرافٍ بسيطٍ في اتجاه العجلة عن مواضعها العشرة المثلى إلى أقربها بعد كل خطوة. إن تخصيص معنًى خاصٍّ لكل موضعٍ على متصل الزوايا بأكمله مَكَّنَ كل عجلةٍ أن تحمل نظريًّا المزيدَ من المعلومات (على نحوٍ لا محدود)، لكن في الواقع، المعلوماتُ التي لا يمكن استرجاعها على نحوٍ موثوقٍ فيه هي معلومات غير مخزنة.
لحسن الحظ إن القيد المفروض على المعلومات المعالجة من حيث ضرورة أن تكون رقميةً لا ينتقص من عمومية أجهزة الكمبيوتر الرقمية، ولا من عمومية قوانين الفيزياء؛ فلو أن قياس المعز بأعدادٍ صحيحةٍ من البوصات غير كافٍ لتطبيقٍ ما، لَأمكنك إذنْ أن تستخدم أعدادًا صحيحة من أعشار البوصة أو أي قياسٍ أقل، وهو ما ينطبق على كل التطبيقات الأخرى؛ حيث تنصُّ قوانين الفيزياء على أن سلوك أي شيءٍ مادي — وهو ما يشمل أيَّ كمبيوتر آخَر — يمكن محاكاته بأي قدرٍ من الدقة بالكمبيوتر التقليدي العمومي؛ فكل ما يتطلَّبه الأمرُ هو التقريبُ المستمر للكميات المتغيرة من خلال مجموعةٍ دقيقةٍ على نحوٍ كافٍ من الكميات المنفصلة.
ومن الصلات المذهلة الأخرى التي تربط بين كل هذه القفزات المتنوعة نحو العمومية أن جميعها قد حدث على كوكب الأرض. في الواقع، حدثَتْ كلُّ القفزات المعروفة نحو العمومية على يد البشر، فيما عدا واحدة لم أذكرها بعدُ، انبثقَتْ منها كلُّ القفزات الأخرى في التاريخ، وحدثت أثناء التطوُّر المبكر للحياة.
تقوم الجينات في الكائنات الحية الموجودة اليومَ بنسخ نفسها عن طريق مسارٍ كيميائيٍّ معقَّدٍ وغير مباشِرٍ جدًّا، وهي تقوم في معظم أنواع الكائنات الحية بدور قوالبَ لعمل تسلسلاتٍ لجزيئاتٍ مماثلة، وهي الحمض النووي الريبي (آر إن إيه)، تعمل بدورها باعتبارها برامج توجه عملية تصنيع المواد الكيمائية الأساسية للجسم، وبخاصةٍ الإنزيمات التي تعمل بدورها باعتبارها محفزاتٍ. إن المحفز نوع من البنائين؛ فهو يشجع على إحداث تغييرٍ في المواد الكيميائية الأخرى، بينما هو نفسه لا يتغيَّر. تتحكم المحفزات في إنتاج المواد الكيميائية والوظائف التنظيمية بالكامل في الكائن الحي؛ ومن ثَمَّ فهي تُعرِّف الكائنَ نفسَه وتتضمن عملية مهمة، وهي صُنْع نسخةٍ من الدي إن إيه. ليس من الضروري ها هنا أن نعرف كيف تطوَّرت تلك الآلية المعقدة، لكن دعني أضع تصوُّرًا لذلك على سبيل الإيضاح.
منذ حوالي أربعة مليارات عام — وفور أن قلَّتْ درجةُ حرارة الأرض بما سمح للمياه السائلة أن تتكثف — كانت المحيطات تعجُّ بالبراكين، وتوالَتْ عليها النيازك، وتعرَّضَتْ لعواصفَ وحالاتِ مدٍّ أعتى ممَّا هي عليه اليومَ (لأن القمر كان أقرب إلى الأرض)، وكانت أيضًا عبارة عن موادَّ كيميائيةٍ فائقةِ النشاط، بها العديدُ من أنواع الجزيئات التي تتشكَّل على نحوٍ مستمرٍّ ثم تتحوَّل، بعضها تلقائيًّا وبعضها بمساعدة محفزات؛ وتصادف أن أحد تلك المحفزات قد حفَّزَ تكوينَ بعض أنواع الجزيئات التي يتكوَّن هو منها. لم يكن ذلك المحفز حيًّا، لكنه كان أولَ بادرةٍ للحياة.
لم يكن المحفز وقتَها قد تطوَّرَ بعدُ ليصبح محفِّزًا ذا هدفٍ محدَّد؛ لذا سرَّعَ أيضًا من إنتاج أنواعٍ أخرى من المواد الكيميائية، بما فيها أشكالٌ مختلفة من نفسه. باتت المحفزاتُ الأقدرُ على تعزيزِ إنتاج نفسها (ومنع تدميرها) أكثرَ عددًا مقارَنةً بالأشكال الأخرى، ثم عزَّزَتْ بدورها بناءَ أشكالٍ أخرى من نفسها، واستمرَّ التطوُّر على هذا المنوال.
تدريجيًّا، أصبحَتْ قدرةُ تلك المحفزات على تعزيز إنتاج نفسها من القوة والدقة ممَّا يسمح بتسميتها بالناسخات، ثم نتجت بفعل عملية التطوُّر ناسخاتٌ استطاعَتْ أن تنسخ نفسها على نحوٍ أسرع وأكفأ من ذي قبلُ.
بدأَتِ الناسخاتُ المختلفة في الاتحاد في مجموعاتٍ، وتَخصَّصَ كلُّ عضوٍ في كل مجموعةٍ في إيجاد جزءٍ من شبكةٍ معقَّدةٍ من التفاعلات الكيميائية، تَمثَّل تأثيرها الإجمالي في بناء المزيدَ من النُّسَخ من المجموعة ككلٍّ. مثلُ هذه المجموعة كان عبارة عن كائنٍ أوَّلي، وكانت الحياةُ في تلك المرحلة في مرحلةٍ مماثلةٍ لما حدث في الطباعة غير العمومية، أو الأرقام الرومانية؛ إذ لم تَعُدْ حالةً خاصةً بكل ناسخٍ على حدة، لكن حينئذٍ لم يوجد أيضًا نظام عمومي بعدُ ليتمَّ تخصيصُه أو برمجتُه بغيةَ إنتاجِ موادَّ معينة.
ربما كانت أكثر الناسخات نجاحًا هي جزيئات الآر إن إيه؛ لأنَّ لديها خصائصَ محفزةً خاصةً بها، تعتمد على التسلسل الدقيق للجزيئات المكونة لها (أو ما يُطلَق عليه «القواعد»، التي تشبه قواعد الدي إن إيه)؛ ومن هنا باتت عملية النسخ أبعد عن عملية التحفيز المباشِرة وأقرب إلى البرمجة بلغةٍ أو شفرةٍ جينية، التي كانت تَستخدم القواعد باعتبارها أبجديتها.
إن الجينات ناسخات يمكن النظر إليها باعتبارها أوامرَ في شفرة جينية، أما الجينوم فهو مجموعات من الجينات التي يعتمد بعضها على بعضٍ في النسخ، والكائن الحي هو نتاج عملية نسخ الجينوم، ولهذا تكون الشفرة الجينية أيضًا بمنزلة لغةٍ لتحديد تفاصيل الكائنات الحية. تحوَّلَ النظامُ في مرحلةٍ ما إلى ناسخاتٍ مصنوعةٍ من الدي إن إيه، الذي هو أكثر استقرارًا من الآر إن إيه؛ ومن ثَمَّ فهو الأنسب لتخزين كمياتٍ كبيرةٍ من المعلومات.
قد نخطئ في تقدير روعة وغموض ما حدث بعد ذلك نظرًا لأنه مألوف لنا. في البداية، كانت كلٌّ من الشفرة الجينية والآلية التي فسَّرَتْها قيدَ التطوُّر، شأنهما شأن كل شيءٍ آخَر في الكائنات الحية، حتى جاءت لحظةٌ توقَّفتْ فيها الشفرة عن التطوُّر بينما استمرَّ تطوُّر الكائنات الحية؛ لم يمارس النظامُ التشفيرَ حينها إلا لمخلوقاتٍ أوليةٍ وحيدة الخلية، لكن كل الكائنات تقريبًا التي وُجِدتْ على كوكب الأرض من وقتها إلى يومنا هذا، بُنِيت على ناسخات الدي إن إيه، وباستخدام نفس أبجدية القواعد مجمعةً في «كلمات» تتكوَّن كلٌّ منها من ثلاث قواعد، ولا يوجد إلا اختلافات ضئيلة في معاني تلك «الكلمات».
يعني ذلك أن الشفرة الجينية عند النظر إليها باعتبارها لغةً لتحديد الكائنات قد بلغت مدًى استثنائيًّا؛ فهي قد تطوَّرَتْ فقط من أجل تحديد كائناتٍ بلا أجهزةٍ عصبيةٍ ولا قدرةٍ على الحركة أو التأثير، وبلا أعضاءٍ داخليةٍ أو حسية، ولا تفعل غيرَ تكوين مقوماتها البنائية ثم الانقسام إلى اثنتين؛ ومع ذلك نجد أن نفس تلك اللغة تُحدِّد اليومَ البرامجَ والمكوناتِ لما لا حصرَ له من سلوكيات كائناتٍ متعدِّدةِ الخلايا، لا يوجد مثيلٌ قريبٌ لها في الكائنات الأولية؛ فهي تجري وتطير وتتنفس وتتزاوج وتتعرَّف على الفرائس والمفترسين، وهي لغة تُحدِّد أيضًا تكويناتٍ هندسيةً كالأجنحة والأسنان، وأجهزةً مثل جهاز المناعة، بل حتى المخ القادر على تفسير الكويزرات وتصميم كائناتٍ أخرى من الصفر والتساؤل عن سبب وجوده هو.
لم يتبدَّ من الشفرة الجينية على مدار تطوُّرها بالكامل إلا مدًى أقل كثيرًا ممَّا وصفت، وربما كان السببُ في ذلك أن كل شكلٍ مختلفٍ متعاقبٍ منها استُخدِم فقط لتحديد أنواعٍ قليلةٍ شديدة الشبه بعضها ببعض. لا بد أن تحديد الأنواع التي جسَّدتْ معرفةً جديدةً في أشكالٍ متغيرةٍ جديدةٍ من الشفرة الجينية كان حدثًا متكررًا. وتوقَّفَ التطوُّرُ بعد ذلك في مرحلةٍ وصل فيها بالفعل إلى مدًى هائل، تُرى لماذا؟ يبدو أن هذه قفزة نحو نوعٍ من العمومية، أليس كذلك؟
ما حدث بعد ذلك اتَّبع نفسَ النمط التعس الذي وصفتُ حدوثَه في قصصٍ أخرى عن العمومية؛ فبعد أكثر من مليار عامٍ من وصول النظام إلى العمومية وتوقُّفه عن التطوُّر، كان لا يزال يُستخدَم فقط في إنتاج البكتيريا؛ يعني هذا أن ما نراه اليومَ من مدًى قد بلغه النظامُ قد ظلَّ بلا استخدامٍ لفترة أطول ممَّا استغرق النظامُ نفسه ليتطوَّر من أصولٍ غير حية. في تلك الأعوام، لو قامَتْ أيُّ مخلوقاتٍ ذكيةٍ من الفضاء الخارجي بزيارة للأرض، لَمَا وجدَتْ أيَّ دليلٍ على أن الشفرة الجينية قادرةٌ على تحديد أي شيءٍ يختلف جوهريًّا عن الكائنات الحية التي حدَّدتها عند ظهورها الأول.
دائمًا ما يكون للمدى تفسير، لكن التفسير في هذه الحالة — على قدر معرفتي — غير معلوم بعدُ. لو كان سببُ تلك القفزة في المدى هو أنها في الواقع قفزةٌ نحو العمومية، فلا بد أن نسأل: ماذا كانت تلك العمومية؟ إن الشفرة الجينية ليست عمومية لتحديد أشكال الحياة؛ لأنها تعتمد على أنواعٍ معينةٍ من المواد الكيميائية كالبروتينات. ربما كانت بناءً عموميًّا؟ ربما، فهي على أي حالٍ تستطيع التصنيعَ بواسطة موادَّ غيرِ عضويةٍ في بعض الأحيان، كاستخدامها فوسفات الكالسيوم في العظام، أو الماجنتيت في نظام الملاحة داخل مخ الحمامة، ويستخدمها علماء التكنولوجيا الحيوية بالفعل لتصنيع الهيدروجين واستخراج اليورانيوم من مياه البحار. تستطيع الشفرة الجينية أيضًا أن تبرمج الكائنات الحية على ممارسة البناء خارج أجسادها، كأنْ تبنيَ الطيورُ الأعشاشَ أو القنادسُ السدودَ. قد يكون من الممكن أن تحدِّد الشفرةُ الجينية كائنًا حيًّا يمرُّ بمسار حياته الاشتراك في بناء سفينة فضاءٍ نووية، وقد لا يكون. ما أعتقده أن الشفرة الجينية لها درجةٌ أقل من العمومية، لكنها غير مفهومةٍ حتى الآن.
في عام ١۹۹٤، قام عالم الكمبيوتر والبيولوجيا الجزيئية ليونارد أدلمان بتصميم وصنع كمبيوتر يتكوَّن من الدي إن إيه وبعض الإنزيمات البسيطة، وأوضح كيف يقدر على أداء بعض عمليات الحوسبة المعقَّدة، وعُدَّ هذا الكمبيوتر الأسرعَ في العالم في ذلك الوقت، وأوضح ذلك أنه يمكن صنْعُ كمبيوتر تقليديٍّ عموميٍّ بطريقةٍ مشابهة؛ من هذا المنطلق نعلم أن أيًّا ما كانت العموميةُ التي يتَّسِم بها نظامُ الدي إن إيه، فإن عمومية الحوسبة كانت جزءًا متأصِّلًا فيه لمليارات السنين دون أن تُستخدَم، حتى استخدمها أدلمان في جهازه.
ربما كانت العمومية الغامضة التي يتحلَّى بها الدي إن إيه كبنَّاءٍ هي أُولى حالات العمومية وجودًا على الإطلاق، لكن من بين كل أشكال العمومية تبقى أكثرُها أهميةً على المستوى المادي هي تلك التي يتحلَّى بها الإنسانُ كمفسرٍ عمومي، ومن ثَمَّ كبنَّاءٍ عمومي؛ فتأثيراتها — كما أوضحتُ — غيرُ قابلةٍ للتفسير إلا بالسلسلة الكاملة للتفسيرات الأساسية. وتلك العمومية هي الوحيدة القادرة على تجاوُزِ أصولها الضيقة الأفق؛ فمثلًا لا تكون أجهزة الكمبيوتر العمومية كذلك إلا بوجود الإنسان ليوفِّر لها الطاقةَ والصيانةَ إلى الأبد، وهو ما ينطبق على كل أشكال التكنولوجيا الأخرى؛ حتى إن الحياة على الأرض ستمضي إلى زوالٍ ما لم يقرِّر الإنسانُ غيرَ ذلك؛ فليس سواه مَن يستطيع الاعتماد على نفسه في المستقبل اللامحدود.
أهم المصطلحات الواردة بالفصل وتعريفها
- قفزة نحو العمومية: مَيْل الأنظمة ذات التحسُّن التدريجي للتعرُّض إلى زيادةٍ كبيرةٍ ومفاجئةٍ في وظائفها؛ ممَّا يجعلها عموميةَ التطبيق في مجالٍ ما.
معاني «بداية اللانهاية» التي قابلناها في هذا الفصل
-
وجود عموميةٍ في مجالاتٍ عدة.
-
القفز نحو العمومية.
-
تصحيح الأخطاء في الحوسبة.
-
حقيقة أن الكيانات الذكية مفسرون عموميون.
-
أصل الحياة.
-
العمومية الغامضة التي قفزت صوبها الشفرة الجينية.
ملخص هذا الفصل
تنمو المعرفة عن طريق التحسين التدريجي، لكن يحدث أيضًا في العديد من المجالات أن تأتيَ لحظةٌ يتسبَّب أحدُ التحسينات التدريجية الواقعة في نظام المعرفة أو التكنولوجيا عندها في زيادةٍ مفاجئةٍ في مدى ذلك النظام؛ ممَّا يجعله نظامًا عموميًّا في مجاله. إن المبتكرين ممَّن حقَّقوا مثل هذه القفزة نحو العمومية في الماضي لم يسعَوْا إليها إلا فيما ندر، لكن منذ بدأ عصر التنوير تغيَّرَتِ الحالُ، وأصبحت تُقدَّر التفسيرات العمومية لنفسها وما تحققه من نفع. لا تحدث القفزة نحو العمومية إلا في الأنظمة الرقمية؛ لأن تصحيحَ الخطأ في العمليات ذات الطول غير المحدَّد أمرٌ ضروري.