كلمة رئيس المهرجان

يشكِّل المسرح البديل ظاهرةً لا يحدُّها أفقٌ جغرافي؛ بل تمتدُّ لتشمل خريطة المسرح في العالم، وإن تنوعت تجلياتها؛ إذْ يحمل هذا المسرح البديل خياره ومرجعيته من الأفكار والقيم والدلالات والتصورات، مستهدفًا معارضة التيار السائد؛ تحقيقًا لفعالية زمنه الثقافي. كان وما زال عليه أن ينازع كلَّ محاولات تغييب دوره، ويجاهد في ممارسة استدعائه الدائم — في مختلف المنعطفات — للإبداع الحر، رفضًا لكلِّ أنظمة الإكراه والاستتباع، فكريًّا، وفنيًّا، وتنظيميًّا.

فرض المسرح البديل حضوره من خلال وجوهه وأصواته التي جسَّدت إبداعاتها الاحتجاجية، دون إخفاء رهان معارضتها لصفاقة الواقع السائد المسيطر، ولم يكتفِ المسرح البديل — في بعض الحالات — بأن يكون موازيًا للسائد، بل تشابك معه سعيًا إلى تغييره، سواءٌ بالدعوة إلى اكتشاف أساليبَ جديدة، بمراجعةِ ثوابت الإبداع المسرحي، أو طرح تفسيرات مستحدثة في مناهج الأداء، أو تقديم كتابات جديدة، وفصل المسرح عن الأدب، أو تبنِّي توجُّهٍ مخالِف لكيفية التعامل مع الريبورتوار، أو تحرير السينوجرافيا والفضاء المسرحي من القيود، أو التصدي للرقابة، أو المطالبة بالدعم التمويلي.

لا خلاف أنَّ آليات التعامل مع خارطة هذه المطالب، وتجليات نتائجها، أمرٌ يرتبط بطبيعة النظام المحيط في كل مجتمع، وأيضًا مدى القدرة على تخطي حدوده، والبحث الدائب عمَّا يمكن أن تحقِّقه مساحة الحرية، مهما كانت سياجات تكبيلها وإحاطتها بالإكراهات. ففي بولندا، ومنذ ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، وفي سياق الإطار المركزي الشمولي للمسرح، تجلَّى المسرح البديل تحت غطاءِ التجريب؛ حيث ظهر ما يسمَّى ﺑ «العروض البديلة»، التي تفارق فنيًّا التيار السائد، نزوعًا إلى الاختلاف والانفصال عنه، حيث يتبدَّى واضحًا أنَّ معظم العروض البديلة، وفِرق المسرح الموازي في معارضتها للتيار السائد، كان لكلٍّ من «جروتوفسكي» و«كانتور» تأثيرٌ واضح فيها، وهو ما رسَّخ أنَّ علاقة الانفصال قد استندتْ إلى قدراتٍ فنية عالية الجدارة، حقَّقت حضور المسرح البديل، لتبدأ رحلة مفهوم المسرح المفارق للسائد، ومحاولة توطينه، بحيث لا يصبح عرضًا زائلًا، وذلك بتحصينه فنيًّا وفكريًّا، استنادًا إلى مناهج مستحدثة تحمي استمراره بملكاتها الفكرية والفنية، ووسائل تواصلها في ممارسة إبداعاتها.

على الجانب الآخر، ففي بعض البلدان — وفقًا لطبيعة نظامها — تزايدت أعداد فِرق المسرح البديل، ونجحت في تقديم المسرح البديل المستقل غير المركزي؛ إذ في إسبانيا — مثلًا — وصَلَ عدد الفِرق المستقلة إلى سبع عشرة فرقة، وقدَّمت أربعةً وسبعين عرضًا مسرحيًّا، شاهَدَه أربعةُ ملايين شخص، إلا أنه قد تناقص عدد هذه الفرق إلى ست فرق، وذلك بسبب الفشل في الحصول على الدعم من الدولة. وفي السويد كان عدد المسارح المستقلة ستين مسرحًا، يعود معظمها إلى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، وقد تأسَّست احتجاجًا ضد مسارح التسرية. صحيحٌ أن نصف هذه الفرق المستقلة تمتلك المسارح الخاصة التي تقدِّم عليها عروضها، وصحيحٌ أن بعضها يتلقَّى دعمًا من الدولة، وبعضها الآخَر لا يتلقَّى أيَّ دعم. والصحيح أيضًا أن كثيرًا من هذه الفرق المستقلة قد توقَّف عن العمل، لكنَّ المفارقة المثيرة للدهشة أنَّ الدولة تقدِّم دعمًا للمسارح المركزية يصل في مجموعه إلى ٦٠٠ مليون جنيه إسترليني، يخصُّ الفِرق المستقلة من إجمالي هذا الدعم ٢٫٣ مليون جنيه إسترليني، لكنَّ الشفرة التي يطرحها الواقع أكثر دهشةً، إذ إن الدعم المخصَّص لغير المسارح المستقلة، الذي يصل إلى ٥٩٧٫۷ مليون جنيه إسترليني، قد أنتج عددًا من العُروض، بلغ عدد مشاهديها ٣٩٧ ألف مشاهد، في حين أنَّ الفِرق المستقلَّة التي تقدِّم المسرح البديل، بلغ عدد المشاهدين لعروضها ٨٠٠ ألف مشاهد. تُرى إلامَ تشير تلك الدلالة؟ وكيف يمكن فكُّ شفرتها؟

لقد تحور هذا السؤال إلى سؤالٍ عام يستهدف معاينة المسرح البديل المستقل؛ كشفًا عن صيغه فنيًّا، وفكريًّا، وتنظيميًّا، في مقاربةٍ لواقعه من حيث سياق انفصاله واختلافه، وقوفًا على ضروراته. ولا شك أن الإجابة سوف تطرح مسار انعطافاته، وتعلن شهادة عن محاولات تغييبه، أو انسحابه، أو انتصاراته وحضور تأثيره، وذلك في ظِل الظروف المحيطة به في كل مجتمع وفقًا، لخصوصياته، سواءٌ في أوروبا، أو الولايات المتحدة، أو أمريكا اللاتينية، أو الشرق الأقصى، أو العالم العربي. ولأن المهرجانات الدولية للمسرح تلعب دورًا مهمًّا في تداوُل المسرح البديل المستقل وانتقاله من بلدٍ إلى آخر، وقد وسَّعت بذلك دعوته، وأتاحتْ عَقْد المقارنات، وطرْح الأسئلة عمَّا تحمله خصوصية انفجارات دلالاته التي تجسد ثقلها عروضه، حيث تشكِّل في مجملها احتجاجًا ضدَّ بنيةٍ مهيمنة، تتجلى في كليشهات معرفية، أو أفكار جاهزة محرومة من الفحص، أو تصورات بليدة. ولأنَّ مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي واحدٌ من الملتقيات الدولية المسرحية؛ لذا فقد تبنَّى في ندوته الرئيسية السؤالَ عن المسرح البديل المستقل، لمعاينة مفهومه وظهوره، وفحص تجلياته الفنية والفكرية، وتحديد معضلات استمراره؛ حيث يشارك في هذه الندوة مجموعةٌ من الشخصيات المختصة في قضاياه وممارساته عبْر العالَم.

لقد سبق أنْ ترجم المهرجان — ضمن إصداراته — مجموعةً من الكتب التي تناولت أوضاع هذا المسرح المستقل البديل في كثير من بلدان العالم، آخِرها إصدار هذه الدورة عن «المسرح الأمريكي البديل»، لمؤلفه «ثيودور شانك»، الذي ترجمه الراحل العزيز الأستاذ سامي خشبة.

لقد كان حُلم وزير الثقافة الأستاذ فاروق حسني وإيمانه، أنْ يصبح المهرجان مؤسسةً لسلطة التجدُّد معنًى وقيمة، يمتلكها المثقفون والفنانون الذين يكسرون المرايا التي تعكس السكون، وتؤبِّد التكرار؛ لذا لم يتخلَّ عن المتابعة الدقيقة للمهرجان على مدى العشرين دورة، وهو الأمر الذي يستوجب منا الشكر والاعتراف له بفضلِ توطينه للتجدُّد كقيمة.

أ. د. فوزي فهمي
رئيس المهرجان

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥